تأمل في محبة المعنى والعلم

أحيانا كثيرة نقابل ناس أدعياء، وما أكثرهم، فيقول لك أحدهم مثلا أنا قرأت المتنبي أو محيي الدين بن عربي أو الإلياذة.. ولكنك تجد حين تعاملهم أن أنفسهم لم تتهذب وعقولهم تكاد لا تعمل. وكان الشيخ محمد عبده في تفسيره للقرآن يقول في هذا الشأن: "إن الكتب لا تفيد القلوب العُمي، فإن دُكَّان السيد "عمر الخشاب" مملوءة بالكتب من جميع العلوم، وهي لا تعلم شيئا منها! لا تفيد الكتب إلا إذا صادفت قلوبا متيقظة، عالمة بوجه الحاجة إليها، تسعى في نشرها". ويستوى في ذلك من لم يقرأ ويدعي أنه يقرأ، ومن يقرأ لكن مثله كمثل من "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة". والمفتاح نجده في بيت عابر كتبه صلاح عبد الصبور في "مأساة الحلاج" حين قال "لا تبغَ النظرَ... تَبَصَّرْ".. وهذا الانتقال من مجرد النظر إلى التبصر يحتاج إلى عمر ومجاهدة وجهد وأناة وصبر وتواضع وعدم رياء. فكثيرا ما تجد من يدعي حب العلم والمعرفة والثقافة، لكن العلم والمعرفة والثقافة لا تشهد له بذلك، تماما كما يقول الشاعر العربي القديم: "وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا لِلَيْلَى وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بذاكا". ولذلك فأنا دائما ما أذكر نفسي (رغم أن بضاعتي في هذا الباب مزجاة) بالحديث القدسي "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها". وكذا العلم، ولا أقصد المماثلة أبدا، لكن بغرض تقريب الصورة، تتقرب إليه بالاستزادة منه وبالإخلاص له.. حتى يحبك. ولا تتعجب مما أقوله لك فإنك إن قرأت "أسرار البلاغة" لعبد القاهر الجرجاني تجده يقول مثل هذا وهو يشرح ارتباط بيتين في قصيدة للبحتري: "وفكّر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني ولم تتدبر نصرته إياه وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه ويؤدي إليه ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بعد ما بين حالتيك، وشدّة تفاوتهما في تمكّن المعنى لديك، وتحبّبه إليك، ونبله في نفسك؛ وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، وبالحق فيما ادّعيت". فتأمل حالك وأنت تقرأ البيتين في قصيدة البحتري ولا تربط بينهما، ولم يؤد عندك البيت الأول إلى البيت الثاني، وتأمل حالك حين يفتح الله عليك بالعلم وبنعمة الفهم، فينكشف لك المعنى الكامن، ونصرة البيت الثاني للبيت الأول.. وفي هذا الكشف تكمن لذة المعرفة والفهم، وهي ليست على قارعة الطريق لكل عابر، ولا نصل إليها إلا بعد قطع الطرق الطويلة والوعرة جدا جدا جدا جدا. ومن أمتع ما قاله الباقلاني في "إعجاز القرآن" وهي إشارة لذي الحس السليم، قوله "وجه الوقوف على شرف الكلام أن تتأمل.." والتأمل يحتاج إلى عقل يقظ وروح ونفس عالية ومخلصة. وحين تبلغ هذا الحد من "تمكن المعنى لديك" لا تكون فقط في مرتبة من يُحب المعنى والعلم، بل تصل إلى مرتبة "تحببه [هو] إليك"؛ فيكون هو سمعك وبصرك ويدك، وهو عقلك اليقظ وقلبك النابض..
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 20, 2018 08:22
No comments have been added yet.