تحدياتُ الحداثة في الوعي الديني

تواجه الأمة العربية وهي تعود لإرثها وبناها الاجتماعية مرة إشكالية الحداثة من خلال الوعي الديني المسيس، فهل يتخلى هذا الوعي عن الشمولية التي مشت بها كل التيارات السابقة وقادتنا لكوارث وموقف متجمد أم تكون له نقلته ويقبل بالحداثة الديمقراطية؟
قمة الصراع السياسي في العالم هو الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية وهو الصراع الجدلي الخلاق، أم غيره فهو إرتدادٌ للوراء.
فليس ممكناً التطور دون المصانع، وأي مصنع يلزمه ملاكٌ وعمال، وقد أضر بنا ذلك التداخل بين الدولِ المالكة والمصانع، وضاعت الأرباحُ والأملاكُ العامة.
الصراع بين ملاك المصانع والعمال هو الصراع التعاوني الذي أنتج الفكرتين السياسيتين الكبيرتين، فيما كان أختفاؤهما سبب للشموليات المختلفة وللكوارث التي تتالى في الأمة العربية منذ تحرك تونس وتتويج ذلك في سوريا حين صار البعث هو مالك المصانع والثروة فيما العمال يعيشون تحت خط الفقر، وغياب الحريات الديمقراطية والصراع الجدلي بين أرباب العمل والعمال، وكان الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية هو كان الضامن لتطور الانجازات الديمقراطية والثروة الوطنية.
فصار البعثُ يصارعُ الشعبَ كله فخسرَ الناسُ أرواحَهم وثروتهم معاً.
ولهذا فإن نموذج البعث الديني وصراعه ضد الحداثة والعلمانية وغياب صيغة الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية يغدو تكراراً رهيباً آخر.
أمامنا النموذجان الهندي والصيني في كيفية التعامل مع الحداثة والديمقراطية، ففيما قبلت الصين النموذج الشمولي ومنعت التنوع والصراع الجدلي بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، فتعيش الآن ضمن ألغام كبرى سياسية غير قادرة على نزعها، قامت التجربة الهندية على التعاون الصراعي بين الجانبين الفكرين السياسيين للعصر، وأكدت ثورتها الصناعية والعلمية من خلال هذا التنافس، وتباينت الحكوماتُ الإقليمية والمركزية في أشكالِ وجودِها بين حكوماتٍ ليبرالية وحكوماتٍ إشتراكية تعمل في إطار وطني متعدد ومتطور، ولا توجد الملكية العامة المنخورة سياسياً وغير المراقبة كما هو حال الصين.
لكن الصين أمام ضخامة مشكلات الفقر والعمالة العاطلة وإنجاراته الكبيرة كذلك في النمو الاقتصادي كانت تتخلص بصعوبات جمة من الفهم الإيديولوجي الضيق لماركسية غير ديمقراطية غدت متحجرة فيها، وتتوجه لإعطاء هونغ كونغ حرية إختيار نظامها الخاص، فيما الرأسمالية البيروقراطية تشل الأجهزة الحكومية فيها عن التطور الديمقراطي في الصين الأكبر.
تسمح الأشكال الحديثة لمختلف القوى الاجتماعية بالتعبير عن نفسها وتطور مختلف أشكال الاقتصاد، وتسمح لمختلف أنواع الأديان والمذاهب بالتعايش معاً، وأثراء أبحاثها وتقاليدها بحرية كاملة.
فتعدد أشكال الملكية ووجود سلطات منتخبة متوجهة للقضايا الاقتصادية التحولية هو المهمة الرئيسية للحكومات العربية، فيما القضايا الفكرية والدينية من إختصاص القوى المدنية.
إثارة الصراعات المذهبية والفكرية في شعوب صغيرة ذات أسواق متواضعة تعيشُ أزماتِ التحولِ المختلفة، تؤدي لمزيد من تسول هذه الأنظمة للمساعدات، فيما تمثل الهند والصين عملاقة كبيرة من حيث السكان وضخامة الأسواق ومع هذا تبحث عن مصالحها وطرق تطورها الاقتصادية بدرجة أساسية خاصة الصين التي تحاول الخروج من مأزق الشمولية ولا تدري كيف وهو مأزق قد يفجرُ أزمةً شعبية في الصين أخطر بكثير من أزمة سوريا تحت حكم البعث، فهناك أكثر من 600 مليون عاطل وقضايا خطيرة كالفقر وصراع القوميات والأديان والمناطق.
وقد عانت روسيا ولا تزال تعاني حتى الآن من رفض نموذج الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية التعاوني الصراعي، فأوجدت إشتراكية متصلبة ثم تخلت عنها نحو نظام غامض لا هو إشتراكي ولا هو ليبرالي حر. وهي ذاتها تعيش المأزق السوري نفسه، في دولة هائلة والانفجار خرابٌ كبير فيها.
فيفترض في الأنظمة العربية الجديدة والقديمة كذلك الانتقال لهذا النموذج بدلاً تحويل النموذج الديني لشمولية كما فعلت روسيا والصين وسوريا، لكن لا يوجد ما يبرهن بأن هذه التجربة يمكن أن تزدهر عربياً في السنوات القادمة …


