More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
ولقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب لتلميذه يقول: إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم كراكب البحر: إن سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف.
واجتمع في بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم؛ وقالوا ينبغي أن يتكلم كل واحدٍ منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر. فقال ملك الصين: أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم تنفعه، وإن كانت عليه أوبقته . وقال ملك فارس: أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الروم: ما ندمت على ما لم أتكلم به قط، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيراً.
إن الملوك لها سورةٌ كسورة الشراب: فالملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء. والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء.
والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها، وتأديبها بحكمتها، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم: ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل.
استقر الكتاب على غاية الإتقان والإحكام. ورتب فيه أربعة عشر باباً؛ كل بابٍ منها قائم بنفسه. وفي كل باب مسألةٌ والجواب عنها؛ ليكون لمن نظر فيه حظٌ من الهداية. وضمن تلك الأبواب كتاباً واحداً؛ وسماه كتاب كليلة ودمنة. ثم جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير: ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة.
وإن عقل الرجل ليبين في ثماني خصال: الأولى الرفق، والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها، والثالثة طاعة الملوك، والتحري لما يرضيهم. والرابعة معرفة الرجل موضع سره، وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه، والخامسة أن يكون على أبواب الملوك أديباً ملق اللسان . والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً. والسابعة أن يكون على لسانه قادراً، فلا يتكلم إلا بما يأمن تبعته. والثامنة إن كان بالمحفل لا يتكلم إلا بما يسأل عنه. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعي الخير إلى نفسه.
فالعلم لا يتم إلا بالعمل، وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة.
ويقال في ثلاثة أشياء يجب على صاحب الدنيا إصلاحها وبذل جهده فيها: منها أمر معيشته؛ ومنها ما بينه وبين الناس؛ ومنها ما يكسبه الذكر الجميل بعد.
فمن كان له مالٌ ولا ينفقه في حقوقه، كان كالذي يعد فقيراً وإن كان موسراً.
وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراضٍ: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم: لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان. والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان: ليكون أنساً لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للترهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصةً.
الأمور الأربعة التي يطلبها الناس، وفيها يرغبون، ولها يسعون. فقلت: أي هذه الخلال أبتغي في علمي؟ وأيها أحرى بي فأدرك منه حاجتي؟ المال، أم الذكر، أم اللذات أم الآخرة؟ وكنت وجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه، لا يبتغي إلا الآخرة.
مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك حظه في الدنيا.
لما تاقت نفسي إلى غشيانهم وتمنت منازلهم أثبت لها الخصومة ؛ فقلت لها: يا نفس، أما تعرفين نفعك من ضرك؟ ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قلّ انتفاعه به، وكثر عناؤه فيه، واشتدت المئونة عليه وعظمت المشقة لديه بعد فراقه؟ يا نفسي، أما تذكرين ما بعد هذه الدار: فينسيك ما تشرهين إليه منها؟ ألا تستحبين من مشاركة الفجار في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده شيءٌ منها فليس له، وليس بباقٍ عليه؛ فلا يألفها إلا المغترون الجاهلون؟ يا نفس انظري في أمرك، وانصرفي عن هذا السفه، وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير، وإياك والشر، واذكري أن هذا الجسد موجودٌ لآفاتٍ، وأنه مملوءٌ أخلاطاً فاسدةً قذرةً، تعقدها
...more
يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأصحابك، ولا تحرصي على ذلك كل الحرص: فإن صحبتهم - على ما فيها من السرور - كثيرة المئونة، وعاقبة ذلك الفراق.
يا نفس، لا يحملنك أهلك وأقاربك على جمع ما تهلكين فيه، إرادة صلتهم؛ فإذا أنت كالدخنة الأرجة التي تحترق ويذهب آخرون بريحها.
ثم نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا، فقلت: ما أمر هذا وأوجعه، وهو يدفع إلى عذاب الأبد وأهواله! وكيف لا يستحلي الرجل مرارةً قليلةً تعقبها حلاوةٌ طويلةٌ؟ وكيف لا تمر عليه حلاوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ؟
فلنعلم أن الدنيا كلها بلاءٌ وعذابٌ. أوليس الإنسان إنما يتقلب في عذاب الدنيا من حين يكون جنيناً إلى أن يستوفي أيام حياته؟ فإذا كان طفلاً ذاق من العذاب ألواناً: إن جاع فليس به استطعامٌ، أو عطش فليس به استسقاءٌ، أو وجع فليس به استغاثةٌ؛ مع ما يلقى من الوضع والحمل واللف والدهن والمسح؛ إن أنيم على ظهره لم يستطع تقلباً؛ ثم يلقى أصناف العذاب مادام رضيعاً،
فإذا أفلت من هذا الرضاع، أخذ في عذاب الأدب، فأذيق من ألواناً: من عنف المعلم، وضجر الدرس، وسآمة الكتابة؛ ثم له من الدواء والحمية والأسقام والأوجاع أوفى حظٍ. فإذا أدرك كانت همته في جمع المال وتربية الولد ومخاطرة الطلب والسعي والكد والتعب. وهو مع ذلك يتقلب مع أعدائه الباطنية اللازمة له: وهي الصفراء والسوداء والريح والبلغم والدم والسم المميت والحية اللاذعة؛ مع الخوف من السباع والهوام؛ مع صرف الحر والبرد والمطر والرياح؛ ثم أنواع عذاب الهرم لمن يبلغه. فلو لم يخف من هذه الأمور شيئاً، وكان قد أمن ووثق بالسلامة منها فلم يفكر فيها، لوجب عليه أن يعتبر بالساعة التي يحضره فيها الموت، فيفارق الدنيا؛ ويتذكر
...more
نرى الزمان مدبراً بكل مكانٍ، فكأن أمور الصدق قد نزعت من الناس، فأصبح ما كان عزيزاً فقده مفقوداً، وموجوداً ما كان ضائراً وجوده.
وكأن الخير أصبح ذابلاً والشر أصبح ناضراً.
وكأن الفهم أصبح قد زالت سبله. وكأن الحق ولى كسيراً وأقبل الباطل تابعه. وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكام موكلاً؛ وأصبح المظلو...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وكأن الرضا أصبح مجهولاً.
وكأن الأشرار يقصدون السماء صعوداً. وكأن الأخيار يريدون بطن الأرض؛
ثم نظرت فإذا الإنسان لا يمنعه عن الاحتيال لنفسه إلا لذةٌ صغيرةٌ حقيرةٌ غير كبيرةٍ من الشم والذوق والنظر والسمع واللمس: فعله يصيب منها الطفيف أو يقتني منها اليسير؛ فإذا ذلك يشغله ويذهب به عن الاهتمام لنفسه وطلب النجاة لها.
قمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه.
قيل: لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده.
فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً أو يحق باطلاً لفعل:
إن الملك إذا عاقب أحداً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب وإياها ظلم.
فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛
لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه.
من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره.
فإن العاقل لا يخفي فضله، وإن هو أخفاه؛ كالمسك الذي يكتم ثم لا يمنعه ذلك من النشر الطيب والأرج الفائح.
ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن فيه حسناً:
فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سماً فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللّئم.
فوجدت البلاء في الدنيا إنما يسوقه الحرص والشره، ولا يزال صاحب الدنيا في بلية وتعب ونصب،
أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير:
لا يزال الإنسان مستمراً في إقباله ما لم يعثر، فإذا عثر لجَّ به العثار وإن مشى في جدد الأرض.
ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة: لتنال حاجتك. ولا تقاربه كل المقاربة: فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذلَّ نفسك.
الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت السيف يقطع اللحم ثم يعود فيندمل واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسى مقاطعه.
فإن الكريم لا يكون إلا شكوراً غير حقود تنسيه الخلة الوحدة من الإحسان الخلال الكثيرة من الإساءة
كان يقال: الفاقة بلاء والحزن بلاء وقرب العدو بلاء وفراق الأحبة بلاء والسقم بلاء والهرم بلاء، ورأس البلايا كلها الموت.
وإن قليلاً من العيش في آمن وطمأنينة خير من كثير من العيش في خوف ونصب.
ومن سخط باليسير لم يبلغ رضاه بالكثير.

