More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
ذهب نعيم بثيابه وغليونه ورائحة دخانه، وحكايته الطويلة الواحدة التي تتسلسل أجزاؤها المرة بعد المرة. لم يكن ما يقصه عليه نعيم يشبه حكايات مريمة. كان يقص حكايته منذ مد له رجل أزرق العينين، فارع الطول، يده، وسأله: «ما اسمك يا ولد؟» واصطحبه إلى داره وطلب من زوجته أن تحممه، وأطعمه، وعلمه دباغة الجلد وتغليف الكتب. كان كل فصل من فصول حكايته يصور بشرا وأماكن ووقائع رأتها عيناه وعاش تفاصيلها. حدثه عن سعد الذي أتى من مالقة، وسليمة وهي تقرأ في الكتب وتداوي أوجاع الناس. حكى عن غرناطة العرب، وعن قرية على شاطئ بحر محيط مكسوة بأخضر نباتات كثيفة، إن تقارن غرناطة بها تَبْدُ لك غرناطة قاحلة جرداء، أمطارها وبل
...more
كأن الأيام دهاليز شحيحة الضوء كابية يقودك الواحد منها إلى الآخر فتنقاد، لاتنتظر شيئا. تمضي وحيدا وببطء يلازمك ذلك الفأر الذي يقرض خيوط عمرك. تواصل، لا فرح، لا حزن، لا سخط، لا سكينة، لا دهشة أو انتباه، ثم فجأة وعلى غير توقع تبصر ضوءا تكذّبه ثم لا تكذِّب، وقد خرجت إلى المدى المفتوح ترى وجه ربك والشمس والهواء. من حولك الناس والأصوات متداخلة أليفة تتواصل بالكلام أو بالضحك، ثم تتساءل: هل كان حلما أو وهما؟ أين ذهب رنين الأصوات، والمدى المفتوح على أمل يتقد كقرص الشمس في وضح النهار؟ تتساءل وأنت تمشي في دهليزك من جديد.
لا يأتي الكدر منفردا، وكذلك الفرح يجيء وفي أعقابه فرح سواه.
«لكل شيء ثمن، وكلما عز المراد ارتفع ثمنه يا عليّ» فما الثمن المطلوب يا مريمة؟ قصّرنا فغضب الله علينا، أم أنه كتب في لوحه المحفوظ سيرة عذابنا قبل أن نخلق أو نكون؟ يتطلع في المدى فيرى خضرة الحقول وعشقه لطفلة هوجاء طواها الموت. عشق عينيها ونظرة صريحة أسرته وكان ما كان. يذهب إلى المدينة ليشتري أو يبيع فيثقله الشوق، فيعود متعجلا ومتلهفا. يلعن بغلته لأنها بغلة ولا تطير كالحصان. يصنع للصبيّة صندوقا، يشتغل فيه كل يوم بأناة ليس لأنه يريده صندوق عجب يشاغل كل عين تراه، بل لأنه يريد للطير المرفرف في صدره أن يسكن فيه، ويريد شهقتها وفرحتها حين تحمله وتلمسه وتتملاه. رجل في الرابعة والثلاثين يعشق طفلة فتعيده
...more

