More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
by
Leo Tolstoy
Read between
September 2 - September 5, 2022
كلمة المترجم درسُ حياة العظماء خير الدروس التي تعود على صاحبها بعميم الفوائد، وخصوصًا إذا كانت حياة العظيم مكتوبة بقلمه. وفي رأي العارفين، إن أفضل ما كتبه «تولستوي»، الفيلسوف الروسي ذائع الشهرة، في تاريخ حياته وفلسفة الحياة عمومًا، هو الفصول التي أطلق عليها اسم «اعترافي»، «ديانتي»، «إنجيلي». وقد رأيت أن أنقلها إلى العربية رغبة في إطلاع أبناء قومي على ما فيها من الحقائق الجميلة والدروس النافعة، مبتدئًا بالكتاب الأول الذي سميته «اعتراف تولستوي»، راجيًا أن يقرأه الأدباء بما يستحقه من العناية. كتب «تولستوي» اعترافه هذا سنة ١٨٧٩ فلم تسمح السلطة بطبعه في روسيا، ولذلك طبع في جنيف بسويسرا. ومثله
...more
قد جربت الوصول إلى الكمال الفكري، ودرست كل ما بلغَت إليه قوتي من مواضيع الحياة، وجاهدت طويلًا لإنماء قوة إرادتي، واضعًا لنفسي قواعد للعمل بها بدقة وصرامة، وبذلت قصاراي لتقوية جسدي بالرياضة المتنوعة التي تعمل على صلابة العضلات والاحتفاظ بالقوة البدنية، وعودت نفسي الصبر واحتمال المشقات والآلام الاختيارية، وكنت أنظر إلى جميع ذلك نظرتي إلى أعظم وسائل للبلوغ إلى الكمال المنشود.
إنني لا أستطيع أن أتذكر حوادث تلك الأعوام السوداء من غير مرارة في قلبي وآلام في أعماق روحي. قد قتلتُ الكثيرين في الحرب، وبارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم، وخسرت أموالًا كثيرة بالمقامرة، وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إليَّ بأعراق الفلاحين، وكنت قاسيًا، عاتيًا في معاملة خدامي، ولم أترك سبيلًا من سبل الفسق والدعارة مع العواهر إلا سلكته، ولم تفُتني طريقة من طرق الخداع والمراوغة: كذب وسرقة وزنا وسُكْر وتمرد وقتل... كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام. فليست في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها، ولكنني كنت، مع كل ذلك، مكرمًا محترمًا من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل. هكذا عشت مدة عشر سنوات. وفي هذه
...more
فقد كنا بأجمعنا مقتنعين بأن الواجب يقضي علينا أن نكتب ونتكلم ونطبع كتابتنا وكلامنا بسرعة فائقة، لأنه على هذا يتوقف عمران الوجود ونجاح الجنس البشري. ولكن ألوفًا منا كتبوا، وطبعوا، وعلَّموا، ولم يعملوا إلا على ضلال الناس وخداع أحدهم الآخر. لأننا لم ندرك أننا نحن أنفسنا لا نعرف شيئًا، لأن أبسط مسائل الحياة ـ وهي مسألة ما هو الخير وما هو الشر ـ لم نعرف كيف نجاوب عليها. ولكننا كنا نجتمع، ونتكلم، ونخطب، من غير أن يصغي أحدنا إلى الآخر إلا لكي يطريه ويثني عليه، واثقًا بأن مثل هذا الإطراء سيرجع إليه مضاعفًا. ثم لا نلبث أن يثور بعضنا على بعض، ويخاصم واحدنا الآخر، كأننا نمثل رواية كاملة كل أبطالها مجانين
...more
وكان الألوف من العمال يشتغلون ليلًا ونهارًا بصف الحروف، ليطبعوا أقوالنا وينشروها في جميع أنحاء روسيا، ونحن لا ننقطع هنيهة عن التعليم والكتابة، متذمرين أن الوقت أضيق من أن يكفي للقيام بأعمالنا، وأن الناس لا يصغون إلى أقوالنا الحكيمة. حالة عجيبة غريبة لم أفهم حقيقتها في ذلك الحين، ولكنني أدركها اليوم كما هي. فإن العامل الحقيقي الذي كان يوحي إلينا أفكارنا وأقوالنا في ذلك الوقت، إنما هو الرغبة في الحصول على المال والمديح، اللذين لم نعرف طريقة للحصول عليهما بغير تأليف الكتب والجرائد. وهكذا فعلنا. ولكي نزداد تمسكًا بالاعتقاد أننا، ونحن نقوم بهذه الأعمال التافهة، نؤلف أعظم طبقة في روسيا، رأينا أن
...more
عندما أرى نفسي معذبًا، كجميع الناس، من السؤال: «كيف أقدر على أن أعيش أفضل مما أنا عائش؟»، فأجيب بأنه يجب أن أعيش لأجل التقدم العام، إنما أردد جواب الرجل الذي كان يسير في قارب تحمله أمواج البحر ورياحه، ولا يرى أمامه سوى السؤال الواحد: «إلى أي جهة يجب أن ندير الدفة؟»، فيجيب على الفور قائلًا: «إننا مسيرون إلى جهة ما».
إنني لم أرَ هذه الحقيقة في تلك الأيام، ولكن عواطفي، دون أفكاري، كانت تثور في ظروف نادرة على خرافات ذلك العصر وأوهامه، التي تقود الناس إلى تجاهل جهلهم المذيب لحقيقة الحياة.
وفي أثناء إقامتي في باريس، أظهر لي منظرُ إعدام أحد المجرمين ضعفَ اعتقادي الوهمي بالتقدم، لأنني عندما رأيت رأس الرجل يطير عن جثته، وسمعت الصوت الذي أحدثه سقوط رأسه وجثته في الصندوق المُعَد لهما، أدركت بكلِّية كياني، وليس بفكري فقط، أنه ما من نظرية بحكمة جميع النظم الموضوعة والعقائد المقررة، القائلة بالتقدم والارتقاء، تستطيع أن تبرر هذا العمل الفظيع. وأدركت أيضًا في أعماق قلبي أنه، ولو أجمعت كلمة كل أبناء الإنسان منذ الخليقة إلى الآن أن مثل هذا العمل ضروري للتقدم، فإنني أعرف كل المعرفة أنه غير ضروري، وأنه عمل رديء بذاته، ...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وفي هذه الحالة، كنت أشتغل ثانية باسم التقدم، ولكنني في هذه المرة كنت أنظر بروح الفاحص الناقد إلى الأسس التي يقوم عليها صرح التقدم. فقلت لنفسي إن التقدم يجب أن ترافقه الحرية والعقل، ولذلك يجب أن يُعطى أبناء الريف وأولاد الفلاحين ملء الحرية باختيار الطريق الصحيحة التي تلائمهم للبلوغ إلى التقدم الذي يحتاجون إليه. وإنني أصارح القارئ القول إنني كنت لا أزال أعالج حل القضية التي لا حل لها: كيف أُعلم من غير أن أعرف ما يجب أن أُعلمه؟ فقد أدركت، في أرقى مراتب الأعمال الأدبية، أن مثل هذا العمل مستحيل، لأنني رأيت أن كلًّا من المعلمين يختلف عن الآخر بطريقة تعليمه، وبما يعلمه، ولذلك يخاصمه وينازعه ويجاهد
...more
وقد ثبت لديَّ، بعد الدرس والفحص، أنني قد وجدت الحل الأخير للقضية، فتسلحت بمعلوماتي الحكيمة الجديدة، ورجعت إلى روسيا في السنة نفسها التي نال فيها الفلاحون حريتهم من العبودية، فعُينت فيها قاضيًا، وعمدت إلى تعليم غير المتعلمين بواسطة المدارس، والمتعلمين بواسطة أعمدة الجريدة التي شرعت في إصدارها. وقد سارت أعمالي على أتم ما يرام من النجاح، ولكنني شعرت أن عقلي لم يكن في حالة طبيعية، ولذلك أدركت أن تغييرًا فجائيًّا سيطرأ عليَّ. وإنني أرجح أن اليأس الذي أصابني، بعد ذلك بخمس عشرة سنة، كان يمكن أن يصيبني إذاك لو لم يقُم في سبيله حادث عظيم في حياتي جعلني في مأمن منه، وهو حادث زواجي.
وقد مر العام الأول وأنا أشتغل في كل دقيقة من يومي بالتحكيم، والتعليم في المدارس، وتحرير جريدتي، حتى شعرت أنني أكاد أرزح تحت أثقال الواجبات الكثيرة التي أُلقيت على كاهلي. وظلت الحال هكذا حتى صرت أنظر إلى كل أعمالي، في القضاء والمدرسة والجريدة، نظرتي إلى ألد أعدائي. فوقعت أخيرًا في مرض عقلي، أكثر مما هو جسدي، وتركت أعمالي، وسرت إلى البرِّية، حيث أصبحت وحيدًا، أتنشق نسيم الطبيعة النقي وأعيش، بين الحيوانات البريئة، المعيشة الطبيعية الحق. وعند رجوعي، تزوجت، فقادتني السعادة التي وجدتها في حياتي الزوجية إلى الهرب من السعي وراء إدراك معنى الحياة العام، فحصرت أفكاري وجهودي في عائلتي ـ في زوجتي وأولادي
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وعندما فكرت في الشهرة التي حصلت عليها بواسطة مؤلفاتي وأعمالي، قلت في نفسي: حسن وجميل، ولكن ما الفائدة إذا صرت أشهر من «غوغول»، و«بوشكين»، و«شيكسبير»، و«موليير»، وجميع كُتاب العالم؟ كل هذا جميل ولكن ماذا بعده؟
هذه هي الحالة التي قُدر لي أن أصير إليها في وقتٍ كانت فيه كل ظروف حياتي سعيدة جدًّا، ولم أكن قد بلغت الخمسين من عمري بعدُ، فقد كانت لي زوجة صالحة تحبني وأحبها، وأولاد مهذبون، وأملاك واسعة كانت تنمو وتزداد من غير أن أتعب في سبيلها. وكنت موضع احترام وإكرام من جميع أصدقائي ومعارفي، فكان الغرباء عني يطرونني، وصار لي من الشهرة الواسعة ما لم أحلم بأكثر منه. وفوق كل هذا، فإنني لم أكن مجنونًا، ولم يكن في دماغي أقل ضعف. بل كنت على العكس من هذا ممتَّعًا بتمام الصحة عقلًا وجسدًا مما لم يكن أقل من مثله لأقراني. فكنت أجاري أقوى الحصادين في عمله، وأجلس إلى مكتبي ثماني ساعات وعشر ساعات دفعة واحدة من غير أن
...more
ولم أكن أقدر على أن أتخلص من التفكير في أن في الوجود كائنًا يتنعم على حسابي، ويسخر بي وهو يراقب أعمالي، لأنني، بعد أن جزت الأربعين وكدت أبلغ الخمسين من العمر الذي قضيته بالدرس والنمو الفكري والجسدي، وبعد أن بلغت كمال رشدي ووصلت إلى قُنَّة إدراك الحياة، أرى نفسي واقفًا على رأس جبل المعرفة البشرية، فاهمًا بملء الوضوح أنه ليس في الحياة شيء نعيش لأجله، وأنه لن يوجد فيها شيء في المستقبل. ولذلك كنت أعتقد أن الذي أوجد هذه الحياة لم يقصد منها سوى السخرية والهزء بأبنائها.
جاء في إحدى القصص الشرقية القديمة أن رجلًا كان يطارده وحش شرس برِّي، فلجأ إلى بئر لا ماء فيها لينقذ نفسه من شر الوحش. ولكنه، لسوء حظه، لم يدخل البئر حتى رأى في قعرها تنينًا فاغرًا فمه ليبتلعه. فأخذ الرعب بمجامع قلب الرجل المسكين، ولكنه لم يجرؤ على الخروج من البئر خوفًا من الوحش، ولا على النزول إلى قعر البئر خوفًا من التنين. ولذلك عمد إلى غصن شجرة صغيرة كانت نابتة في شق من شقوق البئر. ولكن التعب أخذ من ذراعيه مأخذه، فأدرك أنه هالك لا محالة، لأن الموت كان ينتظره في الأمرين جميعًا. ولكنه ظل متعلقًا بالغصن. وفيما هو ينظر إلى جذع الشجرة التي كان متعلقًا بها، رأى جُرذين، الأول أبيض والثاني أسود،
...more
هكذا أتعلق أنا بغصن شجرة الحياة، عارفًا أن تنين الموت ينتظرني، وهو على أتم الاستعداد ليمزقني إربًا إربًا. ولا أدري لماذا قُدر لي أن أحتمل كل هذه المشقات. وأنا أيضًا، كذلك المسافر، كنت أسعى لامتصاص العسل الذي عرض لي في طريقي الماضية، ولكن هذا العسل لا يلذ لي اليوم، في حين أن الجرذين الأبيض والأسود، وهما الليل والنهار، يعملان بغير انقطاع في قرض الغصن الذي أتمسك به. إنني أرى التنين بوضوح، والعسل لم تبقَ له حلاوة في عقيدتي. إنني أرى التنين الذي لا مهرب منه، وأنظر الجرذين الكبيرين، ولا أستطيع أن أُحَول عنهما نظري. وأعظم من كل ذلك أن هذه ليست بالقصة الخرافية، بل هي حقيقة ناصعة لا ينكرها أحد من
...more
ولذلك كنت أقول في نفسي: عائلتي؟ إن العائلة، الزوجة والأولاد، هم أيضًا مخلوقات بشرية، معرضون للشقاء نفسه الذي أنا معرض له. فهم إما عائشون في الكذب والخداع أمام نفوسهم، أو أنهم يجب أن يبصروا الحقيقة الراعبة. فلماذا يعيشون في الوجود؟ لماذا أحبهم وأعتني بهم وأربيهم وأهذبهم وأُعنى بأمورهم؟ ألِكي أقودهم إلى اليأس الذي يملأ حياتي؟ أم لأجعل منهم جنودًا جديدة في جيش الحمقى؟ فأنا، بما في قلبي من المحبة لهم، لا أقدر على أن أخفي عنهم الحقيقة، لأن كل خطوة يخطونها في طريق المعرفة تدنيهم من هذه الحقيقة الواحدة التي هي: الموت!
قال «سقراط» وهو يستعد للموت: «نحن ندنو من الحق كلما بعدنا عن الحياة». فلماذا نحن الذين نحب الحق نسعى وراء الموت؟ لكي نتحرر من الجسد والأوجاع التي ترافق الحياة فيه. فإذا كانت الحال هكذا، فكيف يجوز لنا أن نخاف من دنو الموت؟ الحكيم ينشد الموت في كل ساعة من حياته، ولذلك فالموت لا يرعب الحكماء.
«شوبنهاور» بقوله: إن المبدأ الأساسي لكل ما في الوجود هو الإرادة. وفي جميع مظاهر الوجود، من قوى الطبيعة غير العاقلة إلى جهود الإنسان العاقل، لا نستطيع أن نرى أثرًا لوجود قوة غير هذه الإرادة. ولذلك لا نقدر أن نهرب من النتيجة المنطقية التالية: إذا أنكرنا هذه الإرادة، وقضينا على وجودها، فإن كل مظاهر الوجود تزول في الحال بزوالها. فإن لجميع الجهود، والعواطف التي نراها أمام عيوننا اليوم، نهاية لا بد منها. وكل ما في الوجود من الكائنات الحية، وغير الحية، صائر في يوم من الأيام إلى العدم، بزوال الإرادة التي تريده، وتحبه، وتتمتع به. فإذا بطل وجود هذه الإرادة، فإن الوجود بأسره يضمحل ويتلاشى. ولكن هذا
...more
سليمان في هذا الموضوع: باطل الأباطيل، يقول الجامعة. باطل الأباطيل كل شيء باطل. أي فائدة للبشر من جميع تعبهم الذي يعانونه تحت الشمس؟ جيلٌ يمضي، وجيلٌ يأتي، والأرض قائمة مدى الدهر... ما كان فهو الذي سيكون، وما صنع فهو الذي سيصنع، فليس تحت الشمس شيء جديد. رب أمرٍ يُقال عنه: «انظر، هذا جديد». بل قد كان في الدهور التي سلفت قبلنا. ليس من ذكر لما سبق، ولا الذي يستقبل يكون له ذكر عند الذين يأتون من بعده. أنا الجامعة، ملكت على إسرائيل بأورشليم. فوجهت قلبي ليطلب، ويبحث بالحكمة، عن كل ما صنع تحت السماء، فإذا هو عناء رديء جعله الله لبني البشر ليعتنوا به. رأيت جميع الأعمال التي عملت تحت الشمس. فإذا الجميع
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وجدت أن أبناء الطبقة التي أنا منها يلجأون إلى وسائل أربع للهرب من الحياة الراعبة التي كنا فيها كلنا. وأول هذه الوسائل الجهل؛ فإن أصحابه لا يدركون، ولا يريدون أن يفهموا أن الحياة شر، وكل ما فيها باطل وقبض الريح. إن أبناء هذه الطبقة، وأكثرهم من النساء أو الشبان الصغار وبعض الرجال الأغنياء، لم يفهموا قضية الحياة ولم ينظروا إليها كما نظر إليها «شوبنهاور» وسليمان و«بوذا». فهم لا يرون الوحش الذي ينتظرهم ليفترسهم، ولا الجرذين اللذين يقرضان الغصن المتعلقة عليه حياتهم، ولذلك يلحسون نقط العسل القليلة التي يشاهدونها حواليهم برغبة ولذة. ولكنهم يلحسون هذا العسل إلى أجل مسمى، لأنهم لن يلبثوا أن يجدوا ما
...more
ووسيلة الهرب الثانية هي الوسيلة التي يلجأ إليها الشهوانيون وعُباد أهوائهم الجامحة. وهي تقضي على أصحابها أنهم، بالرغم من معرفتهم أن كل ما في الحياة من اللذيذ والجميل باطل عند التحقيق، فإنه يجب أن يغمضوا عيونهم عن رؤية الوحش والجرذين ويطلبوا في الوقت نفسه كل ما يمكنهم الحصول عليه من عسل الحياة، وخصوصًا حيث يوجد الكثير منه. وقد أشار سليمان إلى هذا بما يأتي: فمدحتُ الفرح، لأنه ليس في يد الإنسان خير تحت الشمس غير أن يأكل ويشرب ويفرح، فهذا يثبت له من تعبه أيام حياته التي منحها الله له تحت الشمس... فأذهب كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب مسرور... تمتع جميع أيام حياتك الفانية، بالعيش مع المرأة التي
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
والوسيلة الثالثة للهرب كائنة في الالتجاء إلى القوة والعزم، وهي تأمر بالقضاء على الحياة بعد معرفة شرها وبطلانها. ولكن الذين يعملون بها هم أندر من بيضة الديك، وهم مخاريق بقوتهم وعزيمتهم. فهم ـ إذ يدركون رداءة الأضحوكة التي تمثَّل على حساب الأحياء، ويعرفون أن سعادة الأموات أوفر من سعادة الأحياء، وأن عدم الوجود خير من الوجود ـ يُقدِمون في الحال على وضع حدٍّ نهائي لهذه الأضحوكة التي يسمونها «حياة» بأي طريقة ممكنة: حبل حول العنق، أو ماء يغرقون فيه، أو سكين يقطعون به قلوبهم، أو قطار يقفون في طريقه فيذهب بهم ويريحهم من شقائهم. إن عدد الذين يُقدِمون على مثل هذا العمل في طبقتنا الاجتماعية يتزايد في كل
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
والوسيلة الرابعة للهرب من الحياة قوامها الضعف. وخلاصتها أن صاحبها، مع علمه بشرِّ الحياة وبطلانها، فهو يواظب على المحافظة على حياته، على رغم معرفته أنها عقيمة لا نتيجة وراءها. إن أبناء هذه الطبقة يعلمون أن الموت أفضل من الحياة، ولكن ليس لهم من القوة القسط الكافي لمساعدتهم على العمل بما يعرفون، ولذلك يتمسكون بمخاوفهم، ويُحجمون عن الانتحار، مترقبين وسيلة تريحهم من شر الحياة من غير أن يقتلوا ذواتهم. فالضعف وحده يعمل على مساعدة هؤلاء للهرب من شر الحياة، لأنني، إذا عرفتُ ما هو الأفضل لراحتي، وأدركت أنني قادر على أن أناله إذا شئت، فلماذا لا أناله؟ هذه هي الطبقة التي كنت أحد أبنائها. بمثل هذه الطريقة،
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
والحقيقة التي لا مرية فيها أن الناس، منذ أقدم أزمنة التاريخ المعروفة، قد عاشوا؛ ومع أنهم عرفوا كل المسائل التي خطرت لي عن بطلان الحياة وشرورها، فقد أعطوا الحياة معنى مختصًّا بهم. منذ بداءة حياة الإنسان، اتخذ كل منهم رأيه لنفسه في حياته، وما برحوا يعيشون، ولكل منهم رأيه في الحياة حتى يومنا الحاضر. وكل ما في فكري، وما هو خارج عني، طبيعيًّا كان أم غير طبيعي، فهو بالحقيقة ثمرة من أشجار معرفتهم. والقوة الفكرية التي حكمت بها على الحياة وقضيت عليها بالزوال، إنما هي بالحقيقة مستمدة منهم وليس مني. فهم السبب الأول في ولادتي وتربيتي وتهذيبي. وهم الذين اقتلعوا الحديد من الأرض، وعلموا أبناءهم قطع الأشجار
...more
فالمعرفة المبنية على العقل، معرفة المتعلمين والحكماء، تنكر معنى الحياة، ولكن أكثرية أبناء الإنسان يتمسكون بمعرفةٍ لا أثر للعقل فيها، وهذه المعرفة تثبت لهم أن للحياة معنى ساميًا. وهذه المعرفة التي لا سلطان للعقل فيها هي الإيمان، الذي لم أقدر على أن أقبله. ولذلك لم أستطِع أن أُسلم بوجود أقانيم ثلاثة في إله واحد، أو بخليقة الملائكة والأبالسة في وقت واحد، وخليقة العالم في ستة أيام. كل هذا لم أستطِع أن أقبله لأنني كنت مستسلمًا لسلطان عقلي فقط. كان مركزي صعبًا مزعجًا، لأن المعرفة التي يقدمها العقل تنكر الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، وكلا الأمرين صعب عليَّ، وخصوصًا الثاني منهما.
...more
بدأت أدرك أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان تحتوي على أنقى ينابيع الحكمة البشرية، وأنه لا يجوز لي أن أرفضها لمجرد تمرد العقل عليها، فهي وحدها الكفيلة بحل قضية الحياة.
فقد أصبحت مستعدًّا أن أقبل أي إيمان كان، على شرط ألا يطلب مني نكرانًا ظاهرًا لعقلي، لأن مثل هذا العمل يُعرضني للكذب. فدرست البوذية والإسلام بكتبهما الأصلية، ودرست المسيحية بعناية خاصة، بكل ما كُتب فيها وبحياة أساتذتها الذين كانوا حولي.
لم تستطِع المناظرات أن تقنعني بإخلاص هؤلاء المؤمنين في إيمانهم، فالأعمال وحدها هي التي بها يبرهن صاحبها على إيمانه بالحياة إيمانًا يجعله يقضي قضاء مبرمًا على الخوف من الفقر، والمرض، والموت، وهي التي كانت تستطيع أن تقنعني، ولكنني لم أجد مثل هذه الأعمال بين جميع أنواع المؤمنين الذين عرفتهم إذاك. والقليل منها الذي وجدته كان بين الكفرة أكثر منه بين المؤمنين.
وهكذا شعرت بقوة تُدنيني من المؤمنين من طبقات الفقراء، والبسطاء، والجهلاء، والنُّساك، والرهبان، والفلاحين الساذجين. والعجيب أن أبناء الشعب هؤلاء كانوا يعتقدون بالعقيدة المسيحية نفسها التي كان أبناء طبقتي الشريفة يدَّعون الانتماء إليها. ومع أن عقيدة هؤلاء الفقراء كان يمازجها الكثير من الخرافة والوهم، كما هي الحال مع عقيدة الأغنياء من رجال الدين والدنيا، فإن الفرق كان ظاهرًا بين الفريقين ظهور الشمس. لأن مزج الخرافة بالعقيدة المسيحية لم يكُن له أقل تأثير في حياة الأغنياء، بل كانت الغاية منه جعله خدعة وفخًّا للبسطاء. أما مزج الخرافة بالعقيدة المسيحية في حياة العمال والفقراء، فقد كان جزءًا ملازمًا
...more
لأجل هذا، شرعت للحال في درس العامة وعقائدهم، وكنت كلما تعمقتُ في درسي، أزداد اقتناعًا بأن الإيمان الحقيقي كائن في قلوبهم، وأنهم يعتقدون في أعماق نفوسهم أن هذا الإيمان جزء مكمل لحياتهم، وبدونه لا يجدون من معنى لوجودهم على الأرض. فكان ما رأيته في عامة الشعب مناقضًا على خط مستقيم لما رأيته بين الخاصة من أبناء الأشراف والأغنياء، الذين كانت حياتهم بدون الإيمان سهلة جدًّا عليهم، ولم يكُن بين كل ألف منهم مؤمن واحد، في حين أن الفقراء والعامة لم يكُن بين الألف منهم رجل واحد غير مؤمن. وعلى العكس مما رأيت في طبقتنا، حيث تقضي الحياة بالكسل والملذات والتمرد على الحياة، كنت أرى الأكثرية الساحقة من العمال
...more
لأجل كل هذا أحببتهم، ودنوت منهم، ورغبت في الحياة معهم. وفي كل ساعة كان لي درس سعيد من حياتهم، حياة الأحياء منهم الذين عاشرتهم، والأموات الذين قرأت تراجمهم وأُخبرت عن تصرفاتهم. ولذلك كنت أشعر بنمو محبتي لهم، وشديد رغبتي في اقتفاء خطواتهم والتخلق بأخلاقهم. على هذه الصورة عشت عامين كاملين سعيدين. وفي نهايتهما، حصل تغيير كبير في حياتي، طالما تحفز للظهور، وكنت أشعر به ولا أدري كيف ومتى أظهره، وخلاصته أن حياة طبقتنا الغنية والمتعلمة أصبحت مكروهة في عينيَّ، ولم يبقَ لها أقل معنى في عقيدتي. فجميع أعمالنا، وأفكارنا، وعلومنا، وفنوننا، ظهرت لي بأشكال جديدة وصور جديدة. فأدركت أنها كلها لعبة صبي صغير لا
...more
حينئذٍ، أدركت الحقيقة التي وجدتها فيما بعد في الإنجيل: «إن الناس أحبوا الظلمة دون النور، لأن أعمالهم كانت شريرة، لأن كل مَن يصنع الشر يبغض النور ولا يأتي إلى النور، لئلا توبَّخ أعماله».
قد أدركت أخيرًا أننا كنا أكثر من هذا جميعنا، أو أنني على الأقل، أنا وحدي، كنت مجنونًا. فالطير في عقيدتي قد خلق بطريقة ملائمة للطيران والتقاط طعامه وبناء عشه، وكلما رأيته يقوم بعمله أفرح لفرحه. والماعز والأرنب والذئب كلها خلقت بطريقة عجيبة تمكِّنها من نيل طعامها والمحافظة على جنسها وتربية صغارها، وهي إذ تقوم بأعمالها سعيدة في عقيدتي، وحياتها منطبقة كل الانطباق على العقل. فماذا يجب على الإنسان أن يعمله إذن؟ فهو كالحيوان يجب أن يحصل على معاشه، ولكن بطريقةٍ تختلف عن الطريقة التي يكسب بها الحيوان معاشه. فالحيوان يسعى منفردًا ويعيش، ولكن الإنسان الذي يحصر كل جهوده بنفسه لا نجاح له. ولذلك وجب عليه أن
...more
إذا حُمل متسول فقير، عاري الجسد، من مفارق الطرق إلى مسكن فسيح الأرجاء، وهنالك أُمر به أن يُلبس ويُطعم، ويعمل في تحريك يد مضخة ماء، فالأمر واضح أن المتسول ـ قبل أن يفتش عن السبب الذي حمل صاحب المنزل أن ينقله إلى بيته ويأمره بتحريك يد مضخة الماء، وقبل أن يفكر فيما إذا كانت النظم والترتيبات التي في المنزل معقولة أم لا ـ يجب عليه أن يحرك يد المضخة. وهو إذ يحرك هذه اليد يجد أن حركته، بواسطة المضخة الداخلية، تُخرج الماء من قلب الأرض وتروي سطحها فتأتي بالثمار الشهية. وبعد أن يُظهر براعة في حركة يد المضخة، ينقلونه إلى عمل آخر مثل جمع الأثمار والعناية بالأشجار. وهكذا يجد، بتنقله في أعمال الدار التي هو
...more

