من رسائل توفيق الحكيم في "زهرة العمر"
في إحدى رسائل توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي مسيو أندريه (الرسائل كلها منشورة في كتابه: "زهرة العمر") يقول:
عزيزي أندريه
لنعد إلى ما جاء في رسالتيك الأخيرتين عن غرقك في بحر الكتب والمطالعات، وخروجك مصاباً بحمى الشك القلق. ينبغي أن أبادر فأقول لك أن هذا القلق مرض دوري لكل رجل فكر. أين كنت يوم إصابتي بهذا المرض الإصابة الأولى؟ لقد حدث لي بالضبط كل ما وصفت. في ذلك الوقت كنت أنت في مصنعك بعيداً عن المنطقة الجدية العميقة من نفسي. وكنت أنا في حجرتي. لقد كان العامان الأخيران من عهد باريس رازحين تحت أثقال هذا المرض الموهن، لقد فتحت أمامي المطالعات دنيوات لا قبل لي بها. وعوالم لا حدود لها. وقد حدث ذلك فجأة وعلى الأقل في سرعة لم يتحملها ذهني. فصار مثلي مثل ذبابة أُطلقت في أجواز الفضاء الهائل وهي التي هامت في جو الحجرة الضيقة وما عرفت النور إلا من خلال النافذة الزجاجية المغلقة. على أن هنالك فرقاً بيني وبينك لا يجوز أن تنساه. فرق جعل مرضي أثقل وطأة وأشد فتكاً، ذلك أني كنت أعتبر شؤون الأدب والفكر حرفة وغاية. أما أنت فقد كنت تعمل عملاً حقيقياً ترتزق منه وتأخذه على سبيل الجد وما كانت المطالعات عندك إلا هواية.. ذلك حالك وهو كما ترى ليس خطراً إلى حد كبير، أما أنا فقد تفاقم خطبي. لقد أضعت وقتي كله في باريس منحنياً على مكتب الحجرة رقم 48 بشارع بلبور اقرأ واقرأ حتى قرأت كل شيء. لم أترك شيئاً في تاريخ النشاط الذهني لم أطلع عليه. لقد غرقت في آداب الأمم كلها وفلسفتها وفنونها. لم أكن اسمح لنفسي بأن أجهل فرعاً من فروع المعرفة لأني كنت أعتقد أن الأديب في عصرنا الحاضر يجب أن يكون موسوعياً لذلك بذلت جهدي في أن أحيط بأبرز ما أنتجت العبقرية الإنسانية. حتى العلوم، أردت أن ألم إلماماً بأهم نتائجها.. أما قراءاتي في القص التمثيلي فهي أعجب شيء فعلته. لقد قرأت كما أخبرتك ذات مرة المكتبة المسرحية La Libaraire Theatrate برمتها. فأنا كنت أُراسلها من مصر قبل نزوحي إلى فرنسا. وأعرف عنوانها في الجان بولفار. وكانت هي أول حانوت دخلته إذ دخلت باريس. فجعلت أختلف اليها أياماً طويلة أُطالع فيها صفوف كتبها صفاً صفاً. وأنطلق آخر النهار بما أستطيع شراءه مداراة لصاحب الحانوت. واعتاد المكتبي رؤيتي كل يوم على هذا الحال إلى أن نظر ذات يوم حوله فلم يجدني، فسأل في ذلك أحد عماله مستغرباً. ثم حانت منه التفاتة إلى أعلى المحل فأبصرني في قمة السلم لاصقاً بالسقف ألتهم الكتب التي في الصف العلوي الأخير .. أجل يا أندريه فعلت هذا وبعد ذلك كله انكببت أكتب وأكتب مخطوطات... كان مصيرها كلها التمزيق، إن ما جعلتك تقرؤه منها يا أندريه لا يوازي جزءاً من عشرة أجزاء مما أخفيته عنك وانتهيت إلى تمزيقه قبل أن تطلع عليه عين. ولعل ما قرأته أنت هو أنكب وأقبح ما سودت به وجه ورق. إنها سهول من الصحاري والرمال تصور لنا سحاباً بعيداً لن نبلغه أبداً..
عزيزي أندريه
لنعد إلى ما جاء في رسالتيك الأخيرتين عن غرقك في بحر الكتب والمطالعات، وخروجك مصاباً بحمى الشك القلق. ينبغي أن أبادر فأقول لك أن هذا القلق مرض دوري لكل رجل فكر. أين كنت يوم إصابتي بهذا المرض الإصابة الأولى؟ لقد حدث لي بالضبط كل ما وصفت. في ذلك الوقت كنت أنت في مصنعك بعيداً عن المنطقة الجدية العميقة من نفسي. وكنت أنا في حجرتي. لقد كان العامان الأخيران من عهد باريس رازحين تحت أثقال هذا المرض الموهن، لقد فتحت أمامي المطالعات دنيوات لا قبل لي بها. وعوالم لا حدود لها. وقد حدث ذلك فجأة وعلى الأقل في سرعة لم يتحملها ذهني. فصار مثلي مثل ذبابة أُطلقت في أجواز الفضاء الهائل وهي التي هامت في جو الحجرة الضيقة وما عرفت النور إلا من خلال النافذة الزجاجية المغلقة. على أن هنالك فرقاً بيني وبينك لا يجوز أن تنساه. فرق جعل مرضي أثقل وطأة وأشد فتكاً، ذلك أني كنت أعتبر شؤون الأدب والفكر حرفة وغاية. أما أنت فقد كنت تعمل عملاً حقيقياً ترتزق منه وتأخذه على سبيل الجد وما كانت المطالعات عندك إلا هواية.. ذلك حالك وهو كما ترى ليس خطراً إلى حد كبير، أما أنا فقد تفاقم خطبي. لقد أضعت وقتي كله في باريس منحنياً على مكتب الحجرة رقم 48 بشارع بلبور اقرأ واقرأ حتى قرأت كل شيء. لم أترك شيئاً في تاريخ النشاط الذهني لم أطلع عليه. لقد غرقت في آداب الأمم كلها وفلسفتها وفنونها. لم أكن اسمح لنفسي بأن أجهل فرعاً من فروع المعرفة لأني كنت أعتقد أن الأديب في عصرنا الحاضر يجب أن يكون موسوعياً لذلك بذلت جهدي في أن أحيط بأبرز ما أنتجت العبقرية الإنسانية. حتى العلوم، أردت أن ألم إلماماً بأهم نتائجها.. أما قراءاتي في القص التمثيلي فهي أعجب شيء فعلته. لقد قرأت كما أخبرتك ذات مرة المكتبة المسرحية La Libaraire Theatrate برمتها. فأنا كنت أُراسلها من مصر قبل نزوحي إلى فرنسا. وأعرف عنوانها في الجان بولفار. وكانت هي أول حانوت دخلته إذ دخلت باريس. فجعلت أختلف اليها أياماً طويلة أُطالع فيها صفوف كتبها صفاً صفاً. وأنطلق آخر النهار بما أستطيع شراءه مداراة لصاحب الحانوت. واعتاد المكتبي رؤيتي كل يوم على هذا الحال إلى أن نظر ذات يوم حوله فلم يجدني، فسأل في ذلك أحد عماله مستغرباً. ثم حانت منه التفاتة إلى أعلى المحل فأبصرني في قمة السلم لاصقاً بالسقف ألتهم الكتب التي في الصف العلوي الأخير .. أجل يا أندريه فعلت هذا وبعد ذلك كله انكببت أكتب وأكتب مخطوطات... كان مصيرها كلها التمزيق، إن ما جعلتك تقرؤه منها يا أندريه لا يوازي جزءاً من عشرة أجزاء مما أخفيته عنك وانتهيت إلى تمزيقه قبل أن تطلع عليه عين. ولعل ما قرأته أنت هو أنكب وأقبح ما سودت به وجه ورق. إنها سهول من الصحاري والرمال تصور لنا سحاباً بعيداً لن نبلغه أبداً..
Published on December 15, 2017 07:41
No comments have been added yet.


