ماهر عبد الرحمن
في مقدمة الشيخ محمد عبده لكتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب، كتب أنه اطلع على هذا الكتاب بالصدفة البحتة، وأنه تصفحه في البداية باعتباره "تسلية" لنفسه ولروحه عن مشاغل الدنيا. لكنه بعد عدة صفحات ومع التأمل قال "كان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة". ومن ثم وجد الشيخ في نفسه الهمة والرغبة ألا يكتفي بالمطالعة بل يصاحبها بالمراجعة، تصونا للذاكرة من النسيان. غير أن ما فعله كان أكبر من ذلك بطبيعة الحال؛ فقد جاء تحقيقا كافيا، وشرحا وافيا، وضبطا للنصوص عظيم الفائدة والجهد.
وفي تراثنا الإسلامي هناك معين لا ينضب من العلوم والفلسفة والأخلاق والتاريخ والمعاني والبلاغة، وفكرت وتذكرت عندما طُلب مني الكتابة هنا، ما كتبه الشيخ محمد عبده، والتمثيل مع الفارق طبعا، أن يصحب المطالعة المراجعة والكتابة عن بعض ما قرأته من كتب التراث تلك، تصونا للذكرة من النسيان. بما يتناسب مع المقام والمساحة هنا، والقدرة. وحسبي دائما قول ابن خلكان صاحب "وفيات الأعيان" بأن ما أكتبه وقد بذلت فيه كل جهدي يبقى، مع ذلك، "جهد المُقل، وبذل الاستطاعة، وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه، وفوق كل ذي علم عليم".
اسم الكتاب: مناقب الإمام أحمد بن حنبل
تأليف: أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي
في البداية ومع كل التحفظ على ابن الجوزي فيما أورده من روايات عن الإمام أحمد في كتابه هذا؛ فابن الجوزي كغيره في هذا الباب ممن يذكرون الأقوال والحكايات على عهدة الإسناد إلى راويها؛ رغم تعارضها مع ما هو متواتر عن الإمام أحمد وعن السنة نفسها. وياليت العمر يسعف لقراءة كل حرف خطه الإمام أحمد أو خُط عنه؛ لما له من قامة ونفس عالية.
ولعلي أرى في تشدد مذهب الإمام أحمد بن حنبل أثرا من تشدده وصدقه وإخلاصه واتساقه وزهده وصدقه في الحياة.. ورغم أني لما كنت طالب علم ومتوفر لدرس الفقه والحديث، كنت أدرس على المذهب الشافعي، سواء من طريق "متن الغاية والتقريب" أو غيره من الأصول والمتون المعتبرة.
رغم ذلك كانت شخصية الإمام أحمد، لا مذهبه، هي الأقرب إلي في هذا الوقت. وسوف أذكر ما كان يكبره في نظري هذا العالم الفذ والرجل الشريف المخلص. فذكر الجوزي في مناقب الإمام أحمد، أنه بحث "عن نائلي مرتبة الكمال في الأَمرين-أَعني العلم والعمل- من التابعين ومن بعدهم، فلم أَجد من تمَّ له الأَمران على الغاية التي لا يخدش وجه كمالها نَوع نقص، سوى ثلاثة أَشخاص: الحسن البصري، وسُفيان الثوري، وأحمد بن حنبل".
وعاش الإمام أحمد طول عمره فقيرًا محدودًا وكان يفضل ذلك على أن يكون ذا مال لا يتأكد أنه حلال خالص، أو حتى من عطاء أو منة من أحد. وكثيرا ما اضطرته الحاجة إلى أن يعمل بيديه ليكسب أو يؤجر نفسه في عمل من الأعمال.. والأصل أنه كان يعيش من إيجار منزل تركه له أبوه، لكن هذا الإيجار لم يكن يعيله ولا يعيل بيته بعد أن تزوج متأخرا (في الأربعين)؛ والذي أخره في الزواج هو أنه كان منشغلا بطلب العلم والسفر الدائم خلف الأحاديث التي أثبتها في مسنده، وبعبارة ابن الجوزي أن الإمام أحمد قبل الأربعين "لم ينشغل بكسب ولا نكاح".
ومما يروى عنه وقد كان أحد تلاميذ الإمام الشافعي في العراق، وقد التزم مجلسه ولم يكن يفارقه إلا لطلب العلم هنا أو هناك، ولاحظ الشافعي أن ابن حنبل يسافر اليمن لعبد الرزاق بن همام لطلب الحديث منه، "ولاحظ بعد الشقة وعظم المشقة" بسبب قلة المال؛ ولما كان الخليفة الأمين قد طلب من الشافعي أن يختار قاضيا لليمن فعرض الأمر على ابن حنبل من باب التسهيل عليه، فرفض الإمام أحمد غير مرة وقال بأدب جم لشيخه وأحد أئمة المسلمين، ولكن بوضوح، مع ذلك، وحسم وتشديد كعادته، قال له: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ منك هذا ثانياً لم ترني عندك.
وكان يقول أنه سمع عن أبيه: ليسَ يَتَّقي مَنْ لا يَدري ما يَتَّقي. وكان يقول في الزواج: تزوج ببكر واحرص أن لا يكون لها أم :).
وقال ابن الجوزي عنه: كان أحمد يذكر الجرح والتعديل والعلل من حفظه إذا سئل كما يقرأ الفاتحة.
رحم الله الإمام أحمد وجزاه كل الخير عما اجتهد فيه بصدق، عانى في سبيله ما اعتقد في صوابه بمحبة وتقرب وابتغاء مرضاة الله. وكان أكثر الأئمة قولا: لاأدري.
وكذلك رحم الله ابن الجوزي الذي تصدر لكتابة مناقب شيخ شيوخه الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين.
http://www.tahrirnews.com/posts/41099...
Published on April 18, 2016 06:20
بوركت أيها ال ماهر