More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وأعجب ما أعجب له من أمر نفسي أنني أبكي على غير شيء، وأحزن لغير سبب، وأجد بين جنبي من الهموم والأشجان ما لا أعرف سبيله ولا مأتاه، حتى يُخيل إليَّ أن عارضًا من عوارض الجنون قد خالط عقلي، فيشتد خوفي واضطرابي.
إن الذين يعرفون أسباب آلامهم وأحزانهم غير أشقياء؛ لأنهم يعيشون بالأمل ويحيون بالرجاء، أما أنا فشقيةٌ؛ لأني لا أعرف لي دواءً فأعالجه، ولا يوم شفاء فأرجوه.
إنك لا تبغضني يا استيفن، ولكنك لا تحب أن تراني؛ لأنك تعلم أن لي في الحياة رأيًا غير رأيك، وطريقًا غير طريقك، فأنت تخاف أن تسمع مني ما يفجعك في تصوراتك وأحلامك، ويكدر عليك لذائذك التي تجدها في العيش في ذلك العالم الخيالي المظلم، وتقنع بها فيه قناعة الشعراء المحزونين بالعيش بين أشباح خيالاتهم السوداء.
كن كما تشاء، وعش كما تريد، فستنقضي أيام شبابك وستنقضي بانقضائها أمانيك وأحلامك، وهنالك تنزل من سمائك التي تطير فيها إلى أرضي التي أسكنها، فنتعارف بعد التناكر، ونتواصل بعد التقاطع، ونلتقي كما كنا.
فما أمر طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة.
إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحسان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها، وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحي هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يهيضني ويتركني في مكاني كسيرًا لا أنهض ولا أطير،
أعتقد أني ما تخيلت هذه السعادة التي أقدرها لنفسي إلا لأنها كائنٌ من الكائنات الموجودة، وأنها آتية لا ريب فيها.
فلا خير في حياةٍ يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب.
لا أجد بين هذه القلوب الخافقة حولي قلبًا يحزن لحزني، ولا بين هذه العيون الناظرة إليَّ عينًا تبكي لبكائي،
لقد سعد السرير الذي لامسها، والرداء الذي ضمها، والأرض التي لثمت أقدامها، والماء الذي انحدر على جسمها.
فلم يكن بين تلامس كفيهما وخفوق قلبيهما إلا كما يكون بين تلامس أسلاك الكهرباء واشتعال مصابيحها،
لا تخافي من الحب يا ماجدولين، ولا تخافي من غضب الله فيه، واعلمي أن الله الذي خلق الشمس وأودعها النور، والزهرة وأودعها العطر، والجسم وأودعه الروح، والعين وأودعها النور، قد خلق القلب وأودعه الحب،
وحال بيني وبين ماجدولين؛ أي إنه فرق بين روحي وجسدي،
إنه علم أني فقير لا أملك شيئًا، ورأى أن الفقر جريمةٌ لا عقاب لها إلا القتل، فقتلني.
السعادة حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها من طريق الخيال،
فاستوحشت نفسي من نفسي،
إن حياتي لي، وأنا صاحبها الذي أتولى شأنها، فلا سلطان لأحدٍ غيري عليها، ولا شأن لكائنٍ من كان فيها سواي، فلا أسير في طريقٍ غير الطريق التي ترسمها يدي، ولا أبني مستقبل حياتي على أساس غير الأساس الذي أضعه بنفسي، ولا أحب إلا الفتاة التي أحبها أنا، لا التي يحبها الناس لي،
بأمنية واحدة، وهي أن أموت يوم أموت بين ذراعيك، ملقيًا رأسي على صدرك، شاخصًا بعيني إلى وجهك المشرق الجميل، وأن يكون صوتك آخر ما أسمع من الأصوات، وصورتك آخر ما أرى من الصور، عالمًا أن من يموت ميتةً كهذه تفتحت له أبواب السماء، واتصلت سعادة دنياه بسعادة أخراه، فلا يشعر بشقاء الموت، ولا ما بعد الموت.
فإن نفسي الحزينة لا يشفيها من دائها إلا أحد الأمرين: إما لقاؤك، أو الموت،
إنني لا أعرف سعادةً في الحياة غير سعادة النفس، ولا أفهم من المال إلا أنه وسيلةٌ من وسائل تلك السعادة، فإن تمت بدونه فلا حاجة إليه، وإن جاءت بقليله فلا حاجة إلى كثيره.
ماذا ينفعني من المال وماذا يغني عني يوم أقلب طرفي حولي فلا أرى بجانبي ذلك الإنسان الذي أحبه وأوثره،
في المسكن الخاص يستطيع المرء أن يكون حرًّا في قيامه وقعوده، وجلوسه واضطجاعه، ونومه على الهيئة التي يريدها، لا يتكلف ولا يتعمل، ولا يُجامل الناس ولا يرائيهم، ولا يضع نفسه في القالب الذي يصنعونه
وعاش عيشةً هادئة ساكنة لا يكدرها عليه مكدر؛ لأنها كانت مملوءةً أملًا ورجاء.
فتضاءل في نظرها كل شيء في ماضيها إلا حبها لاستيفن.
فلا أوقع في نفسها ولا أشهى إلى قلبها من أن تسمع الرجال يقولون عنه إنه رجل عظيم، والنساء يقلن عنه إنه فتى جميل، فهي تحبه لخيلائها وكبريائها أكثر مما تحبه للذاتها وشهواتها، وترى في إعجاب المعجبين به وافتنان المفتتنات بحسنه وجماله اعترافًا منهم بحسن حظها وسطوع نجمها، واكتمال أسباب سعادتها وهنائها، وهذا كل ما يعنيها من شئون حياتها.
وهكذا أخذ حبها يستحيل إلى رحمة وشفقة، والحب إذا استحال إلى هذين فقد آذن نجمه بالأفول.
رأيتك يا ماجدولين بعد افتراقنا عامًا كاملًا، وكانت ساعةً من أسعد الساعات وأهنئها، فغفرت للدهر من أجلها كل سيئاته عندي، بل نسيت عندها أنني ذقت طعم الشقاء ساعةً واحدة في يوم من أيام حياتي،
لا بد لي من النجاح في حياتي، ولا أسمح لعقبةٍ من العقبات مهما كان شأنها أن تقف في طريقي، وإن الدهر لأعجز من أن يعترض سبيلي، أو يغلبني على أمري، فهو لا يغلب إلا الضعفاء، ولا يقهر إلا الأغبياء، وما أنا بواحدٍ منهم، وإن من الجبن والخور أن أضع حياتي بين يديه يتصرف بها كيف يشاء، فلأكن أنا دهرًا وحدي، أتولى شأن نفسي بنفسي، وأتصرف بحياتي على الصورة التي أريدها، لا أتقيد بقانونٍ ولا نظام، ولا أسجن نفسي في هذه الدائرة الضيقة التي يسمونها الفضيلة؛ فما سقط الساقطون في معترك الحياة، ولا داستهم أقدام المعتركين فيه إلا لأنهم وقفوا من الميدان في نقطة واحدة لا يتحولون عنها ولا يتلحلحون فلم ينتبهوا إلى الضربات
...more
لا رذيلة في الدنيا غير رذيلة الفشل، وكل سبيلٍ يؤدي إلى النجاح فهو سبيل الفضيلة،
فتناست «استيفن»؛ لأنه صورةٌ من صور الحياة الماضية التي عفتها واجتوتها، وأحبت «إدوار» لأنه مظهرٌ من مظاهر الحياة الجديدة التي أحبتها وافتتنت بها.
فلا تزال تنبسط وتستفيض حتى تشف عن قاعة الرقص التي شهدتها ليلة عرس «سوزان»، فترى الوجوه المشرقة، والثغور الباسمة، والذهب اللامع، والجوهر الساطع، والغلائل المطرزة، والحلل المدبجة، والصدور اللاصقة بالصدور، والأذرع المحيطة بالخصور، والجو المائج بالأنوار، والروض الحافل بالأزهار، وترى العروسين كالفرقدين، يبسمان للسعادة المقبلة عليهما، ويتدفق تيار الحب والصبابة بين قلبيهما، فيتضاءل أمام عينيها ذلك الشبح الأول،
ولكنه لا يستطيع أن يحبني محبة «استيفن» إياي،

