الليالي البيضاء

by Fyodor Dostoevsky

روايتنا، والتي كتبها «دوستويفسكي» عام ١٨٤٧، وتم نشرها في عام ١٨٤٨. الليالي البيضاء ومدينة سان بطرسبورج. في تعريف مختصر لها، فإن الليالي البيضاء هي الظاهرة الخلابة التي تسببها العوالق الدقيقة المتساقطة في الغلاف الجوي في وقت معين من أوقات العام، لتبعث ذلك المشهد الساحر للمدينة، والذي يتميز به على وجه خاص القسم الشمالي لها، حيث يمكن خلال تلك الفترة مشاهدة الغسق الطويل الممتد خلال فترة الانقلاب الشمسي (حدث فلكي تصل فيه الشمس إلى أقصى حد لها في الشمال أو الجنوب بالنسبة لخط الاستواء). وطبقًا للحسابات الفلكية الرسمية، تبدأ هذه الفترة لليالي البيضاء من الحادي عشر لشهر يونيو، وحتى اليوم الثاني لشهر يوليو، لكنها تستمر فعليًا حتى يوم السادس عشر لشهر يوليو.

أما مدينة سان بطرسبورج التي تدور بها أحداث العمل، فهي المدينة التي أسسها القيصر بطرس الأول في عام ١٧٠٣، وظلت عاصمة الدولة الروسية لأكثر من قرنين، وتحول اسمها إلى بتروجراد من عام ١٩١٤ حتى عام ١٩٢٤، ثم تغير الاسم إلى لينينجراد (مدينة لينين) منذ عام ١٩٢٤ وحتى عام ١٩٩١. ومنذ ذلك العام استعادت اسمها القديم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، وهي ثاني أكبر المدن في روسيا، وتمثل واحدة من أهم المراكز الثقافية والفنية، ويكفي أن بها متحف «الإرميتاج» الشهير، وهو أحد أكبر وأعظم المتاحف في العالم. وما زالت تلك المدينة تمثل العاصمة الثقافية لروسيا.

كان الليل ساحرًا في هذا اليوم، ليل لا يوجد إلا في صبانا أيها القارئ العزيز، حيث السماء مزدانة بالنجوم، منيرة ومشرقة بها، حتى تدفعك عندما تتطلع إليها لأن تسأل نفسك على نحو لا إرادي: أيُعقل أن يحيا بشر من أصحاب الأهواء المتقلبة والنفوس البغيضة تحت قبة مثل هذه السماء؟ يا له من سؤال ساذج أيضًا، ساذج للغاية، لكني أدعو الله أن يُثار هذا التساؤل في نفوسكم أكثر فأكثر.

نجحت في عقد ما يشبه الصداقة مع عجوز، كنت أقابله كل يوم في ساعة محددة عند نهر فونتانكا. كانت ملامحه تنم عن هيئة وقورة، ونظرات متأملة، يظل يدندن بصوت خافت يهدر من أسفل أنفه، ويلوح في الهواء بيده اليسرى. أما يده اليمنى فيقبض بها على عكاز مبروم طويل ذي مقبض ذهبي. وقد اعتاد بدوره مقابلتي ورؤيتي، باعتباري رفيقًا ودودًا له. وصرت على يقين بأن غيابي عن الظهور في الوقت المعتاد عند نهر فونتانكا لسبب أو لآخر، سوف يبعث الاكتئاب في نفسه. وهذا هو السبب في أن كلًا منا يكاد أن ينحني تحية للآخر، خاصة حين نكون في حالة معنوية جيدة. وإذا مرَّ يومان دون أن يصادف أحدنا الآخر، ثم التقينا في اليوم الثالث فقط، ترتفع يد كل منا إلى قبعته بصورة عفوية، لكن سرعان ما نخفضها مكتفيين بالمرور بجانب بعضنا بعضًا.

صارت المنازل مألوفة لديَّ أيضًا. وعندما أسير بينها، تبدو وكأن كلًّا منها يُقبِل علي في الشارع، متطلعًا نحوي بكل نوافذه، يكاد أن يصيح بي: «مرحبًا، كيف حالك اليوم؟ أنا بصحة جيدة والحمد لله، وسوف يضيفون إلى طابقًا جديدًا في شهر مايو»، أو يقول: «كيف صحتك؟ سوف يبدأون في ترميمي غدًا»، أو «أتدري؟ كدت أن أحترق وتملكني الهلع والخوف»... إلخ. كان من بينها منازل أثيرة إلى قلبي، وأخرى صارت من رفاقي المقربين. وقد تهيأ أحد هذه المنازل للعلاج لدى المهندس المعماري في الصيف المقبل. وسوف أتعمَّد المرور به كل يوم؛ كي أطمئن إلى أنهم سوف يقومون بترميمه ودهانه بالصورة اللائقة. وأدعو الله أن يحفظه لنا.. ولكني لن أنسى أبدًا حكاية ذلك المنزل الجميل ذي اللون الوردي المشرق. كان بيتًا مبنيًا من الصخر، ودودًا لطيفًا لأبعد الحدود، يرمقني ببشاشة ومودة، بينما يرمق بشموخ وفخر المنازل الخرقاء المجاورة. وكان قلبي يخفق طربًا كلما سرت بجانبه. وفجأة، في الأسبوع الماضي، مضيت أتجول في شارعه، وتطلعت نحو رفيقي، فسمعته يصرخ شاكيًا: «إنهم يدهنونني باللون الأصفر!». يا للأوغاد الهمج! إنهم لا يرحمون أي شيء، لا الأعمدة ولا الأفاريز، حتى اكتسى صاحبي باللون الأصفر، وصار شبيهًا بطائر الكناريا. فتملكني الهم والحزن لما جرى له، وأصبحت حتى الآن لا أقوى على النظر إلى رفيقي البائس المشوَّه، الذي صبغوه على هذا النحو بلون إمبراطورية السماء(1).

أشبه بروح الملك سليمان، التي ظلت لألف عام حبيسة في القمقم تحت سبعة أختام، حتى تحررت أخيرًا بعض فضِّ الأختام السبعة.

ليلة سان بارتيليمي: ليلة وقوع مذبحة جرت في فرنسا عام ١٥٧٢، قُتل خلالها عدد يتراوح ما بين خمسة آلاف إلى ثلاثين ألف بروتستانتي فرنسي بيد المتعصبين الكاثوليك، وذلك بأوامر من الملك شارل التاسع؛ خوفًا من وانتشار البروتستانتية. - المترجم

إيفان فاسيليفيتش (١٥٣٠-١٥٨٤): هو القيصر الروسي الشهير بلقب إيفان الرهيب، والذي نجح في الاستيلاء على قازان الحصينة في عام ١٥٥٢ بعد حصارها والمعارك الشرسة التي خاضها. وكانت إمارة قازان واستراخان وغيرها من إمارات القرم تمثل خطرًا على الدولة الروسية. - المترجم

يان جوس (١٣٦٩- ١٤١٥): هو الداعية والمفكر والمصلح الفكري التشيكي الشهير، والبطل القومي لدى الشعب التشيكي، عمل كاهنًا وعميدًا لجامعة براغ، وتم إعدامه حرقًا مع مؤلفاته في يوليو لعام ١٤١٥، وذلك بعد أن غدر به الإمبراطور سيجسموند، وبعهد الأمان الذي منحه له واتهامه بالزندقة، مما تسبب في اندلاع موجة من الحروب سميت بحروب جوس.

معركة بيريزينا: وقعت على نهر بيريزينا بالقرب من مدينة بوريسوف في بيلاروسيا، بين جيش نابليون والقوات الروسية التي نجحت في دحر قوات نابليون، وجعلتها تتراجع حتى مدينة فيلنوس في ليتوانيا.

كان اليوم يومًا حزينًا، ممطرًا، غائمًا بلا أنوار، أشبه بشيخوختي المقبلة. وتخللني نوع من الأفكار المخيفة، والمشاعر القاتمة التي تزاحمت بداخلي، وتدافعت أسئلة غامضة إلى رأسي. ولم يكن لديَّ لا الرغبة ولا الإرادة لحل غموضها. فلست أنا القادر على حل كل هذا!

لنفترض أن الأمر على هذا النحو، أتعرف ما أفكر به الآن؟ ولكنني الآن لن أتحدث عنه، بل أتحدث بصورة عامة، فقد فكرت في كل هذا منذ زمن طويل، لماذا لا نكون جميعًا مثل الأشقاء؟ لماذا يبدو أفضل الناس وكأنه يخفي أسراره دائمًا عن الآخر، ويلتزم الصمت أمامه؟ ولماذا لا يستطيع المرء أن يبوح بأسرار قلبه صراحة، طالما يعرف أن كلامه لن يذهب أدراج الريح؟ ذلك لأن كل واحد يحب أن يبدو أكثر فظاظة مما هو عليه في الواقع، وكأنهم جميعًا يخشون الإساءة إلى مشاعرهم، إذا ما أسرعوا بإظهارها على حقيقتها...