بائع الموسيقى : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
بائع الموسيقى قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ
ــ 1 ــ
جاءته الضجة من السقف عنيفة حادة . راح الأطفال يلعبون الكرة على ملعب رأسه. الجدران تهتز ، والصرخات تتسرب من الشقوق ، والضحك يصير نزيفاً في جلده.
يتطلع إلى دفتر النوتة و أسلاكه الشائكة لا تمتلئ بطيور الموسيقى . يتصاعد الصراخ في الأعلى ، و تترنح القشور الصفراء من السقف نحوه. ثمة خطوط داكنة كثيفة على الجدار ، كأنها ثعابين نائمة في الرمال.
تنزل أصابعه بقوة على البيانو . شلال من الشرر يتبعثر من الفضاء نحو الشجر. تتصاعد آهات غريبة حادة وعنيفة وسط الصياح وضجة السيارات والكراجات. أصابعه تجري على المكعبات البيضاء الشفافة عصافيرٌ ممزقة لا تكف عن الزقزقة ، و النزيف ، و التحليق ، و إرتجافات تتصاعد ، وكبوات تنزلق إلى قعر الأرض.
تنفجر الضجة فوق ، وبدا أن شجاراً أندلع بين الصغار. هناك رفس عظيم على البلاط و العظام. أخذت خريطة كبيرة من القشرة تهتز، و حدث تبعج في كرة السوائل الكريهة في روح الجدار.
توقف.فتح النافذة بعنف.أطل لاوياً عنقه إلى الأعلى. كانت السماء محاصرة بين عمارتين. أسياخ تمتد هنا ، تركها ، تركها العمال نازفة بالأسمنت والماء ، و مكيفات تهدر هناك تبول وتفح على الطرق و الرؤوس. و زرقة السماء لم يرها أبداً. عباءات من الرماد والغبار والأوكسجين الغائب ولعاب النار. يصرخ ، و يصرخ ، دون أن تفتح النوافذ ، أو تخفت الضجة ، أو يتوقف العويل ، أو يسلم الصغار رأسه له ، يدقون بأحذيتهم على قشرة دماغه. تتساقط أصابعه في الهواء.
يضع شيئاً فوق جسده ، و يتوجه نحو باب الشقة . كانت صالته معتمة ، فارغة من الأشياء و الكلام ، يصعد إلى الطابق الأعلى ، يرى غابة من النعل و الأحذية و الصنادل . مدينة باكستانية كاملة تجمعت فوق روحه شاكية سلاحها ، ناثرة روائح الدهن و عطن الأسرة و الثياب المبلولة.
يضغط الجرس بشدة. يطلع شرطي نزع نصف رداءه ، ويحدق فيه مستاءً. ليس ثمة لغة بينهما ، و يظهر و راءه ذلك الحشد المخيف من الصغار ، ونسوة ذوات أجساد ضخمة.
يشير إلى الأطفال ، الذين بدوا حلوين رائعين في هياكلهم المزهرة بالضحك و الورد ، يدق على رأسه ، و يشير إلى أوراقه و بيانوه و غرفته والجدار المتشقق..
ينزل والضجة خفتت قليلاً ، والأحذية المهترئة الكثيفة، والرطوبة المشتعلة ، و الهدوء المراوغ ، و عفاريت الشقة ، و البيانو البارد ، طردت أنامل الروح..
ــ 2 ــ
ــ يا عزيزي ، يا سمير ، دعني أؤلف و كف عن هذا الضجيج النحاسي!
هذا ما كان يقوله لشقيقه ورفيق شقته ، رئته الأخرى التي نزحت من صدره ، والذي جاء به إلى هذا الحبس الانفرادي ، و تركه وحيداً لقشور السقف المتساقطة ونيران الأرض الشاملة.
تعاونا و اقتسما الشقة ، وودع سمير بيتهوفن وباخ وموزارت ، وزعق مع الآلات الموسيقية المُعلبة ، و صراخ الحديد ، و راح يذبح الطيور التي زقزقت في سدرة عمره ، و يسهر طوال الليل في العلب التي يحمحم فيها بآلاته ، و المكبرات الضخمة تهز المكان الصغير ، والعيون الكثيفة تحدق في الراقصات ، و سحابات الدخان تغسل الجلود و الثياب بالكربون.
ــ سمير ماذا فعلت بنفسك، أخي حبيبي كل هذا السهر..والمجيء في الفجر، توصل البغايا إلى شققهن ، ثم تنام إلى الظهيرة وتسعل وتبصق طوال الليل .. ثم لا تملك ثمن التبغ و تستولي على علبي و خبزي !
يرد ساخراً :
ــ أهذه عيشة نحياها؟ إلى متى تهدر مواهبك لدى باخ .. ماذا تجدي مثل هذه الموسيقى العنيفة ، الحالمة ، الساحرة..وسط هؤلاء الأجلاف ، التيوس القادمة إلى حظيرتنا من كل حدب وصوب ؟
يمضي حاملاً طبلته الضخمة ، و يعسكر في البار ، و يدق ، و يعزف ، و ينتشي بطوق ورد بلاستيكي ، ناعم مثل الوزغ ، ملوث بالبصاق والسل ، وكل يوم يتمنى أن يغني أمام هؤلاء السكارى الشبقين ، و في الفواصل ، بين رقص النسوة ، في لحظات تعبهن ، وتجفيفهن للعرق واللعاب ، يُعطى الفرصة ليغني أغان لا تطالع سوى المقاعد الفارغة و العلب المهروسة . يغرد في بيت الراحة ، وينزف ذكرياته و أظافره ، و ليس ثمة صدى أو هوى ، ويعود إليه في غبة الليالي ، والفجر رمز لدم مجهول في السماء ، وينبطح على الفراش مسلماً إياه قطعاً من رئته..
يرمق البيانو مرعوباً :
أعزفْ ! أعزفْ ! علك تغدو فداءً للمسنين في الدخان و الظلمات. أعزفْ! ربما تتوقف الشقوق في الأبدان ، و ينام الأطفال في حجرك مهدهدين بالأحلام. أعزفْ و أسلخ عظامك و أغرزها في الرمال الصفراء الزاحفة على الأرصفة. أعزف واحضن أخاك المتساقط على الدرج ، و أنت تتلمس دمه ، و لامبالاته ، أعزفْ في هذا العرق الكامل ، ضع علاماتك النادرة الشاحبة بين هذه الأسلاك و الأفلاك ، وجوهاً من الجميلات اللاتي أحببتهن ، وهربن من يديك إلى البيوت الكبيرة والقصور والحانات ، أعزفْ وجيبك فاضٍ وروحك فائضة !
ــ 3 ــ
ــ يا أخي كريم ، ألم تشبع بعد من هذا الجوع كله ، سرير بارد ، وعش معتم ، و ثلاجة تحتفي بالصراصير ، و حي مليء بالأغراب و الدخان و الزحام و الأنقاض..؟! تعال ، طالع ما أنا فيه الآن: شقة واسعة قرب البحر ، وصديقة جميلة ، وما لذ وطاب !
يرمقه برثاء .البدلة و الهاتف النقال و السيارة لم تملأ شقوق هيكله الخاوي. يخاف أن تكسره الرياح والزجاجات والسجائر والسهر.
يضيف :
ــ وجدت لك عملاً مناسباً. عزفٌ راق في مطعم ومشرب محترم. تستطيع أن تتلاعب بالبيانو أمام أولئك العشاق ، ستجد ثللا من العصافير والكناري تسجد لك..
كانت الشقة فارغة ، لم يبق إلا البيانو و كرسيٌ صغير رفيق بها.أخذت أجراس المالك ، و الباعة الذين تسلف منهم ، و الأصدقاء الذين نسي ديونهم ، تصير أوركسترا الألم اليومي.
تأمل روحه في المساء وهي تنزلق إلى الحمى :
في عتمة النور المقطوع راح يصرخ : لماذا تعزف على ضؤ شمعة ، ولماذا تعصر جسدك لينزف؟ أكتفِ بكل هذه الألحان الميتة في التابوت ، والغرق في بركة الأصوات ، كفى ! كفى ! عُدْ إلى أهلك ، انزل إلى الحظيرة ، كفاك جرياً
وراء هذا الباص الفضائي !
يترنحُ ، يلوحُ مهّدداً لخصمه الرابض في الظلام ، تغوص أصابعه في تنور الموسيقى ، تصرخ عروقه و هي تسير إلى الحمم ، ممتلئة بالانفجارات ، و تتطايرُ كتلٌ من النار و البحر في الجليد الشعبي ، فيطير فوق مستنقعات الضفادع ، ثم يترنح متألماً ، جائعاً ، يعبُ من الهواء الساخن الرطب ، شبه عارٍ ، مغسولاً بالعرق..
نظرات الجيران الأجانب تحدق فيه بدهشة و هم يصعدون إلى شققهم ويفتحون الأنوار والمكيفات.
ذهب إلى المطعم والمشرب عازفاً ، فوجده محاطاً بحديقة جميلة ، وبدت القاعة واسعة وأنيقة ، وجثمت البيانو بعيداً عن البار و الحضور ، معطية خطواتها الملائكية مساحة شعرية ، فراح يدندن بأحلامه و بأغنيات العشاق الكبار وبجراحه..
في بضع الليالي القليلة تلك ، حلق و أعاد النور و الكلام للشقة ، والطعام والنوم لجسده ، و كوّن إلتماعات لمقطوعات راحت تتشظى بين عزف المساء ونزف الظهيرة ، وسعد برفقة مطربة شابة أجرت حنجرتها طوال الليل للسهارى..
ثم فوجئ في ليالي العطل بزحف مخيف : حشود ملأت القاعة، و غترٌ كأنها موج من الأعشاب الدامية . ضحكوا من رقرقة البيانو . ضجوا من عشق النوارس . ذبحوا البجع و أكلوها . و استراحوا حين و ضعوا شريطاً ملوناً تحت خصر المغنية الراقصة..
كان يتطلع إلى ذلك الحشد ذي الأفواه المفتوحة ، الذي يلتهم العلب والمكسرات و الدخان ، يضع أشرطة من المال على أعناق الراقصات ، وينهض متعاركاً وشاتماً ومدعياً وباكياً ، يقرقر بمياه الشيشة ، يترنح في دورات المياه، وينسى أحشاءه ورؤوسه وجيوبه في الغرف ، وكرامته في الشوارع..
أعزفْ للسكارى ، و أنس الكونشرتو ، و سيمفونية المزامير ، و رقص البجع في البحيرة الذهبية ، و أرتعب من هذه الأيدي الفظة تنقض على الصدور البضة ، وأفراس الشهوات تحمحم وتنثر النقود تلالاً من القصور تنمو بين الأثداء ، و للخزائن و هي تنفض تحت أقدام العاهرات ، و أنت تسقط بين الأزقة و القشور و الحضور و الخصور و الأنقاض ، تترنح ، والليالي تدور ، و لا فضة أمطرت ، و تعود للشقة كل فجر تحمل ضجيج الطبول ، و أيدي الدخان ، و ثلل من المارة لا تتكلم إلا تحت نافذتك ، و السيارات لا تتعطل بطارياتها إلا عند وسادتك ، و العمارة لم تكتمل والمسامير تغرز في عقلك ، فأعزف دمك !
ــ 4 ــ
ماذا يريد الليل أن يقول ؟ لماذا يمدد جسمه كالأرغول ولا يقول؟ لماذا ينمو كالغول ولا ينبس؟
يجلس على مقعده وراء الآلة. السحارة المعدنية التي تفيض بالثعابين. يدق بأصابعه على أسنانها فتتقيأ الموسيقى والأرداف والتأوهات وتظهر النسوة يهززن أثداءهن الملأى بالورق ، و تنفتخ السماعات الضخمة بانفجارات الهواء. هنا تقوم الدببة بالغناء. هنا تغازل أفراس البحر القمر.
شقته امتلأت بالأثاث ، وعظامه باللحم ، وآذانه بالصمم ، وقلبه بالحصى ، وصدره بخرائط الفحم !
يرى أخاه متخشباً على فراشه. ظهر جلادٌ دمويٌ في رئته ، انتزع نصف هيكله ، و راح يبكي كلما التهم ضلعاً ، حتى تسلمه أخيراً جريدة من نخلة يابسة.
يمشي على البلاط البارد للمستشفى . يقاد إلى الأجزاء الأخيرة لأخيه ، ذلك الخوص الباقي من الفضة.
هوذا يعود إلى الشقة. ليس ثمة سوى البيانو على تلة من نور. أحجارها تتكلم وسط الخرس:
آهة تتصاعد من الشرق . ثقب أسود هائل يبتلع الورق والوجوه. آهة خافتة تتسرب من الأرض. يجثم على البيانو.
أصابعه تتلمس جسد حبيبته. ينزل أخاه إلى قعر الأرض. تتبرعم أصوات وأغصان. تأوهات خافتة لمقتولين في المدن. أصابعه تدق بخفوت . والروح المحبوسة تتقلقل في المياه. آهة حادة تتصاعد من الشرق . هو يمشي متسولاً تحت النوافذ . السقف ينهمر مسحوقاً خانقاً. تنفجر الموسيقى بغتة: ضرباتٌ عنيفة تتصاعد ، مطرٌ يهطلُ ، عواصف تضرب الأرصفة ، أضواءٌ غريبة تندلع.
خفوتٌ عميقٌ في الشرق . آهاتٌ خفيضة . زقزقة عصافير أخيرة قبل الرصاص. الأيدي المدهوسة لا تزال ترتعش . ضربات ملتاعة ، معذبة ، راكضة في شتى الجهات . السقف يتقلقل. صمتٌ مريع ، صمتٌ خائن ، ومطر الدم والنور يتدفق بلا أفق ، ينهمر السقف بالأشلاء .
لاتزال أصابعه تتحسس البياض.


