السحرية والعقلانية الدينيتان
كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
ارتبطتْ التحولاتُ الدينيةُ الأولى بالأشكال السحرية الثقافية المختلفة للشعوب، فكان لا يمكن أن تتشكلَ عملياتُ تحولٍ بدون الاعتمادِ على السحر كأكبرِ قوةٍ ثقافية في التاريخ القديم، وجاءت الأديانُ لترتفع عن هذا المستوى دون قطع العلاقة معها.
لقد جعلت الأديانُ عملياتِ التحولِ الاجتماعية والسياسية مرتبطةً بالآلهة والسماء وإنتزعتْ السلطات من السحرة، المعبرين عن فسيسفاءِ الأرضِ الاجتماعية السياسية الممزقة، وعن موادِ الخبرة البشرية المحدودة، وعلى الغموض الفكري واللغات الرمزية الإحيائية غير الدقيقة.
مثلّتْ الأديانُ ثورات، وتشكلت في إثرها الدولُ الكبيرة والأمبراطوريات، وتنامت العلوم الطبيعية خاصة.
وواجهت الدول الدينية إشكاليات الاعتماد على الزراعة والحرف وهي قوى إنتاج محدودة تظلُ مرتبطة بغيب، ولم تستطع العلوم أن تصل لفهم السببيات العميقة للمادة، أما السببيات المُفكِّكة لتطور المجتمعات فكانت أكثر غياباً. اليونانيون شكلوا أقصى تطور للعقلانية في العالم القديم، بسبب هذه المدن التجارية الحِرفية غيرِ الاستبدادية لكن أرجهلم كانت في عالم العبيد الضيق الذي خنقهم فيما بعد.
في الدول – المدن كان يمكن للتجارة أن تتطور بشكل كبير، وبالتالي فإن الحرفَ إزدهرت، وإزدهارُ الحرفِ يعني إزدهار العلوم الطبيعية، حيث تُخضعُ السلعُ والموادُ المختلفة للفحص ولمعرفةِ كياناتها ولإمكانيات السيطرة عليها وإخضاعها لقوى العمل والعلم البشرية.
هذا يعني إزدهار المعامل والتجارب وظهور العلماء، ويمكننا أن نرى المدنَ العربيةَ الإسلامية التي إزدهرتْ بالتجارة والحرف والزراعة، وهي تشكلُ فئاتٍ من العلماء الدينيين العقلانيين، ويمكنُ معرفةَ حرفِهم من إسمائِهم: النظَّام والخراز والإسكافي الخ.
إن الفئات الوسطى الصغيرة وهي تعملُ في الحرف تشتغلُ في المعرفةِ كذلك، وتنأى بالدينِ عن السحرية، وعن الغيبياتِ، وتروحُ تكتشفُ السببيات القريبة، وتتوغلُ في فهمِ جسد الإنسان والحيوانات والطبيعة، عبرَ الإمكانياتِ التي أتاحتها قوى العمل والفحص، لكن المنظارَ المكبر والتلسكوب وغيرهما من الأدوات لم تُكتشفا، فنأت الموادُ المجهريةُ والكواكب والنجوم عن الإنكشاف للعقل.
إن سدَّ هذه الثغرات المعرفية كان يعني بقاءَ الطبيعةِ مصنوعة، وعدم رؤية الكون كعملياتٍ تحوليةٍ مستمرة، فظلت الطبيعةُ مخلوقةً، وتقوم القوى الغيبيةُ بتشكيلها. وقد تجاوز أرسطو هذه المسألة بقرون عبر رؤية العالم ما تحت القمر وهو خاضعٌ كلياً للسببية، وهو ما تبناه ابن رشد، وصارت(الرشدية) من القوى المُغيرة لأروبا العصور الوسطى ثم عادت إلينا على شكلٍ أكثر تطوراً بأسم العقلانية الأوربية.
إن إمكانية المتكلمين الإسلاميين، وهم المتفلسفون الدينيون، للوصول إلى هذا المستوى اليوناني كانت محدودة. وكان العالمُ الإسلامي يطرحُ مسائلَ أكثر خطورةً من الماضي، من أجل مقاربة ثورة صناعية – علمية، لكن عجزَ المتكلمين والفلاسفةِ فيما بعد عن القيام بذلك يرجعُ لبقاء أسس التفكير السحري، الذي كان يمخرُ عالمَ الوعي الديني. فتقود مفرداتُ الصورِ الإلهيةِ لديهم إلى التوقف عن القيام بتحليلات عميقة للواقع وللطبيعة، فهم يجعلونها أدوات للهيمنة ولإيقاف العقول عن النقد والتحليل ولتجميد حراك الطوائف عن التمدن والديمقراطية والذوبان في أممٍ موحدة. وكان هذا يتعلقُ بفئاتٍ وسطى إرتبطت بالقصور وبالخلفاء وإعطياتهم، فلم يوسعوا دوائرَ التحليل نحو كشف إضطهاد الجمهور، وإختناق الزراعة وجمود الحرف، وهذا من الناحية الفكرية كان يعني جعل النجومَ والسماءَ هي التي تحددُ المصائرَ البشرية، وبترديدِ هذه العبارات المسكونة بالسحر يتوقف الفعلُ والتخطيط البشريين! وكلما ازدادَ التمزقُ كثُرتْ تلك النجوم حتى صارت الآن في الجرائد اليومية تحدد اليوم البشري!
إن وضع العقيدة الإسلامية في الدساتير جزءٌ من ذلك السحر، فتكفي الصور الإلهية لتحفظ الأمة من القدر الشرير، ويمكن للأنظمة أن تفعل ما تشاء وهي بهذه الحماية السماوية، وأن تجلبَ من العمالة ومن الأموال ما تشاء أو تهربَ كلَ ذلك وهي في حماية القدر الكوني، وليس أن الأمور مرتبطة بالتخطيط والتنفيذ البرلمانيين اللذين يحددان حركة الواقع المُراقبَّة لمصلحة الناس.
لم يقم العقلانيون الإسلاميون في الزمن السابق بالارتباط بالحركات الاجتماعية، ولا بتطوير العلوم الاجتماعية، أي بتحليلِ الموادِ التابعة لهذا العالم، وإكتشاف قوانينها الطبيعية والاجتماعية، فيعاونون المنتجين على تغيير علاقات إنتاج متخلفة، ويخلقوا الديمقراطية، ويصلوا لقوانين المادة العميقة، في الذرةِ والكون، وما الذرةُ إلا كونٌ وما الكونُ إلا ذرةٌ، واللانهائيةُ تسودُهما.
إن مستوى السلف يعني الاستفادة من التجربة وليس سحقها، فيتعين الآن درس موادنا، وعقبات تطور الإنتاج، وإقامة علاقات بين حركات التغيير وركائز الواقع، وتغيير المستوى المتخلف من العلوم العربية، والسحر يدل دائماً على الثغرات الكبيرة التي يجب تجاوزها، ومن سماته القدرية، ورفض التجريب والقوننة للظواهر، والأفكار الحظوظية، وغياب التخطيط، وغياب المسئولية البشرية الصارمة، وعبادة الرموز البشرية، والعداء للعلوم.


