الماركسية الرسمية والماركسية الديمقراطية
ككل دين وفكرة كبرى مرت بها البشرية وخاضت بها حروب التغيير تعرضت الماركسية لما تعرض له غيرها من المبادئ الإنسانية المصيرية، فانقسمت إلى مبادئ رسمية ومبادئ شعبية معارضة.
كل دين وكل فكرة عظمي نبيلة فجرت طاقات القبائل والأمم والشعوب ونقلتها من مرحلة إلى مرحلة أرقى، واتحدت بدولة وغرقت في الدفاع عنها، تتجه هذه الفكرة إلي الاحتضار والتشوه.
كل فكرة كبرى قالت: انها خاتمة التاريخ وإنها سوف تزيل المظالم وتحل العدل الأبدي، وجعلت من الحكم الأبدي على ظهور الناس جسراً لها، تذوي وتنقسم.
ولكن في حالة الماركسية كانت الأمور أكثر خبثأ، وتركيباً، فهنا كانت العدالة المطلقة مبنية فوق نظريات علمية، ودراسات عميقة للمجتمعات، وقد أنجزت هذه النظرية تحولاً كونياً حقيقياً، جعلت مليارات بشرية تنتقل من عصور إلي عصور، وأرياف شاسعة في آسيا تتحضر وتتعلم وصناعات عملاقة تنتشر، ولكن الماركسية تحولت إلي أيديولوجية حكم تبرر وأداة تسلط، فغدت هذه الماركسية المضادة للاستغلال تؤدلج استغلال الإدارات البيروقراطية والحزبية، وتفرمل التحليلات الموضوعية للمجتمع، والأحزاب؛ وما كان أداة ثورة صار أداة للمحافظة، وما كان وسيلة للعلم صار قوة تفرغ العلم من محتواه النقدي.
لكن الماركسية التي تعرضت للخراب النظري في البلدان الاشتراكية لم تمت، ففي أوروبا الغربية وأمريكا معقل الرأسمالية، كانت الماركسية الديمقراطية تنمو في الأحزاب والجامعات، وغدت الأخيرة معقلا لعلماء وباحثين وإنجازات فكرية، وهكذا أدى سقوط المعسكر الاشتراكي إلي انتعاش الماركسية، التي نفضت عنها ملابس القياصرة الحمر، واستبدلت دكتاتورية البروليتاريا بالتعددية، والحقيقة الأخيرة بالحقيقة الموضوعية المتنامية.
ولكن أطقم الماركسيات الرسمية المستولين على الأحزاب في العالم ليس من السهل أن تستسلم لتيار الزمن، وقد اتحدت مع سلطات وقوى بسطاء محدودة المعرفة، وكانت وحدتها مع أجهزة بيروقراطية وسياسية شمولية، جعلتها تتجمد في إنتاج الشعارات وإعادة المعرفة القديمة، فهذه القوى التي غدت شمولية، كان لا بد أن تحافظ على سمات أيديولوجية تراها مقدسة.
وكان هذا من الناحية الشعبية، مرتبطاً بقوى عمالية قديمة، هي البروليتاريا الصناعية، التي تشكلت على قواعد الصناعة الثقيلة والعمل اليدوي الواسع، والتي راحت تتغير بعد الحرب العالمية الثانية مع نمو الثورة التقنية والعلمية والمعلوماتية، بحيث أصبحت قوى العاملين مكونة بشكل كبير من فئات المهندسين والفنيين المختلفة.
كما أن رأسماليات الدول القومية «المعسكر الاشتراكي» وصلت إلي حالات التشبع الصناعي الكلاسيكي، وتطلبت عمليات تجديد تقنية وديمقراطية واسعة.
وإذا كانت الماركسية الديمقراطية في الغرب قد واصلت أبحاثها وعملها التعددي إلا أنها لم تستطع أن تعيد النظر في إنتاج الماركسية، وكانت محاولة جارودي في «ماركسية القرن العشرين» محاولة عودة لفكر إنساني ليبرالي أكثر منها إعادة نظر في الماركسية وتجديد لها.
وكانت آراء جورباتشوف في البيرسترويكا محاولة لتجديد نظام رأسمالية الدولة، عبر الاعتقاد أنه نظام اشتراكي لا تنقصه سوى الديمقراطية، ولكن الواقع المرير كشف غير ذلك، واتجه الأمر إلى الجهة المعاكسة وهي دكتاتورية رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة المشتركة.
محاولات الجمع بين الماركسية وأنظمة سيطرة مطلقة لن تنجح، والآن تتحرر هذه النظرية من هذه الهيمنة ومن اسمها الشخصي، لتصير مناهج موضوعية في قراءة الحياة وتغيرها.


