مختارات من فن الرواية

ثلاثية حول الرواية - ميلان كونديرا
ترجمة: بدر الدين عرودكى

(1)
روح الرواية هى روح الاستمرارية: كل عمل هو إجابة لأعمال سابقة، كل عمل يحتوى الخبرات السابقة.. لكن روح عصرنا مركزة بثبات على الحاضر الذى هو متسع وزاخر بحيث يدفع الماضى بعيدا عن رؤيتنا.. فى داخل هذا النظام لم تعد الرواية عملا-يكتب ليبقى- بل حادثة عابرة وسط العديد من الأحداث، مجرد إيماءة بلا غد

(2)

يتمنى الإنسان عالما يمكن فيه تمييز الخير والشر بوضوح كامل لأن فى أعماقه رغبة فطرية لا فكاك منها فى الحكم على الأمور قبل فهمها. على هذه الرغبة قامت الأديان والأيديولوجيات. إنها لا يمكن أن تتصالح مع الرواية إلا إذا ترجمت لغتها النسبية والغامضة إلى خطابها العقائدى والقاطع. إنها تطلب أن يكون ثمة أحد على حق؛ فإما أنا كارنينا ضحية مستبد محدود العقل، وإما أن زوجها ضحية امرأة لا أخلاقية؛ تتضمن هذه ال "إما و إما" العجز عن تحمل النسبية الجوهرية للأشياء الإنسانية، العجز عن رؤية غياب الحاكم المطلق وجها لوجه. ومن الصعب، بسبب هذا العجز، قبول حكمة الرواية وفهمها (اللايقين).

(3)

كان توحيد تاريخ الكوكب الأرضى، هذا الحلم الإنسانى، الذى سمح له الله أن يصبح حقيقة، صحبته عملية اختزال مدوخة. صحيح إن دودة الإختزال تنخر فى الحياة دائما، حتى قصص الحب الكبرى تنتهى كهيكل عظمى من الذكريات الواهنة، لكن طابع المجتمع الحديث فاقمت ببشاعة من هذه اللعنة: تتقلص حياة الإنسان إلى الوظيفة الاجتماعية، وتاريخ شعب ما إلى عدد من الأحداث التى اختصرت بدورها إلى صراع سياسى، والذى أختصر بدوره إلى مواجهة بين قوتين عالميتين. يجد الإنسان نفسه فى إعصار تقليص حقيقى حيث يظلم فيه على نحو قدرى"عالم الحياة المعاشة" الذى تحدث عنه "هوسرل" أصبح غامضا بشكل مميت، والوجود طاله النسيان.

(4)

فى خفة الكائن تعيش تيرزا مع توماس، لكن حبها يتطلب منها استنفار قواها كلها، وفجأة لم تعد تستطيع الاحتمال، فتريد العودة إلى الوراء، "إلى الأسفل" من حيث أتت. وأتساءل: ما الذى أصابها؟ وأجد الجواب: لقد أصيبت بالدوار، لكن ما الدوار؟ أبحث عن التعريف، وأقول: "رغبة خانقة، لا تقاوم، فى السقوط". لكنى سرعان ما أصحح نفسى، وأدقق التعريف: "أن يصاب المرء بالدوار يعنى أن يكون سكرانا من ضعفه. إننا نعى ضعفنا ولا نريد مقاومته، بل الاستسلام له. نسكر من ضعفنا، ونود أن نكون أكثر ضعفا، إننا نريد أن ننهار فى الطريق أمام نظر الجميع، إننا نريد أن نكون على الأرض، بل ما هو أسفل من الأرض". إن "الدوار" واحدا من مفاتيح فهم تيريزا. إنه ليس مفتاحا صالحا لفهمك أو لفهمى. ومع ذلك فأنت وأنا نعرف هذا النوع من الدوار على الأقل كإمكانية، إحدى إمكانيات وجودنا.

قاموس للكلمات:

هزلى

المأساة تعزينا بتزويدنا بالوهم الجميل للعظمة الإنسانية، الملهاة أكثر قسوة: انها تكشف لنا بوحشية عبث كل شئ.

قبيح

بعد خيانات كثيرة من زوجها، ومشاكل عديدة مع الشرطة، تقول تيريزا "أصبحت براغ قبيحة". أراد بعض المترجمين استبدال كلمة "قبيحة" بكلمات مثل "مرعبة" أو "لا تطاق"، فقد رأوا إنه من غير المنطقى أن نتفاعل مع موقف أخلاقى بحكم جمالى. لكن الكلمة لا يمكن استبدالها: فهناك قبح كلى فى عالمنا الحديث يغلفه الروتين برحمة، لكنه يخترقنا بعنف فى اللحظة التى تواجهنا فيها أقل مشكلة.

شباب

موجة من الغضب اجتاحتنى: كنت غاضبا من نفسى ومن سنى فى ذلك الوقت، ذلك السن العاطفى الغبى - المزحة.

إثارة

لا اللذة، والاستمتاع، والشعور، والهوى. إن الإثارة هى أساس العشق، ولغزه الأعمق، وكلمته الجوهرية.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 29, 2013 07:26
No comments have been added yet.