عبـــــــدالله خلــــــــيفة : القحط في زمن النفط ❸+❹

حدثت أزمةٌ عاصفة في زمن العشرينيات، فما قالته بريطانيا عن (الإصلاحات) في البحرين كان كارثة بكل معنى الكلمة، فقد انخفضت قوة العمل البحرية إلى أدنى مستوياتها، وهاجر عشرات الآلاف من المواطنين إلى مناطق أخرى في الخليج وإلى العراق وإيران.
كانت البحرين قد شهدت رقماً سكانياً عالياً فإذا (قسنا قوة العمل المنتجة البحرينية في القرن التاسع عشر فسنجد أرقاماً كبيرة، فقد بلغ عدد السفن سنة 1500،1833 سفينة، وكان إيراد البحرين يبلغ من الغوص في السنة نفسها 3,240,000 روبية.)، (راجع فائض القيمة البحريني).
إن حجم قوة الإنتاج هنا يعني أن عدد السكان يتجاوز المائة والخمسين ألفاً في بداية القرن التاسع عشر، في حين أن إحصاء السكان سنة 1941، يثبت أن عدد السكان هو تسعون ألفاً فقط! كانت كثرة أعداد السكان البحرينيين تقود إلى التمركز وتضخم قوة الناس بالتالي، وهو أمر تفرضه الخريطة الجغرافية وطابع الاقتصاد وتطور المواصلات.
إن هذا التدهور في أعداد السكان على هذا المستوى يعود إلى سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، فقد رحلت الإصلاحات البريطانية وسوء الأوضاع حشوداً من السكان ولم تستطع أن تجذب أعداداً من العرب، فلم يحدث شيء إيجابي على مستوى تغيير العلاقة بين الغواصين والمزارعين والإقطاعين البحري والسياسي، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية وصنع اللؤلؤ الياباني لتقضي على آخر ماً بقي في الاقتصاد البحري القديم.
فقد وصل العجز فى أوائل الثلاثينات إلى 9,39% في أقصى نقطة معبراً عن تدهور بالغ في قوى الإنتاج المحلية.
وكما عمل الاستعمار على تطوير مجال جديد للاقتصاد هو مجال النفط لكنه قام بضرب قطاعات الإنتاج الأخرى كافة، فقد أغرق البلد بالعيون المجانية في كل مكان، ليس بهدف توفير الماء الحلو للسكان كما هو شائع بل لتدمير الزراعة، وتفتيت القوى الإنتاجية والسكانية، بهدف جعل المزارعين يتوجهون لبيع قوى عملهم في مجال النفط بأرخص الأسعار.
وقد عملت أزمة الغوص وتفكك وانهيار الحرف والزراعة على تقديم حشود من العضلات الزهيدة الثمن إلى مجال النفط الوليد.
(كان ظهور البترول في أول شهر يونيو 1932م، ومن عمق 2008 أقدام وبمعدل 9600 برميل من بئر واحدة)، (وشحنت أول ناقلة للبترول البحريني في 1934/6/7م)، (ووصلت أعداد الآبار المحفورة الى 59 بئراً)، (من كتاب تاريخ العتوب، ص216).
كانت خلخلةُ الاقتصاد التقليدي وازاحته تستهدف إحداث أكبر كمية من العرض لقوة العمل. وهكذا وجد الجزء العامل من السكان نفسه يقدم قوة عضلاته لشركة النفط الأمريكية بأقل الأجور. لكن الشركة لم تكتف بتقديم اللحم البشري القوي بل طالبت قسماً من السكان بإحضار أدواته الحديدية من أجل تنظيف البرية المليئة بالأحجار وإقامة المساكن لموظفي الإدارة الكندية والبريطانية والهندية.
وتراوح ذلك الجهد من البساطة إلى التعقيد والفنية العالية، فتمهيد الأرض أو إقامة البيوت أقل شأناً من الاشتغال في بناء مصنع التكرير بعد سنوات قليلة. لكن هذا التنوع في قوة العمل بين العمل غير الماهر والعمل الماهر لم يستدع أي نظام مركب للأجور!
كانت الروبية الهندية قد أزاحت العملة التركية السائدة في قسم من العالم العربي فيما قبل ذلك، وكانت سيطرة الروبية تشير إلى مكانة الهند كدرةٍ في التاج البريطاني المقام على ضلوع فقراء آسيا، وإلى إلحاق الخليج العربي بتلك الدولة الآسيوية كمنطقةٍ تابعةٍ لتابع.
(كانت الأجرة اليومية للعامل روبية واحدة) السابق ص 232، ولم يكن نظام الأجور شهرياً بل هو أسبوعي، مع إزاحة يوم الجمعة منه، فهذه الإجازة بلا مقابل. وقد مثلت هذه الأجور للعمال القادمين من الغوص المنهار تماماً، ومن الزراعة التي كانت بطريقها إلى الانهيار الكلي، تعويضاً كبيراً واستقراراً معيشياً، وفي عمل بلا أخطار البحر الرهيبة.
فثلاثون روبية شهرياً يمكن أن تغطي نفقات العامل وأسرته، حيث كانت أسعار المواد الاستهلاكية الرخيصة تمكنه من دفع إيجار عريشه المقام من سعف النخيل، الذي يأخذ ثلث الأجر كحد أدنى، ولشراء تلك المواد طوال الشهر، وكان أبناؤه لايزالون بلا مدارس وهم كذلك احتياط للعمل الرخيص.
وفيما كان العمال البحرينيون يتدفقون بغزارة على الإنتاج البترولي الوليد كان الدخل الحكومي يرتفع بصورة مطردة، ( فمن 3,717,000 روبية في 1939 – 1940م إلى 5,634,000 في 1945 – 1946م)، وهذا الدخل الحكومي العام ينقسم إلى ثلاثة أقسام، يرجع قسمٌ واحدٌ منه فقط إلى عمال الإدارة، وسواء كان رواتب للموظفين والعاملين أو لخدمات الحكومة. في حين يذهب القسمان الآخران إلى العائلة الحاكمة، وكذلك إلى ما يُسمى بالاحتياطي للدولة الذي يوضع في الخزانة البريطانية!
وتعود الزيادة في الإنتاج إلى فتح آبار جديدة واستنزاف الثروة، كما أن الطلب الهائل على النفط راح يتصاعد قبيل الحرب العالمية الثانية خاصة، التي كانت في جوهرها صراعٌ على البترول!
لكن هذا الحساب لا يضم أرباح شركة النفط نفسها، التي تعطي المجتمع بثلاثة أقسامه، جزءاً يسيراً من دخلها العام وقد وجدتها فرصةً كبيرة لزيادة الإنتاج في مثل هذه الحالة من تدني الأجور.
وهكذا فإن العامل الذي يتسلم روبية واحدة كأجر يومي، كان عملياً غير قادر على التوفير من هذا الأجر، ومن هنا فنمط بيوت السعف الذي كان سائداً، ويجعل عائلات المنتجين تفرّخُ أجيالاً جديدة من العاملين، ظل سائداً إلى أواخر الخمسينيات أي حتى أتت على إزاحته حرائق قام بها المتنفذون من أجل إزالته عن هذه الأرض الواسعة، والتي غدت الحاجة ماسة إليها بعد توافر الرساميل من صناعة النفط التي كان يعمل بها هذا العامل نفسه!
ولكن حتى أجرة العامل اليومية أي هذه الروبية الهندية نفسها كانت غير دقيقة، فالشركة وحفاظاً على طهارة يديها من التلوث، تقوم بجعل المقاولين يدفعون أجرة العامل، ولكنهم لا يدفعون اليه الروبية كاملة، بل ينقصونها بضع آنات، وبضع الآنات هذه هي التي سمحت لهؤلاء المقاولين بالانتقال من المقاولة إلى شراء الأملاك الواسعة.
وفيما كانت الأجرة يلفها الغموض كان يوم العمل يلفه الغموض هو الآخر. فالعمال كانوا يوضعون بتصرف الشركة الجسدي في أي وقت، ويتيح وجودهم في منطقة التنقيب والحفر والآبار عبر مكوثهم في أكواخ، حرية استدعائهم وتشغيلهم في أي وقت ضروري. صحيح أن الليل والنهار كانا يمنعان الشركة من إزالة تقسيم اليوم الطبيعي، لكن بدء استخدام الكهرباء كان
يلغي هذا التقسيم، فكانت الصفارة تجمع هذه الحشود المنهارة من قلة النوم وتفرقها وهي ذائبة من كثرة العمل وأحياناً من فقدان الأطراف وربما الحياة نفسها.
وفيما بعد ونظراً إلى النمو المتزايد في معدات التكرير والاستخراج وبناء مدينة خاصة للموظفين المتميزين، تم سحب العمال البحرينيين من منطقة وجودهم السكني الرهيبة تلك، وإعادتهم إلى بيوتهم وتشغيل باصات كبيرة لنقلهم، خاصة بعد أن استوت المؤسسة النفطية مبنىً ونفوذاً.
وإذا أنقصنا أيام إجازات الجمع والأعياد وما يأخذه المقاولون فلن يكون الشهر بثلاثين روبية. ويكون فائض القيمة النفطي مشابها لفائض القيمة في اقتصاد الغوص، لكن الربابنة هنا متعددون وكثيرون. ويتوجه جانب من الفائض إلى الخدمات الاجتماعية الضرورية لاقتصاد يُفترض أن يكون حديثاً، مثل طرق المواصلات، والتعليم، ومباني الإدارة الخ.. ويُلاحظ هنا الإسراع في إنشاء أدوات الاتصال بالخارج أكثر منها أدوات الاتصال بالداخل، فالمطار ومبنى التلغراف، وميناء سترة، تكمل دور البنوك الأجنبية المهيمنة، فيلعب فائض القيمة النفطي ورسوم الجمارك حجري الزاوية في بناء مؤسسات الداخل، في حين تقوم وسائل النقل والصرافة بسحب المادة النفطية والنقود إلى الخارج.
لكن الدخول النفطية تلعب الدور الأكبر في تشكيل الفئات المالكة التي ستضاف فوائض النفط إلى فوائض الغوص السابقة في تدعيم امتلاكها لأشكال الثروة الأخرى، خاصةً الأرض العقارية والأرض الزراعية، وكذلك إلى توسع أعمالها التجارية.
في حين أن هذه الثروات تتنامى، فإن العمال سوف يظلون لعقود بذلك المستوى من الأجور، أما سبب قبولهم هذه الأجور المتدنية جداً، فهو الانتقال من اقتصاد الغوص والزراعة كما قلنا، إضافة إلى أن هذه الأجيال القديمة لم تكن تملك أي ثقافة نقابية وسياسية لمواجهة طرق الثقافة العصرية الامبريالية.
لكن الأمور كذلك تعود إلى الأوضاع الدولية المتدهورة فحتى تلك الأوضاع السيئة ازدادت تدهوراً!
رغم شتى الظروف الداخلية والخارجية كان النفط لا يكف عن التدفق متوجهاً إلى شركته الأم، فعلى الرغم من الصدمة الأولية التي حدثت في بداية الحرب العالمية الثانية بالتراجع عن التنقيبات الجديدة فإن الإنتاج ما لبث أن تدفق بصورة متزايدة، حيث كانت الآلة الصناعية والحربية الغربيتين بأمس الحاجة إليه؛ (في سبتمبر 1941 بلغ متوسط الإنتاج 15،000 برميل يومياً، وفي أغسطس من العام التالي زاد الإنتاج إلى 25,000 ثم إلى 33,500 برميل. وفي العام الذي يليه وصل الرقم إلى 37,500 وفي عام 1945 بلغ 65،000 بعد مد أنابيب من الظهران)، (السابق، ص 235).
كان العمل في ظل ظروف الحرب يمثل مخاطرة فقد كانت بعض طائرات المحور قادرة على الوصول بشكل نادر إلى مصافي النفط في الخليج لتعطيل إمداد الوقود لقوات الحلفاء، وحدث إلقاء قنبلة فعلاً على معمل التكرير لم تؤدِ إلى إحراقه.
ومع هذا فإن ظروف العمال والسكان الفقراء عموماً لم تتحسن؛ بل تدهورت بشكل كبير، بسبب انقطاع المواد الاستهلاكية عن الوصول إلى السوق. فقامت الإدارة البريطانية بتوزيع المواد الضرورية بالبطاقات وبكميات قليلة، وفقدت قطع الغيار للسيارات والباصات، وانتشرت السرقة ونهب المخازن، وضارب بعض التجار بالمواد الغذائية، فقدم بعضهم إلى المحاكم، ولبس الأطفال الخيش نظرا إلى نقص الملابس.
ومع هذا فإن نمو الصناعة النفطية الاستخراجية لم يتوقف فتم توسعة مصنع التكرير في سترة، وظهر مصنع التكرير في رأس تنورة، وارتحل قسمٌ من العمالة البحرينية إليه، خاصة مع ارتفاع الأجور المقدمة فيه عن البحرين. إن كل هذه الظروف أدت إلى ظهور نقص في العمالة، لكن الأجور لم تتحسن. وتفجر أول إضراب عمالي أثناء الحرب العالمية الثانية في شركة النفط من دون أن يترك أثرا في الأوضاع المادية للعمال.
ومع انقشاع الحرب العالمية الثانية اتضح أن ظروف العمال كانت أسوأ من زمن الغوص، رغم هذه الثروة الهائلة، فغابات الأكواخ كانت منتشرة في المدن والقرى، وأبناء الفقراء عموماً كانوا خارج المدارس، فقد لاحظ بلجريف أن كل التلاميذ والتلميذات الجدد المنضمين إلى التعليم هم من أبناء موظفين ماعدا واحداً!
وإذا كانت الفئات الوسطى الصغيرة قد عانت من جراء ظروف هبوط التجارة وتدهور السوق، لكن فئة من التجار استغلت الظروف لتصعد بشكل كبير في الحياة الاقتصادية.
(ولكن التجار حققوا أرباحاً طائلة على كل حال، ولاحظ بلجريف أن بيوتاً عديدة، ظهرت إلى حيز الوجود عقب انتهاء الحرب جاءت تكاليفها من المتاجرة في السوق السوداء وأرسل المعتمد البريطاني تقريراً قال فيه: إن قطعة الأرض التي كانت بـ 2000 روبية صارت بعد الحرب بـ 70000 روبية) ، السابق، ص 235.
لم يلاحظ بلجريف أن الشعب الفقير ازداد فقراً وأنه بحاجة إلى تغيرات كبيرة في ظروفه السكنية والمعيشية عامة، وبدلاً من ذلك بدأت عمليات الاستيلاء على الأراضي التي يعيش فوقها العمال والبحارة، فبسبب ارتفاع أسعار الأراضي حدثت المضاربات بها، لكن وجود الجمهور عليها بصورة تلك الأكواخ الرثة، استدعت إزاحتهم بالقوة عبر انتشار موجةٍ من الحرائق عصفت بهذه المساحات وفرغتها من سكانها!
عبر بيع هذه الأراضي وتراكم أرباح الغوص والنفط تشكلت الفئات الغنية والوسطى التي التهمت الثروة خلال القرن العشرين.
لكن في زمن الأكواخ كانت الثقافة السياسية قد تصاعدت وتحرك مثقفو الفئات الوسطى وعمال النفط، من أجل تغيير خريطة الوضع الاقتصادي المتخلف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يصدر قريبــاً: عبـــــــدالله خلــــــــيفة ـ إضاءة لذاكرة البحرين

✍ البحرين في بدء التحديث
✍ فائض القيمة البحريني
✍ القحط في زمن النفط
✍ فائض القيمة والاقتصاد السبعيني

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 20, 2021 12:17
No comments have been added yet.