مقال للأستاذ محمود أمين العالم عن الشاعر فؤاد حداد
ده المقال اللي كنت بدور عليه من سنة 2004 تقريبا لما قريت إشارة ليه في مقالات كان بيكتبها هشام السلاموني في جريدة القاهرة، (وغير هذا لهشام كتاب جميل اسمه: حكايات والد الشعراء فؤاد حداد). شدتني الفكرة اللي لقطها أستاذنا العالم في تكوين فؤاد حداد. كان السؤال المؤرق دائما هو كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص ما؟ ازاي ممكن تشرح للناس تناقضاتك دي أو اللي زيها؛ خصوصا التناقض المقلق بين الروحانية والمادية، بين الله والشيوعية؟ وكنت دائما أجد في الطريق جملة من المقال هنا أو هناك تجعلني متحمسا أكثر للبحث عنه والسؤال أيضا. وكانت كل الجمل تقول أن السؤال الحقيقي ينبغي أن يكون هو: كيف يكتشف الناس أن جوهر الحياة هو أساسا التناقض، وكيف ينسجم هذا التناقض في تكوين شخص ليصبح هو كل هذه الأشياء الغنية والثرية جدا. فؤاد حداد كان شاعر عامية فصيح، وكان مسيحيا واختار الإسلام، لم يكن مصريا واختار أن يكون "المصري" بالتعريف. كان يكتب شعر باللغة العامية ويراجع ترجمة "واقعية بلا ضفاف" عن الفرنسية. كان شيوعيا تقدميا ويلتزم "بالقافية" ويقول إن الشعر قافية. كان روحاني عقلاني، أو للدقة عقلاني روحاني، ماديا صوفيا، يطعم شعره بكلمات من القرآن أحيانا ويكتب عن العامل والمصنع والوطن. ثم وجدت المقال كاملا أخيرا وكنت أتمنى ألا ينتهي، أو أن يكمله ويعمقه الأستاذ محمود العالم كما وعد، لكنه رحل قبل أن يستطيع ذلك.. لكن الفكرة الرئيسية في رؤية الأستاذ محمود لعالم فؤاد حداد الشعري بقيت: إن الحياة نفسها ليس الأصل فيها هو الانسجام بالمعنى السطحي أبدا، لكن أصلها وجوهرها هو التناقض ( التناقض ليس بمعنى عدم الاتساق ولكن بمعناه الجدلي) الذي يؤدي إلى الحركة والتطور والفعل والغنى. هذه القراءة من الأستاذ محمود، رغم بساطتها الظاهرة، لكنها من العلامات الفارقة والمضيئة لي عن حياتي وفي أفكاري ورؤيتي للأمور.
المقال بعنوان "الله والقافية والشيوعية، قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد"
نُشر المقال في العدد العدد 7 من مجلة اليسار، سبتمبر 1990
الله والقافية والشيوعية
قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد
ما زلت أذكر وجه فؤاد حداد الغاضب وكلمته الغاضبة عندما زارني في أواخر الخمسينيات، وكنت حينذاك أُكثر من الكتابة مدافعًا عن الشعر الجديد، مُحبذًا تخليه عن الأنساق الخليلية في الوزن، بل عن القافية كذلك. وما تزال ترن في أذني كلمته الغاضبة: "يا صديقي الشعر قافية، بدون قافية لا شعر". وعندما جمعتنا بعد ذلك زنزانة في سجن المحاريق في الواحات الخارجة، كان يرقد على أرض الزنزانة على يساري. وكان من عادته عندما ينام أن يغطي جسده كله "ببطانية" السجن فلا يبين منه شيء. كانت هذه "البطانية" المحكمة الإغلاق هي غرفته الصغيرة التي يختفي فيها كي يمارس عملية بناء أشعاره. وكانت قدماه تفضحانه دائمًا. كنا نعرف استغراقه في هذه العملية عندما نبصر بقدميه تحت "البطانية" المحكمة الإغلاق تتحركان حركة متسقة كأنها جهاز إيقاع.
كنت أحس وأتبين دائمًا في كل ما أسمعه منه أو أقرأه له من أشعار بقوة الإيقاع، بسيطرة الوزن الموسيقي، بجبروت القافية. بل كنت أشعر أحيانًا أن القافية تكاد أن تكون القوة المحركة الفاعلة الدالة في بنائه الشعري كله. وكنت أُدهش لهذا، لأنني كنت أتبين في الوقت نفسه، أن موضوعاته الشعرية ومضامينه المُعبرة عن موقفه الإنساني كمناضل وطني شيوعي، هي القوة المُحركة الفاعلة الدالة كذلك في بنائه الشعري! وكانت تزداد دهشتي دائمًا عندما كنت أتبين كذلك في العديد مما يكتبه من أشعار رؤية دينية مؤمنة عميقة الإيمان، ولم يكن الأمر تظاهرًا، ولم يكن ادعاء، ولم يكن رد فعل لملابسات السجن وعذاباته وقسوته، وما كان يحوم فيه وحوله من شبح دائم لموت، تجسد في سقوط أكثر من جثة لرفيق عزيز لنا جميعًا. وكان من بين هؤلاء قريب لفؤاد حداد هو الشهيد الدكتور فريد حداد الذي قُتِل في سجن أوردي ليمان أبي زعبل، وكان أول شهدائنا قبل أن يستشهد بعد ذلك بقليل شهدي عطية في هذا السجن نفسه الذي كان يضم أغلب الشيوعيين آنذاك منذ أواخر عام 1959 قبل أن ينتقلوا إلى سجن الواحات. لا ... لم يكن شبح الموت المخيم وراء هذا الإحساس الديني العميق عند فؤاد حداد، بل ما كان هذا الإحساس الديني العميق عنده نقيضًا لانتمائه الشيوعي.
وما أندر الفرص التي كانت تسنح لنا، فنقف قليلاً لنتحدث في بطن جبل أبي زعبل، حيث كنا نلتقي معًا لنكسر أحجار البازلت وإن كانت تتوزعنا عنابر الأوردي المختلفة بعد ذلك. وفي بعض هذه الفرص النادرة كنا نتعرف من فؤاد حداد على آخر أشعاره، وكان من أروعها – في تلك المرحلة – ملحمته المطولة في رثاء الشهيد شهدي عطية، التي لا أدري أين ذهبت واختفت. أردت أن أقول إنه في هذا المناخ الذي كان يقطر عذابًا وقسوة ويحوم فيه وحوله وفوقه شبح الموت، لم يكن إيمان فؤاد حداد الديني نقيضًا لشيوعيته، فما زلت أذكر من تلك الملحمة بيتًا يشير فيه فؤاد حداد إلى واحد من المسجونين من مناضلي الحركة الشيوعية المصرية هو العامل الزراعي أحمد سليم، ويقول في هذا البيت على لسان هذا المناضل الشيوعي" "شيوعي والله شيوعي وحافظ القرآن". وما كان فؤاد حداد يشير بهذا البيت إلى أحمد سليم وحده، وإنما كان في الحقيقة يُعبر عن نفسه كذلك.
وكنت أتساءل دائمًا عن هذه العلاقة الحميمة عند فؤاد حداد بين هذه القوى الثلاث المسيطرة على أشعاره: الله والقافية والشيوعية، أو بتعبير آخر: عمق إيمانه الديني، وجبروت القافية وسيطرتها، وحرارة وصدق رؤيته الوطنية الاجتماعية الإنسانية التقدمية.
في البداية كنت أتصور الأمر لحظات مختلفة متوازنة، متجاورة في حياته الفكرية وفي بنائه الوجداني وفي تعابيره الشعرية. وكان مصدر هذا هو اطلاعي المتقطع على أشعار فؤاد حداد. ولكن عندما أخذت تصدر دواوينه الجامعة لاشعاره المختلفة ورحت أقرأ فؤاد حداد قراءة شاملة موحدة، أخذت تتكامل عندي رؤية كلية لهذه القوى الثلاث المسيطرة في شعره، وأحسست أن الله والقافية والشيوعية عند فؤاد حداد تكاد أن تكون شيئًا واحدًا تتمثل في الانتظام الكوني الذي يمسكه إيقاع عميق وتوجهه حقيقة كبرى هي العدالة وهي المحبة وهي الخير. إن الله يتمثل عند فؤاد حداد في هذه القافية التي تنتظم الوجود كله، كما تنتظم الحياة الإنسانية كلها، كما تنتظم وتتجسد في الشعر الذي هو جوهر الوجود وجوهر إنسانية الإنسان، وأن الله يتمثل كذلك عنده في الخير المطلق وفي إرادة التطلع الإنساني والنضال الإنساني والمسعى الإنساني من أجل الكرامة والشموخ والحرية والخير والجمال والسعادة.
والتقيت بفؤاد حداد قبل وفاته بأسابيع. قال لي: أتعرف بأنني أشعَر أهل الإنس والجن؟ فقلت له: أعترف لك بهذا يا فؤاد، أنت أشعَر أهل الإنس والجن. وما كان يهزل، وما كنت أهزل. كان يعرف، وكنت أعرف، أنه بالإيقاع الدقيق الفريد المُعجِز لقافيته، وبالعمق الوطني والاجتماعي والإنساني لرؤيته الشعرية، إنما يرتفع إلى ما وراء واقعه المباشر دون أن ينعزل عنه ليلامس إحساسًا كونيًّا شاملاً نادرًا.
كان شاعر القضايا البسيطة المباشرة. شاعر العمال والفلاحين، شاعر الصنايعية والأطفال. شاعر التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والمعاناة الإنسانية، لكنه كان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يرتفع بنسيجه اللغوي وإيقاع قافيته الخارقة، ورؤيته الواقعية المباشرة الحية، إلى مستوى رفيع من الوجد الإنساني الكوني الشامل، وكان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يضفر اللغة العامية، اللغة الشعبية، تضفيرًا يجعلها في مستوى أرقى التعابير الشعرية الفصيحة، بل يكاد يجعل من الشعر الشعبي امتدادًا أصيلاً لمدرسة لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري في الشعر العربي الفصيح. وكان يعلن دائمًا انتسابه إلى مدرسة أبي العلاء الشعرية. يقول:
بص لي يا أبو نواس
أنا المعري ...
إن كنت أشعَر الناس، أوصف لي عصري
إن كان سرك في الكاس، أنا الكاس في سري
ويقول:
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
واخترت زيه طريقة اسمها الموال
......................
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
والوزن والقافية بالثاني وبالثالث
وبالدموع اللي في قلب الحجر سالت
واخترت زيه أشمر واشتغل بالدبش
واشتغل بكلبش
وأنا اللي عاوج الموال على ناحية
ومستقي من سماوات العرب وحيه
أدفع إلى أبو العلاء نسبي وإسنادي
يقول:
وأبو العلاء باختلف عنه وأطيره
أنا باحب الوهم
خمسين سنة اتغرزنا في بعض دم ولحم
بقيت أنا وهوه مولوده ومولودي
يا أهل المواهب غدًا لا تلزموا حدودي
لم يدخل فؤاد حداد "جنة قوافي" ابي العلاء، و"قطف قافية" فحسب كما يقول كذلك، إنما تجاوزه، كما ينصح بذلك من سيجيئون بعده هو، ولكنه جعل من القافية الملتزمة وحدة عالمه الإيقاعي المنتظم، ووسيلته لاقتناص الحقيقة وامتلاكها. كانت القافية عكازه إلى الله، وعكازه إلى إنسانية الإنسان، وعكازه إلى الحقيقة. كان يسمي نفسه باسمها "أما الأديب، أنا القافي".
ويقول: "دليلي في الدنيا لسان عربي"، جعل القوافي عاصمة للشعر. ويقول: وأي قافية ما دامت حلوة تتأمر بالوزن قايم وبالقافية عمود الشعر.
ولكنها لم تكن مجرد القافية الإيقاع، القافية الجمال الشعري، بل كانت القافية الحقيقة الحية.
يقول: "أنا مجنون عشان أسيب القافية في الطريق، القافية في الكلمة الطيبة، القافية في العمل الصالح بالفصحى والعامية". ويقول:
كل قوافي فؤاد حداد
صدق حقيقة
ومجريها بالاستشهاد
مافيهاش غير قافية واحدة:
عليكم السلام
وكانت القافية فعلاً متجسدًا من أجل الحقيقة؛ يقول: القافية تفعل مفعولها. ويقول:
خليها تعبّر وتصارع
تخلي الفعل الماضي مضارع
ويقول:
إن ضل قوم أو تاهوا
ما ضل شعري مأتاه
تنفست قافيتاه
حريتي والآفاقا
بل لعل القافية أن تكون حقيقته وقوته. يقول: القافية مأوى لي. ويقول:
سرقوا قافيتي
سرقوا عافيتي
ولهذا ما أكثر ما كان يتحدث في شعره عن شعره، وفي قوافيه عن قوافيه. ولعل أجمل ما كتب عن قوافيه قصيدة "موال الشيخ سعيد" الذي صور فيه الشاعر بالمنقار والقافية بالفستق الذي يلتقطه المنقار-الشاعر: بأعلمك صنعة المنقار مع الفستق.
وكان للقافية عنده أكثر من وصف. فهي "قافية لطيفة"، وجاءت "على منوالي"، و"كل القوافي لها موازين"، و"كلها من عيار بندقي" أي من الذهب، و"وقافية بتفرق شربات"، و"قافية مفيدة"، و"القافية الألاجة"، و"قافية مبطرحة زي الزمان ومفضوحة"، و"القافية الزاهية"، و"كل قافية بقت تجيني معلقة فانوس"، و"أجمل قافية في الدنيا". بل كادت القوافي عنده تبلغ حد العشق والتقديس: "وقفت القوافيحافية وأنا خائف أبوس رجليها".
وبهذه القافية على تنوعها راح فؤاد حداد ينسج ويبني أشعاره التي تبرز فيها القافية كعاصمة كما يقول لهذه الأشعار، ينتظم بها القول الشعري جماليًّا، كما ينتظم بها القول الشعري دلاليًّا ومعنويًّا، كما تنتظم بها رؤية متسقة متزنة عادلة للأفق الإنساني والأفق الكوني، وتتداخل فيها رؤيته الجمالية ورؤيته الاجتماعية التقدمية من ناحية وتدينه العميق من ناحية أخرى.
ويتجلى التدين عنده في أكثر من مظهر ودلالة. فقد يكون تدينًا باطنيًّا أقرب إلى الرفيف الشعري الرومانسي، وقد يكون تدينًا إسلاميًّا طقوسيًّا جهيرًا وهو العربي المسيحي الأصل. نقرأ هنا ديوان من أواخر دواوينه كرسه تكريسًا كاملاً لمديح النبي محمد هو "الحضرة الذكية"، "نبتت في قلبي أصول شجرة مديح النبي"، كما نقرأه في أوائل دواوينه الذي كرسه تكريسًا كاملاً كذلك للعمال والفلاحين "قريت في الفجر قرآني". كما نقرأه كذلك في مختلف دواوينه وخاصة في أغلني المسحراتي وفي أشعاره المتناثرة عامة التي يختلط فيها الحس الديني بالحس الوطني بالحس الاجتماعي بالحس الجمالي. كما يبرز في هذه الأمثلة من بعض شعره
- كان بوسطجي مسحراتي في الندى الأبدي
- غنوتي زي الفجر خجولة
وزيه مهولة
وزيه أدان
- أنا اللي عندكم قبل الندى صليت
وكل سجادة خضرة تقول لكم صليت
النفير زي الأدان
- وأنا متجه للقبلة، في كل وقت
أنا بالمصاحف عيني مفتونة
بحروف معايا بيذاكروا ويشكروا
- الأرض بتتكلم عربي وقول الله
إن الفجر لمن صلاه
- لما تقول يا رب يعرفوك عربي
- ولسه جبينك حيعلى كل ما تصلي
- أنا اللي صليت في بعض السجون
وفي إيدي سبحة من نوى الزيتون
- حسي اللي غاوي السجع والترتيل
يصلي على الهادي في كل أوان
- إن الإسلام هو العدل
والرحمة إنسان يتلو
من وحي الله
- انضم قلبي لقلب
الحدادين في الأرض
الزارعين البناة
قاموا عمود الصلاة
وهكذا يتعانق عنده الترتيل الديني، بالترتيل الشعري، بالإحساس بالجمال، بمحبة الوطن، وبإرادة العدل، وعمارة الأرض. ولمنه لا يقف عند المعنى العام للعدل وعمارة الأرض، وإنما يغوص بهما إلى تحديد موضوعي أدق هو ثمرة وعيه الاجتماعي الثوري. يقول معبرًا عن ذلك في مقطوعات من بعض شعره:
- يا بيوت فقيرة ليه هدمت القصر؟
قالت عشان نبني لكل الناس
- طالب بعدل ونور وحرية
وبهدمة للعريانة والعريان
وبراحة للعرقانة والعرقان
وبرحمة للعطشانة والعطشان
وبساعة للغلبانة والغلبان
من إنسانية يعيشها كالإنسان
- اتأكدت وحدة الحرية واللقمة
بنزف عنتر على عبلة
والدنيا للطبقة العاملة
- وليحيى جنس العمال
وليسقط جنس الظالمين
- كل اشتراكي مبدأه إنسان
- المثل الشعبي والكفاح الثوري
والعدل رضيوا بي
ويكاد يقدم لنا صورة لحلم مجتمع الوفرة والحرية المطلقة والبهجة الإنسانية في هذه القصيدة الرمزية المرحة:
.......... أنا كنت ملك
كنت ملك في بلاد شوارعها
ماخدتش ريعها وسبت الناس
رايحة وجاية وماشية بلاش
تاكل بامية يا سامية بلاش
تملا القلة يا لولا بلاش
والزغروطة في بير السلم
ومعاها الشموسة بلاش
ونزيط أيضًا ببلاش
ونعيط أيضًا ببلاش
نتجوز ونخلف أيضًا
ونخالف أيضًا مش أيضًا
كله بلاش ببلاش ....
وعندما يقول فؤاد حداد في مقطوعة من مقطوعاته الشعرية:
شعري صورة المستقبل العربي
باغني غنوة اسمها السلسبيل
وعندما يقول كذلك في مقطوعة أخرى:
إن "اقترب" ومنتهى "اقرأ"
هي السلسبيل
مشيرًا برمزية رقيقة شفافة إلى آية من آيات القرآن الكريم.
وعندما يقول في مقطوعة ثالثة:
أقيم ميزان الشعر بالقسطاس
وعندما يقول في مقطوعة رابعة:
فيض الحنان يا ابني
زعزع جبال الظلم
وعندما يقول في مقطوعة خامسة:
لازم نقيم العدل
لازم نحب اللي يقيمه
لازم نلاقي اللي يحبه
وعندما تجد معاني هذه المقطوعات وغيرها في العديد من أشعاره، كما سبق أن ذكرنا، يتفجر في وجداننا القارئ إحساس عميق بهذه العلاقة الحميمة المتداخلة عند فؤاد حداد بين ميزان العدل الإلهي وميزان القافية الشعرية وميزان العدل الاجتماعي.
على أن هذه هي مجرد قراءة خارجية سريعة قد تصلح مدخلاً تمهيديًّا لقراءة باطنية أكثر غوصًا وتعمقًا وتفصيلاً في شعر هذا الشاعر العظيم فؤاد حداد.
المقال بعنوان "الله والقافية والشيوعية، قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد"
نُشر المقال في العدد العدد 7 من مجلة اليسار، سبتمبر 1990
الله والقافية والشيوعية
قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد
ما زلت أذكر وجه فؤاد حداد الغاضب وكلمته الغاضبة عندما زارني في أواخر الخمسينيات، وكنت حينذاك أُكثر من الكتابة مدافعًا عن الشعر الجديد، مُحبذًا تخليه عن الأنساق الخليلية في الوزن، بل عن القافية كذلك. وما تزال ترن في أذني كلمته الغاضبة: "يا صديقي الشعر قافية، بدون قافية لا شعر". وعندما جمعتنا بعد ذلك زنزانة في سجن المحاريق في الواحات الخارجة، كان يرقد على أرض الزنزانة على يساري. وكان من عادته عندما ينام أن يغطي جسده كله "ببطانية" السجن فلا يبين منه شيء. كانت هذه "البطانية" المحكمة الإغلاق هي غرفته الصغيرة التي يختفي فيها كي يمارس عملية بناء أشعاره. وكانت قدماه تفضحانه دائمًا. كنا نعرف استغراقه في هذه العملية عندما نبصر بقدميه تحت "البطانية" المحكمة الإغلاق تتحركان حركة متسقة كأنها جهاز إيقاع.
كنت أحس وأتبين دائمًا في كل ما أسمعه منه أو أقرأه له من أشعار بقوة الإيقاع، بسيطرة الوزن الموسيقي، بجبروت القافية. بل كنت أشعر أحيانًا أن القافية تكاد أن تكون القوة المحركة الفاعلة الدالة في بنائه الشعري كله. وكنت أُدهش لهذا، لأنني كنت أتبين في الوقت نفسه، أن موضوعاته الشعرية ومضامينه المُعبرة عن موقفه الإنساني كمناضل وطني شيوعي، هي القوة المُحركة الفاعلة الدالة كذلك في بنائه الشعري! وكانت تزداد دهشتي دائمًا عندما كنت أتبين كذلك في العديد مما يكتبه من أشعار رؤية دينية مؤمنة عميقة الإيمان، ولم يكن الأمر تظاهرًا، ولم يكن ادعاء، ولم يكن رد فعل لملابسات السجن وعذاباته وقسوته، وما كان يحوم فيه وحوله من شبح دائم لموت، تجسد في سقوط أكثر من جثة لرفيق عزيز لنا جميعًا. وكان من بين هؤلاء قريب لفؤاد حداد هو الشهيد الدكتور فريد حداد الذي قُتِل في سجن أوردي ليمان أبي زعبل، وكان أول شهدائنا قبل أن يستشهد بعد ذلك بقليل شهدي عطية في هذا السجن نفسه الذي كان يضم أغلب الشيوعيين آنذاك منذ أواخر عام 1959 قبل أن ينتقلوا إلى سجن الواحات. لا ... لم يكن شبح الموت المخيم وراء هذا الإحساس الديني العميق عند فؤاد حداد، بل ما كان هذا الإحساس الديني العميق عنده نقيضًا لانتمائه الشيوعي.
وما أندر الفرص التي كانت تسنح لنا، فنقف قليلاً لنتحدث في بطن جبل أبي زعبل، حيث كنا نلتقي معًا لنكسر أحجار البازلت وإن كانت تتوزعنا عنابر الأوردي المختلفة بعد ذلك. وفي بعض هذه الفرص النادرة كنا نتعرف من فؤاد حداد على آخر أشعاره، وكان من أروعها – في تلك المرحلة – ملحمته المطولة في رثاء الشهيد شهدي عطية، التي لا أدري أين ذهبت واختفت. أردت أن أقول إنه في هذا المناخ الذي كان يقطر عذابًا وقسوة ويحوم فيه وحوله وفوقه شبح الموت، لم يكن إيمان فؤاد حداد الديني نقيضًا لشيوعيته، فما زلت أذكر من تلك الملحمة بيتًا يشير فيه فؤاد حداد إلى واحد من المسجونين من مناضلي الحركة الشيوعية المصرية هو العامل الزراعي أحمد سليم، ويقول في هذا البيت على لسان هذا المناضل الشيوعي" "شيوعي والله شيوعي وحافظ القرآن". وما كان فؤاد حداد يشير بهذا البيت إلى أحمد سليم وحده، وإنما كان في الحقيقة يُعبر عن نفسه كذلك.
وكنت أتساءل دائمًا عن هذه العلاقة الحميمة عند فؤاد حداد بين هذه القوى الثلاث المسيطرة على أشعاره: الله والقافية والشيوعية، أو بتعبير آخر: عمق إيمانه الديني، وجبروت القافية وسيطرتها، وحرارة وصدق رؤيته الوطنية الاجتماعية الإنسانية التقدمية.
في البداية كنت أتصور الأمر لحظات مختلفة متوازنة، متجاورة في حياته الفكرية وفي بنائه الوجداني وفي تعابيره الشعرية. وكان مصدر هذا هو اطلاعي المتقطع على أشعار فؤاد حداد. ولكن عندما أخذت تصدر دواوينه الجامعة لاشعاره المختلفة ورحت أقرأ فؤاد حداد قراءة شاملة موحدة، أخذت تتكامل عندي رؤية كلية لهذه القوى الثلاث المسيطرة في شعره، وأحسست أن الله والقافية والشيوعية عند فؤاد حداد تكاد أن تكون شيئًا واحدًا تتمثل في الانتظام الكوني الذي يمسكه إيقاع عميق وتوجهه حقيقة كبرى هي العدالة وهي المحبة وهي الخير. إن الله يتمثل عند فؤاد حداد في هذه القافية التي تنتظم الوجود كله، كما تنتظم الحياة الإنسانية كلها، كما تنتظم وتتجسد في الشعر الذي هو جوهر الوجود وجوهر إنسانية الإنسان، وأن الله يتمثل كذلك عنده في الخير المطلق وفي إرادة التطلع الإنساني والنضال الإنساني والمسعى الإنساني من أجل الكرامة والشموخ والحرية والخير والجمال والسعادة.
والتقيت بفؤاد حداد قبل وفاته بأسابيع. قال لي: أتعرف بأنني أشعَر أهل الإنس والجن؟ فقلت له: أعترف لك بهذا يا فؤاد، أنت أشعَر أهل الإنس والجن. وما كان يهزل، وما كنت أهزل. كان يعرف، وكنت أعرف، أنه بالإيقاع الدقيق الفريد المُعجِز لقافيته، وبالعمق الوطني والاجتماعي والإنساني لرؤيته الشعرية، إنما يرتفع إلى ما وراء واقعه المباشر دون أن ينعزل عنه ليلامس إحساسًا كونيًّا شاملاً نادرًا.
كان شاعر القضايا البسيطة المباشرة. شاعر العمال والفلاحين، شاعر الصنايعية والأطفال. شاعر التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والمعاناة الإنسانية، لكنه كان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يرتفع بنسيجه اللغوي وإيقاع قافيته الخارقة، ورؤيته الواقعية المباشرة الحية، إلى مستوى رفيع من الوجد الإنساني الكوني الشامل، وكان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يضفر اللغة العامية، اللغة الشعبية، تضفيرًا يجعلها في مستوى أرقى التعابير الشعرية الفصيحة، بل يكاد يجعل من الشعر الشعبي امتدادًا أصيلاً لمدرسة لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري في الشعر العربي الفصيح. وكان يعلن دائمًا انتسابه إلى مدرسة أبي العلاء الشعرية. يقول:
بص لي يا أبو نواس
أنا المعري ...
إن كنت أشعَر الناس، أوصف لي عصري
إن كان سرك في الكاس، أنا الكاس في سري
ويقول:
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
واخترت زيه طريقة اسمها الموال
......................
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
والوزن والقافية بالثاني وبالثالث
وبالدموع اللي في قلب الحجر سالت
واخترت زيه أشمر واشتغل بالدبش
واشتغل بكلبش
وأنا اللي عاوج الموال على ناحية
ومستقي من سماوات العرب وحيه
أدفع إلى أبو العلاء نسبي وإسنادي
يقول:
وأبو العلاء باختلف عنه وأطيره
أنا باحب الوهم
خمسين سنة اتغرزنا في بعض دم ولحم
بقيت أنا وهوه مولوده ومولودي
يا أهل المواهب غدًا لا تلزموا حدودي
لم يدخل فؤاد حداد "جنة قوافي" ابي العلاء، و"قطف قافية" فحسب كما يقول كذلك، إنما تجاوزه، كما ينصح بذلك من سيجيئون بعده هو، ولكنه جعل من القافية الملتزمة وحدة عالمه الإيقاعي المنتظم، ووسيلته لاقتناص الحقيقة وامتلاكها. كانت القافية عكازه إلى الله، وعكازه إلى إنسانية الإنسان، وعكازه إلى الحقيقة. كان يسمي نفسه باسمها "أما الأديب، أنا القافي".
ويقول: "دليلي في الدنيا لسان عربي"، جعل القوافي عاصمة للشعر. ويقول: وأي قافية ما دامت حلوة تتأمر بالوزن قايم وبالقافية عمود الشعر.
ولكنها لم تكن مجرد القافية الإيقاع، القافية الجمال الشعري، بل كانت القافية الحقيقة الحية.
يقول: "أنا مجنون عشان أسيب القافية في الطريق، القافية في الكلمة الطيبة، القافية في العمل الصالح بالفصحى والعامية". ويقول:
كل قوافي فؤاد حداد
صدق حقيقة
ومجريها بالاستشهاد
مافيهاش غير قافية واحدة:
عليكم السلام
وكانت القافية فعلاً متجسدًا من أجل الحقيقة؛ يقول: القافية تفعل مفعولها. ويقول:
خليها تعبّر وتصارع
تخلي الفعل الماضي مضارع
ويقول:
إن ضل قوم أو تاهوا
ما ضل شعري مأتاه
تنفست قافيتاه
حريتي والآفاقا
بل لعل القافية أن تكون حقيقته وقوته. يقول: القافية مأوى لي. ويقول:
سرقوا قافيتي
سرقوا عافيتي
ولهذا ما أكثر ما كان يتحدث في شعره عن شعره، وفي قوافيه عن قوافيه. ولعل أجمل ما كتب عن قوافيه قصيدة "موال الشيخ سعيد" الذي صور فيه الشاعر بالمنقار والقافية بالفستق الذي يلتقطه المنقار-الشاعر: بأعلمك صنعة المنقار مع الفستق.
وكان للقافية عنده أكثر من وصف. فهي "قافية لطيفة"، وجاءت "على منوالي"، و"كل القوافي لها موازين"، و"كلها من عيار بندقي" أي من الذهب، و"وقافية بتفرق شربات"، و"قافية مفيدة"، و"القافية الألاجة"، و"قافية مبطرحة زي الزمان ومفضوحة"، و"القافية الزاهية"، و"كل قافية بقت تجيني معلقة فانوس"، و"أجمل قافية في الدنيا". بل كادت القوافي عنده تبلغ حد العشق والتقديس: "وقفت القوافيحافية وأنا خائف أبوس رجليها".
وبهذه القافية على تنوعها راح فؤاد حداد ينسج ويبني أشعاره التي تبرز فيها القافية كعاصمة كما يقول لهذه الأشعار، ينتظم بها القول الشعري جماليًّا، كما ينتظم بها القول الشعري دلاليًّا ومعنويًّا، كما تنتظم بها رؤية متسقة متزنة عادلة للأفق الإنساني والأفق الكوني، وتتداخل فيها رؤيته الجمالية ورؤيته الاجتماعية التقدمية من ناحية وتدينه العميق من ناحية أخرى.
ويتجلى التدين عنده في أكثر من مظهر ودلالة. فقد يكون تدينًا باطنيًّا أقرب إلى الرفيف الشعري الرومانسي، وقد يكون تدينًا إسلاميًّا طقوسيًّا جهيرًا وهو العربي المسيحي الأصل. نقرأ هنا ديوان من أواخر دواوينه كرسه تكريسًا كاملاً لمديح النبي محمد هو "الحضرة الذكية"، "نبتت في قلبي أصول شجرة مديح النبي"، كما نقرأه في أوائل دواوينه الذي كرسه تكريسًا كاملاً كذلك للعمال والفلاحين "قريت في الفجر قرآني". كما نقرأه كذلك في مختلف دواوينه وخاصة في أغلني المسحراتي وفي أشعاره المتناثرة عامة التي يختلط فيها الحس الديني بالحس الوطني بالحس الاجتماعي بالحس الجمالي. كما يبرز في هذه الأمثلة من بعض شعره
- كان بوسطجي مسحراتي في الندى الأبدي
- غنوتي زي الفجر خجولة
وزيه مهولة
وزيه أدان
- أنا اللي عندكم قبل الندى صليت
وكل سجادة خضرة تقول لكم صليت
النفير زي الأدان
- وأنا متجه للقبلة، في كل وقت
أنا بالمصاحف عيني مفتونة
بحروف معايا بيذاكروا ويشكروا
- الأرض بتتكلم عربي وقول الله
إن الفجر لمن صلاه
- لما تقول يا رب يعرفوك عربي
- ولسه جبينك حيعلى كل ما تصلي
- أنا اللي صليت في بعض السجون
وفي إيدي سبحة من نوى الزيتون
- حسي اللي غاوي السجع والترتيل
يصلي على الهادي في كل أوان
- إن الإسلام هو العدل
والرحمة إنسان يتلو
من وحي الله
- انضم قلبي لقلب
الحدادين في الأرض
الزارعين البناة
قاموا عمود الصلاة
وهكذا يتعانق عنده الترتيل الديني، بالترتيل الشعري، بالإحساس بالجمال، بمحبة الوطن، وبإرادة العدل، وعمارة الأرض. ولمنه لا يقف عند المعنى العام للعدل وعمارة الأرض، وإنما يغوص بهما إلى تحديد موضوعي أدق هو ثمرة وعيه الاجتماعي الثوري. يقول معبرًا عن ذلك في مقطوعات من بعض شعره:
- يا بيوت فقيرة ليه هدمت القصر؟
قالت عشان نبني لكل الناس
- طالب بعدل ونور وحرية
وبهدمة للعريانة والعريان
وبراحة للعرقانة والعرقان
وبرحمة للعطشانة والعطشان
وبساعة للغلبانة والغلبان
من إنسانية يعيشها كالإنسان
- اتأكدت وحدة الحرية واللقمة
بنزف عنتر على عبلة
والدنيا للطبقة العاملة
- وليحيى جنس العمال
وليسقط جنس الظالمين
- كل اشتراكي مبدأه إنسان
- المثل الشعبي والكفاح الثوري
والعدل رضيوا بي
ويكاد يقدم لنا صورة لحلم مجتمع الوفرة والحرية المطلقة والبهجة الإنسانية في هذه القصيدة الرمزية المرحة:
.......... أنا كنت ملك
كنت ملك في بلاد شوارعها
ماخدتش ريعها وسبت الناس
رايحة وجاية وماشية بلاش
تاكل بامية يا سامية بلاش
تملا القلة يا لولا بلاش
والزغروطة في بير السلم
ومعاها الشموسة بلاش
ونزيط أيضًا ببلاش
ونعيط أيضًا ببلاش
نتجوز ونخلف أيضًا
ونخالف أيضًا مش أيضًا
كله بلاش ببلاش ....
وعندما يقول فؤاد حداد في مقطوعة من مقطوعاته الشعرية:
شعري صورة المستقبل العربي
باغني غنوة اسمها السلسبيل
وعندما يقول كذلك في مقطوعة أخرى:
إن "اقترب" ومنتهى "اقرأ"
هي السلسبيل
مشيرًا برمزية رقيقة شفافة إلى آية من آيات القرآن الكريم.
وعندما يقول في مقطوعة ثالثة:
أقيم ميزان الشعر بالقسطاس
وعندما يقول في مقطوعة رابعة:
فيض الحنان يا ابني
زعزع جبال الظلم
وعندما يقول في مقطوعة خامسة:
لازم نقيم العدل
لازم نحب اللي يقيمه
لازم نلاقي اللي يحبه
وعندما تجد معاني هذه المقطوعات وغيرها في العديد من أشعاره، كما سبق أن ذكرنا، يتفجر في وجداننا القارئ إحساس عميق بهذه العلاقة الحميمة المتداخلة عند فؤاد حداد بين ميزان العدل الإلهي وميزان القافية الشعرية وميزان العدل الاجتماعي.
على أن هذه هي مجرد قراءة خارجية سريعة قد تصلح مدخلاً تمهيديًّا لقراءة باطنية أكثر غوصًا وتعمقًا وتفصيلاً في شعر هذا الشاعر العظيم فؤاد حداد.
Published on June 09, 2017 02:47
No comments have been added yet.


