ماهرعبد الرحمن's Blog, page 8
August 22, 2014
المغفلون يستحقون أن يمتطيهم الأفاقون
في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت، يفتتح ماركس كلامه بعبارة لهيجل كتبها في مكان ما، وهي أن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرتين. ويعلق ماركس أن هيجل نسى أن يضيف: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة. ومنذ كتبت أروى صالح كتابها ذائع الصيت، والمسخرة لا تتوقف عن التكرار. وهذا ينطبق على أي نوع من أنواع العلاقات الإنسانية. ومع ذلك هناك اصرار عظيم في بعض القراءات لتحريف المعادلة التي كتبتها أروى وجعل المغفلون لا يستحقون، بل وتحويلهم إلى ضحايا صرف بلا أدنى مسئولية، هناك فرق بالتأكيد بين كسر إناء وبين كسر إنسان، الفرق أن الإنسان المكسور شريك في المسئولية باعتباره إنسان أساسا وبالتالي فهو اختار بشكل أو بآخر، وبحسبة ما (مش شرط تكون مادية) إنه يروح يتكسر ويلعب دور المغفل. هناك أشخاص تراكم خبرة وتخرج من هذه الدائرة الملعونة، هناك أشخاص لا يراكمون أي خبرة ويستمروا في لعب دور المغفلين ولو إلى حين.. وهناك أشخاص يرجعون إلى الحائط في صف الأفاقين الممتد في انتظار الضحية التالية.
المقال التالي هو جزء من تعقيب لشريف يونس بعنوان: الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح
إن التخلص من كيتش المسيرة الكبرى اليسارى والكيتش الأخلاقى المرتبط به يمكن أن يمنحنا رؤية أبسط وأكثر واقعية للمشكلات الأخلاقية . فبدلا من إدانة الأنانية بمفاهيم النقد الرومانتيكى ، يمكن - على العكس - أن نقرر أن أى تصور أرقى لعلاقات تقوم على المسئولية الشخصية المتبادلة تفترض أصلا تكوين أفراد مسئولين عن علاقتهم بأنفسهم أولا ، أى أنانيين بالمعنى البرجوازى . وبعد ذلك فحسب يمكن أن ننطلق إلى تصور علاقات تقوم على مبدأ الندية ، بمعنى الدعم المتبادل ، ومسئولية كل فرد عن نفسه ، وبالتالى عدم الاعتماد على تصورات مثالية مفترضة لأخلاق جماعية أو فردية ما ، تضمن لنا تلقائيا مسئولية أخلاقية للآخرين عنا . ولا يعنى مبدأ الندية هنا أسطورة التساوى المطلق ، وإنما - على العكس - قبول واقع ميل العلاقة لصالح طرف ما فى ظرف معين ، وللطرف الآخر فى ظرف مختلف ، وفقا لقدرات وتكوين هذين الشخصين .
ومع ذلك ، وأيا كان النموذج الذى نفضله ، فإنه يظل مجرد نموذج ، أى أدوات لمحاكمة الأفراد لبعضهم البعض من خلال افتراض قوالب معينة للسلوك . فى حين أن كل فردية تنطوى بالضرورة على إمكانيات الخداع ؛ خداع الناس ، بل وخداع النفس . ومن هنا فإن المرء الذى لا يسجن نفسه بعزم وإصرار وجهود متواصلة فى عقيدة أخلاقية بعينها سيتاح له من حين لآخر أن يعيد اكتشاف نفسه والآخرين فى ضوء مختلف وفقا لخبرات واقعية ، إذا استطاع أن يحرر خبراته ، ولو جزئيا ، من الأحكام الأخلاقية المسبقة . وأعتقد أن هذا الموقف أكثر إيجابية أخلاقيا من وضع معيار فوقى - رومانسى أو غيره - لمحاكمة الآخرين بمنطق متعالٍ ..
واتساقا مع هذا يمكن النظر لكل فعل أخلاقى على أنه فعل متبادل بالضرورة، بمعنى أن مسئوليته يتحملها طرفاه بشكل أو بآخر . فإذا كان المغفلون يستحقون أن يمتطيهم الأفاقون (بتعبير أروى - ص57) ، فإن المرأة التى تدخل - مثلا - ضمن مسئولية رجل يطوِّر العلاقة حتى حدود الفراش ثم يتخلى عن مشاركتها فى العواقب الاجتماعية المترتبة على ذلك ، كاشفا عن وجه شرقى كان غائبا قبل ذلك .. تشاركه المسئولية بالقبول الضمنى أو حتى بالغفلة أو إيهام نفسها بقدرتها على تغيير الأوضاع بوسائل “سحرية” . وفى مقابل نموذج المثقف الذى يطرى “النصف الأعلى” للمرأة ليصل إلى “نصفها الأسفل” ، يوجد أيضا نموذج المرأة التى تسعى لرفع قيمة “نصفها الأسفل” عن طريق اكتساب مظهر الثقافة أو النضال ، ونموذج المرأة التى تفخر بالارتباط الحر أو غير الحر بالنجوم عوضا عن تطوير قدراتها الذاتية وتحمل مسئولية ذاتها .. وغير ذلك من النماذج الكاشفة لمبدأ المسئولية الشخصية والمتبادلة .
وبصفة عامة فإن كل شخص مسئول عن اختياراته ؛ فالفتاة التى تسلم رأسها وجسمها فى جلسة على كوب شاى مع مناضل - كما تذكر أروى - ليس من المنطقى اعتبارها ضحية لمجرد أنها لم تنل مكاسب مادية ، فبقدر ما أنها كانت مدفوعة بطموح ما ، ونموذج ما ، ومطالب ما ، حتى ولو كانت طموحات الالتحاق بالكيتش والوصول بسرعة للمكانة المرتفعة لمسلماته .. يمكن القول بأنها شاركت باختيارها فى المصير العام الذى اقتسمه أنصار الكيتش .. فليست الثروة هى الإغراء الوحيد فى عالمنا المعاصر .
بل أن المشكلة التى تواجهها الأطروحات الأخلاقية النموذجية أعقد من ذلك .. فملكات البشر عموما متداخلة لا يمكن عزل كل منها على حدة ، كما تطالب التصورات الأخلاقية المتشددة فى تفريقها المتشدد بين ما هو “عالٍ” وما هو “سافل” .. فلا يمكن مثلا عزل “نصفى” المرأة أو الرجل على السواء عن بعضهما البعض ، ولا الحد من تأثيرهما المتبادل والمتآذر على الآخرين . ولا تتوقف مسألة التداخل على هذين النصفين فحسب ، وإنما تمتد أيضا إلى الثروة والمكانة الاجتماعية والحيوية والذكاء الاجتماعى .. الخ .. فلا يوجد حد فاصل بين أى قدرة أو وضع للفرد وبين باقى أوضاعه وقدراته ، اللهم إلا من وجهة نظر تطهرية بالغة الحدة ، ترفع قيمة معينة كمعيار يفوق كل القيم ، وتقيم المحاكمة على أساسها ، وترفض كل تداخل واقعى .
جزء من مقال لشريف يونس بعنوان: الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح
المقال كاملا على: http://www.ahewar.org/debat/show.art....
المقال التالي هو جزء من تعقيب لشريف يونس بعنوان: الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح
إن التخلص من كيتش المسيرة الكبرى اليسارى والكيتش الأخلاقى المرتبط به يمكن أن يمنحنا رؤية أبسط وأكثر واقعية للمشكلات الأخلاقية . فبدلا من إدانة الأنانية بمفاهيم النقد الرومانتيكى ، يمكن - على العكس - أن نقرر أن أى تصور أرقى لعلاقات تقوم على المسئولية الشخصية المتبادلة تفترض أصلا تكوين أفراد مسئولين عن علاقتهم بأنفسهم أولا ، أى أنانيين بالمعنى البرجوازى . وبعد ذلك فحسب يمكن أن ننطلق إلى تصور علاقات تقوم على مبدأ الندية ، بمعنى الدعم المتبادل ، ومسئولية كل فرد عن نفسه ، وبالتالى عدم الاعتماد على تصورات مثالية مفترضة لأخلاق جماعية أو فردية ما ، تضمن لنا تلقائيا مسئولية أخلاقية للآخرين عنا . ولا يعنى مبدأ الندية هنا أسطورة التساوى المطلق ، وإنما - على العكس - قبول واقع ميل العلاقة لصالح طرف ما فى ظرف معين ، وللطرف الآخر فى ظرف مختلف ، وفقا لقدرات وتكوين هذين الشخصين .
ومع ذلك ، وأيا كان النموذج الذى نفضله ، فإنه يظل مجرد نموذج ، أى أدوات لمحاكمة الأفراد لبعضهم البعض من خلال افتراض قوالب معينة للسلوك . فى حين أن كل فردية تنطوى بالضرورة على إمكانيات الخداع ؛ خداع الناس ، بل وخداع النفس . ومن هنا فإن المرء الذى لا يسجن نفسه بعزم وإصرار وجهود متواصلة فى عقيدة أخلاقية بعينها سيتاح له من حين لآخر أن يعيد اكتشاف نفسه والآخرين فى ضوء مختلف وفقا لخبرات واقعية ، إذا استطاع أن يحرر خبراته ، ولو جزئيا ، من الأحكام الأخلاقية المسبقة . وأعتقد أن هذا الموقف أكثر إيجابية أخلاقيا من وضع معيار فوقى - رومانسى أو غيره - لمحاكمة الآخرين بمنطق متعالٍ ..
واتساقا مع هذا يمكن النظر لكل فعل أخلاقى على أنه فعل متبادل بالضرورة، بمعنى أن مسئوليته يتحملها طرفاه بشكل أو بآخر . فإذا كان المغفلون يستحقون أن يمتطيهم الأفاقون (بتعبير أروى - ص57) ، فإن المرأة التى تدخل - مثلا - ضمن مسئولية رجل يطوِّر العلاقة حتى حدود الفراش ثم يتخلى عن مشاركتها فى العواقب الاجتماعية المترتبة على ذلك ، كاشفا عن وجه شرقى كان غائبا قبل ذلك .. تشاركه المسئولية بالقبول الضمنى أو حتى بالغفلة أو إيهام نفسها بقدرتها على تغيير الأوضاع بوسائل “سحرية” . وفى مقابل نموذج المثقف الذى يطرى “النصف الأعلى” للمرأة ليصل إلى “نصفها الأسفل” ، يوجد أيضا نموذج المرأة التى تسعى لرفع قيمة “نصفها الأسفل” عن طريق اكتساب مظهر الثقافة أو النضال ، ونموذج المرأة التى تفخر بالارتباط الحر أو غير الحر بالنجوم عوضا عن تطوير قدراتها الذاتية وتحمل مسئولية ذاتها .. وغير ذلك من النماذج الكاشفة لمبدأ المسئولية الشخصية والمتبادلة .
وبصفة عامة فإن كل شخص مسئول عن اختياراته ؛ فالفتاة التى تسلم رأسها وجسمها فى جلسة على كوب شاى مع مناضل - كما تذكر أروى - ليس من المنطقى اعتبارها ضحية لمجرد أنها لم تنل مكاسب مادية ، فبقدر ما أنها كانت مدفوعة بطموح ما ، ونموذج ما ، ومطالب ما ، حتى ولو كانت طموحات الالتحاق بالكيتش والوصول بسرعة للمكانة المرتفعة لمسلماته .. يمكن القول بأنها شاركت باختيارها فى المصير العام الذى اقتسمه أنصار الكيتش .. فليست الثروة هى الإغراء الوحيد فى عالمنا المعاصر .
بل أن المشكلة التى تواجهها الأطروحات الأخلاقية النموذجية أعقد من ذلك .. فملكات البشر عموما متداخلة لا يمكن عزل كل منها على حدة ، كما تطالب التصورات الأخلاقية المتشددة فى تفريقها المتشدد بين ما هو “عالٍ” وما هو “سافل” .. فلا يمكن مثلا عزل “نصفى” المرأة أو الرجل على السواء عن بعضهما البعض ، ولا الحد من تأثيرهما المتبادل والمتآذر على الآخرين . ولا تتوقف مسألة التداخل على هذين النصفين فحسب ، وإنما تمتد أيضا إلى الثروة والمكانة الاجتماعية والحيوية والذكاء الاجتماعى .. الخ .. فلا يوجد حد فاصل بين أى قدرة أو وضع للفرد وبين باقى أوضاعه وقدراته ، اللهم إلا من وجهة نظر تطهرية بالغة الحدة ، ترفع قيمة معينة كمعيار يفوق كل القيم ، وتقيم المحاكمة على أساسها ، وترفض كل تداخل واقعى .
جزء من مقال لشريف يونس بعنوان: الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح
المقال كاملا على: http://www.ahewar.org/debat/show.art....
Published on August 22, 2014 11:15
August 18, 2014
موسيقى القرآن وليالي المنشدين
موسيقى القرآن وليالى المنشدين
ذكر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" أن ابن مسعود قال: جودوا القرآن. وقيل أيضا، التجويد حلية القراءة. والتجويد ،لغة، هو التحسين والإتقان. ولا يعني هذا أن القرآن به نقص ما؛ بل يعني أن على القارئ له أن يحسن أداءه ولا ينزل به وإلا فهو آثم على ما ذكر علماء التجويد، قال الجزري: والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم. وهناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تحض على القراءة الحسنة وعلى التغني بالقرآن، منها "ورتل القرآن ترتيلا"، "وما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن ويجهر به"، "زينوا أصواتكم بالقرآن".. والنص القرآني نفسه يحتوي على موسيقى خارجية وداخلية (بعض الفقهاء يقولون بعدم جواز استخدام عبارات مثل "موسيقى القرآن" أو "الجرس الموسيقى" أو "السجع" في وصف آيات القرآن، على اعتبار أنه لا يصح وصفها بما هو أدنى منها، ويقصدون الموسيقى والشعر). ولا يمنعنا قولهم هذا من الإحساس بالموسيقى الشعرية في بعض المواضع بالقرآن؛ رغم أنه كتاب نثر بالأساس. ففي قوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون. نجد أنها موزونة من المجزوء المسبغ لبحر الرمل، وتقطيعه: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان. ويحتوي أيضا القرآن على موسيقى داخلية، وتلك من أسرار المعمار القرآني. ومما يذكر سيد قطب في دراسته للـ "التصوير الفني في القرآن" أنه "وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزا واضحا في السور القصار، والفواصل السريع، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة؛ ويتوارى قليلا أو كثيرا في السور الطوال، حتى تنفرد الدقة دونه في آيات التشريع. ولكنه - على كل حال- ملحوظ دائما في بناء النظم القرآني." ثم يورد مثلا من قوله تعالي في سورة النجم: "والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى." وهنا نرى روعة الإيقاع المنظم في فواصل الآيات رغم أنها ليست على وزن واحد، لكنها ،مع ذلك، تجري على صوت واحد فنلاحظ الفواصل جاءت: (هوى، غوى، يوحى، قوى، استوى، أعلى..) وهذا الإيقاع هو مما يحقق أثراً طيباً في وجدان المستمع.
والحال أن آيات القرآن بما تحتويه من بلاغة وفصاحة وأدب عال يحتاج إلى ذوق أدبي وفني بالمقابل حتى يؤتي أثره. وكذا فإن موسيقى القرآن وصوره ومعانيه قد تضيع على يد قارئ لا يملك الذوق والحس السليم لما يقرأه. وعلى جانب آخر، وكما ذكر في الاختلاف في قدر الفصاحة في القرآن، فقال أبو نصر القشيري وغيره في التفاوت على درجات الفصاحة، أن فيه الأفصح والفصيح. وكذلك في أمر موسيقى القرآن وإيقاعه. فكما أشار سيد قطب، فهناك آيات بلا إيقاع. بل، وأزيد، وحتى بلا بلاغة في بعض المواضع؛ وهذا ما نجد عليه آيات التشريع. وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب "آداب السماع والوجد" من" كتاب إحياء علوم الدين" في ذكر تأثير القرآن بالمقارنة بتأثير الغناء، فقال إن الغناء أشد تهييجا من القرآن من سبعة أوجه. فعلى عكس ما ذكر صاحب "الإتقان في علوم القرآن" بأن أحد أوجه الإعجاز في القرآن ،فيما يرى، أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد. ذكر الغزالي أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولي عليه حزن أو شوق أو ندم فم أين يناسب حاله قوله تعالي: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين. ومن وجه آخر، فإن القرآن محفوظ ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكل ما سمع أولا عظم أثره في القلوب، وفي الكرة الثانية يضعف، وهكذا. وحكى أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" أن رجلا كان يطوف حول الكعبة على حمار ويغني. فقالوا: أما تستحي..؟ فقال: أخاف أن تدركني نعسة فأسقط من على حماري.. قالوا: فأين أنت عن القرآن؟ فقال: قد جربناه فوجدناه يزيد النوم. ومن هنا تبدو أهمية الدور الذى لعبته مدرسة التلاوة المصرية على وجه الخصوص، وأساطين قراءها وغيرهم ممن تأثروا – أيضا- بتلك المدرسة. وهؤلاء هم الماهرون بالقرآن، الكرام البررة، الذين ينطبق عليهم قول النبي "حُسن الصوت زينة القرآن". وروى الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي، قول النبي "حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا". ويمكن القول أن فضل هؤلاء المشايخ –كما يقول الشيخ الهلباوي- هو الإحسان للمستمع وليس للقرآن. وتلك "الزيادة" وهذا "الحسن" هو الذي سوف نتناوله بأُنسِ وحضرت أصوات السادة المشايخ وليالي المبتهلين والمنشدين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
بداية فإن البحث في تاريخ الديانات يدلنا على أن الموسيقى كانت دائما متداخلة في الطقوس الدينية والعبادات، بل وفي الاحتفالات الاجتماعية، ففي اليهودية نجد العديد من التراتيل والابتهالات التي تأتي بعض نصوصها من التوراة، وتؤدى بايقاعات لحنية، ويعد ترتيل مزامير النبي داود من أفضل الأمثلة في هذا الشأن. وكذا تأثرت المسيحية باليهودية في أداء التراتيل وحتى مزامير داود الواردة في العهد القديم، وكذا تراتيل من تلك التي وردت في العهد الجديد. وتطور الأمر في المسيحية حتى صار هناك ما يعرف بالألحان الكنسية وهي ألحان لنصوص من العهدين وغيرهما. بل إن فضل تلك الألحان على تطور الموسيقى نفسها خارج الأديرة والكنائس كان فضلا عظيمًا. ولعل الحساسية الموجودة في الإسلام تجاه الغناء والتلحين ابتداءً وتفسير البعض بأن الغناء هو "لهو الحديث". وكذلك محاولات الفقهاء لتحصين القرآن الكريم من أن يؤدى بـ"غير لحون العرب" تكون نابعة من التخوف من اتباع عادات أصحاب الديانات الأخرى في ممارسة شعائرهم. وهذه المخالفة نراها في أمور كثيرة أخري غير قراءة القرآن، فهناك العديد من الآثار المتروكة عن النبي في دعوة المسلمين لمخالفة أهل الديانات الأخرى في الصيام والملبس وترك اللحية. ومن جانب آخر، فقد يكون التخوف من أن ينشغل الناس بالأداء والصوت أكتر من شغلهم بالتدبر والفهم لمعاني القرآن.(مثل هذه الأفكار نجدها في الكتاب الثالث من "الجمهورية" حيث يدعو أفلاطون إلى استبعاد المقامين الإيوني Ionian والليدي Lydian لما فيهما من ميوعة وتخنث يبعث على الإنحلال). ومع ذلك فإننا نجد روايات كثيرة في التراث الإسلامي، ومنها ما يرد في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني عن قراء تغنوا بالقرآن وكانت أصواتهم حسنة. النبي نفسه مدح صوت أبو موسى الأشعري قائلا له: لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود. وفي العصر الحديث نعرف أن بعض المطربين كانوا شيوخا، أو درسوا القرآن على يد مشايخ. فالشيخ سيد درويش والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ زكريا أحمد والقصبجي وعبد الوهاب، والشيخ سيد مكاوي، فيما بعد، كلهم جاءوا من روضة القراءة العطرة للقرآن الكريم وتجويده، إلى الإنشاد أو الغناء، أو التلحين. وكان بعضهم يعزف على آلة موسيقية، مثل الشيخ رفعت والشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ نصر الدين طوبار، وكان هؤلاء يعزفون على آلة العود. وبعض الفنانين هم تلاميذ مشايخ؛ وعلى رأسهم أم كلثوم تلميذة أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجي، والشيخ زكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد، وغيرهم. ومحمد عبد الوهاب والشيخ درويش الحريري، ومما يروى عن العلاقة بين الشيخ درويش وعبد الوهاب، أنه هو من لحن دور "أحب أشوفك كل يوم" لعبد الوهاب، وهو من نظم حسن أنور. ويعرف من يدرس السير الذاتية لأساطين القراء أنهم برزوا بفضل أصواتهم ومواهبهم، وأيضا بفضل تعلمهم للموسيقى والنغمات، وكانت تلك المواهب المصقولة بالفن تواجه أحيانا بالنهي والتحريم، تارة من باب التعصب الأعمى للدين، وأخرى من باب الغيرة والحسد. ومما يذكره كمال النجمي في كتابه: الغناء المصري مطربون ومستمعون، أنه طالع في الصحف أيام الشيخ محمد رفعت أن أحد قراء القرآن قد قدم بلاغا إلى أحد أقسام الشرطة ضد الشيخ رفعت يتهمه فيه بسوء التلاوة والخروج عما أقره علماء القراءات السبع من أصول للتلاوة الصحيحة. وفي حدود الإسطوانات المحدودة التي سجلها الشيخ رفعت للإذاعة المصرية، وكان ذلك في أواخر أيامه، لا نجد أي تجاوز لأصول التلاوة الصحيحة، بل إن الشيخ رفعت كان يجمع الحسنيين بصوته الذى يشبه صوت الكمان، وعلمه وانضباطه في قراءة القرآن. بل إن صوت وأداء الشيخ رفعت كان يزيد من حب وخشوع الناس لآي الذكر الحكيم. وفي نهاية حياة الشيخ رفعت كان الشيخ مصطفى إسماعيل قد بدأ في الظهور وتربع فيما بعد على عرش التلاوة. وكان بعض الناس يقولون عنه إنه مطرب جيد أكتر منه قارئ للقرآن. وذلك بسبب مساحة صوته وجماله وتمكنه من المقامات الشرقية وتنويعه في التلاوة بالمقامات ومعرفته بالقراءات السبع المتواترة؛ فكان يقرأ السهل المتتنع. وكان يصفه عبد الوهاب بأنه كان صاحب قفلات غير متوقعة، وتكمن عبقريته في الابتكار المستمر للمسارات المقامية بالإضافة إلى حنجرته الذهبية. ومن المعروف أن التلاوة تعتمد على الارتجال والتلقائية في الأداء، ولكل قارئ اجتهاده، ولكل مستمع نصيب في استقبال العطايا. والغالب أن يفتتح القارئ بالمقام الأساسي والذي سوف يرتكز عليه، ثم ينتقل منه إلى مقامات قريبة، ثم يرجع من حيث بدأ. ولا يملك القارئ سوي صوته وعليه أن يوصل المعنى ويُظهر جمال الأدب العالي الذي يتلوه، ويترك الأثر النفسي المراد. ومن القواعد في التجويد أو الابتهال المرتجل أن القارئ أو المبتهل يستهل ويفتتح بقرارات بسيطة حتى "يركب"،بمصطلح أهل الفن، على درجة موسيقية ما، ثم ينطلق بصوته إلى ماشاء الله له من الجوابات. إلا أن الشيخ مصطفى إسماعيل وهو من ضمن القلائل الذين كانوا "يركبون" المقام من أول البسملة. لكنه في أحيان كثيرة كان يبدأ بصوت منخفض، ثم يصعد درجة ثم درجتين على السلم الموسيقي، ثم ينزل مرة ثانية إلى القرار، ويقال إنه كان يفهم بذلك طبيعة المستمعين وأحوالهم ثم ينطلق إلى أن يصل إلى الجوابات العالية؛ فتخشع قلوب المستمعين، ومن الطرائف التي ذكرها هادي العلوي في كتابه "مدارات صوفية" أنه كان يعرف مثقفا عراقيا كان يسكر على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. ومعظم الأساطين الكبار في دولة التلاوة والذين لهم أفضال كانوا يشتركون في أن أصواتهم قوية وذات مساحات واسعة، ونفس طويل، بالإضافة لأن معظمهم كان يعرف المقامات الموسيقية، ولديهم قدرة على الزخرفة، وعلى الابتكار. ومنهم من كان يتلو القرآن ومنهم من كان ينشد ويبتهل. وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ طه الفشني والشيخ محمد عمران والشيخ سيد النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد الفيومي والشيخ كامل يوسف البهتيمي والشيخ على محمود. ومع ذلك فكان لكل قارئ منهم شخصيته وأسلوبه الفني، وميزة ينفرد ويتفرد بها. إن ما يميز مدرسة التلاوة والإنشاد المصرية ليس القرآن نفسه، ولا المعاني الدينية في ذاتها، ولا حتى البلاغة الأدبية العالية، بل هي أصوات وحناجر هؤلاء المشايخ، ومعرفتهم بالمقامات الموسيقية وثقافتهم الفنية العالية، ويمكن أن نتقدم خطوة على رأي الشيخ الهلباوي، بأن هؤلاء المشايخ حسنوا وجودوا وقدموا واكتشفوا من جماليات هذا النص البليغ، بالإضافة لفضلهم وإحسانهم على وجدان وحس وذائقة المستمعين. هؤلاء القراء بفنهم وذوقهم والعطايا الممنوحة لهم، وعلى غير ما ذكره الغزالي بأن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن، جعلوا بــ"غناءهم" للقرآن قلوب ووجدان السامعين ترق وتلين كل على قدره وحظه.
http://ma3azef.com/%D9%85%D9%88%D8%B3...
ذكر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" أن ابن مسعود قال: جودوا القرآن. وقيل أيضا، التجويد حلية القراءة. والتجويد ،لغة، هو التحسين والإتقان. ولا يعني هذا أن القرآن به نقص ما؛ بل يعني أن على القارئ له أن يحسن أداءه ولا ينزل به وإلا فهو آثم على ما ذكر علماء التجويد، قال الجزري: والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم. وهناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تحض على القراءة الحسنة وعلى التغني بالقرآن، منها "ورتل القرآن ترتيلا"، "وما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن ويجهر به"، "زينوا أصواتكم بالقرآن".. والنص القرآني نفسه يحتوي على موسيقى خارجية وداخلية (بعض الفقهاء يقولون بعدم جواز استخدام عبارات مثل "موسيقى القرآن" أو "الجرس الموسيقى" أو "السجع" في وصف آيات القرآن، على اعتبار أنه لا يصح وصفها بما هو أدنى منها، ويقصدون الموسيقى والشعر). ولا يمنعنا قولهم هذا من الإحساس بالموسيقى الشعرية في بعض المواضع بالقرآن؛ رغم أنه كتاب نثر بالأساس. ففي قوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون. نجد أنها موزونة من المجزوء المسبغ لبحر الرمل، وتقطيعه: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان. ويحتوي أيضا القرآن على موسيقى داخلية، وتلك من أسرار المعمار القرآني. ومما يذكر سيد قطب في دراسته للـ "التصوير الفني في القرآن" أنه "وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزا واضحا في السور القصار، والفواصل السريع، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة؛ ويتوارى قليلا أو كثيرا في السور الطوال، حتى تنفرد الدقة دونه في آيات التشريع. ولكنه - على كل حال- ملحوظ دائما في بناء النظم القرآني." ثم يورد مثلا من قوله تعالي في سورة النجم: "والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى." وهنا نرى روعة الإيقاع المنظم في فواصل الآيات رغم أنها ليست على وزن واحد، لكنها ،مع ذلك، تجري على صوت واحد فنلاحظ الفواصل جاءت: (هوى، غوى، يوحى، قوى، استوى، أعلى..) وهذا الإيقاع هو مما يحقق أثراً طيباً في وجدان المستمع.
والحال أن آيات القرآن بما تحتويه من بلاغة وفصاحة وأدب عال يحتاج إلى ذوق أدبي وفني بالمقابل حتى يؤتي أثره. وكذا فإن موسيقى القرآن وصوره ومعانيه قد تضيع على يد قارئ لا يملك الذوق والحس السليم لما يقرأه. وعلى جانب آخر، وكما ذكر في الاختلاف في قدر الفصاحة في القرآن، فقال أبو نصر القشيري وغيره في التفاوت على درجات الفصاحة، أن فيه الأفصح والفصيح. وكذلك في أمر موسيقى القرآن وإيقاعه. فكما أشار سيد قطب، فهناك آيات بلا إيقاع. بل، وأزيد، وحتى بلا بلاغة في بعض المواضع؛ وهذا ما نجد عليه آيات التشريع. وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب "آداب السماع والوجد" من" كتاب إحياء علوم الدين" في ذكر تأثير القرآن بالمقارنة بتأثير الغناء، فقال إن الغناء أشد تهييجا من القرآن من سبعة أوجه. فعلى عكس ما ذكر صاحب "الإتقان في علوم القرآن" بأن أحد أوجه الإعجاز في القرآن ،فيما يرى، أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد. ذكر الغزالي أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولي عليه حزن أو شوق أو ندم فم أين يناسب حاله قوله تعالي: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين. ومن وجه آخر، فإن القرآن محفوظ ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكل ما سمع أولا عظم أثره في القلوب، وفي الكرة الثانية يضعف، وهكذا. وحكى أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" أن رجلا كان يطوف حول الكعبة على حمار ويغني. فقالوا: أما تستحي..؟ فقال: أخاف أن تدركني نعسة فأسقط من على حماري.. قالوا: فأين أنت عن القرآن؟ فقال: قد جربناه فوجدناه يزيد النوم. ومن هنا تبدو أهمية الدور الذى لعبته مدرسة التلاوة المصرية على وجه الخصوص، وأساطين قراءها وغيرهم ممن تأثروا – أيضا- بتلك المدرسة. وهؤلاء هم الماهرون بالقرآن، الكرام البررة، الذين ينطبق عليهم قول النبي "حُسن الصوت زينة القرآن". وروى الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي، قول النبي "حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا". ويمكن القول أن فضل هؤلاء المشايخ –كما يقول الشيخ الهلباوي- هو الإحسان للمستمع وليس للقرآن. وتلك "الزيادة" وهذا "الحسن" هو الذي سوف نتناوله بأُنسِ وحضرت أصوات السادة المشايخ وليالي المبتهلين والمنشدين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
بداية فإن البحث في تاريخ الديانات يدلنا على أن الموسيقى كانت دائما متداخلة في الطقوس الدينية والعبادات، بل وفي الاحتفالات الاجتماعية، ففي اليهودية نجد العديد من التراتيل والابتهالات التي تأتي بعض نصوصها من التوراة، وتؤدى بايقاعات لحنية، ويعد ترتيل مزامير النبي داود من أفضل الأمثلة في هذا الشأن. وكذا تأثرت المسيحية باليهودية في أداء التراتيل وحتى مزامير داود الواردة في العهد القديم، وكذا تراتيل من تلك التي وردت في العهد الجديد. وتطور الأمر في المسيحية حتى صار هناك ما يعرف بالألحان الكنسية وهي ألحان لنصوص من العهدين وغيرهما. بل إن فضل تلك الألحان على تطور الموسيقى نفسها خارج الأديرة والكنائس كان فضلا عظيمًا. ولعل الحساسية الموجودة في الإسلام تجاه الغناء والتلحين ابتداءً وتفسير البعض بأن الغناء هو "لهو الحديث". وكذلك محاولات الفقهاء لتحصين القرآن الكريم من أن يؤدى بـ"غير لحون العرب" تكون نابعة من التخوف من اتباع عادات أصحاب الديانات الأخرى في ممارسة شعائرهم. وهذه المخالفة نراها في أمور كثيرة أخري غير قراءة القرآن، فهناك العديد من الآثار المتروكة عن النبي في دعوة المسلمين لمخالفة أهل الديانات الأخرى في الصيام والملبس وترك اللحية. ومن جانب آخر، فقد يكون التخوف من أن ينشغل الناس بالأداء والصوت أكتر من شغلهم بالتدبر والفهم لمعاني القرآن.(مثل هذه الأفكار نجدها في الكتاب الثالث من "الجمهورية" حيث يدعو أفلاطون إلى استبعاد المقامين الإيوني Ionian والليدي Lydian لما فيهما من ميوعة وتخنث يبعث على الإنحلال). ومع ذلك فإننا نجد روايات كثيرة في التراث الإسلامي، ومنها ما يرد في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني عن قراء تغنوا بالقرآن وكانت أصواتهم حسنة. النبي نفسه مدح صوت أبو موسى الأشعري قائلا له: لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود. وفي العصر الحديث نعرف أن بعض المطربين كانوا شيوخا، أو درسوا القرآن على يد مشايخ. فالشيخ سيد درويش والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ زكريا أحمد والقصبجي وعبد الوهاب، والشيخ سيد مكاوي، فيما بعد، كلهم جاءوا من روضة القراءة العطرة للقرآن الكريم وتجويده، إلى الإنشاد أو الغناء، أو التلحين. وكان بعضهم يعزف على آلة موسيقية، مثل الشيخ رفعت والشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ نصر الدين طوبار، وكان هؤلاء يعزفون على آلة العود. وبعض الفنانين هم تلاميذ مشايخ؛ وعلى رأسهم أم كلثوم تلميذة أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجي، والشيخ زكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد، وغيرهم. ومحمد عبد الوهاب والشيخ درويش الحريري، ومما يروى عن العلاقة بين الشيخ درويش وعبد الوهاب، أنه هو من لحن دور "أحب أشوفك كل يوم" لعبد الوهاب، وهو من نظم حسن أنور. ويعرف من يدرس السير الذاتية لأساطين القراء أنهم برزوا بفضل أصواتهم ومواهبهم، وأيضا بفضل تعلمهم للموسيقى والنغمات، وكانت تلك المواهب المصقولة بالفن تواجه أحيانا بالنهي والتحريم، تارة من باب التعصب الأعمى للدين، وأخرى من باب الغيرة والحسد. ومما يذكره كمال النجمي في كتابه: الغناء المصري مطربون ومستمعون، أنه طالع في الصحف أيام الشيخ محمد رفعت أن أحد قراء القرآن قد قدم بلاغا إلى أحد أقسام الشرطة ضد الشيخ رفعت يتهمه فيه بسوء التلاوة والخروج عما أقره علماء القراءات السبع من أصول للتلاوة الصحيحة. وفي حدود الإسطوانات المحدودة التي سجلها الشيخ رفعت للإذاعة المصرية، وكان ذلك في أواخر أيامه، لا نجد أي تجاوز لأصول التلاوة الصحيحة، بل إن الشيخ رفعت كان يجمع الحسنيين بصوته الذى يشبه صوت الكمان، وعلمه وانضباطه في قراءة القرآن. بل إن صوت وأداء الشيخ رفعت كان يزيد من حب وخشوع الناس لآي الذكر الحكيم. وفي نهاية حياة الشيخ رفعت كان الشيخ مصطفى إسماعيل قد بدأ في الظهور وتربع فيما بعد على عرش التلاوة. وكان بعض الناس يقولون عنه إنه مطرب جيد أكتر منه قارئ للقرآن. وذلك بسبب مساحة صوته وجماله وتمكنه من المقامات الشرقية وتنويعه في التلاوة بالمقامات ومعرفته بالقراءات السبع المتواترة؛ فكان يقرأ السهل المتتنع. وكان يصفه عبد الوهاب بأنه كان صاحب قفلات غير متوقعة، وتكمن عبقريته في الابتكار المستمر للمسارات المقامية بالإضافة إلى حنجرته الذهبية. ومن المعروف أن التلاوة تعتمد على الارتجال والتلقائية في الأداء، ولكل قارئ اجتهاده، ولكل مستمع نصيب في استقبال العطايا. والغالب أن يفتتح القارئ بالمقام الأساسي والذي سوف يرتكز عليه، ثم ينتقل منه إلى مقامات قريبة، ثم يرجع من حيث بدأ. ولا يملك القارئ سوي صوته وعليه أن يوصل المعنى ويُظهر جمال الأدب العالي الذي يتلوه، ويترك الأثر النفسي المراد. ومن القواعد في التجويد أو الابتهال المرتجل أن القارئ أو المبتهل يستهل ويفتتح بقرارات بسيطة حتى "يركب"،بمصطلح أهل الفن، على درجة موسيقية ما، ثم ينطلق بصوته إلى ماشاء الله له من الجوابات. إلا أن الشيخ مصطفى إسماعيل وهو من ضمن القلائل الذين كانوا "يركبون" المقام من أول البسملة. لكنه في أحيان كثيرة كان يبدأ بصوت منخفض، ثم يصعد درجة ثم درجتين على السلم الموسيقي، ثم ينزل مرة ثانية إلى القرار، ويقال إنه كان يفهم بذلك طبيعة المستمعين وأحوالهم ثم ينطلق إلى أن يصل إلى الجوابات العالية؛ فتخشع قلوب المستمعين، ومن الطرائف التي ذكرها هادي العلوي في كتابه "مدارات صوفية" أنه كان يعرف مثقفا عراقيا كان يسكر على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. ومعظم الأساطين الكبار في دولة التلاوة والذين لهم أفضال كانوا يشتركون في أن أصواتهم قوية وذات مساحات واسعة، ونفس طويل، بالإضافة لأن معظمهم كان يعرف المقامات الموسيقية، ولديهم قدرة على الزخرفة، وعلى الابتكار. ومنهم من كان يتلو القرآن ومنهم من كان ينشد ويبتهل. وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ طه الفشني والشيخ محمد عمران والشيخ سيد النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد الفيومي والشيخ كامل يوسف البهتيمي والشيخ على محمود. ومع ذلك فكان لكل قارئ منهم شخصيته وأسلوبه الفني، وميزة ينفرد ويتفرد بها. إن ما يميز مدرسة التلاوة والإنشاد المصرية ليس القرآن نفسه، ولا المعاني الدينية في ذاتها، ولا حتى البلاغة الأدبية العالية، بل هي أصوات وحناجر هؤلاء المشايخ، ومعرفتهم بالمقامات الموسيقية وثقافتهم الفنية العالية، ويمكن أن نتقدم خطوة على رأي الشيخ الهلباوي، بأن هؤلاء المشايخ حسنوا وجودوا وقدموا واكتشفوا من جماليات هذا النص البليغ، بالإضافة لفضلهم وإحسانهم على وجدان وحس وذائقة المستمعين. هؤلاء القراء بفنهم وذوقهم والعطايا الممنوحة لهم، وعلى غير ما ذكره الغزالي بأن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن، جعلوا بــ"غناءهم" للقرآن قلوب ووجدان السامعين ترق وتلين كل على قدره وحظه.
http://ma3azef.com/%D9%85%D9%88%D8%B3...
Published on August 18, 2014 02:41
July 10, 2014
خواطر بالعامية: أزمة الكتابة التاريخية في مصر (مقال لخالد فهمي)
(1)
بمناسبة رمضان، خواطر خالد فهمي اللي بيكتبها في مدى مصر تعتبر نموذجية لهذه الأجواء. هي مقالات مهمة وغزيرة المعلومات وتحض على التفكير ، لكنها مكتوبة بأسلوب مسلي يشبه الحواديت التي أصبحنا نفتقدها. اللي يعرف خالد (وهو صديق عزيز جدا) هيعرف إن خالد بيحكي كده في أحاديثه العادية لأصدقائه ومعارفه، بنفس السلاسة اللي تخليهم يحبوا يستزيدوا من علمه الغزير وأسلوبه الرائع والراقي في الكتابة (باللغتين) وفي الحكي كذلك. خالد مولع بالأدب جدا زي ما هو مولع بالتاريخ وزي ما هو مولع بمحمد على. هذا الولع يظهر على طريقته شبه الأدبية ،ومع ذلك، هي كتابة أكاديمية جادة في نفس الوقت، سواء في كتاباته في التاريخ عموما أو في تاريخ الباشا تحديدا.
(2)
قال فالتر بنيامين أن واجب المفكر اليساري ليس ركوب قطار التاريخ بل تشغيل المكابح. وبالتالي سوف يكون من الأفضل من التغني بعظمة ونستون تشرشل أو من الانبهار بذكرى انزال نورماندي.. هو أن نقوم بتشغيل المكابح النقدية حول كل تلك المسلمات والبديهيات. أحيانا ما نظن أن شخصا ما هو أفضل الأشخاص في العالم، ثم تكون صدمتنا في خطأ ما وقع منه صدمة عظيمة؛ ويتبعها رد فعل عظيم. فمثلا ما يطلق عليه البعض "خيانة" السادات وتوقيعه لاتفاقية سلام مع إسرائيل لم يكن خيانة سوى لمجموعة من الافتراضات عما يجب أن يكون عليه موقفه، وهذه الافتراضات لا تقوم على أي أساس واقعي بالنظر إلى الموقع السياسي والاجتماعي للسلطة الحاكمة في هذه اللحظة. وبالتالي فإن العلم والتحليل العلمي سوف يهتم بتفسير: لماذا فعل السادات هذا الفعل؟ المشكلة هنا إننا احنا اللي عملنا "البديهية" دي من موقعنا البعيد تماما عن موقع الفعل اللي بنحاول نفهمه. إن التفكير النقدي ليس أبدا بغرض هدم نموذج تشرشل (ولا لتبرير السادات طبعا)، بل بغرض فهمه بشكل أعمق، أو بعبارة خالد في مقاله الممتع: "إن الاختلاف حول الحكم عليه علامة صحية في المجتمع بشكل عام، بل من أهم العوامل اللي هتضمن لتشيرشل الخلود". وبالتالي فإن مهمة التحليل العلمي ليست القدح أو الذم (ده ممكن يستخدم في معركة سياسية مثلا) ولا الصح ولا الغلط، وفي هذا السياق فإن كتابة تاريخ شخصية ما يجب أن تنطلق من غرض الفهم بالأساس لهذه الشخصية وكل مواقفها وفي سياقها التاريخي. خالد فهمي عنده كتاب مهم عن جيش محمد على وكتاب تاني عن سيرة محمد على، بينطلق فيهم لا من تمجيد الباشا ولا من إدانته.. فقط محاولة بناء تفسير متماسك عن تاريخه.
**المقال**
من أسبوعين رُحت جامعة أوكسفورد علشان ألقي محاضرة "جورج أنطونيوس السنوية" في قسم دراسات الشرق الأوسط التابع لكلية سانت أنطوني. بعد المحاضرة المنظمين دعوني على الـ"هاي تابل"، وده عبارة عن عشا بس فخم حبّتين: بعد تلاوة صلاة باللاتيني يبدأ العشا بوجباته الثلاثة، وبعدين ينتقل المدعوين لقاعة تانية علشان الحلو والجبنة، وبعد الحلو والجبنة يروحوا لقاعة ثالثة علشان القهوة والشاي. والغرض من تغيير القاعات إن المدعوين يغيروا الناس اللي قاعدين جنبهم ويتبادلوا أطراف أحاديث جديدة.
لما كنت طالب في أوكسفورد من خمسة وعشرين سنة كنت بارتاب من فكرة "الهاي تابل"، وباعتبرها طقس سخيف من طقوس الجامعة العتيقة دي. وفي المرات القليلة اللي كنت بآكل فيها في الكلية، كنت باستغرب من شكل الأساتذة والضيوف وهم بيصلوا باللاتيني ولابسين الزعابيط السودة العبيطة، وكل ده علشان وجبة الأكل فيها في الغالب مالوش طعم.
وبالتالي لما لقيت نفسي مدعو على الـ"هاي تابل" قلت في نفسي: "استعنا على الشقا بالله. أهي كلها ساعتين زمن، وأخلص وبعدين أروح أتعشى مع أصحابي وآكل أكل بجد".
لكن كل حاجة في الليلة دي جت عكس توقعاتي.
الصلاة في أول العشا كانت من كلمتين بس: Benedictus, benedicat. وبالتالي ماكنتش مضطر أسمع كلام طويل بلغة مش فاهمها. والأهم إني اكتشفت إن اللي كانت بتتلو الصلاة كانت مارجريت ماكميلان، ودي أستاذة مشهورة، باحب شغلها كله وخصوصا كتابها الرائع عن مؤتمر الصلح الشهير اللي انعقد في باريس سنة ١٩١٩.
واندهشت أكثر لما لقيت إن الأكل كان على مستوى عالي جدا ومش سلق بيض وخلاص.
لكن أهم مفاجأة كانت الراجل اللي قاعد جنبي. كان في سني تقريبا وشكله تايه. لما ابتدينا نتكلم فهمت منه إن مُضيفه اللي دعاه على العشا ماجاش من الأصل، ووقتها أدركت إني لازم أبذل مجهود مضاعف في الكلام معاه لإنه معندوش حد تاني يكلمه على العشا. ومفيش دقيقتين واكتشفت إن الشخص ده لُقطة، وإن الحديث معاه هيكون ممتع.
الراجل اسمه آدم سيسمان، وأنا من جهلي ما كنتش أعرفه ولا سمعت عنه. سألته عن شغله، فقال بتواضع إنه كاتب، وتحديدا إنه متخصص في كتابة السير الذاتية، وإنه اليومين دول بيكتب سيرة عن جون لي كاريه John le Carre ، وده واحد من أهم وأشهر كتاب القصص البوليسية في انجلترا (جورج أورويل عنده رؤية خاصة جدا لولع الإنجليز بالرواية البوليسية). سألته: "مش غريبة شويتين إن الواحد يكتب سيرة عن مؤلف لسه ما ماتش، يعني لسه حي يرزق؟" فقال لي إن هو ده بالظبط موضوع المحاضرة اللي كان بيلقيها يومها الصبح في الجامعة.
سألته عن السيَر اللي كتبها في السابق، فقال لي إنه كتب سيرة عن هيو تريفر-روبر Hugh Trevor-Roper وسيرة تانية عن إيه جيه بي تايلور،A. J. P. Taylor ودول اثنين من أهم وأشهر المؤرخين الإنجليز في القرن العشرين. قلت له إني قريت كتاب تايلور عن أصول الحرب العالمية التانية اللي صدر سنة ١٩٦١ وعلى دراية بالنقاش الحامي اللي الكتاب أثاره وقتها. وقلت له إني عمري ما اقتنعت بتحليل تايلور اللي قال فيه إن هتلر ما كانش ناوي على غزو أوروبا، وإن التوسع الألماني ما كانش وراه أسباب أيدولوجية إنما كان نتيجة سيطرة السياسة الخارجية الألمانية على السياسة الداخلية، وإن هتلر في المقام الأخير ما كانش يفرق عن غيره من الساسة الألمان زي جوستاف ستريسمان، وزير الخارجية في جمهورية فايمار اللي حصل على جايزة نوبل للسلام سنة ١٩٢٦.
سيسمان رد وقال إنه تناول الموضوع ده بإسهاب في ترجمته لتايلور، وإنه شرح بالتفصيل الاعتراضات اللي الكتاب أثارها، واللي كان من أهمها العرض النقدي اللاذع اللي كتبه زميله في الجامعة تريفر-روبر. السجال بين تايلور وتريفر-روبر من أمتع السجالات الأكاديمية على الإطلاق، ومن الطريف في الموضوع إن الخلاف بين الراجلين ما كانش منحصر في أروقة الجامعة وبيدور على صفحات الدوريات الأكاديمية، بس كان موضوع اهتم بيه الرأي العام وتابعه بشغف على مدار مش بس شهور وإنما سنين طويلة. سيسمان وضّح لي إن الخناقة بين الراجلين انتقلت لشاشات التليفزيون، فبعد شهور قليلة من نشر الكتاب، وتحديدا في يوم ٩ يوليو ١٩٦١، استضاف المذيع والمقدم المشهور روبرت كي Robert Kee الراجلين في برنامجه التليفزيوني المذاع على البي بي سي.
ولما شافني سيسمان مهتم بحديثه، زاد واستطرد عن كتابه التاني عن تريفر-روبر، وقعد يوصف لي تفاصيل نفس السجال ده بس من وجهة نظر غريم تايلور وزميله في الكار. وشرح لي سيسمان إزاي اتأثر تريفر-روبر لما تايلور قال، في إحدى مناظراتهم، إن طريقة تريفر-روبر في عرض أفكار تايلور: "هتأثر بالسلب على سمعة تريفر-روبر الأكاديمية، ده لو كان عنده سمعة أكاديمية من الأصل". آي.
سيسمان برضه شرح لي إزاي إنه تناول في سيرته لتريفر-روبر الفضيحة العلمية اللي وقع فيها في أواخر حياته، والفضيحة دي، بالصدفة كنت أنا بتابعها لما حصلت سنة ١٩٨٣، وبالتالي ما كنتش قاعد زي الأطرش في الزفة مش فاهم حاجة من اللي سيسمان بيتكلم عنها. الفضيحة كانت بتدور حوالين ادعاء صحيفة الصنداي تايمز إنها حصلت على مذكرات هتلر المكتوبة بخط ايده، وإنها هتبدأ في نشرها على حلقات. وقتها مؤرخين كثار شككوا في حقيقة المذكرات دي وزعموا إنها مزورة. فالصحيفة راحت لتريفر-روبر وطلبت منه إنه يتحقق من صحة المذكرات، وده لأنه متخصص في التاريخ الألماني ولأنه كان كتب كتابه الأشهر بعنوان "أيام هتلر الأخيرة" سنة ١٩٤٧ لنفي المزاعم السوفييتية وقتها إن هتلر كان لسه حي يرزق. فبناء على خبرته في الموضوع، قِبل تريفر-روبر إنه يفحص المذكرات وطلع على الناس بعدها وقال إنها أصلية مش مزيفة، وبناء عليه بدأت الصحيفة تنشر المذكرات. ومافيش كام يوم وطلع مؤرخين تانيين ليثبتوا بشكل قطعي إن المذكرات مزيفة وإن تريفر -روبر خانه التوفيق. ومن وقتها سمعة الأستاذ الكبير اهتزت وفقد كثير من احترام الناس ليه.
ولكن من أطرف الحاجات اللي حكاها لي سيسمان في حديثه الشيق إنه بعد سنين طويلة من المناظرة الشهيرة بين العملاقين دول، وتحديدا بعد ٤٩ سنة، جرت مناظرة تانية بينهم، لكن المرة دي بعد ما ماتوا الاتنين!! ففي سنة٢٠١٠ قرر إدوارد ستورتون، وهو مقدم برامج في البي بي سي على درجة عالية جدا من العلم والثقافة، إعادة المناظرة لكن المرة دي بالتمثيل. فاستضاف صديقنا سيسمان ومؤرخ تاني مشهور، علشان يعيدوا طرح الخلاف القديم بين تايلور وتريفر-روبر ده على الجمهور بتاع القناة الرابعة الإذاعية للبي بي سي.
اللي خلاني مندهش أكثر من القصة دي إني أنا شخصيا كان ليا واقعتين مع ستورتون. فبعد الثورة بكام أسبوع ستورتون جه مصر علشان يسجل برنامج إذاعي عن الدين والثورة وطلب يقابلني علشان نعمل حديث سوا. معد البرنامج طلب مني إننا نتقابل في القلعة علشان نسجل هناك. وبالفعل صحيت بدري يوم جمعة في شهر مارس ٢٠١١ ورحت القلعة علشان أسجل واحنا بنتفرج على المنظر الجميل للقاهرة الممتدة قدامنا. الحقيقة أنا كنت مستغرب شوية علشان كنت فاكر إن التسجيل للإذاعة مش التليفزيون. لما استفسرت قال لي المعد إن ظني في محله، ولكنهم، وللأمانة العلمية، عاوزين صوت القاهرة يطلع في التسجيل وعاوزين مني إني اتكلم عن تاريخ المدينة كحاضنة للفكر والفن الإسلامي وأنا واقف من فوق القلعة. التسجيل يدوبك بدأ وعرفت أقول الكلمتين اللي ربنا فتح عليّ بيهم، وإذ بعسكري شرطة انقض علينا وسألنا عن تصريح الأمن. حاولت أوضح إن ده مش تسجيل كاميرا، وإنه للإذاعة بس، لكنه صمم على التصريح. بعد مفاوضات مضنية اتطردنا من القلعة كلها مع القول إننا لو فاكرين إن البلد سايبه بعد الثورة فنبقى غلطانين. المهم نزلنا لميدان صلاح الدين في سفح القلعة وكملنا التسجيل والحلقة اتذاعت.
المرة التانية اللي اتعاملت فيها مع ستورتون كانت بعدها بسنة وتحديدا في أوائل يونية ٢٠١٢. كنا على أبواب الانتخابات الرئاسية، وكانت الثورة في ليبيا وسوريا لسه في أولها، وقرر ستورتون يعمل برنامج تاني عن ثورات الربيع العربي يتساءل فيه عما إذا كانت المجتمعات العربية جاهزة للانتخابات. بصراحة أنا ما كنتش مبسوط من السؤال علشان نبرته الاستشراقية (اللي للأسف حكامنا بيرددوه: الشعوب العربية كالأطفال، لسه صغيرين ع الديمقراطية)، لكني قررت في النهاية إني أثق في الراجل بناء على المستوى العلمي العالي جدا اللي شفته منه في المرة السابقة. وفي النهاية رحت ستوديو البي بي سي في الزمالك علشان أسجل من هناك. ستورتون كان في لندن وبيكلمني من الاستوديو هناك، وكان من شطارته وذكائه إنه خلاني أقول حاجات وأعبر عن أفكار أنا نفسي ما كنتش عارف إنها ممكن تطلع مني، ودي طبعا من علامات المذيع الشاطر: يعرف إزاي يخلي الضيف يفكر بصوت عالي دون تدخل ثقيل منه، ودون ما يستحوذ هو على البرنامج. وإذ فجأة لقيت نفسي بأقول كلام فلسفي ما كنتش فاكر إني ممكن أقوله.
استمتاعي بقصة سيسمان عن لقائه بستورتون لإعادة تمثيل السجال بين تايلور وتريفر-روبر كان له سبب آخر، وهو الضيف التاني اللي وقف قدامه في التمثيلية الإذاعية التاريخية دي. الشخص التاني ده هو ريتشارد إيفانس، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبريدج. إيفانس أنا برضه متابعه من زمان ومتابع شغله عن الكوليرا في هامبورج في القرن التسعتاشر، وعن دوره كشاهد نفي في القضية الشهيرة اللي رفعها دافيد إيرفنج على المؤرخة الأمريكية ديبورا ليبستات اللي اتهمته بإنكار الهولوكوست. وفي واحدة من مقالاتي في الشروق كنت كتبت عنه وعن ثلاثيته الرائعة عن الرايخ الثالث. وبالتالي كنت شغوف اسمع من سيسمان تفاصيل الحلقة دي مع إيفانس وإزاي عرف ستورتون يديرها ويحاور المؤرخين الاتنين دول اللي بيمثلوا دور مؤرخين اتنين تانيين اختلفوا حول الأصول التاريخية للحرب العالمية التانية.
طبعا مصدر اندهاشي الأساسي إني مش مصدق إن الجمهور العام بتاع الإذاعة ممكن يهتم بسجال شكله أكاديمي صِرف، وإن مؤسسة ضخمة زي البي بي سي ممكن تضيع فلوسها ووقت موظفينها على موضوع ضيق زي ده، مش مرة واحدة لكن مرتين.
والحقيقة إن طول إقامتي في أوكسفورد على مدار أسبوع كامل الشهر اللي فات اكتشفت إزاي التاريخ حاضر وبقوة في السجالات العامة وفي الوعي العام وفي المجال العام. يمكن علشان السنة دي، ٢٠١٤، هي الذكرى المئوية الأولي لاندلاع الحرب العالمية الأولي، والذكرى السبعين لإنزال قوات الحلفاء في نورماندي وبداية تحرير أوروبا من قبضة النازي، وبمناسبة الذكريتين دول المدينة، إن ما كانش البلد كلها، مليانة فعاليات، من مؤتمرات لمعارض لاحتفالات لمحاضرات لمسرحيات لبرامج تليفزيونية وإذاعية.
الشيء المبهر في هذا الاهتمام بالتاريخ مش بس حجمه ولكن نوعه. فالناس العادية بتُقبل على التاريخ كسجال مش كحقيقة ثابتة. من علامات المدخل النقدي ده للتاريخ قدرة المجتمع الإنجليزي على طرح أسئلة صعبة ومحرجة على لحظات فارقة وشخصيات محورية في تاريخهم. فمثلا كل سنتين في المتوسط بيتنشر كتاب جديد عن تشيرشل. الكتب دي في الأغلب بتكون مبنية على معلومات ومادة وثائقية جديدة متاحة مش بس للأكاديميين ولكن لغير الأكاديميين كمان (زي صديقنا سيسمان). ولكن المهم برضه هو إن الكتب دي بتطرح رؤية جديدة عن مواضيع قديمة وكثير بتتساءل عن أشياء ممكن تكون من المسلمات.
ومن أمثلة الكتب النقدية دي اللي بتتناول "رموز الأمة" بالنقد والتجريح كتاب لأستاذ جامعي (رئيس قسم التاريخ في جامعة إيست أنجليا) اسمه جون تشارملي John Charmley. الكتاب اسمه " تشيرشل: نهاية المجد، سيرة سياسية"
Churchill: End of Glory, A Political Biography. الكتاب صدر سنة ١٩٩٢، وحكم فيه المؤلف على تشيرشل بالفشل لأنه ما عرفش يحقق الأهداف الثلاثة اللي وعد الشعب البريطاني إنه حيدخل الحرب ضد ألمانيا علشان يحققها: ١. الحفاظ على الإمبراطورية، ٢. منع صعود اليسار العمالي داخل بريطانيا، ٣. منع صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى. الكتاب قوي في حجته وفي عرضه لموضوعاته. ولكن مصدر قوته هو المادة الأرشيفية الجديدة المتمثلة في محاضر اجتماعات مجلس الوزراء ومناقشات البرلمان ولجانه اللي تشارملي مقق عينيه فيها وعرف يلخصها ويعرضها للقارئ بوضوح وقوة.
كتاب تشارملي بالرغم من المادة الجديدة اللي معتمد عليها ما سلمش من النقد، والنقد اللاذع كمان. وكان من أهم النقاد صديقنا إيفانس اللي كتب يفند آراء تشارملي ويدحضها ويوضح إنه منطلق من أرضية أيدولوجية أملت عليه أفكاره ووجهت نتايجه. إيفانس في كتاب ليه عن كيفية قراءة تاريخ ألمانيا الحديث، قال إن كلام تشارملي عن تضييع تشيرشل لفرصة صلح منفرد مع هتلر تقدر بيه بريطانيا إنها تحتفظ بمستعمراتها – الكلام ده كلام فارغ وغير منطقي، ببساطة لإن القدرة القتالية لبريطانيا سنة ١٩٤٠ ما كانتش تسمح لها بالاحتفاظ بإمبراطوريتها حتى لو سحبت قواتها من أوروبا وتوصلت لصلح منفرد مع هتلر.
لكن اللافت في الموضوع هو إن شخصية بعظمة تشيرشل ما بتسلمش من النقد والنقد اللاذع كمان. ده بالرغم من إن تشيرشل زعيم منتصر، وانتصاره ما كانش انتصار بسيط ولا سهل. وشخصية تشيرشل العملاقة وخطبه الطنانة وكتاباته البليغة اللي نال بسببها نوبل للأدب – كل ده ما منعش تشارملي من كتابة سيرة نقدية لاذعة ومن إنه يطلق أحكامه القاسية عليه. لكن المهم برضه في الموضوع هو إن الناس بتستقبل النقد ده بارتياح بل بتنتظره وتقبل عليه، لأنها مدركة في النهاية إن من علامات عظمة تشيرشل الاختلاف عليه مش تقديسه، وإن الاختلاف حول الحكم عليه علامة صحية في المجتمع بشكل عام، بل من أهم العوامل اللي هتضمن لتشيرشل الخلود. وبالتالي فالاعتراضات اللي وُجهت لتشارملي (عن حق، في رأيي) كانت إنه يميني ومحافظ وعنصري واستعماري. لكن مفيش حد طلع يقول عنه إنه عميل، أو إنه حقود، أو إنه غير وطني.
نفس الكلام ينطبق على "الأحداث العظيمة" مش بس "الشخصيات العظيمة". فبمناسبة الذكرى السبعين لإنزال نورماندي (٦ يونيو ١٩٤٤) الجرايد والمجلات ومحطات التليفزيون والراديو اتملت ببرامج ومقالات تحتفل بالمعركة دي، اللي الواحد كان فاكر إنها من أنجح وأعظم معارك الحرب كلها وبالتالي فهي فوق النقد. لكن ده ما منعش الناس، متخصصين وغير متخصصين، من إنهم يسألوا أسئلة صعبة ومحرجة عنها: هل صحيح إن الجيش الثاني البريطاني كان بطيء في تقدمه من ساحل نورماندي، اللي تم فيه الإنزال، للداخل؟ هل صحيح إن البطء ده كان سببه إنهاك الجنود البريطانيين وتعبهم بعد سنوات طويلة من المعارك والحروب؟ هل صحيح إن الفرقة المدرعة السابعة (المعروفة بـ"جرذان الصحراء") فشلت في الاستفادة من الثغرة بين فرق الـ"بانتزر" (الدبابات) وقوات المشاة الألمانية، وهو الأمر اللي تسبب بحلول يوم ١٣ يونيو (يعني بعد الإنزال بأسبوع) في خسائر غير مبررة في العتاد والأرواح (البريطانيين خسروا من ٢٣ لـ٢٧ دبابة يوم ١٣ يونيو مقابل ١٣ لـ ١٥ دبابة للألمان)؟ وباختصار، هل تسببت القيادة الميدانية البريطانية في خسائر كان ممكن تلافيها؟
برضه المبهر في الموضوع إن الأسئلة دي مش مطروحة على صفحات دوريات أكاديمية متخصصة أو في كتب من مئات الصفحات اللي ما بيقراهاش غير أساتذة الجامعة. السجال ده شغال في الإذاعة والتليفزيون، ومش بس كده: ده حتى البرامج الإعلامية دي بتبقى موضوع لعروض صحافية في جرائد ومجلات يومية. فواحد زي جايمس هولاند James Holland، وهو مؤرخ هاوي مش أستاذ جامعي، ممكن يعمل برنامج تليفزيوني بعنوان نورماندي ٤٤ (مش نورماندي تو) لمدة ساعة كاملة على بي بي سي تو يتناول فيه الموضوع ده ويطرح فيه الأسئلة دي. وفي نفس يوم عرض البرنامج تنشر التليجراف عرض نقدي ليه على صفحاتها.
أما في أدب الرواية التاريخية فحدث ولا حرج. يكفي إن الواحد يشير لثلاثية هيلاري مانتل عن أوليفر كرومويل وصعوده في بلاط هنري الثامن. الثلاثية دي ظهر منها جزءين لحد ده الوقت، كل جزء حصل على جايزة البوكر (الأولى في سنة ٢٠٠٩ والثانية سنة ٢٠١٢)، وبكده تكون هيلاري مانتل أول واحدة ست تحصل على الجايزة الرفيعة دي مرتين. وطبعا الناس قاعدة مترقبة صدور الجزء الثالث السنة اللي جاية. إنما المهم في الموضوع برضه إنه بالإضافة للمستوى الفنى العالي لروايات هيلاري مانتل، فالروايات دي مبنية على بحث تاريخي جبار – ومش بس بحث تاريخي في المصادر الثانوية، يعني في الكتب والمقالات المطبوعة، ولكن بحث تاريخي بدقة متناهية في المصادر الأولية من مخطوطات ووثائق وأوراق قديمة. ففي واحدة من مقابلاتها الصحافية قالت إن صحيح كتابة الجزء الأول البالغ ٤٠٠ صفحة استغرقتها خمسة أشهر (من مايو لسبتمبر ٢٠١١ كل يوم ١٢ ساعة كتابة)، لكن التحضير للكتابة استغرقها ٣٠ سنة قرأت فيهم كل الكتب عن كرومويل وكل الكتب عن الكتب وكل المصادر الأولية.
على الرغم من انبهاري بروايات هيلاري مانتل، إلا إني أحب أتوقف عند كاتب تاني بيكتب روايات تاريخية، وزي مانتل رواياته حققت نجاح مبهر سواء عند الجمهور أو عند النقاد. الكاتب ده اسمه روبرت هاريس وأنا لسه مخلص له الجزء الثاني من ثلاثيته، اللي برضه لسه ما اتنشرش الجزء الثالث منها، والمتعلقة بتاريخ سيسرو، أشهر خطيب وسياسي في روما القديمة. لما خلّصت الجزء الأول من الثلاثية، "إمبيريام"، كنت منبهر بسلاسة السرد وبدقة المعلومات التاريخية وبصدق اللغة. وبعدين قريت إن هاريس اعتمد في الكتابة على أعمال سيسرو الكاملة، من خطب ورسائل، المنشورة في ٢٩ مجلد!!
لكن بالرغم من إعجابي العميق بـ"إمبيريام" لازم اعترف إني لقيت روايته الأقدم، "فاذرلاند"، رواية عبقرية بجد. الرواية تاريخية ـ بس مش قوي، لأن التاريخ المبنية عليه مش التاريخ اللي حصل، ولكنه التاريخ اللي كان ممكن يحصل لو غيرنا تفصيلة واحدة في وقائع الماضي. والتفصيلة الصغيرة اللي هاريس قرر يغيرها تتعلق بالحرب العالمية الثانية: يحصل إيه لو تخيلنا إن الحلفاء فشلوا في نورماندي وإن هتلر انتصر في الحرب؟ (وبالمناسبة دي، الكتاب الأخير لريتشارد إيفانس بيتناول بالنقد اللاذع النوعية دي من الكتابات التاريخية اللي ظهرت أخيرا على إيد مؤرخين يمينيين، الكتابات اللي بتبدأ بسؤال افتراضي: "ماذا لو؟").
وقائع الرواية بتجرى في برلين بعد عشرين سنة من انتهاء الحرب، يعني في سنة ١٩٦٤. برلين ده الوقت عاصمة امبراطورية ضخمة اسمها "جيرمانيا" تشمل كل القارة الأوروبية بما فيها أراضي شاسعة من الاتحاد السوفييتي. بريطانيا بيحكمها الملك إدوارد الثامن وزوجته الملكة واليس (سيمبسون) بعد فرار جورج السادس وونستون تشيرشل لكندا، وده كان نتيجة نجاح الألمان في فك شفرة إنيجما، اللي كان الإنجليز بيستخدموها، وبالتالي عرفوا يجوّعوا بريطانيا بعد إغراق السفن اللي كانت بتمدها بالأكل والوقود من الولايات المتحدة. الولايات المتحدة انتصرت على اليابان بإلقاء قنبلة نووية عليها، لكن الألمان نجحوا في تفجير سلاحهم السري، في-٣ ، في سماء نيويورك. الألمان عرفوا يهزموا الجيش الأحمر في الشرق، ولكن الاتحاد السوفييتي لسه بيفرفر. وبالتالي الحرب انتهت بظهور ألمانيا والولايات المتحدة كقوتين عظمتين بينهم حرب باردة. وبعد عشرين سنة من الحرب الباردة دي، قرر الرئيس الأمريكي، جوزيف كينيدي (اللي كان سفير الولايات المتحدة في لندن وقت الحرب والموالي لألمانيا) انهاء الحرب الباردة دي وقام بزيارة رسمية لبرلين لبدء مرحلة جديدة من التعاون والصداقة والتقارب بين القوتين العظمتين، أمريكا وجيرمانيا. لكن في مشكلة صغيرة: الألمان حيعملوا إيه لما كينيدي يتساءل عن مصير يهود أوروبا اللي أبيدوا في الهولوكوست؟ وبالتالي الرواية كلها بتدور حوالين المؤامرة اللي بتُحاك للتخلص من كل من كان ليه دور في الهولوكوست. وتتوالى الأحداث، زي ما بيقولوا.
الرواية اتنشرت سنة ١٩٩٢ ومن يومها باعت ٣ ملايين نسخة واترجمت لأكثر من عشرين لغة واتعمل منها حلقات إذاعية وفيلم مدته ثلاث ساعات. في أحاديثه الصحافية هاريس قال إن كتابة الرواية دي استغرقت أربع سنين. والحقيقة الواحد شايف نتيجة الجهد ودقة البحث التاريخي في كل صفحة وكل تفصيلة في الرواية. الرواية "تاريخ متخيّل" صحيح، لكن التفاصيل التاريخية المتعلقة بفترة الستينات دقيقة من أول التفاصيل التكنولوجية (الطيارات النفاثة والغواصات النووية وحاملات الطائرات) لحد تفاصيل ماكينات القهوة والفوتوكوبي ومجفف الشعر. لكن أهم علامة على البحث المضني في الأرشيف هو تخيل هاريس لبرلين في الستينات في حالة انتصار هتلر. التفاصيل دي هاريس استقاها من مذكرات ألبرت شبير، المعماري الأول للرايخ الثالث، وخططه ورسوماته الهندسية وتخيله لبرلين بعد ما بقت "عاصمة العالم" Welthauptstadt وعرف "يبني" برلين كما تخيلها شبير ويستخدمها كمكان تدور فيه أحداث روايته.
***
إيه اللي بتقوله لنا الظاهرة دي، ظاهرة الشغف العميق بالتاريخ عند الإنجليز؟ أظن إن أول حاجة ملفتة، زي ما وضحت، هي إن الاهتمام ده مش أكاديمي مقعْوَر، إنما موضوع عام يهم العامة مش بس النخبة المثقفة. صحيح إن كتب زي كتب إيفانس وبرامج زي برامج القناة الرابعة الإذاعية للبي بي سي بتتوجه في الأساس لجمهور النخب المثقفة، لكن في المقابل عدد المجلات التاريخية اللي بتتباع في أكشاك الجرايد وعدد المعارض والفعاليات الفنية المفتوحة للجمهور والمتعلقة بالتاريخ وعدد الروايات الـ"بست سيلر" اللي بتتناول مواضيع تاريخية ملفت فعلا للنظر.
الحاجة الثانية الملفتة للنظر في هذا الاهتمام بالتاريخ هو الشغف بالسجال التاريخي، مش البحث عن الحقيقة التاريخية المطلقة. أنا عندي إحساس إن الناس في إنجلترا (وكمان في أمريكا وهي البلد التانية اللي لي خبرة في العيشة فيها) لما بيتفرجوا على مسلسل تاريخي أو لما بيشتروا كتاب تاريخي، حتى لو ما كانتش رواية تاريخية، فهم في الحقيقة مش مستنيين من المسلسل ده أو من الكتاب ده إنه يقول لهم "هو حصل إيه" على قد ما هم منتظرين يعرفوا رؤية المؤلف أو المخرج أو مصمم المعرض في الحدث التاريخي الفلاني. بمعنى آخر، الجمهور فاهم بالفعل إن التاريخ رواية يُختلف على قراءتها وعلى تفسيرها، مش يقين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الحاجة الثالثة المبهرة في الموضوع ده هو إن المقالات الصحافية والمسلسات التليفزيونية والبرامج الإذاعية والكتب الروائية اللي بتتناول مواضيع تاريخية مش بس بتقدم رؤية جديدة وبتطرح أسئلة جديدة إنما كمان بتكون مبنية على مادة أولية جديدة. والمادة الأولية دي ممكن تكون جوابات سيسرو المكتوبة باللاتيني، أو محاضر اجتماعات حكومة الحرب سنة ١٩٤٠، أو خطط ألبرت شبير عن برلين ورسوماته وجواباته. المادة الأولية دي محفوظة في مكتبات ودور وثائق مفتوحة للجميع ومش بس للأكاديميين. ومن أهم المؤسسات دي دار الوثائق القومية في كيو جاردنز خارج لندن. دار الوثائق دي فيها ملايين الوثائق من ورق وجرائد وصور وخرائط ومخطوطات تعود لمئات السنين. والمبهر في دار الوثائق دي إنها مفتوحة لأي من هب ودب، فموقع الدار على الإنترنت بيقول إنها "الأرشيف الرسمي لإنجلترا وويلز والمملكة المتحدة، وعندنا سجلات الأمة اللي تعود لأكثر من ألف سنة، والسجلات دي بنتيحها للجميع علشان يكتشفوها ويطلعوا عليها". الموقع برضه بيقول إن "فترة السرية كانت ثلاثين سنة، ولكن الحكومة قررت مؤخرا تقلل المدة دي لعشرين سنة"، بمعنى إن الوثائق الرسمية اللي عدى على كتابتها عشرين سنة أو أكثر تبقى متاحة للجميع للإطلاع والدراسة. أما شروط استخدام الدار فهي تقديم وسيلتين لإثبات الشخصية، واحدة لإثبات الإسم والثانية لإثبات العنوان. فقط لا غير.
الحاجة الرابعة إن المؤرخين دول، هواه وأكاديميين، ما بيترددوش فى إنهم يتناولوا بالنقد اللاذع الشخصيات العظيمة والأحداث العظيمة اللي بتشكل محطات مضيئة في تاريخ الأمة. فالمجتمع اللي مش قادر يفكر بشكل نقدي مجتمع خايف وضعيف ومعندوش قدرة حقيقية على مواجهة مشاكله، والمواطن اللي ما بيقدرش يفكر بشكل نقدي ما يقدرش، في الحقيقة، يواجه تحديات الحياة ولا يمارس حقوقه كمواطن بشكل سليم.
***
طبعا أنا بأقول الكلام ده وكلي حسرة على وضع التاريخ عندنا. يكفي الواحد يتفرج على المسلسلات التليفزيونية المصروف عليها ملايين الجنيهات علشان نكتشف حجم الكارثة. إيه مشكلة المسلسلات دي؟ أظن إن المشكلة مش بس إن المسلسل من دول مليان أخطاء تاريخية (من البديهي إن ده غلط ومش مقبول)، بس كمان إنه بيعكس فهم سطحي جدا للتاريخ. فالتاريخ مش أكثر من مجموعة من التواريخ والأسماء والشخصيات، والسيناريست أو كاتب القصة اللي مبني عليها المسلسل التاريخي، شايف إن أمانته العلمية تقتصر على إنه يجيب واحد بتاع تاريخ، ويا حبذا لو أستاذ جامعي، يراجع له المادة العلمية. المشكلة في رأيي إن الكاتب أو السيناريست مش مدّي نفسه الحق في إنه هو نفسه يكون باحث في التاريخ. فحتى لو بذل مجهود، فالمجهود ده بينحصر في قراءة بعض الكتب المطبوعة. وطبعا لو اقترحت على أي كاتب سيناريو، أو كاتب قصة إنه يعمل بحث تاريخي حقيقي، بمعنى إنه يروح دار الوثائق القومية مثلا علشان يدوّر فيها على مادة جديدة ممكن تساعده في روايته أو المسلسل بتاعه ممكن في الحالة دي يصدر أصوات من حلقه تعبيرا عن حنقه الشديد من اللي بأقوله.
والحقيقة إني ما أقدرش ألومه، لأن الموضوع في النهاية مش موضوع كسل من الكتّاب أو انعدام الاهتمام بالتاريخ من القرّاء. أظن إن إحنا المصريين عندنا ولع حقيقي بالتاريخ، ويكفي الواحد يشوف إقبال الناس على المسلسلات التاريخية (على سطحيتها وردائتها) وولعهم بكتب التاريخ اللي بتنزل السوق علشان يتأكد من الحقيقة دي. ولا المشكلة تكمن في انعدام المواهب أو قلتها، فالبلد مليانة مؤرخين ومؤلفين وكتّاب مبدعين. المشكلة الحقيقية مشكلة مؤسسات وسياسات تعليمية وثقافية وإعلامية.
فمثلا، أنا كل أسبوع بتجيلي مكالمات تليفونية ورسائل على الفسيبوك من شباب، وعواجيز، لهم مشروعات كتابة تاريخية وبيتساءلوا منين يجيبوا مادة جديدة تخدمهم. الأسبوع ده تحديدا وأنا بأكتب المقال ده تلقيت مكالمتين بيدوروا حول نفس الطلب. الأولى دارت كالآتي: "دكتور خالد، أنا باكتب رواية عن الست نفيسة البيضا زوجة مراد بيك زعيم المماليك أثناء الحملة الفرنسية. أنا طبعا قرأت الجبرتي ووصف مصر وكل اللي كتبوه علماء الحملة الفرنسية. إنما ما لقيتش كثير عن نفيسة البيضا. تنصحني بإيه؟"، السؤال الثاني كان كالآتي: "دكتور خالد، أنا قرأت كتابك كل رجال الباشا، ومهتم جدا بفترة محمد على. أنا بأكتب رواية تتعلق بجدة جدتي اللي أهلها هربوا لمصر مع الأسطول العثماني اللي سلم نفسه لمحمد على سنة ١٨٤٠. أنا محتاج شوية تفاصيل عن الموضوع ده علشان أعرف أكمل الرواية. تنصحني بإيه؟".
أنا الحقيقة عندي نصايح ممكن أدّيها للكتّاب دول، ولكنها نصايح صعبة التنفيذ. فأنا من واقع خبرتي في العمل في دار الوثائق القومية عارف إن الدار فيها كنوز ممكن تساعد الكاتبين دول. وتحديدا، أنا عارف إن الدار عندها وقفية الست نفيسة البيضا اللي ممكن تلقي ضوء مش بس على استثماراتها وممتلكاتها الكثيرة، ولكن عن أولوياتها في أعمال الخير وبالتالي ممكن نفهم منها نواحي كثيرة من شخصيتها. أما في موضوع الأسطول العثماني فالدار عندها مجموعة رائعة من المكاتبات بين محمد على ووكيله في الآستانة، محمد نجيب أفندي، وابنه وقائد قواته، إبراهيم باشا، وقائد الأسطول العثماني نفسه اللي هرب بالأسطول ورسي بيه في الإسكندرية، أحمد فوزي باشا. والمكاتبات دي ممكن الواحد ينسج منها واحدة من أكثر الروايات التاريخية متعة وتشويقا.
إنما المشكلة إن دار الوثائق القومية عندها شروط تعجيزية تمنع الناس، عمليا، من استخدامها. فالدار بتشترط الحصول على موافقة من "الأمن"، والموافقة دي بتكون على الموضوع وعلى الشخص اللي هيقوم بالبحث. وحتى بعد الحصول على الموافقة، (اللي أعدادها في النازل على مدار السنين اللي فاتت واللي ممكن تستغرق ثلاثة أشهر) فالموافقة مشروطة بالبحث في ثلاث وحدات أرشيفية بس (من ضمن أكثر من ٤٠٠ وحدة أرشيفية في الدار)، والنتيجة الطبيعية للقبضة الأمنية على دار الوثائق القومية، هو إن الدار اللي فيها ملايين الوثائق بيتردد عليها في اليوم الواحد حوالي عشرة أشخاص بس في المتوسط، كلهم أكاديميين، ونص الأكاديميين دول طلبة أجانب بيحضروا رسائل ماجستير ودكتوراه. وبالتالي لو نصحت أصحابي الروائيين إنهم يروحوا دار الوثائق علشان المادة اللي بيدوّروا عليها موجودة هناك، هأكون بأحكم على مشاريعهم بالفشل، لإن الدار، عمليا، قافلة أبوابها قدامهم ومش بتعمل أي حاجة علشان تشجعهم على التردد عليها أو الاستفادة من مجموعتها الوثائقية الفريدة.
لكن المشكلة كمان تتعلق بمفهوم التاريخ اللي سنوات التعليم المدرسي بتوّصله للتلامذة على مدار أجيال عديدة مش جيل واحد بس. فزي ما كلنا عارفين، مناهج التاريخ المدرسية بتؤسس لمفهوم قاصر جدا عن التاريخ، فهو عبارة عن مجموعة من الأسماء والتواريخ اللي لازم حفظها علشان التلميذ يجاوب الإجابة الصح عن سؤال "علل لما يأتي" اللي هاييجي في امتحان آخر السنة. فكرة إن التلميذ ممكن يكون عنده أسباب تانية غير الثلاثة اللي كتاب الوزارة محددهم كأسباب الحملة الفرنسية على مصر، فكرة مش مطروحة أصلا.
النظرة السطحية دي مش قاصرة على المدارس وبس، إنما منتشرة في أقسام التاريخ في جامعاتنا. رسائلنا الجامعية، من ماجستير لدكتوراه، محكومة بفكرة أساسية وهي إن موضوع الرسالة لازم يكون ماحدش تناوله قبل كده، لأن مش مطروح أصلا إن الطالب يقدم رؤية جديدة لموضوع قديم. ده حتى الطالب مش المفروض يكون عنده رؤية نقدية في الموضوع بتاعه من باب الأصل.
أنا أتذكر لما بدأت شغلي في الدكتوراه من أكثر من عشرين سنة، وبدأت أتردد على دار الوثائق لجمع المادة العلمية الضرورية للرسالة من هناك واحد من الزملاء اللي كان شغال على رسالته استفسر مني عن موضوع رسالتي، فقلت له إني بأحضر رسالة عن جيش محمد علي، فرد وقال "الدكتور السروجي له كتاب في الموضوع ده كتبه في الستينات، انت ما قرأتهوش ولا إيه؟"، فرديت وقلت له إني طبعا قرأته لكن أنا بأتناول الموضوع بتاعي من زاوية ثانية. فبص لي بإشفاق وغالبا كان بيفكر إني ضحية مشرف مش مالك الموضوع كويس وما نبهنيش إن موضوع رسالتي متاخد واتعمل قبل كده.
ومن تبعات النظرة السطحية للتاريخ دي الغياب شبه التام لطريقة في الكتابة كانت، في يوم ما، شائعة عندنا، أقصد كتابة السير والتراجم. أي حد شغال على تاريخ مصر في العصور الإسلامية من الفتح العربي للعصر العثماني عارف أهمية كتب السيرة دي، فبجانب الحوليات (زي حوليات ابن إياس والمقريزي) تعتبر "الطبقات" (وده كان أحيانا اللفظ المستخدم لكتب السير والتراجم) من أهم المصادراللي بنرجع لها لفهم الحقب اللي بندرسها، لأن كتب الطبقات دي بتقدم لينا قصص حياة مشاهير العصر ورجالاته العظام، ونسائه كمان. ففي طبقات للعلماء والفقهاء، وطبقات للملوك والأمراء، وطبقات للشعراء، وطبقات للأولياء، وطبقات للنساء، وطبقات للشيعة، وطبقات للشافعية، إلخ.
لكن الملاحظ إن من بعد الجبرتي (اللي كتابه، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، زي ما واضح من عنوانه هو كتاب عن التاريخ والسير في نفس الوقت) الفن ده، فن كتابة السير والتراجم، تقريبا انتهي. وبالمقارنة مش بس مع ماضينا الحافل بكتب الطبقات ولكن برضه بازدهار الفن ده، فن الـ biography، في الغرب فاحنا قدام ظاهرة غاية في الغرابة. فمثلا، وزي ما وضحت، كل سنتين أو ثلاثة سنين بتتنشر سيرة جديدة عن تشيرشل. نفس الكلام ينطبق على لينكولن وواشنطن وهتلر وستالين إلخ. الكتب دي بتختلف عن بعضها البعض، وكل كتاب بيدعي إنه بيقدم رؤية جديدة غالبا مبنية على مادة أرشيفية جديدة. مثلا سنة ١٩٨٣ صدر كتاب عن موسوليني كتبه مؤرخ إنجليزي. الكتاب معتمد على مادة أولية غنية جدا لدرجة إن قائمة المراجع (الأولية والثانوية) تشمل ألف مرجع من مذكرات، لسير، لجرائد، لمقالات، لدراسات أكاديمية. مثال ثاني: أنا لسه مخلص قراءة سيرة عن روبسبيير، الزعيم الشهير للثورة الفرنسية. من مقدمة الكتاب اكتشفت إن في أثناء الـ ٢٢٠ سنة اللي انقضت من وقت ما مات روبسبير لحد النهارده ظهرت أكثر من ١٠٠ سيرة عنه (أساسا بالفرنساوي والإنجليزي).
بالمقارنة، احنا ما عندناش ولا سيرة موثقة عن جمال عبدالناصر. طبعا عندنا مئات وآلاف الكتب عن عبد الناصر، ولكن ما عندناش ولا سيرة واحدة علمية عنه. اللي موجود كتب هجاء أو مديح، ذكريات ومذكرات، مجموعات مقالات، دراسات عن مصر أثناء حكمه، دراسات عن سياساته وتوجهاته، إلخ. لكن ما فيش دراسة عن شخصيته: طفولته، مراهقته، دراسته، حياته الخاصة، توجهاته الأيدولوجية والسياسية، حياته العامة، هواجسه، مخاوفه، أهدافه، إلخ. ما عندناش سيرة علمية واحدة عن جمال عبدالناصر، اللي ممكن اعتباره بسهولة أهم شخصية عربية في القرن العشرين.
يا ترى إيه سبب الظاهرة الغريبة دي؟ إيه سبب الإحجام عن كتابة السير العلمية عن الشخصيات المهمة اللي أثّرت في حياتنا وشكلت تاريخنا؟ أنا لي تجربة في كتابة سيرة قصيرة عن محمد علي (بتترجم للعربي اليومين دول)، ومن واقع التجرية دي أقدر أقترح سبب للظاهرة الغريبة دي. في كتابة سيرتي عن محمد علي اعتمدت على كل الكتب السابقة اللي اتكتبت عن الشخصية المهمة دي، وقريت اللي كتبه عنه الرحالة الأجانب اللي قابلوه، وقريت طبعا الأوامر والقوانين اللي أصدرها واللي اتطبعت. لكن أهم مصدر اعتمدت عليه هو مئات، إن ما كنش آلاف، الوثائق غير المنشورة المحفوظة في دار الوثائق من جواباته لأولاده، لأوامره لمرؤسيه، لخطاباته للباب العالي في الآستانة، لتعليماته لأعضاء نخبته وأعوانه، لمراسلاته للقناصل الأجانب. المادة دي هي اللي مكنتني من الاقتراب من شخصيته، وخلليتني أقدر "أسمعه" وأشوف الدنيا من خلال عينيه هو، وفهمتني جوانب من شخصيته كانت غايبة عني. بالمقارنة، أنا لو حبيت أكتب سيرة مماثلة عن عبدالناصر، مش هأعرف بالرغم من قرب العهد بيه نسبيا، وده لسبب بسيط: دار الوثائق القومية ما عندهاش أي وثائق ذات قيمة عن عبدالناصر.إحنا لسه ما اتسمحش لينا بالاطلاع على وثائق الرئاسة أو مجلس الوزراء أو مجلس قيادة الثورة أو وزارة الحربية اللي عبدالناصر كتبها أو وقع عليها، وبالتالي كل الجزء المتعلق بحياته العامة اللي ممكن ندرسه معتمد على خطبه العامة، وكلام الجرايد، والمذكرات المنشورة .ودي بالطبع كلها مهمة، ولكنها في رأيي لا تُغني عن الوثائق الرسمية اللي بتلقي الضوء على اللي كان بيتقال ورا الكواليس، مش الخطب الرنانة اللي كانت بتلقى من على خشبة المسرح.
***
مشكلة الكتابة التاريخية عندنا سببها مش إن ما عندناش مؤرخين ممتازين (المؤتمر السنوي للجمعية التاريخية المصرية أكبر دليل على إن البلد مليانة مؤرخين ممتازين)، ولا هي نتيجة إن الناس ما بتقبلش على التاريخ (أظن إن المصريين مولعيين بالتاريخ ومهتمين بيه)، ولا هي نتيجة إن ما عندناش أدباء وكتّاب مهتمين بالتاريخ كموضوع لأعمالهم الأدبية والفنية (وخير دليل على ده هو عدد المسلسلات التليفزيونية التاريخية). المشكلة، في الحقيقة، سياسية ومؤسسية. فمدارسنا باهتمامها بحشو أمخاخ الطلبة بمعلومات ملهاش معنى بتقتل عندهم ملَكة التفكير النقدي، وبتركيزها على حفظ التواريخ وأسماء الحقب والشخصيات العظيمة بتكرّه الطلبة في التاريخ؛ والجامعات طول ما هدفها الأساسي الزج بآلاف الخريجين لسوق العمل بمهارات متواضعة وطول ما هي مش مهتمة بإنتاج معرفة تاريخية جديدة، طول ما المؤرخين الموهوبين هينتجوا أعمالهم لكن خارج إطار الجامعة وبعد ما يتخلصوا من التعليم الجامعي الفاشل اللي تلقوه؛ والمتاحف بتقليص دورها في تخزين التحف والأنتيكات وبالامتناع عن تثقيف الجمهور وإمتاعه أو تقديم خدمات رفيعة ومتطورة له بتحكم على نفسها بالموت الحقيقي، موت ما بينقذهاش منه إلا شوية السياح الأجانب اللي مستعدين يدفعوا الثمين والغالي علشان يتفرجوا على المقتنيات الفريدة؛ ودار الوثائق القومية، المستودع الرسمي والأساسي لوثائقنا التاريخية، طول ما هي بتبدّي المحاذير الأمنية على حساب مبدأ الحق في المعرفة، هتفضل مخزن للورق القديم مش مكان لإنتاج معرفة تاريخية؛ والصحافة والتليفزيون، اللي شايفين إن دورهم يقتصر على تضييع وقت المشاهدين وإلهائهم، أو الحفاظ على ثوابت الأمة ومقدساتها، أو توجيه الرأي العام وإرشاده، بتساهم في تعميق المشكلة وبتفوّت على نفسها فرصة تأسيس فهم حقيقي للمواطنين عن تاريخ بلدهم وتعميق انتمائهم ليه.
***
احنا أصحاب تاريخ طويل ومشرف، وعندنا تحف وآثار بيحسدنا عليها القاصي والداني، وعندنا وثائق ومخطوطات قديمة بالملايين، وأهم من ده وده، الناس في بلدنا عندها إقبال حقيقي على التاريخ. فحرام إن سياساتنا التعليمية والثقافية والإعلامية تتآمر علينا بالشكل ده وتبذل كل الجهد ده علشان تقتل التاريخ في بلد هو أصل التاريخ ومهده.
هذا المقال ضمن سلسلة مقالات يكتبها خالد فهمي لـ«مدى مصر» تحت عنوان "خواطر بالعامية".
http://www.madamasr.com/ar/content/%D...
بمناسبة رمضان، خواطر خالد فهمي اللي بيكتبها في مدى مصر تعتبر نموذجية لهذه الأجواء. هي مقالات مهمة وغزيرة المعلومات وتحض على التفكير ، لكنها مكتوبة بأسلوب مسلي يشبه الحواديت التي أصبحنا نفتقدها. اللي يعرف خالد (وهو صديق عزيز جدا) هيعرف إن خالد بيحكي كده في أحاديثه العادية لأصدقائه ومعارفه، بنفس السلاسة اللي تخليهم يحبوا يستزيدوا من علمه الغزير وأسلوبه الرائع والراقي في الكتابة (باللغتين) وفي الحكي كذلك. خالد مولع بالأدب جدا زي ما هو مولع بالتاريخ وزي ما هو مولع بمحمد على. هذا الولع يظهر على طريقته شبه الأدبية ،ومع ذلك، هي كتابة أكاديمية جادة في نفس الوقت، سواء في كتاباته في التاريخ عموما أو في تاريخ الباشا تحديدا.
(2)
قال فالتر بنيامين أن واجب المفكر اليساري ليس ركوب قطار التاريخ بل تشغيل المكابح. وبالتالي سوف يكون من الأفضل من التغني بعظمة ونستون تشرشل أو من الانبهار بذكرى انزال نورماندي.. هو أن نقوم بتشغيل المكابح النقدية حول كل تلك المسلمات والبديهيات. أحيانا ما نظن أن شخصا ما هو أفضل الأشخاص في العالم، ثم تكون صدمتنا في خطأ ما وقع منه صدمة عظيمة؛ ويتبعها رد فعل عظيم. فمثلا ما يطلق عليه البعض "خيانة" السادات وتوقيعه لاتفاقية سلام مع إسرائيل لم يكن خيانة سوى لمجموعة من الافتراضات عما يجب أن يكون عليه موقفه، وهذه الافتراضات لا تقوم على أي أساس واقعي بالنظر إلى الموقع السياسي والاجتماعي للسلطة الحاكمة في هذه اللحظة. وبالتالي فإن العلم والتحليل العلمي سوف يهتم بتفسير: لماذا فعل السادات هذا الفعل؟ المشكلة هنا إننا احنا اللي عملنا "البديهية" دي من موقعنا البعيد تماما عن موقع الفعل اللي بنحاول نفهمه. إن التفكير النقدي ليس أبدا بغرض هدم نموذج تشرشل (ولا لتبرير السادات طبعا)، بل بغرض فهمه بشكل أعمق، أو بعبارة خالد في مقاله الممتع: "إن الاختلاف حول الحكم عليه علامة صحية في المجتمع بشكل عام، بل من أهم العوامل اللي هتضمن لتشيرشل الخلود". وبالتالي فإن مهمة التحليل العلمي ليست القدح أو الذم (ده ممكن يستخدم في معركة سياسية مثلا) ولا الصح ولا الغلط، وفي هذا السياق فإن كتابة تاريخ شخصية ما يجب أن تنطلق من غرض الفهم بالأساس لهذه الشخصية وكل مواقفها وفي سياقها التاريخي. خالد فهمي عنده كتاب مهم عن جيش محمد على وكتاب تاني عن سيرة محمد على، بينطلق فيهم لا من تمجيد الباشا ولا من إدانته.. فقط محاولة بناء تفسير متماسك عن تاريخه.
**المقال**
من أسبوعين رُحت جامعة أوكسفورد علشان ألقي محاضرة "جورج أنطونيوس السنوية" في قسم دراسات الشرق الأوسط التابع لكلية سانت أنطوني. بعد المحاضرة المنظمين دعوني على الـ"هاي تابل"، وده عبارة عن عشا بس فخم حبّتين: بعد تلاوة صلاة باللاتيني يبدأ العشا بوجباته الثلاثة، وبعدين ينتقل المدعوين لقاعة تانية علشان الحلو والجبنة، وبعد الحلو والجبنة يروحوا لقاعة ثالثة علشان القهوة والشاي. والغرض من تغيير القاعات إن المدعوين يغيروا الناس اللي قاعدين جنبهم ويتبادلوا أطراف أحاديث جديدة.
لما كنت طالب في أوكسفورد من خمسة وعشرين سنة كنت بارتاب من فكرة "الهاي تابل"، وباعتبرها طقس سخيف من طقوس الجامعة العتيقة دي. وفي المرات القليلة اللي كنت بآكل فيها في الكلية، كنت باستغرب من شكل الأساتذة والضيوف وهم بيصلوا باللاتيني ولابسين الزعابيط السودة العبيطة، وكل ده علشان وجبة الأكل فيها في الغالب مالوش طعم.
وبالتالي لما لقيت نفسي مدعو على الـ"هاي تابل" قلت في نفسي: "استعنا على الشقا بالله. أهي كلها ساعتين زمن، وأخلص وبعدين أروح أتعشى مع أصحابي وآكل أكل بجد".
لكن كل حاجة في الليلة دي جت عكس توقعاتي.
الصلاة في أول العشا كانت من كلمتين بس: Benedictus, benedicat. وبالتالي ماكنتش مضطر أسمع كلام طويل بلغة مش فاهمها. والأهم إني اكتشفت إن اللي كانت بتتلو الصلاة كانت مارجريت ماكميلان، ودي أستاذة مشهورة، باحب شغلها كله وخصوصا كتابها الرائع عن مؤتمر الصلح الشهير اللي انعقد في باريس سنة ١٩١٩.
واندهشت أكثر لما لقيت إن الأكل كان على مستوى عالي جدا ومش سلق بيض وخلاص.
لكن أهم مفاجأة كانت الراجل اللي قاعد جنبي. كان في سني تقريبا وشكله تايه. لما ابتدينا نتكلم فهمت منه إن مُضيفه اللي دعاه على العشا ماجاش من الأصل، ووقتها أدركت إني لازم أبذل مجهود مضاعف في الكلام معاه لإنه معندوش حد تاني يكلمه على العشا. ومفيش دقيقتين واكتشفت إن الشخص ده لُقطة، وإن الحديث معاه هيكون ممتع.
الراجل اسمه آدم سيسمان، وأنا من جهلي ما كنتش أعرفه ولا سمعت عنه. سألته عن شغله، فقال بتواضع إنه كاتب، وتحديدا إنه متخصص في كتابة السير الذاتية، وإنه اليومين دول بيكتب سيرة عن جون لي كاريه John le Carre ، وده واحد من أهم وأشهر كتاب القصص البوليسية في انجلترا (جورج أورويل عنده رؤية خاصة جدا لولع الإنجليز بالرواية البوليسية). سألته: "مش غريبة شويتين إن الواحد يكتب سيرة عن مؤلف لسه ما ماتش، يعني لسه حي يرزق؟" فقال لي إن هو ده بالظبط موضوع المحاضرة اللي كان بيلقيها يومها الصبح في الجامعة.
سألته عن السيَر اللي كتبها في السابق، فقال لي إنه كتب سيرة عن هيو تريفر-روبر Hugh Trevor-Roper وسيرة تانية عن إيه جيه بي تايلور،A. J. P. Taylor ودول اثنين من أهم وأشهر المؤرخين الإنجليز في القرن العشرين. قلت له إني قريت كتاب تايلور عن أصول الحرب العالمية التانية اللي صدر سنة ١٩٦١ وعلى دراية بالنقاش الحامي اللي الكتاب أثاره وقتها. وقلت له إني عمري ما اقتنعت بتحليل تايلور اللي قال فيه إن هتلر ما كانش ناوي على غزو أوروبا، وإن التوسع الألماني ما كانش وراه أسباب أيدولوجية إنما كان نتيجة سيطرة السياسة الخارجية الألمانية على السياسة الداخلية، وإن هتلر في المقام الأخير ما كانش يفرق عن غيره من الساسة الألمان زي جوستاف ستريسمان، وزير الخارجية في جمهورية فايمار اللي حصل على جايزة نوبل للسلام سنة ١٩٢٦.
سيسمان رد وقال إنه تناول الموضوع ده بإسهاب في ترجمته لتايلور، وإنه شرح بالتفصيل الاعتراضات اللي الكتاب أثارها، واللي كان من أهمها العرض النقدي اللاذع اللي كتبه زميله في الجامعة تريفر-روبر. السجال بين تايلور وتريفر-روبر من أمتع السجالات الأكاديمية على الإطلاق، ومن الطريف في الموضوع إن الخلاف بين الراجلين ما كانش منحصر في أروقة الجامعة وبيدور على صفحات الدوريات الأكاديمية، بس كان موضوع اهتم بيه الرأي العام وتابعه بشغف على مدار مش بس شهور وإنما سنين طويلة. سيسمان وضّح لي إن الخناقة بين الراجلين انتقلت لشاشات التليفزيون، فبعد شهور قليلة من نشر الكتاب، وتحديدا في يوم ٩ يوليو ١٩٦١، استضاف المذيع والمقدم المشهور روبرت كي Robert Kee الراجلين في برنامجه التليفزيوني المذاع على البي بي سي.
ولما شافني سيسمان مهتم بحديثه، زاد واستطرد عن كتابه التاني عن تريفر-روبر، وقعد يوصف لي تفاصيل نفس السجال ده بس من وجهة نظر غريم تايلور وزميله في الكار. وشرح لي سيسمان إزاي اتأثر تريفر-روبر لما تايلور قال، في إحدى مناظراتهم، إن طريقة تريفر-روبر في عرض أفكار تايلور: "هتأثر بالسلب على سمعة تريفر-روبر الأكاديمية، ده لو كان عنده سمعة أكاديمية من الأصل". آي.
سيسمان برضه شرح لي إزاي إنه تناول في سيرته لتريفر-روبر الفضيحة العلمية اللي وقع فيها في أواخر حياته، والفضيحة دي، بالصدفة كنت أنا بتابعها لما حصلت سنة ١٩٨٣، وبالتالي ما كنتش قاعد زي الأطرش في الزفة مش فاهم حاجة من اللي سيسمان بيتكلم عنها. الفضيحة كانت بتدور حوالين ادعاء صحيفة الصنداي تايمز إنها حصلت على مذكرات هتلر المكتوبة بخط ايده، وإنها هتبدأ في نشرها على حلقات. وقتها مؤرخين كثار شككوا في حقيقة المذكرات دي وزعموا إنها مزورة. فالصحيفة راحت لتريفر-روبر وطلبت منه إنه يتحقق من صحة المذكرات، وده لأنه متخصص في التاريخ الألماني ولأنه كان كتب كتابه الأشهر بعنوان "أيام هتلر الأخيرة" سنة ١٩٤٧ لنفي المزاعم السوفييتية وقتها إن هتلر كان لسه حي يرزق. فبناء على خبرته في الموضوع، قِبل تريفر-روبر إنه يفحص المذكرات وطلع على الناس بعدها وقال إنها أصلية مش مزيفة، وبناء عليه بدأت الصحيفة تنشر المذكرات. ومافيش كام يوم وطلع مؤرخين تانيين ليثبتوا بشكل قطعي إن المذكرات مزيفة وإن تريفر -روبر خانه التوفيق. ومن وقتها سمعة الأستاذ الكبير اهتزت وفقد كثير من احترام الناس ليه.
ولكن من أطرف الحاجات اللي حكاها لي سيسمان في حديثه الشيق إنه بعد سنين طويلة من المناظرة الشهيرة بين العملاقين دول، وتحديدا بعد ٤٩ سنة، جرت مناظرة تانية بينهم، لكن المرة دي بعد ما ماتوا الاتنين!! ففي سنة٢٠١٠ قرر إدوارد ستورتون، وهو مقدم برامج في البي بي سي على درجة عالية جدا من العلم والثقافة، إعادة المناظرة لكن المرة دي بالتمثيل. فاستضاف صديقنا سيسمان ومؤرخ تاني مشهور، علشان يعيدوا طرح الخلاف القديم بين تايلور وتريفر-روبر ده على الجمهور بتاع القناة الرابعة الإذاعية للبي بي سي.
اللي خلاني مندهش أكثر من القصة دي إني أنا شخصيا كان ليا واقعتين مع ستورتون. فبعد الثورة بكام أسبوع ستورتون جه مصر علشان يسجل برنامج إذاعي عن الدين والثورة وطلب يقابلني علشان نعمل حديث سوا. معد البرنامج طلب مني إننا نتقابل في القلعة علشان نسجل هناك. وبالفعل صحيت بدري يوم جمعة في شهر مارس ٢٠١١ ورحت القلعة علشان أسجل واحنا بنتفرج على المنظر الجميل للقاهرة الممتدة قدامنا. الحقيقة أنا كنت مستغرب شوية علشان كنت فاكر إن التسجيل للإذاعة مش التليفزيون. لما استفسرت قال لي المعد إن ظني في محله، ولكنهم، وللأمانة العلمية، عاوزين صوت القاهرة يطلع في التسجيل وعاوزين مني إني اتكلم عن تاريخ المدينة كحاضنة للفكر والفن الإسلامي وأنا واقف من فوق القلعة. التسجيل يدوبك بدأ وعرفت أقول الكلمتين اللي ربنا فتح عليّ بيهم، وإذ بعسكري شرطة انقض علينا وسألنا عن تصريح الأمن. حاولت أوضح إن ده مش تسجيل كاميرا، وإنه للإذاعة بس، لكنه صمم على التصريح. بعد مفاوضات مضنية اتطردنا من القلعة كلها مع القول إننا لو فاكرين إن البلد سايبه بعد الثورة فنبقى غلطانين. المهم نزلنا لميدان صلاح الدين في سفح القلعة وكملنا التسجيل والحلقة اتذاعت.
المرة التانية اللي اتعاملت فيها مع ستورتون كانت بعدها بسنة وتحديدا في أوائل يونية ٢٠١٢. كنا على أبواب الانتخابات الرئاسية، وكانت الثورة في ليبيا وسوريا لسه في أولها، وقرر ستورتون يعمل برنامج تاني عن ثورات الربيع العربي يتساءل فيه عما إذا كانت المجتمعات العربية جاهزة للانتخابات. بصراحة أنا ما كنتش مبسوط من السؤال علشان نبرته الاستشراقية (اللي للأسف حكامنا بيرددوه: الشعوب العربية كالأطفال، لسه صغيرين ع الديمقراطية)، لكني قررت في النهاية إني أثق في الراجل بناء على المستوى العلمي العالي جدا اللي شفته منه في المرة السابقة. وفي النهاية رحت ستوديو البي بي سي في الزمالك علشان أسجل من هناك. ستورتون كان في لندن وبيكلمني من الاستوديو هناك، وكان من شطارته وذكائه إنه خلاني أقول حاجات وأعبر عن أفكار أنا نفسي ما كنتش عارف إنها ممكن تطلع مني، ودي طبعا من علامات المذيع الشاطر: يعرف إزاي يخلي الضيف يفكر بصوت عالي دون تدخل ثقيل منه، ودون ما يستحوذ هو على البرنامج. وإذ فجأة لقيت نفسي بأقول كلام فلسفي ما كنتش فاكر إني ممكن أقوله.
استمتاعي بقصة سيسمان عن لقائه بستورتون لإعادة تمثيل السجال بين تايلور وتريفر-روبر كان له سبب آخر، وهو الضيف التاني اللي وقف قدامه في التمثيلية الإذاعية التاريخية دي. الشخص التاني ده هو ريتشارد إيفانس، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبريدج. إيفانس أنا برضه متابعه من زمان ومتابع شغله عن الكوليرا في هامبورج في القرن التسعتاشر، وعن دوره كشاهد نفي في القضية الشهيرة اللي رفعها دافيد إيرفنج على المؤرخة الأمريكية ديبورا ليبستات اللي اتهمته بإنكار الهولوكوست. وفي واحدة من مقالاتي في الشروق كنت كتبت عنه وعن ثلاثيته الرائعة عن الرايخ الثالث. وبالتالي كنت شغوف اسمع من سيسمان تفاصيل الحلقة دي مع إيفانس وإزاي عرف ستورتون يديرها ويحاور المؤرخين الاتنين دول اللي بيمثلوا دور مؤرخين اتنين تانيين اختلفوا حول الأصول التاريخية للحرب العالمية التانية.
طبعا مصدر اندهاشي الأساسي إني مش مصدق إن الجمهور العام بتاع الإذاعة ممكن يهتم بسجال شكله أكاديمي صِرف، وإن مؤسسة ضخمة زي البي بي سي ممكن تضيع فلوسها ووقت موظفينها على موضوع ضيق زي ده، مش مرة واحدة لكن مرتين.
والحقيقة إن طول إقامتي في أوكسفورد على مدار أسبوع كامل الشهر اللي فات اكتشفت إزاي التاريخ حاضر وبقوة في السجالات العامة وفي الوعي العام وفي المجال العام. يمكن علشان السنة دي، ٢٠١٤، هي الذكرى المئوية الأولي لاندلاع الحرب العالمية الأولي، والذكرى السبعين لإنزال قوات الحلفاء في نورماندي وبداية تحرير أوروبا من قبضة النازي، وبمناسبة الذكريتين دول المدينة، إن ما كانش البلد كلها، مليانة فعاليات، من مؤتمرات لمعارض لاحتفالات لمحاضرات لمسرحيات لبرامج تليفزيونية وإذاعية.
الشيء المبهر في هذا الاهتمام بالتاريخ مش بس حجمه ولكن نوعه. فالناس العادية بتُقبل على التاريخ كسجال مش كحقيقة ثابتة. من علامات المدخل النقدي ده للتاريخ قدرة المجتمع الإنجليزي على طرح أسئلة صعبة ومحرجة على لحظات فارقة وشخصيات محورية في تاريخهم. فمثلا كل سنتين في المتوسط بيتنشر كتاب جديد عن تشيرشل. الكتب دي في الأغلب بتكون مبنية على معلومات ومادة وثائقية جديدة متاحة مش بس للأكاديميين ولكن لغير الأكاديميين كمان (زي صديقنا سيسمان). ولكن المهم برضه هو إن الكتب دي بتطرح رؤية جديدة عن مواضيع قديمة وكثير بتتساءل عن أشياء ممكن تكون من المسلمات.
ومن أمثلة الكتب النقدية دي اللي بتتناول "رموز الأمة" بالنقد والتجريح كتاب لأستاذ جامعي (رئيس قسم التاريخ في جامعة إيست أنجليا) اسمه جون تشارملي John Charmley. الكتاب اسمه " تشيرشل: نهاية المجد، سيرة سياسية"
Churchill: End of Glory, A Political Biography. الكتاب صدر سنة ١٩٩٢، وحكم فيه المؤلف على تشيرشل بالفشل لأنه ما عرفش يحقق الأهداف الثلاثة اللي وعد الشعب البريطاني إنه حيدخل الحرب ضد ألمانيا علشان يحققها: ١. الحفاظ على الإمبراطورية، ٢. منع صعود اليسار العمالي داخل بريطانيا، ٣. منع صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى. الكتاب قوي في حجته وفي عرضه لموضوعاته. ولكن مصدر قوته هو المادة الأرشيفية الجديدة المتمثلة في محاضر اجتماعات مجلس الوزراء ومناقشات البرلمان ولجانه اللي تشارملي مقق عينيه فيها وعرف يلخصها ويعرضها للقارئ بوضوح وقوة.
كتاب تشارملي بالرغم من المادة الجديدة اللي معتمد عليها ما سلمش من النقد، والنقد اللاذع كمان. وكان من أهم النقاد صديقنا إيفانس اللي كتب يفند آراء تشارملي ويدحضها ويوضح إنه منطلق من أرضية أيدولوجية أملت عليه أفكاره ووجهت نتايجه. إيفانس في كتاب ليه عن كيفية قراءة تاريخ ألمانيا الحديث، قال إن كلام تشارملي عن تضييع تشيرشل لفرصة صلح منفرد مع هتلر تقدر بيه بريطانيا إنها تحتفظ بمستعمراتها – الكلام ده كلام فارغ وغير منطقي، ببساطة لإن القدرة القتالية لبريطانيا سنة ١٩٤٠ ما كانتش تسمح لها بالاحتفاظ بإمبراطوريتها حتى لو سحبت قواتها من أوروبا وتوصلت لصلح منفرد مع هتلر.
لكن اللافت في الموضوع هو إن شخصية بعظمة تشيرشل ما بتسلمش من النقد والنقد اللاذع كمان. ده بالرغم من إن تشيرشل زعيم منتصر، وانتصاره ما كانش انتصار بسيط ولا سهل. وشخصية تشيرشل العملاقة وخطبه الطنانة وكتاباته البليغة اللي نال بسببها نوبل للأدب – كل ده ما منعش تشارملي من كتابة سيرة نقدية لاذعة ومن إنه يطلق أحكامه القاسية عليه. لكن المهم برضه في الموضوع هو إن الناس بتستقبل النقد ده بارتياح بل بتنتظره وتقبل عليه، لأنها مدركة في النهاية إن من علامات عظمة تشيرشل الاختلاف عليه مش تقديسه، وإن الاختلاف حول الحكم عليه علامة صحية في المجتمع بشكل عام، بل من أهم العوامل اللي هتضمن لتشيرشل الخلود. وبالتالي فالاعتراضات اللي وُجهت لتشارملي (عن حق، في رأيي) كانت إنه يميني ومحافظ وعنصري واستعماري. لكن مفيش حد طلع يقول عنه إنه عميل، أو إنه حقود، أو إنه غير وطني.
نفس الكلام ينطبق على "الأحداث العظيمة" مش بس "الشخصيات العظيمة". فبمناسبة الذكرى السبعين لإنزال نورماندي (٦ يونيو ١٩٤٤) الجرايد والمجلات ومحطات التليفزيون والراديو اتملت ببرامج ومقالات تحتفل بالمعركة دي، اللي الواحد كان فاكر إنها من أنجح وأعظم معارك الحرب كلها وبالتالي فهي فوق النقد. لكن ده ما منعش الناس، متخصصين وغير متخصصين، من إنهم يسألوا أسئلة صعبة ومحرجة عنها: هل صحيح إن الجيش الثاني البريطاني كان بطيء في تقدمه من ساحل نورماندي، اللي تم فيه الإنزال، للداخل؟ هل صحيح إن البطء ده كان سببه إنهاك الجنود البريطانيين وتعبهم بعد سنوات طويلة من المعارك والحروب؟ هل صحيح إن الفرقة المدرعة السابعة (المعروفة بـ"جرذان الصحراء") فشلت في الاستفادة من الثغرة بين فرق الـ"بانتزر" (الدبابات) وقوات المشاة الألمانية، وهو الأمر اللي تسبب بحلول يوم ١٣ يونيو (يعني بعد الإنزال بأسبوع) في خسائر غير مبررة في العتاد والأرواح (البريطانيين خسروا من ٢٣ لـ٢٧ دبابة يوم ١٣ يونيو مقابل ١٣ لـ ١٥ دبابة للألمان)؟ وباختصار، هل تسببت القيادة الميدانية البريطانية في خسائر كان ممكن تلافيها؟
برضه المبهر في الموضوع إن الأسئلة دي مش مطروحة على صفحات دوريات أكاديمية متخصصة أو في كتب من مئات الصفحات اللي ما بيقراهاش غير أساتذة الجامعة. السجال ده شغال في الإذاعة والتليفزيون، ومش بس كده: ده حتى البرامج الإعلامية دي بتبقى موضوع لعروض صحافية في جرائد ومجلات يومية. فواحد زي جايمس هولاند James Holland، وهو مؤرخ هاوي مش أستاذ جامعي، ممكن يعمل برنامج تليفزيوني بعنوان نورماندي ٤٤ (مش نورماندي تو) لمدة ساعة كاملة على بي بي سي تو يتناول فيه الموضوع ده ويطرح فيه الأسئلة دي. وفي نفس يوم عرض البرنامج تنشر التليجراف عرض نقدي ليه على صفحاتها.
أما في أدب الرواية التاريخية فحدث ولا حرج. يكفي إن الواحد يشير لثلاثية هيلاري مانتل عن أوليفر كرومويل وصعوده في بلاط هنري الثامن. الثلاثية دي ظهر منها جزءين لحد ده الوقت، كل جزء حصل على جايزة البوكر (الأولى في سنة ٢٠٠٩ والثانية سنة ٢٠١٢)، وبكده تكون هيلاري مانتل أول واحدة ست تحصل على الجايزة الرفيعة دي مرتين. وطبعا الناس قاعدة مترقبة صدور الجزء الثالث السنة اللي جاية. إنما المهم في الموضوع برضه إنه بالإضافة للمستوى الفنى العالي لروايات هيلاري مانتل، فالروايات دي مبنية على بحث تاريخي جبار – ومش بس بحث تاريخي في المصادر الثانوية، يعني في الكتب والمقالات المطبوعة، ولكن بحث تاريخي بدقة متناهية في المصادر الأولية من مخطوطات ووثائق وأوراق قديمة. ففي واحدة من مقابلاتها الصحافية قالت إن صحيح كتابة الجزء الأول البالغ ٤٠٠ صفحة استغرقتها خمسة أشهر (من مايو لسبتمبر ٢٠١١ كل يوم ١٢ ساعة كتابة)، لكن التحضير للكتابة استغرقها ٣٠ سنة قرأت فيهم كل الكتب عن كرومويل وكل الكتب عن الكتب وكل المصادر الأولية.
على الرغم من انبهاري بروايات هيلاري مانتل، إلا إني أحب أتوقف عند كاتب تاني بيكتب روايات تاريخية، وزي مانتل رواياته حققت نجاح مبهر سواء عند الجمهور أو عند النقاد. الكاتب ده اسمه روبرت هاريس وأنا لسه مخلص له الجزء الثاني من ثلاثيته، اللي برضه لسه ما اتنشرش الجزء الثالث منها، والمتعلقة بتاريخ سيسرو، أشهر خطيب وسياسي في روما القديمة. لما خلّصت الجزء الأول من الثلاثية، "إمبيريام"، كنت منبهر بسلاسة السرد وبدقة المعلومات التاريخية وبصدق اللغة. وبعدين قريت إن هاريس اعتمد في الكتابة على أعمال سيسرو الكاملة، من خطب ورسائل، المنشورة في ٢٩ مجلد!!
لكن بالرغم من إعجابي العميق بـ"إمبيريام" لازم اعترف إني لقيت روايته الأقدم، "فاذرلاند"، رواية عبقرية بجد. الرواية تاريخية ـ بس مش قوي، لأن التاريخ المبنية عليه مش التاريخ اللي حصل، ولكنه التاريخ اللي كان ممكن يحصل لو غيرنا تفصيلة واحدة في وقائع الماضي. والتفصيلة الصغيرة اللي هاريس قرر يغيرها تتعلق بالحرب العالمية الثانية: يحصل إيه لو تخيلنا إن الحلفاء فشلوا في نورماندي وإن هتلر انتصر في الحرب؟ (وبالمناسبة دي، الكتاب الأخير لريتشارد إيفانس بيتناول بالنقد اللاذع النوعية دي من الكتابات التاريخية اللي ظهرت أخيرا على إيد مؤرخين يمينيين، الكتابات اللي بتبدأ بسؤال افتراضي: "ماذا لو؟").
وقائع الرواية بتجرى في برلين بعد عشرين سنة من انتهاء الحرب، يعني في سنة ١٩٦٤. برلين ده الوقت عاصمة امبراطورية ضخمة اسمها "جيرمانيا" تشمل كل القارة الأوروبية بما فيها أراضي شاسعة من الاتحاد السوفييتي. بريطانيا بيحكمها الملك إدوارد الثامن وزوجته الملكة واليس (سيمبسون) بعد فرار جورج السادس وونستون تشيرشل لكندا، وده كان نتيجة نجاح الألمان في فك شفرة إنيجما، اللي كان الإنجليز بيستخدموها، وبالتالي عرفوا يجوّعوا بريطانيا بعد إغراق السفن اللي كانت بتمدها بالأكل والوقود من الولايات المتحدة. الولايات المتحدة انتصرت على اليابان بإلقاء قنبلة نووية عليها، لكن الألمان نجحوا في تفجير سلاحهم السري، في-٣ ، في سماء نيويورك. الألمان عرفوا يهزموا الجيش الأحمر في الشرق، ولكن الاتحاد السوفييتي لسه بيفرفر. وبالتالي الحرب انتهت بظهور ألمانيا والولايات المتحدة كقوتين عظمتين بينهم حرب باردة. وبعد عشرين سنة من الحرب الباردة دي، قرر الرئيس الأمريكي، جوزيف كينيدي (اللي كان سفير الولايات المتحدة في لندن وقت الحرب والموالي لألمانيا) انهاء الحرب الباردة دي وقام بزيارة رسمية لبرلين لبدء مرحلة جديدة من التعاون والصداقة والتقارب بين القوتين العظمتين، أمريكا وجيرمانيا. لكن في مشكلة صغيرة: الألمان حيعملوا إيه لما كينيدي يتساءل عن مصير يهود أوروبا اللي أبيدوا في الهولوكوست؟ وبالتالي الرواية كلها بتدور حوالين المؤامرة اللي بتُحاك للتخلص من كل من كان ليه دور في الهولوكوست. وتتوالى الأحداث، زي ما بيقولوا.
الرواية اتنشرت سنة ١٩٩٢ ومن يومها باعت ٣ ملايين نسخة واترجمت لأكثر من عشرين لغة واتعمل منها حلقات إذاعية وفيلم مدته ثلاث ساعات. في أحاديثه الصحافية هاريس قال إن كتابة الرواية دي استغرقت أربع سنين. والحقيقة الواحد شايف نتيجة الجهد ودقة البحث التاريخي في كل صفحة وكل تفصيلة في الرواية. الرواية "تاريخ متخيّل" صحيح، لكن التفاصيل التاريخية المتعلقة بفترة الستينات دقيقة من أول التفاصيل التكنولوجية (الطيارات النفاثة والغواصات النووية وحاملات الطائرات) لحد تفاصيل ماكينات القهوة والفوتوكوبي ومجفف الشعر. لكن أهم علامة على البحث المضني في الأرشيف هو تخيل هاريس لبرلين في الستينات في حالة انتصار هتلر. التفاصيل دي هاريس استقاها من مذكرات ألبرت شبير، المعماري الأول للرايخ الثالث، وخططه ورسوماته الهندسية وتخيله لبرلين بعد ما بقت "عاصمة العالم" Welthauptstadt وعرف "يبني" برلين كما تخيلها شبير ويستخدمها كمكان تدور فيه أحداث روايته.
***
إيه اللي بتقوله لنا الظاهرة دي، ظاهرة الشغف العميق بالتاريخ عند الإنجليز؟ أظن إن أول حاجة ملفتة، زي ما وضحت، هي إن الاهتمام ده مش أكاديمي مقعْوَر، إنما موضوع عام يهم العامة مش بس النخبة المثقفة. صحيح إن كتب زي كتب إيفانس وبرامج زي برامج القناة الرابعة الإذاعية للبي بي سي بتتوجه في الأساس لجمهور النخب المثقفة، لكن في المقابل عدد المجلات التاريخية اللي بتتباع في أكشاك الجرايد وعدد المعارض والفعاليات الفنية المفتوحة للجمهور والمتعلقة بالتاريخ وعدد الروايات الـ"بست سيلر" اللي بتتناول مواضيع تاريخية ملفت فعلا للنظر.
الحاجة الثانية الملفتة للنظر في هذا الاهتمام بالتاريخ هو الشغف بالسجال التاريخي، مش البحث عن الحقيقة التاريخية المطلقة. أنا عندي إحساس إن الناس في إنجلترا (وكمان في أمريكا وهي البلد التانية اللي لي خبرة في العيشة فيها) لما بيتفرجوا على مسلسل تاريخي أو لما بيشتروا كتاب تاريخي، حتى لو ما كانتش رواية تاريخية، فهم في الحقيقة مش مستنيين من المسلسل ده أو من الكتاب ده إنه يقول لهم "هو حصل إيه" على قد ما هم منتظرين يعرفوا رؤية المؤلف أو المخرج أو مصمم المعرض في الحدث التاريخي الفلاني. بمعنى آخر، الجمهور فاهم بالفعل إن التاريخ رواية يُختلف على قراءتها وعلى تفسيرها، مش يقين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الحاجة الثالثة المبهرة في الموضوع ده هو إن المقالات الصحافية والمسلسات التليفزيونية والبرامج الإذاعية والكتب الروائية اللي بتتناول مواضيع تاريخية مش بس بتقدم رؤية جديدة وبتطرح أسئلة جديدة إنما كمان بتكون مبنية على مادة أولية جديدة. والمادة الأولية دي ممكن تكون جوابات سيسرو المكتوبة باللاتيني، أو محاضر اجتماعات حكومة الحرب سنة ١٩٤٠، أو خطط ألبرت شبير عن برلين ورسوماته وجواباته. المادة الأولية دي محفوظة في مكتبات ودور وثائق مفتوحة للجميع ومش بس للأكاديميين. ومن أهم المؤسسات دي دار الوثائق القومية في كيو جاردنز خارج لندن. دار الوثائق دي فيها ملايين الوثائق من ورق وجرائد وصور وخرائط ومخطوطات تعود لمئات السنين. والمبهر في دار الوثائق دي إنها مفتوحة لأي من هب ودب، فموقع الدار على الإنترنت بيقول إنها "الأرشيف الرسمي لإنجلترا وويلز والمملكة المتحدة، وعندنا سجلات الأمة اللي تعود لأكثر من ألف سنة، والسجلات دي بنتيحها للجميع علشان يكتشفوها ويطلعوا عليها". الموقع برضه بيقول إن "فترة السرية كانت ثلاثين سنة، ولكن الحكومة قررت مؤخرا تقلل المدة دي لعشرين سنة"، بمعنى إن الوثائق الرسمية اللي عدى على كتابتها عشرين سنة أو أكثر تبقى متاحة للجميع للإطلاع والدراسة. أما شروط استخدام الدار فهي تقديم وسيلتين لإثبات الشخصية، واحدة لإثبات الإسم والثانية لإثبات العنوان. فقط لا غير.
الحاجة الرابعة إن المؤرخين دول، هواه وأكاديميين، ما بيترددوش فى إنهم يتناولوا بالنقد اللاذع الشخصيات العظيمة والأحداث العظيمة اللي بتشكل محطات مضيئة في تاريخ الأمة. فالمجتمع اللي مش قادر يفكر بشكل نقدي مجتمع خايف وضعيف ومعندوش قدرة حقيقية على مواجهة مشاكله، والمواطن اللي ما بيقدرش يفكر بشكل نقدي ما يقدرش، في الحقيقة، يواجه تحديات الحياة ولا يمارس حقوقه كمواطن بشكل سليم.
***
طبعا أنا بأقول الكلام ده وكلي حسرة على وضع التاريخ عندنا. يكفي الواحد يتفرج على المسلسلات التليفزيونية المصروف عليها ملايين الجنيهات علشان نكتشف حجم الكارثة. إيه مشكلة المسلسلات دي؟ أظن إن المشكلة مش بس إن المسلسل من دول مليان أخطاء تاريخية (من البديهي إن ده غلط ومش مقبول)، بس كمان إنه بيعكس فهم سطحي جدا للتاريخ. فالتاريخ مش أكثر من مجموعة من التواريخ والأسماء والشخصيات، والسيناريست أو كاتب القصة اللي مبني عليها المسلسل التاريخي، شايف إن أمانته العلمية تقتصر على إنه يجيب واحد بتاع تاريخ، ويا حبذا لو أستاذ جامعي، يراجع له المادة العلمية. المشكلة في رأيي إن الكاتب أو السيناريست مش مدّي نفسه الحق في إنه هو نفسه يكون باحث في التاريخ. فحتى لو بذل مجهود، فالمجهود ده بينحصر في قراءة بعض الكتب المطبوعة. وطبعا لو اقترحت على أي كاتب سيناريو، أو كاتب قصة إنه يعمل بحث تاريخي حقيقي، بمعنى إنه يروح دار الوثائق القومية مثلا علشان يدوّر فيها على مادة جديدة ممكن تساعده في روايته أو المسلسل بتاعه ممكن في الحالة دي يصدر أصوات من حلقه تعبيرا عن حنقه الشديد من اللي بأقوله.
والحقيقة إني ما أقدرش ألومه، لأن الموضوع في النهاية مش موضوع كسل من الكتّاب أو انعدام الاهتمام بالتاريخ من القرّاء. أظن إن إحنا المصريين عندنا ولع حقيقي بالتاريخ، ويكفي الواحد يشوف إقبال الناس على المسلسلات التاريخية (على سطحيتها وردائتها) وولعهم بكتب التاريخ اللي بتنزل السوق علشان يتأكد من الحقيقة دي. ولا المشكلة تكمن في انعدام المواهب أو قلتها، فالبلد مليانة مؤرخين ومؤلفين وكتّاب مبدعين. المشكلة الحقيقية مشكلة مؤسسات وسياسات تعليمية وثقافية وإعلامية.
فمثلا، أنا كل أسبوع بتجيلي مكالمات تليفونية ورسائل على الفسيبوك من شباب، وعواجيز، لهم مشروعات كتابة تاريخية وبيتساءلوا منين يجيبوا مادة جديدة تخدمهم. الأسبوع ده تحديدا وأنا بأكتب المقال ده تلقيت مكالمتين بيدوروا حول نفس الطلب. الأولى دارت كالآتي: "دكتور خالد، أنا باكتب رواية عن الست نفيسة البيضا زوجة مراد بيك زعيم المماليك أثناء الحملة الفرنسية. أنا طبعا قرأت الجبرتي ووصف مصر وكل اللي كتبوه علماء الحملة الفرنسية. إنما ما لقيتش كثير عن نفيسة البيضا. تنصحني بإيه؟"، السؤال الثاني كان كالآتي: "دكتور خالد، أنا قرأت كتابك كل رجال الباشا، ومهتم جدا بفترة محمد على. أنا بأكتب رواية تتعلق بجدة جدتي اللي أهلها هربوا لمصر مع الأسطول العثماني اللي سلم نفسه لمحمد على سنة ١٨٤٠. أنا محتاج شوية تفاصيل عن الموضوع ده علشان أعرف أكمل الرواية. تنصحني بإيه؟".
أنا الحقيقة عندي نصايح ممكن أدّيها للكتّاب دول، ولكنها نصايح صعبة التنفيذ. فأنا من واقع خبرتي في العمل في دار الوثائق القومية عارف إن الدار فيها كنوز ممكن تساعد الكاتبين دول. وتحديدا، أنا عارف إن الدار عندها وقفية الست نفيسة البيضا اللي ممكن تلقي ضوء مش بس على استثماراتها وممتلكاتها الكثيرة، ولكن عن أولوياتها في أعمال الخير وبالتالي ممكن نفهم منها نواحي كثيرة من شخصيتها. أما في موضوع الأسطول العثماني فالدار عندها مجموعة رائعة من المكاتبات بين محمد على ووكيله في الآستانة، محمد نجيب أفندي، وابنه وقائد قواته، إبراهيم باشا، وقائد الأسطول العثماني نفسه اللي هرب بالأسطول ورسي بيه في الإسكندرية، أحمد فوزي باشا. والمكاتبات دي ممكن الواحد ينسج منها واحدة من أكثر الروايات التاريخية متعة وتشويقا.
إنما المشكلة إن دار الوثائق القومية عندها شروط تعجيزية تمنع الناس، عمليا، من استخدامها. فالدار بتشترط الحصول على موافقة من "الأمن"، والموافقة دي بتكون على الموضوع وعلى الشخص اللي هيقوم بالبحث. وحتى بعد الحصول على الموافقة، (اللي أعدادها في النازل على مدار السنين اللي فاتت واللي ممكن تستغرق ثلاثة أشهر) فالموافقة مشروطة بالبحث في ثلاث وحدات أرشيفية بس (من ضمن أكثر من ٤٠٠ وحدة أرشيفية في الدار)، والنتيجة الطبيعية للقبضة الأمنية على دار الوثائق القومية، هو إن الدار اللي فيها ملايين الوثائق بيتردد عليها في اليوم الواحد حوالي عشرة أشخاص بس في المتوسط، كلهم أكاديميين، ونص الأكاديميين دول طلبة أجانب بيحضروا رسائل ماجستير ودكتوراه. وبالتالي لو نصحت أصحابي الروائيين إنهم يروحوا دار الوثائق علشان المادة اللي بيدوّروا عليها موجودة هناك، هأكون بأحكم على مشاريعهم بالفشل، لإن الدار، عمليا، قافلة أبوابها قدامهم ومش بتعمل أي حاجة علشان تشجعهم على التردد عليها أو الاستفادة من مجموعتها الوثائقية الفريدة.
لكن المشكلة كمان تتعلق بمفهوم التاريخ اللي سنوات التعليم المدرسي بتوّصله للتلامذة على مدار أجيال عديدة مش جيل واحد بس. فزي ما كلنا عارفين، مناهج التاريخ المدرسية بتؤسس لمفهوم قاصر جدا عن التاريخ، فهو عبارة عن مجموعة من الأسماء والتواريخ اللي لازم حفظها علشان التلميذ يجاوب الإجابة الصح عن سؤال "علل لما يأتي" اللي هاييجي في امتحان آخر السنة. فكرة إن التلميذ ممكن يكون عنده أسباب تانية غير الثلاثة اللي كتاب الوزارة محددهم كأسباب الحملة الفرنسية على مصر، فكرة مش مطروحة أصلا.
النظرة السطحية دي مش قاصرة على المدارس وبس، إنما منتشرة في أقسام التاريخ في جامعاتنا. رسائلنا الجامعية، من ماجستير لدكتوراه، محكومة بفكرة أساسية وهي إن موضوع الرسالة لازم يكون ماحدش تناوله قبل كده، لأن مش مطروح أصلا إن الطالب يقدم رؤية جديدة لموضوع قديم. ده حتى الطالب مش المفروض يكون عنده رؤية نقدية في الموضوع بتاعه من باب الأصل.
أنا أتذكر لما بدأت شغلي في الدكتوراه من أكثر من عشرين سنة، وبدأت أتردد على دار الوثائق لجمع المادة العلمية الضرورية للرسالة من هناك واحد من الزملاء اللي كان شغال على رسالته استفسر مني عن موضوع رسالتي، فقلت له إني بأحضر رسالة عن جيش محمد علي، فرد وقال "الدكتور السروجي له كتاب في الموضوع ده كتبه في الستينات، انت ما قرأتهوش ولا إيه؟"، فرديت وقلت له إني طبعا قرأته لكن أنا بأتناول الموضوع بتاعي من زاوية ثانية. فبص لي بإشفاق وغالبا كان بيفكر إني ضحية مشرف مش مالك الموضوع كويس وما نبهنيش إن موضوع رسالتي متاخد واتعمل قبل كده.
ومن تبعات النظرة السطحية للتاريخ دي الغياب شبه التام لطريقة في الكتابة كانت، في يوم ما، شائعة عندنا، أقصد كتابة السير والتراجم. أي حد شغال على تاريخ مصر في العصور الإسلامية من الفتح العربي للعصر العثماني عارف أهمية كتب السيرة دي، فبجانب الحوليات (زي حوليات ابن إياس والمقريزي) تعتبر "الطبقات" (وده كان أحيانا اللفظ المستخدم لكتب السير والتراجم) من أهم المصادراللي بنرجع لها لفهم الحقب اللي بندرسها، لأن كتب الطبقات دي بتقدم لينا قصص حياة مشاهير العصر ورجالاته العظام، ونسائه كمان. ففي طبقات للعلماء والفقهاء، وطبقات للملوك والأمراء، وطبقات للشعراء، وطبقات للأولياء، وطبقات للنساء، وطبقات للشيعة، وطبقات للشافعية، إلخ.
لكن الملاحظ إن من بعد الجبرتي (اللي كتابه، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، زي ما واضح من عنوانه هو كتاب عن التاريخ والسير في نفس الوقت) الفن ده، فن كتابة السير والتراجم، تقريبا انتهي. وبالمقارنة مش بس مع ماضينا الحافل بكتب الطبقات ولكن برضه بازدهار الفن ده، فن الـ biography، في الغرب فاحنا قدام ظاهرة غاية في الغرابة. فمثلا، وزي ما وضحت، كل سنتين أو ثلاثة سنين بتتنشر سيرة جديدة عن تشيرشل. نفس الكلام ينطبق على لينكولن وواشنطن وهتلر وستالين إلخ. الكتب دي بتختلف عن بعضها البعض، وكل كتاب بيدعي إنه بيقدم رؤية جديدة غالبا مبنية على مادة أرشيفية جديدة. مثلا سنة ١٩٨٣ صدر كتاب عن موسوليني كتبه مؤرخ إنجليزي. الكتاب معتمد على مادة أولية غنية جدا لدرجة إن قائمة المراجع (الأولية والثانوية) تشمل ألف مرجع من مذكرات، لسير، لجرائد، لمقالات، لدراسات أكاديمية. مثال ثاني: أنا لسه مخلص قراءة سيرة عن روبسبيير، الزعيم الشهير للثورة الفرنسية. من مقدمة الكتاب اكتشفت إن في أثناء الـ ٢٢٠ سنة اللي انقضت من وقت ما مات روبسبير لحد النهارده ظهرت أكثر من ١٠٠ سيرة عنه (أساسا بالفرنساوي والإنجليزي).
بالمقارنة، احنا ما عندناش ولا سيرة موثقة عن جمال عبدالناصر. طبعا عندنا مئات وآلاف الكتب عن عبد الناصر، ولكن ما عندناش ولا سيرة واحدة علمية عنه. اللي موجود كتب هجاء أو مديح، ذكريات ومذكرات، مجموعات مقالات، دراسات عن مصر أثناء حكمه، دراسات عن سياساته وتوجهاته، إلخ. لكن ما فيش دراسة عن شخصيته: طفولته، مراهقته، دراسته، حياته الخاصة، توجهاته الأيدولوجية والسياسية، حياته العامة، هواجسه، مخاوفه، أهدافه، إلخ. ما عندناش سيرة علمية واحدة عن جمال عبدالناصر، اللي ممكن اعتباره بسهولة أهم شخصية عربية في القرن العشرين.
يا ترى إيه سبب الظاهرة الغريبة دي؟ إيه سبب الإحجام عن كتابة السير العلمية عن الشخصيات المهمة اللي أثّرت في حياتنا وشكلت تاريخنا؟ أنا لي تجربة في كتابة سيرة قصيرة عن محمد علي (بتترجم للعربي اليومين دول)، ومن واقع التجرية دي أقدر أقترح سبب للظاهرة الغريبة دي. في كتابة سيرتي عن محمد علي اعتمدت على كل الكتب السابقة اللي اتكتبت عن الشخصية المهمة دي، وقريت اللي كتبه عنه الرحالة الأجانب اللي قابلوه، وقريت طبعا الأوامر والقوانين اللي أصدرها واللي اتطبعت. لكن أهم مصدر اعتمدت عليه هو مئات، إن ما كنش آلاف، الوثائق غير المنشورة المحفوظة في دار الوثائق من جواباته لأولاده، لأوامره لمرؤسيه، لخطاباته للباب العالي في الآستانة، لتعليماته لأعضاء نخبته وأعوانه، لمراسلاته للقناصل الأجانب. المادة دي هي اللي مكنتني من الاقتراب من شخصيته، وخلليتني أقدر "أسمعه" وأشوف الدنيا من خلال عينيه هو، وفهمتني جوانب من شخصيته كانت غايبة عني. بالمقارنة، أنا لو حبيت أكتب سيرة مماثلة عن عبدالناصر، مش هأعرف بالرغم من قرب العهد بيه نسبيا، وده لسبب بسيط: دار الوثائق القومية ما عندهاش أي وثائق ذات قيمة عن عبدالناصر.إحنا لسه ما اتسمحش لينا بالاطلاع على وثائق الرئاسة أو مجلس الوزراء أو مجلس قيادة الثورة أو وزارة الحربية اللي عبدالناصر كتبها أو وقع عليها، وبالتالي كل الجزء المتعلق بحياته العامة اللي ممكن ندرسه معتمد على خطبه العامة، وكلام الجرايد، والمذكرات المنشورة .ودي بالطبع كلها مهمة، ولكنها في رأيي لا تُغني عن الوثائق الرسمية اللي بتلقي الضوء على اللي كان بيتقال ورا الكواليس، مش الخطب الرنانة اللي كانت بتلقى من على خشبة المسرح.
***
مشكلة الكتابة التاريخية عندنا سببها مش إن ما عندناش مؤرخين ممتازين (المؤتمر السنوي للجمعية التاريخية المصرية أكبر دليل على إن البلد مليانة مؤرخين ممتازين)، ولا هي نتيجة إن الناس ما بتقبلش على التاريخ (أظن إن المصريين مولعيين بالتاريخ ومهتمين بيه)، ولا هي نتيجة إن ما عندناش أدباء وكتّاب مهتمين بالتاريخ كموضوع لأعمالهم الأدبية والفنية (وخير دليل على ده هو عدد المسلسلات التليفزيونية التاريخية). المشكلة، في الحقيقة، سياسية ومؤسسية. فمدارسنا باهتمامها بحشو أمخاخ الطلبة بمعلومات ملهاش معنى بتقتل عندهم ملَكة التفكير النقدي، وبتركيزها على حفظ التواريخ وأسماء الحقب والشخصيات العظيمة بتكرّه الطلبة في التاريخ؛ والجامعات طول ما هدفها الأساسي الزج بآلاف الخريجين لسوق العمل بمهارات متواضعة وطول ما هي مش مهتمة بإنتاج معرفة تاريخية جديدة، طول ما المؤرخين الموهوبين هينتجوا أعمالهم لكن خارج إطار الجامعة وبعد ما يتخلصوا من التعليم الجامعي الفاشل اللي تلقوه؛ والمتاحف بتقليص دورها في تخزين التحف والأنتيكات وبالامتناع عن تثقيف الجمهور وإمتاعه أو تقديم خدمات رفيعة ومتطورة له بتحكم على نفسها بالموت الحقيقي، موت ما بينقذهاش منه إلا شوية السياح الأجانب اللي مستعدين يدفعوا الثمين والغالي علشان يتفرجوا على المقتنيات الفريدة؛ ودار الوثائق القومية، المستودع الرسمي والأساسي لوثائقنا التاريخية، طول ما هي بتبدّي المحاذير الأمنية على حساب مبدأ الحق في المعرفة، هتفضل مخزن للورق القديم مش مكان لإنتاج معرفة تاريخية؛ والصحافة والتليفزيون، اللي شايفين إن دورهم يقتصر على تضييع وقت المشاهدين وإلهائهم، أو الحفاظ على ثوابت الأمة ومقدساتها، أو توجيه الرأي العام وإرشاده، بتساهم في تعميق المشكلة وبتفوّت على نفسها فرصة تأسيس فهم حقيقي للمواطنين عن تاريخ بلدهم وتعميق انتمائهم ليه.
***
احنا أصحاب تاريخ طويل ومشرف، وعندنا تحف وآثار بيحسدنا عليها القاصي والداني، وعندنا وثائق ومخطوطات قديمة بالملايين، وأهم من ده وده، الناس في بلدنا عندها إقبال حقيقي على التاريخ. فحرام إن سياساتنا التعليمية والثقافية والإعلامية تتآمر علينا بالشكل ده وتبذل كل الجهد ده علشان تقتل التاريخ في بلد هو أصل التاريخ ومهده.
هذا المقال ضمن سلسلة مقالات يكتبها خالد فهمي لـ«مدى مصر» تحت عنوان "خواطر بالعامية".
http://www.madamasr.com/ar/content/%D...
Published on July 10, 2014 06:06
January 15, 2014
رب يسر وأعن
من الآراء الطريفة التى يذكرها الأستاذ محمود السعدني فى كتابه "ألحان السماء" أن الشيخ محمد سلامة كان لا يخفى استنكاره للطريقة التى يقرأ بها الشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، باعتبار أن قراءة القرآن تحتاج إلى صوت قوى ووقور، أما الصوت "الجميل" فليس مستحباً! وكان قد جاء فى تاريخ الخلفاء للسيوطى، أن أبا نعيم أخرج في الحلية عن أبي صالح قال: لما قدم أهل اليمن زمان أبي بكر وسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست قلوبنا. يشرح الغزالى فى كتاب آداب "السماع والوجد" من "إحياء علوم الدين"، أن الغناء أشد تهييجا من القرآن من سبعة أوجه على ما ذكر.
ومنها ما يشرح لنا لماذا لم يبك أبا بكر، ففى أحد الأوجه: أن القرآن إذا كان محفوظا ومتكررا فلن يحرك ساكنا ولن تنزل دموع أبى بكر وذلك "لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه".
وفي ظنى، وليس كل الظن إثم، أن أبا بكر الصديق لو سمع القرآن من الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، أو الشيخ مصطفى إسماعيل، أو الشيخ محمد رفعت؛ لرق قلبه ولان.
من يدخل مسجد السيدة زينب سوف يجد على المقصورة عبارة منقوشة تقول: يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مددك. وكان المدد فى انتظار الشيخ عبد الباسط، الذى جاء إلى القاهرة فى عام 1950 بغرض زيارة السيدة زينب فى ذكرى يوم مولدها.
كان يحيى هذه الليلة وهى الأخيرة فى أيام الإحتفال أكابر القراء فى هذا الوقت، كان هناك الشيخ الشعشاعى ومصطفى إسماعيل وعبد العظيم زاهر وأبو العينين شعيشع وغيرهم. وفى أثناء إحدى الاستراحات تقدم قريب الشيخ عبد الباسط إلى إمام المسجد -وقتها- على سبيع، ليطلب الإذن لقريبه ليقرأ ما تيسر له من آى الذكر الحكيم.
جلس الشيخ عبد الباسط يومها مكان كبار المشايخ وانساب بقوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". وظل جمهور المستمعين بما فيهم المشايخ، يطلبون المزيد، فقد كان صوته بردا وسلاما على القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومع أن الشيخ كان مشهورا فى قريته وفى القرى المجاورة قبل هذا اليوم، إلا أن تلك الليلة كانت بمثابة الفتح المبين.
ليس هناك ذكر لليوم أو الشهر الذى ولد فيه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فقط العام 1927 وهو الموافق لعام 1346هـ. بقرية المراعزة بمدينة أرمنت، محافظة قنا. التحق بالكتاب وهو فى السادسة من عمره، وأتم حفظ القرآن كاملا وهو دون العاشرة على يد الشيخ محمد الأمير. ويذكر، رحمه الله، فى مذكراته أنه أتم حفظ القرآن الذى كان يتدفق على لسانه كالنهر الجارى. "وكان والدى موظفا بوزارة المواصلات، وكان جدى من العلماء، فطلبت منهما أن أتعلم القراءات، فأشارا على أن أذهب إلى طنطا بالوجه البحرى لأتلقى علوم القرآن والقراءات." وقد راجع القرآن وحفظ الشاطبية، وهى: متن "حرز الأمانى ووجه التهاني فى القراءات السبع"، المعروف عند الناس بـ "متن الشاطبية" للإمام أبى القاسم الشاطبى الأندلسي، على يد الشيخ المتقن محمد سليم حمادة. وانهالت الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا بمساعدة شيخه محمد سليم الذى زكاه فى كل منزل ينزله وشهادته كانت محل ثقة الناس.
كانت الاحتفالات فى الصعيد تماما كما فى القاهرة بالموالد والليالى والتى تكون ميدانا للقراء يتبارون فيه. وكان للصعيد قراؤه ومنهم: الشيخ صديق المنشاوي وهو والد الشيخين محمد ومحمود صديق المنشاوي. وغيره من القراء أصحاب الصيت. بدأ الشيخ عبد الباسط فى عام 1940 إحتراف قراءة القرآن. يذكر الأستاذ محمود السعدنى أن أولى لياليه كانت فى قريته، وفى مأتم أحد أقاربه، قرأ عشرة ساعات كاملة بعشرة قروش فضية.
مع نهاية عام 1951 طلب الشيخ نور الدين علي محمد حسن الملقب بالضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية، من الشيخ عبد الباسط أن يتقدم لإختبارات الإذاعة المصرية. غير أن الشيخ عبد الباسط أراد أن يرجئ الأمر لحين إنهاء إرتباطاته وترتيب أموره وأهله للإقامة بالقاهرة. إلا أن الشيخ الضباع كان قد حصل على تسجيل الليلة الزينبية التى سبق وذكرناها، فكان يومها أحد الحاضرين. وقدمه للجنة الإستماع بالإذاعة وكانت تضم الشيخ الضباع نفسه، والشيخ محمود شلتوت، قبل أن يتولى إمامة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا. إنبهرت اللجنة بالأداء الجميل والمحكم وتم اعتماده ليكون أحد النجوم النيرة للإذاعة المصرية. مما جعل الشيخ، وفى خلال بضعة أشهر من إلتحاقه بالإذاعة، يأتى وأسرته للإقامة الدائمة بالقاهرة، من أرمنت إلى مصر المحروسة، وعلى وجه التحديد إلى حى السيدة زينب بنت فاطمة الزهراء، صاحبة المدد.
هناك العديد من الطرائف الواردة فى سيرة الشيخ عبد الباسط، فهناك أحياناً إشارة لدى من يكتب عن سيرته يقارنه بالشيخ محمود الطبلاوي. فعبد الباسط قُبل فى الإذاعة دون أن يحضر الاختبار، حين أن الشيخ الطبلاوي تقدم إلى الاختبار تسعة مرات ولم ينجح إلا فى المرة العاشرة. ومن الحكايات الطريفة، أيضا، أن صوت عبد الباسط كان أحد أسباب إنتشار ورواج الراديو فى مصر. فالناس كانت تنتظر تلاوته مساء يوم السبت من كل أسبوع. وقد سجل القرآن برواية حفص عن عاصم للإذاعة مع الأربعة الكبار: الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ محمود علي البنا والشيخ محمد صديق المنشاوي. ومازالت هذه التسجيلات تذاع إلى الآن على إذاعة القرآن الكريم. وشخصيا فقد تربيت على هذه الأصوات السليمة، وفى صغرى كنت أتدرب على صوت عبد الباسط لأنه صوت قريب من صوت الأطفال، ثم اخترت أن أكمل الطريق مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. وكل من يدرس أحكام التلاوة وعلم القرءات يعرف فضل المصحف المرتل لهؤلاء الخمسة، وفضل المصحف المعلم الذى سجله الشيخ الحصري، فى ضبط أحكام التلاوة.
وكان الشيخ عبد الباسط يحب صوت الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفي إسماعيل، وكان يسير عشرات الكيلو مترات يومى الثلاثاء والجمعة ليستمع للصوت الشجى للشيخ رفعت فى الراديو، كانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة ولا يملكها الكثير من الناس.
فى عام 1952 تم تعيين الشيخ عبد الباسط قارئاً للسورة بمسجد الإمام الشافعي، ثم قارئاً لمسجد الحسين عام 1985 خلفا للشيخ محمود على البنا. وأصبح أول نقيب للقراء عام 1984 وظل حتى وافته المنية فى 30 نوفمبر 1988 والموافق لعشر بقين من ربيع الآخر 1409هـ.
طاف الشيخ عبد الباسط معظم بلاد المسلمين وغيرها، ورتل القرآن فى مكة والمدينة، وفى المسجد الأموي الكبير. كما قرأ القرآن بأكبر مساجد إندونيسيا. وإفتتح مسجد "كتشاوا" بالجزائر وقرأ بساحة الشهداء. وذهب إلى العراق والمغرب وليبيا وفلسطين وماليزيا والهند وباكستان وبورما وجنوب أفريقيا وكينيا ومعظم الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا التي إرتدى فيها لأول وآخر مرة فى حياته البدلة وهو يمشى فى شوارع باريس..
كان يقول، رحمه الله: إن القارئ للقرآن لا يملك آلة موسيقية ولا تخت، اللهم صوته وأحكام التجويد والقراءة. ذلك الصوت الساحر الذى أسر الناس فى كل تلك البلاد. ويمكن بعبارات بسيطة وصف صوت الشيخ عبد الباسط بأنه كان صوتا ذهبيا صادحا ونقيا. وكانت مساحة صوته واسعة فيعتمد فى أدائه على الركزات فى الجوابات العالية، دون أن يعصيه صوته أو "يخس" منه مرة واحدة. ويظهر هذا فى المصحف المجود. وكان يملك نفسا طويلا يستطيع أن يؤدى به أكثر من آية. والتسجيلات الأخيرة له تظهر صوته أرفع من صوته المعتاد، لكن، مع ذلك، كان صوته يلمع أكثر فأكثر وكأنه يذهب ليكتشف منطقة ومساحة جديدة فيه. وكان المستمعون وكأنهم يرقصون طربا فى الحرم على رنة صوت الشيخ. وكان طول النفس يجعله يتحرك بطلاقة لا بين المقامات، ولكن بين القراءات فيقول من سورة يوسف، مرة: هيت لك، ومرة: هئت لك، ومرة: هيْت لك. وتلك هى أوجه القراءات السبع المتواترة كاملة لهذه الكلمة. وفى كل مرة يطلب المستمع الإعادة، وفى كل مرة يأتيه من حيث لا يحتسب. فهو يحكى قصة سيدنا يوسف ويصورها بصوته. فكان، مثل الشيخ رفعت، لديه موهبة فطرية على تطويع صوته حسب المشاهد القرآنية.
كان الشيخ يحب صوت محمد عبد الوهاب خاصة حين ينشد: فى الليل لما خلي. وكان يرى أن أم كلثوم معجزة، مثل الشيخ رفعت، لن تتكرر. وكذلك كان الشيخ عبد الباسط نفسه معجزة لن تتكرر وتلك سنة الله فى خلقه.
ومنها ما يشرح لنا لماذا لم يبك أبا بكر، ففى أحد الأوجه: أن القرآن إذا كان محفوظا ومتكررا فلن يحرك ساكنا ولن تنزل دموع أبى بكر وذلك "لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه".
وفي ظنى، وليس كل الظن إثم، أن أبا بكر الصديق لو سمع القرآن من الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، أو الشيخ مصطفى إسماعيل، أو الشيخ محمد رفعت؛ لرق قلبه ولان.
من يدخل مسجد السيدة زينب سوف يجد على المقصورة عبارة منقوشة تقول: يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مددك. وكان المدد فى انتظار الشيخ عبد الباسط، الذى جاء إلى القاهرة فى عام 1950 بغرض زيارة السيدة زينب فى ذكرى يوم مولدها.
كان يحيى هذه الليلة وهى الأخيرة فى أيام الإحتفال أكابر القراء فى هذا الوقت، كان هناك الشيخ الشعشاعى ومصطفى إسماعيل وعبد العظيم زاهر وأبو العينين شعيشع وغيرهم. وفى أثناء إحدى الاستراحات تقدم قريب الشيخ عبد الباسط إلى إمام المسجد -وقتها- على سبيع، ليطلب الإذن لقريبه ليقرأ ما تيسر له من آى الذكر الحكيم.
جلس الشيخ عبد الباسط يومها مكان كبار المشايخ وانساب بقوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". وظل جمهور المستمعين بما فيهم المشايخ، يطلبون المزيد، فقد كان صوته بردا وسلاما على القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومع أن الشيخ كان مشهورا فى قريته وفى القرى المجاورة قبل هذا اليوم، إلا أن تلك الليلة كانت بمثابة الفتح المبين.
ليس هناك ذكر لليوم أو الشهر الذى ولد فيه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فقط العام 1927 وهو الموافق لعام 1346هـ. بقرية المراعزة بمدينة أرمنت، محافظة قنا. التحق بالكتاب وهو فى السادسة من عمره، وأتم حفظ القرآن كاملا وهو دون العاشرة على يد الشيخ محمد الأمير. ويذكر، رحمه الله، فى مذكراته أنه أتم حفظ القرآن الذى كان يتدفق على لسانه كالنهر الجارى. "وكان والدى موظفا بوزارة المواصلات، وكان جدى من العلماء، فطلبت منهما أن أتعلم القراءات، فأشارا على أن أذهب إلى طنطا بالوجه البحرى لأتلقى علوم القرآن والقراءات." وقد راجع القرآن وحفظ الشاطبية، وهى: متن "حرز الأمانى ووجه التهاني فى القراءات السبع"، المعروف عند الناس بـ "متن الشاطبية" للإمام أبى القاسم الشاطبى الأندلسي، على يد الشيخ المتقن محمد سليم حمادة. وانهالت الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا بمساعدة شيخه محمد سليم الذى زكاه فى كل منزل ينزله وشهادته كانت محل ثقة الناس.
كانت الاحتفالات فى الصعيد تماما كما فى القاهرة بالموالد والليالى والتى تكون ميدانا للقراء يتبارون فيه. وكان للصعيد قراؤه ومنهم: الشيخ صديق المنشاوي وهو والد الشيخين محمد ومحمود صديق المنشاوي. وغيره من القراء أصحاب الصيت. بدأ الشيخ عبد الباسط فى عام 1940 إحتراف قراءة القرآن. يذكر الأستاذ محمود السعدنى أن أولى لياليه كانت فى قريته، وفى مأتم أحد أقاربه، قرأ عشرة ساعات كاملة بعشرة قروش فضية.
مع نهاية عام 1951 طلب الشيخ نور الدين علي محمد حسن الملقب بالضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية، من الشيخ عبد الباسط أن يتقدم لإختبارات الإذاعة المصرية. غير أن الشيخ عبد الباسط أراد أن يرجئ الأمر لحين إنهاء إرتباطاته وترتيب أموره وأهله للإقامة بالقاهرة. إلا أن الشيخ الضباع كان قد حصل على تسجيل الليلة الزينبية التى سبق وذكرناها، فكان يومها أحد الحاضرين. وقدمه للجنة الإستماع بالإذاعة وكانت تضم الشيخ الضباع نفسه، والشيخ محمود شلتوت، قبل أن يتولى إمامة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا. إنبهرت اللجنة بالأداء الجميل والمحكم وتم اعتماده ليكون أحد النجوم النيرة للإذاعة المصرية. مما جعل الشيخ، وفى خلال بضعة أشهر من إلتحاقه بالإذاعة، يأتى وأسرته للإقامة الدائمة بالقاهرة، من أرمنت إلى مصر المحروسة، وعلى وجه التحديد إلى حى السيدة زينب بنت فاطمة الزهراء، صاحبة المدد.
هناك العديد من الطرائف الواردة فى سيرة الشيخ عبد الباسط، فهناك أحياناً إشارة لدى من يكتب عن سيرته يقارنه بالشيخ محمود الطبلاوي. فعبد الباسط قُبل فى الإذاعة دون أن يحضر الاختبار، حين أن الشيخ الطبلاوي تقدم إلى الاختبار تسعة مرات ولم ينجح إلا فى المرة العاشرة. ومن الحكايات الطريفة، أيضا، أن صوت عبد الباسط كان أحد أسباب إنتشار ورواج الراديو فى مصر. فالناس كانت تنتظر تلاوته مساء يوم السبت من كل أسبوع. وقد سجل القرآن برواية حفص عن عاصم للإذاعة مع الأربعة الكبار: الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ محمود علي البنا والشيخ محمد صديق المنشاوي. ومازالت هذه التسجيلات تذاع إلى الآن على إذاعة القرآن الكريم. وشخصيا فقد تربيت على هذه الأصوات السليمة، وفى صغرى كنت أتدرب على صوت عبد الباسط لأنه صوت قريب من صوت الأطفال، ثم اخترت أن أكمل الطريق مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. وكل من يدرس أحكام التلاوة وعلم القرءات يعرف فضل المصحف المرتل لهؤلاء الخمسة، وفضل المصحف المعلم الذى سجله الشيخ الحصري، فى ضبط أحكام التلاوة.
وكان الشيخ عبد الباسط يحب صوت الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفي إسماعيل، وكان يسير عشرات الكيلو مترات يومى الثلاثاء والجمعة ليستمع للصوت الشجى للشيخ رفعت فى الراديو، كانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة ولا يملكها الكثير من الناس.
فى عام 1952 تم تعيين الشيخ عبد الباسط قارئاً للسورة بمسجد الإمام الشافعي، ثم قارئاً لمسجد الحسين عام 1985 خلفا للشيخ محمود على البنا. وأصبح أول نقيب للقراء عام 1984 وظل حتى وافته المنية فى 30 نوفمبر 1988 والموافق لعشر بقين من ربيع الآخر 1409هـ.
طاف الشيخ عبد الباسط معظم بلاد المسلمين وغيرها، ورتل القرآن فى مكة والمدينة، وفى المسجد الأموي الكبير. كما قرأ القرآن بأكبر مساجد إندونيسيا. وإفتتح مسجد "كتشاوا" بالجزائر وقرأ بساحة الشهداء. وذهب إلى العراق والمغرب وليبيا وفلسطين وماليزيا والهند وباكستان وبورما وجنوب أفريقيا وكينيا ومعظم الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا التي إرتدى فيها لأول وآخر مرة فى حياته البدلة وهو يمشى فى شوارع باريس..
كان يقول، رحمه الله: إن القارئ للقرآن لا يملك آلة موسيقية ولا تخت، اللهم صوته وأحكام التجويد والقراءة. ذلك الصوت الساحر الذى أسر الناس فى كل تلك البلاد. ويمكن بعبارات بسيطة وصف صوت الشيخ عبد الباسط بأنه كان صوتا ذهبيا صادحا ونقيا. وكانت مساحة صوته واسعة فيعتمد فى أدائه على الركزات فى الجوابات العالية، دون أن يعصيه صوته أو "يخس" منه مرة واحدة. ويظهر هذا فى المصحف المجود. وكان يملك نفسا طويلا يستطيع أن يؤدى به أكثر من آية. والتسجيلات الأخيرة له تظهر صوته أرفع من صوته المعتاد، لكن، مع ذلك، كان صوته يلمع أكثر فأكثر وكأنه يذهب ليكتشف منطقة ومساحة جديدة فيه. وكان المستمعون وكأنهم يرقصون طربا فى الحرم على رنة صوت الشيخ. وكان طول النفس يجعله يتحرك بطلاقة لا بين المقامات، ولكن بين القراءات فيقول من سورة يوسف، مرة: هيت لك، ومرة: هئت لك، ومرة: هيْت لك. وتلك هى أوجه القراءات السبع المتواترة كاملة لهذه الكلمة. وفى كل مرة يطلب المستمع الإعادة، وفى كل مرة يأتيه من حيث لا يحتسب. فهو يحكى قصة سيدنا يوسف ويصورها بصوته. فكان، مثل الشيخ رفعت، لديه موهبة فطرية على تطويع صوته حسب المشاهد القرآنية.
كان الشيخ يحب صوت محمد عبد الوهاب خاصة حين ينشد: فى الليل لما خلي. وكان يرى أن أم كلثوم معجزة، مثل الشيخ رفعت، لن تتكرر. وكذلك كان الشيخ عبد الباسط نفسه معجزة لن تتكرر وتلك سنة الله فى خلقه.
Published on January 15, 2014 02:35
January 7, 2014
إن كل الأشياء تقاوم عملية كتابتها
http://www.takweeen.com/?p=24
هذه النصوص تتكلم عن نفسها، وهي قاتمة ومفرغة من الهواء، وحقيقية جداً. ولكنها على الأقل – بالنسبة للكاتب المليء بالعجز والجفاف الأدبي – تشكل نوعا من العزاء. يكفيك أن تعرف بأنه خلف الأعمال العظيمة التي قرأناها لكافكا، تكمن هذه الحقيقة، حقيقة الروح المسحوقة الساعية أبدا خلف لحظة “الكتابة” الفائقة.
الساعة العاشرة، لن أدع نفسي تصاب بالإرهاق. سأغمس نفسي في أقصوصتي. حتى لو مزقني ذلك الوجه (15. تشرين الثاني.1910).
إنني كمن قدّ من حجر، إنني أشبه النصب التذكاري لقبري، حيث لا فجوة للشك أو الإيمان، للحب أو الكراهية، للشجاعة أو الخوف، للعام أو الخاص. فهناك أمل غامض، لكنه ليس أحسن حالا من النقوش على النصب التذكارية للأضرحة.
إن معظم الكلمات التي أكتبها لا تنسجم مع بعضها بعضا، إنني أستمع إلى الحروف الصامتة وهي تحتك ببعضها على نحوٍ صفيحيّ، وإلى الحروف الصائتة، وهي تغني وكأنها زنجيّ في المعرض. إن شكوكي تحيط مثل الدائرة بكلّ كلمة، هذه الشكوك التي كنت أراها فيما مضى كالكلمة، إذ كيف يمكن لي أن أراها؟ إنني لم أرَ تلك الكلمة قط. لقد اخترعتها، وقد كادت تكون المصيبة الكبرى، لكن يتوجب عليّ أن أخترع كلمات تكون قادرة على نفخ رائحة الجثث في اتجاه لا يصيبني مثلما لا يصيب القارئ مباشرة.
عندما أجلس على طاولة الكتابة فإنني لا أشعر بالراحة، كمن يقع في ذروة الحركة في الأوبرا فتنكسر ساقه. (15. كانون الأول. 1910).
إن كوني أنحّي جانبا ما كتبته هذا العام وأنني أشطبه أمر يعيقني في الكتابة كثيرا، إن ما كتبته بحجم الجبل، ويبلغ خمسة أضعاف ما هو موجود هنا. وقد استطاع بوفرته أن يخترق ما أكتبه، وأن يجذبني مع ريشتي إلى ناحيته. (17. كانون الأول. 1910).
الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، أما أنني لم أستطع التحرر من مكتبي، وأنني بكل بساطة ضائع، فهي مسألة واضحة لي تماما قبل كل شيء. إن المسألة تتمثل في الاحتفاظ برأسي عالية ما أمكن حتى لا أغرق. ما أصعب ذلك! وكم من الجهد يتوجب علي استخراجه من أعماقي. لقد قمت بتنظيم جديد لوقتي، فقد مكثتُ من الثامنة حتى الحادية عشرة ليلا من دون انقطاع على مكتبي ومن دون أن أعد ذلك كارثة كبرى، فقد كتبت هذه السطور على عجل لأذهب إلى السرير. (18. كانون الأول. 1910).
لقد تأملت للتو مكتبي على نحوٍ دقيق، فاكتشفت أنه لا يمكن لعمل خيّر أن يحدث فوقه. ففي هذا المكتب تتكدس الأشياء وتصنع فوضى غير منظمة، تعوزها ألفة الأشياء غير المنظمة التي تجعل من الفوضى أمرا مقبولا. (24. كانون الأول. 1910).
إن سعادتي وقدراتي وكل فرصة يمكن أن أكون فيها نافعا تكمن منذ وقت طويل في الجانب الأدبي لدي.. إنني لا أكرس نفسي كاملة للجانب الأدبي كما ينبغي أن أفعل. ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة، فبصرف النظر عن علاقاتي العائلية فإنني لا أستطيع أن أعيش من الأدب، وذلك لبطء تشكل أعمالي، ولطبيعة تلك الأعمال المميزة، كما أن صحتي وطبيعة شخصيتي تحولان بيني وبين ذلك التكريس، وتمنحاني في أحسن الأحوال حياة غير مؤكدة. لذا صرت موظفا في إحدى شركات التأمين، وهاتان مهنتان لا تتوافقان، ولا تمنحاني سعادة مشتركة، فالسعادة القليلة في واحدة منهما تغدو سوء حظ كبير في الأخرى، ولو حدث أن كتبت شيئا جميلا ذات مساء، فسأحترق في المكتب في اليوم التالي، وأغدو من ثم غير قادر على إنجاز ما كتبت على الإطلاق. إن التمزق بين هنا وهناك يغدو أكثر سوءا، ففي المكتب يكفيني أن أنجز واجباتي الخارجية، أما واجباتي الداخلية فلا، وكل واجب داخلي لا يتم إنجازه يتحول إلى تعاسة دائمة. (26. آذار. 1911).
إن لدي اعتقادا تعيسا يتمثل في أنني لا أمتلك الحد الأدنى من الوقت لإنجاز عمل جيد. لأنني لا أملك في واقع الأمر وقتا لإنجاز قصة كما ينبغي أن أفعل، فنفسي موزعة في الاتجاهات كلها. لكنني أكون أكثر إيمانا بأن رحلتي ستغدو أفضل، وأنني سأغدو أفضل إدراكا، إذا ما ارتحت من خلال الكتابة، وهذا ما سأحاوله من مرة ثانية. (20. آب. 1911).
إنني أؤمن أن سبب الأرق هو أنني أكتب، وكلما غدت كتاباتي قليلة ورديئة أغدو حساسا، من خلال هذه الاهتزازات القليلة، وأشعر عند اقتراب المساء وحتى في الصباح، بإمكانية حدوث آلام واقتراب اللحظة الكبرى التي ستغيّرني، وتجعلني قابلا لكل شيء. ولا أجد الراحة في هذا الضجيج الذي يملأ أعماق حياتي، والذي لا أملك الوقت للسيطرة عليه. وفي النهاية يتحول هذا الضجيج إلى إيقاع ضاغط ومقيّد، يدعني حرا، ويملؤني تماما، ويوسعني، وما زال يملؤني.. في النهار يساعدني العالم المرئي، أما في الليل فهو يمزقني من دون إعاقة. (2. تشرين الثاني. 1911).
إذا كنت قادرا على أن أكتب شيئا كبيرا شاملا، محكم البناء من بدايته إلى نهايته، فإن هذا الشيء لن يكون في خاتمة القصة قادرا على الانفصال عني على الإطلاق. (5. تشرين الثاني. 1911)
اجعل اليوميات أكثر إحكاما منذ اليوم! اكتب بانتظام! لا تستسلم! حتى لو أتى الخلاص الذي أرغب أن أكون جديرا به في كل لحظة. (25. شباط. 1912).
لم أكتب شيئا منذ مدة طويلة، سأبدأ غدا، وإلا فإنني سأدخل ثانية في حالة من القلق الممتد غير القابلة للتوقف. (9. تموز. 1912).
كم من الوقت يستغرق مني نشر الكتاب الصغير، وما مقدار الاعتداد بالذات الضار السخيف الذي يتشكل بعد قراءة أشياء قديمة بعين من يريد نشرها؟ ذلك ما يصرفني عن الكتابة. وإن كنت لم أستطع أن أصل في الواقع إلى شيء، والاضطراب هو أفضل برهان على ذلك، لذلك يتوجب علي أن أبقى بعد نشر الكتاب، بعيدا عن المجلات والمراجعات النقدية أكثر من قبل، إذا لم أرد أن أظل مكتفيا بلمس الحقيقة برؤوس أصابعي. (11. آب. 1912).
كتبتُ قصة “الحكم” من دون توقف ليلة الثاني والعشرين حتى ليلة الثالث والعشرين، منذ العاشرة لي إلى السادسة صباحا. ولم أكن قادرا على سحب ساقي المتصلبتين من تحت الطاولة جراء هذا الجلوس. وكان الإرهاق الفظيع والبهجة اللذان تابعت من خلالهما تطور القصة أمامي يشبه التقدم على الماء. كنت أحمل في أثناء تلك الليلة ثقلي الذاتي فوق ظهري مرات عديدة. كيف يمكن أن يقال كل شيء، وكيف يبدو أن ثمة نارا عظيمة تنطفئ وتتوهج من جديد، بانتظار كل شيء، بما في ذلك الخيالات الشديدة الغرابة.. بهذه الطريقة وحدها يمكن الكتابة، وبمثل هذا القدر من الانسجام، وبمثل هذا التفتح الكامل للجسد والروح. (23. أيلول. 1912).
أمنع نفسي بالقوة عن الكتابة، أتقلب على السرير، احتقان الدم في جمجمتي، والجريان العديم الفائدة للأشياء. (25. أيلول. 1912).
أدون في أثناء قراءتي لتجارب “الحكم” الطباعية كل العلاقات التي بدت واضحة لي في القصة، بقدر ما أستطيع أن أتذكرها. وهو أمر ضروري لأن القصة خرجت مني على نحو شبيه بالولادة الحقيقية، مغطاة بالقذارة والمخاط، وأنا وحدي من يمتلك اليد القادرة على اقتحام الجسد. (11.شباط.1913).
.. العجز الجسدي عن الكتابة، والحاجة الداخلية لذلك. (2. أيار. 1913).
إن وظيفتي لا تطاق لأنها تتعارض مع الأدب، وهو طموحي الوحيد ومهنتي الوحيدة. إنني لا شيء سوى أدب، ولا أستطيع أن أكون غير ذلك، ولا أرغب في ذلك أيضا. (21. آب. 1913).
إن كل الأشياء تقاوم عمليّة كتابتها. (20. تشرين الأول. 1913).
أقرأ في دوستوفيسكي الموضع الذي يذكرني بتعاستي. (14. كانون الأول. 1913).
أمس: كنت عاجزا عن كتابة كلمة واحدة، واليوم ليس أفضل. من سينقذني؟ ولا أحد يكاد يرى ما يصطرع في أعماقي، إنني شبكة حية، شبكة تقف بصلابة وترغب في السقوط. (8. نيسان. 1914).
لم أكد أكتب في خضم هذا العجز المطلق أكثر من صفحتين، فأنا أشعر بالنكوص التام هذا اليوم، على الرغم من أنني نمت جيدا يوم أمس. لكنني أعلم أنه لا يجوز لي أن أذعن، إذا كنت أرغب في تجاوز الآلام العميقة للكتابة، وكبح جماح تأثيرها في طريقة حياتي، وأرتفع إلى الحرية التي قد تكون في انتظاري. (1. أيلول. 1914).
شهوة كبرى أن تبدأ قصة جديدة لا أن تنهار. كل شيء عبث. هل أستطيع أن أطارد القصص عبر الليالي، فهي تنفجر ثم تتلاشى. (4. كانون الثاني. 1915).
يبدو أنني لا أستطيع أن أخترق العالم، لكنني أستطيع أن أتمدد بهدوء، وأن أستقبل، ليتسع هذا الذي استقبلته في داخلي، ولأخطو من ثمّ بهدوء. (20. كانون الثاني. 1915).
إنني عاجز ومجدب كالعادة، ولا أملك الوقت – حقيقة – للتفكير بأي شيء آخر، بقدر تفكيري في كيفية تشكل السؤال، وفي أن أحدا ما ليست لديه إلا رغبة وحيدة في أن يتلمسني بإصبعه الصغير. (24. كانون الثاني. 1915).
مقدار ضخم من التعاسة في التدوين الأخير، السير في طريق الهلاك. هكذا أذهب إلى الهلاك فاقدا للمعنى، وزائدا عن الحادة. (27. أيار. 1915).
الخوف المتزايد عند الكتابة ذلك أمر مفهوم، فكل كلمة في أيدي الأرواح – إن اهتزاز الي هي الحركة المميزة لها – تتحول إلى رمح ينطلق صوب المتكلم، وعلى وجه الخصوص صوب الملاحظات كهذه، على نحوٍ لا ينتهي. أما العزاء فهو: أن ذلك يحدث شئت أم أبيت، أما ما تريده فلا يساعدك إلا على نحو ضئيل. وأكثر من العزاء هو: أنك تمتلك سلاحا أيضاً. (12. حزيران. 1923).
من يوميات فرانز كافكا (1910 – 1923)، تحرير ماكس برود، ترجمة وتقديم خليل الشيخ، صادر عن هيئة “أبو ظبي للثقافة والتراث”.
هذه النصوص تتكلم عن نفسها، وهي قاتمة ومفرغة من الهواء، وحقيقية جداً. ولكنها على الأقل – بالنسبة للكاتب المليء بالعجز والجفاف الأدبي – تشكل نوعا من العزاء. يكفيك أن تعرف بأنه خلف الأعمال العظيمة التي قرأناها لكافكا، تكمن هذه الحقيقة، حقيقة الروح المسحوقة الساعية أبدا خلف لحظة “الكتابة” الفائقة.
الساعة العاشرة، لن أدع نفسي تصاب بالإرهاق. سأغمس نفسي في أقصوصتي. حتى لو مزقني ذلك الوجه (15. تشرين الثاني.1910).
إنني كمن قدّ من حجر، إنني أشبه النصب التذكاري لقبري، حيث لا فجوة للشك أو الإيمان، للحب أو الكراهية، للشجاعة أو الخوف، للعام أو الخاص. فهناك أمل غامض، لكنه ليس أحسن حالا من النقوش على النصب التذكارية للأضرحة.
إن معظم الكلمات التي أكتبها لا تنسجم مع بعضها بعضا، إنني أستمع إلى الحروف الصامتة وهي تحتك ببعضها على نحوٍ صفيحيّ، وإلى الحروف الصائتة، وهي تغني وكأنها زنجيّ في المعرض. إن شكوكي تحيط مثل الدائرة بكلّ كلمة، هذه الشكوك التي كنت أراها فيما مضى كالكلمة، إذ كيف يمكن لي أن أراها؟ إنني لم أرَ تلك الكلمة قط. لقد اخترعتها، وقد كادت تكون المصيبة الكبرى، لكن يتوجب عليّ أن أخترع كلمات تكون قادرة على نفخ رائحة الجثث في اتجاه لا يصيبني مثلما لا يصيب القارئ مباشرة.
عندما أجلس على طاولة الكتابة فإنني لا أشعر بالراحة، كمن يقع في ذروة الحركة في الأوبرا فتنكسر ساقه. (15. كانون الأول. 1910).
إن كوني أنحّي جانبا ما كتبته هذا العام وأنني أشطبه أمر يعيقني في الكتابة كثيرا، إن ما كتبته بحجم الجبل، ويبلغ خمسة أضعاف ما هو موجود هنا. وقد استطاع بوفرته أن يخترق ما أكتبه، وأن يجذبني مع ريشتي إلى ناحيته. (17. كانون الأول. 1910).
الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، أما أنني لم أستطع التحرر من مكتبي، وأنني بكل بساطة ضائع، فهي مسألة واضحة لي تماما قبل كل شيء. إن المسألة تتمثل في الاحتفاظ برأسي عالية ما أمكن حتى لا أغرق. ما أصعب ذلك! وكم من الجهد يتوجب علي استخراجه من أعماقي. لقد قمت بتنظيم جديد لوقتي، فقد مكثتُ من الثامنة حتى الحادية عشرة ليلا من دون انقطاع على مكتبي ومن دون أن أعد ذلك كارثة كبرى، فقد كتبت هذه السطور على عجل لأذهب إلى السرير. (18. كانون الأول. 1910).
لقد تأملت للتو مكتبي على نحوٍ دقيق، فاكتشفت أنه لا يمكن لعمل خيّر أن يحدث فوقه. ففي هذا المكتب تتكدس الأشياء وتصنع فوضى غير منظمة، تعوزها ألفة الأشياء غير المنظمة التي تجعل من الفوضى أمرا مقبولا. (24. كانون الأول. 1910).
إن سعادتي وقدراتي وكل فرصة يمكن أن أكون فيها نافعا تكمن منذ وقت طويل في الجانب الأدبي لدي.. إنني لا أكرس نفسي كاملة للجانب الأدبي كما ينبغي أن أفعل. ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة، فبصرف النظر عن علاقاتي العائلية فإنني لا أستطيع أن أعيش من الأدب، وذلك لبطء تشكل أعمالي، ولطبيعة تلك الأعمال المميزة، كما أن صحتي وطبيعة شخصيتي تحولان بيني وبين ذلك التكريس، وتمنحاني في أحسن الأحوال حياة غير مؤكدة. لذا صرت موظفا في إحدى شركات التأمين، وهاتان مهنتان لا تتوافقان، ولا تمنحاني سعادة مشتركة، فالسعادة القليلة في واحدة منهما تغدو سوء حظ كبير في الأخرى، ولو حدث أن كتبت شيئا جميلا ذات مساء، فسأحترق في المكتب في اليوم التالي، وأغدو من ثم غير قادر على إنجاز ما كتبت على الإطلاق. إن التمزق بين هنا وهناك يغدو أكثر سوءا، ففي المكتب يكفيني أن أنجز واجباتي الخارجية، أما واجباتي الداخلية فلا، وكل واجب داخلي لا يتم إنجازه يتحول إلى تعاسة دائمة. (26. آذار. 1911).
إن لدي اعتقادا تعيسا يتمثل في أنني لا أمتلك الحد الأدنى من الوقت لإنجاز عمل جيد. لأنني لا أملك في واقع الأمر وقتا لإنجاز قصة كما ينبغي أن أفعل، فنفسي موزعة في الاتجاهات كلها. لكنني أكون أكثر إيمانا بأن رحلتي ستغدو أفضل، وأنني سأغدو أفضل إدراكا، إذا ما ارتحت من خلال الكتابة، وهذا ما سأحاوله من مرة ثانية. (20. آب. 1911).
إنني أؤمن أن سبب الأرق هو أنني أكتب، وكلما غدت كتاباتي قليلة ورديئة أغدو حساسا، من خلال هذه الاهتزازات القليلة، وأشعر عند اقتراب المساء وحتى في الصباح، بإمكانية حدوث آلام واقتراب اللحظة الكبرى التي ستغيّرني، وتجعلني قابلا لكل شيء. ولا أجد الراحة في هذا الضجيج الذي يملأ أعماق حياتي، والذي لا أملك الوقت للسيطرة عليه. وفي النهاية يتحول هذا الضجيج إلى إيقاع ضاغط ومقيّد، يدعني حرا، ويملؤني تماما، ويوسعني، وما زال يملؤني.. في النهار يساعدني العالم المرئي، أما في الليل فهو يمزقني من دون إعاقة. (2. تشرين الثاني. 1911).
إذا كنت قادرا على أن أكتب شيئا كبيرا شاملا، محكم البناء من بدايته إلى نهايته، فإن هذا الشيء لن يكون في خاتمة القصة قادرا على الانفصال عني على الإطلاق. (5. تشرين الثاني. 1911)
اجعل اليوميات أكثر إحكاما منذ اليوم! اكتب بانتظام! لا تستسلم! حتى لو أتى الخلاص الذي أرغب أن أكون جديرا به في كل لحظة. (25. شباط. 1912).
لم أكتب شيئا منذ مدة طويلة، سأبدأ غدا، وإلا فإنني سأدخل ثانية في حالة من القلق الممتد غير القابلة للتوقف. (9. تموز. 1912).
كم من الوقت يستغرق مني نشر الكتاب الصغير، وما مقدار الاعتداد بالذات الضار السخيف الذي يتشكل بعد قراءة أشياء قديمة بعين من يريد نشرها؟ ذلك ما يصرفني عن الكتابة. وإن كنت لم أستطع أن أصل في الواقع إلى شيء، والاضطراب هو أفضل برهان على ذلك، لذلك يتوجب علي أن أبقى بعد نشر الكتاب، بعيدا عن المجلات والمراجعات النقدية أكثر من قبل، إذا لم أرد أن أظل مكتفيا بلمس الحقيقة برؤوس أصابعي. (11. آب. 1912).
كتبتُ قصة “الحكم” من دون توقف ليلة الثاني والعشرين حتى ليلة الثالث والعشرين، منذ العاشرة لي إلى السادسة صباحا. ولم أكن قادرا على سحب ساقي المتصلبتين من تحت الطاولة جراء هذا الجلوس. وكان الإرهاق الفظيع والبهجة اللذان تابعت من خلالهما تطور القصة أمامي يشبه التقدم على الماء. كنت أحمل في أثناء تلك الليلة ثقلي الذاتي فوق ظهري مرات عديدة. كيف يمكن أن يقال كل شيء، وكيف يبدو أن ثمة نارا عظيمة تنطفئ وتتوهج من جديد، بانتظار كل شيء، بما في ذلك الخيالات الشديدة الغرابة.. بهذه الطريقة وحدها يمكن الكتابة، وبمثل هذا القدر من الانسجام، وبمثل هذا التفتح الكامل للجسد والروح. (23. أيلول. 1912).
أمنع نفسي بالقوة عن الكتابة، أتقلب على السرير، احتقان الدم في جمجمتي، والجريان العديم الفائدة للأشياء. (25. أيلول. 1912).
أدون في أثناء قراءتي لتجارب “الحكم” الطباعية كل العلاقات التي بدت واضحة لي في القصة، بقدر ما أستطيع أن أتذكرها. وهو أمر ضروري لأن القصة خرجت مني على نحو شبيه بالولادة الحقيقية، مغطاة بالقذارة والمخاط، وأنا وحدي من يمتلك اليد القادرة على اقتحام الجسد. (11.شباط.1913).
.. العجز الجسدي عن الكتابة، والحاجة الداخلية لذلك. (2. أيار. 1913).
إن وظيفتي لا تطاق لأنها تتعارض مع الأدب، وهو طموحي الوحيد ومهنتي الوحيدة. إنني لا شيء سوى أدب، ولا أستطيع أن أكون غير ذلك، ولا أرغب في ذلك أيضا. (21. آب. 1913).
إن كل الأشياء تقاوم عمليّة كتابتها. (20. تشرين الأول. 1913).
أقرأ في دوستوفيسكي الموضع الذي يذكرني بتعاستي. (14. كانون الأول. 1913).
أمس: كنت عاجزا عن كتابة كلمة واحدة، واليوم ليس أفضل. من سينقذني؟ ولا أحد يكاد يرى ما يصطرع في أعماقي، إنني شبكة حية، شبكة تقف بصلابة وترغب في السقوط. (8. نيسان. 1914).
لم أكد أكتب في خضم هذا العجز المطلق أكثر من صفحتين، فأنا أشعر بالنكوص التام هذا اليوم، على الرغم من أنني نمت جيدا يوم أمس. لكنني أعلم أنه لا يجوز لي أن أذعن، إذا كنت أرغب في تجاوز الآلام العميقة للكتابة، وكبح جماح تأثيرها في طريقة حياتي، وأرتفع إلى الحرية التي قد تكون في انتظاري. (1. أيلول. 1914).
شهوة كبرى أن تبدأ قصة جديدة لا أن تنهار. كل شيء عبث. هل أستطيع أن أطارد القصص عبر الليالي، فهي تنفجر ثم تتلاشى. (4. كانون الثاني. 1915).
يبدو أنني لا أستطيع أن أخترق العالم، لكنني أستطيع أن أتمدد بهدوء، وأن أستقبل، ليتسع هذا الذي استقبلته في داخلي، ولأخطو من ثمّ بهدوء. (20. كانون الثاني. 1915).
إنني عاجز ومجدب كالعادة، ولا أملك الوقت – حقيقة – للتفكير بأي شيء آخر، بقدر تفكيري في كيفية تشكل السؤال، وفي أن أحدا ما ليست لديه إلا رغبة وحيدة في أن يتلمسني بإصبعه الصغير. (24. كانون الثاني. 1915).
مقدار ضخم من التعاسة في التدوين الأخير، السير في طريق الهلاك. هكذا أذهب إلى الهلاك فاقدا للمعنى، وزائدا عن الحادة. (27. أيار. 1915).
الخوف المتزايد عند الكتابة ذلك أمر مفهوم، فكل كلمة في أيدي الأرواح – إن اهتزاز الي هي الحركة المميزة لها – تتحول إلى رمح ينطلق صوب المتكلم، وعلى وجه الخصوص صوب الملاحظات كهذه، على نحوٍ لا ينتهي. أما العزاء فهو: أن ذلك يحدث شئت أم أبيت، أما ما تريده فلا يساعدك إلا على نحو ضئيل. وأكثر من العزاء هو: أنك تمتلك سلاحا أيضاً. (12. حزيران. 1923).
من يوميات فرانز كافكا (1910 – 1923)، تحرير ماكس برود، ترجمة وتقديم خليل الشيخ، صادر عن هيئة “أبو ظبي للثقافة والتراث”.
Published on January 07, 2014 12:48
November 1, 2013
فن الحب وصخرة هانيبال
ستكون قراءة هذا الكتاب تجربة مليئة بخيبة الأمل لأى إنسان يتوقع تعليمات سهلة فى فن الحب. هكذا يصدر إريك فروم كتابه فكل الناس يحتاجون إلى الحب، إلى حب أنفسهم وإلى حب آخرين. وفى البداية هناك بعض الأفكار الشائعة والتى يحاول الكتاب مناقشتها، منها مثلا أن المشكلة الشائعة هى أن الناس دائما تفكر فى الشخص الذى يحبها ويهتم بها وتحاول أن تجذب هذا الشخص بالطرق المعروفة من أول أن يحقق الشخص نجاحا ما أو ثراء ما، إلى أن يحاول أن يكون جذابا جنسيا للطرف الآخر (وتلك عادة هى وصايا مدربى التنمية البشرية التعساء) إليكم تلك التجربة: حاول أو حاولى أن تقدم شخصيتك لمن حولك بأنك تملك أى من تلك المزايا (مثقف/ ناجح/ سكسى/ ثرى نوعا ما/ دمك خفيف وبشوش.. إلخ من المواصفات التى ينصح بها عادة) وشوف كمية الإنجذاب اللى هتحصلك:D
لكنك فى لحظة ما سوف تحتاج إلى اختيار الشخص المناسب، والإنجذاب بينكما ليس إلا مجرد خطوة بسيطة فى العلاقة. فليس كل من ينجذب لنا أو ننجذب له صالح ليكون هو شريكنا فى رحلة الحياة. إن طبيعة العصر الذى نعيش فيه جعلت فكرة الإنجذاب هى السبب الوحيد لكثير من العلاقات، يقول فروم فـ"بالنسبة للرجل تعد الفتاة الجذابة وبالنسبة للمرأة يعد الرجل الجذاب الجائزتين اللتين يسعيان وراءهما" فى سوق السلع الإنسانية. وتلك العلاقات القائمة على هذا النوع من التفكير (بطريقة التسوق) عادة تنتهى بعد وقت قصير بسبب تغير الحال وحتى تغير شكل الموضة نفسها، يقول فروم، مرة أخرى، فقد كان على الرجل فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أن يكون عدوانيا وطموحا- واليوم عليه أن يكون متسامحا واجتماعيا لكى يكون جذابا.
هناك فكرة أخرى سائدة عن أن الحب هو لحظة/ صدفة/ نظرة.. تتبعها قصة رومانسية عظيمة زى أفلام السينما التى تقدم لحظات جميلة وحميمية، لكن مع ذلك ليست حقيقية تماما. فطول البقاء بالضرورة سوف يخفف مع الوقت من تلك الرومانسية التى يحبها المراهقين وبنات الطبقة الوسطى. وتظهر الرتابة والملل مع مرور الوقت بالقرب والاعتياد.
إن شدة الإفتتان بشخص ما لا تعنى بالضرورة أنها حب، فالأغلب أنها تعبير عن درجة الوحدة قبل ظهور هذا الشخص الجديد فى حياتنا.
(بفكر مرة أصدم الناس وأكتب عن تعاسة كافكا وبؤسه الشديد حتى فى عز قربه من ميلينا إحدى صديقاته)
كانت أم كلثوم تغنى بالأمس القريب :أنا كنت إيه قبل ما أشوفك؟؟ فى تجاربنا الأولى نظن أننا خلقنا من جديد، مع أننا نحمل تاريخا ثقيلا فوق ظهورنا هذا التاريخ هو نحن ببساطة شديدة. وما أن تنتهى علاقتنا الأولى حتى نظن أن العالم نفسه قد انتهى أو يجب أن ينتهى احتراما لحزننا!!
يقول ميلان كونديرا فى "غراميات مرحة" إننا نعبر الحاضر بأعين معصوبة، وقصارى ما نستطيعه أن نتنبأ ونحدس بما نعيشه. وفيما بعد فحسب، حين تحل العصابة ونتفحص الماضى، ندرك ما عشناه ونفهم معناه.
إن الحب -بحسب إريك فروم- هو فن يجب أن نتعلمه، وحتى فى حالات الفشل يجب أن نتعلم أن نتجاوز بل وأن نغفر ونسامح أنفسنا وغيرنا، وأن نعيد المحاولة بخبرة جديدة. إن الحب هو نقيض الأنانية وهو القدرة على العطاء وعلى الفهم،وهو عين النضج، وكذلك هوالإيمان بالطرف الآخر.
إن قصة هانيبال والصخرة التى إعترضت طريقه أثناء عبوره جبال الألب تقول لنا أنه يمكن أن نستخدم قوة الصخرة لهزيمتها. وقد كان من مبادئه: دائما هناك حل، أو سنصنعه. إن صخرة الفشل فى علاقات الحب يمكن هزيمتها دائما، فقط يقتضى ذلك التواضع والمعرفة وبذل الجهد والقدرة على العطاء.
يكتب إيريك فروم هنا عن معنى الحب ليس كما هو شائع، وإنما بطريقة عقلانية فلسفية. بالقطع هناك أشكال متعددة وكثيرة لهذا "الحب"، وأحيانا نجد البعض يفهم الحب بمعنى "التملك" والسيطرة على من نحب، واحتوائه، وسجنه. إنها عملية خنق وإهلاك. إلا أن إريك يميز بين مفهوم الحب الناضج وغيره ليتوصل لفكرةتحتاج إلى تأمل، فهو يرى أن الحب ليس علاقة عاطفية ذات انفعالات جياشة ولا يرتبط بعالم الأسرة المسيطر عليه من قبل الذكر وعالم الملكية السائد،(تقوم فلسفة إريك بشكل عام على ثنائية: إما أن تملك وإما أن تكون) لكن الحب -عنده- هو فن يتطلب المسؤولية والاحترام والنظام والتركيز والصبر والاهتمام .وهو موقف عام من الحياة، يتنافى مع الأنانية ويتضمن الموضوعية والعقلانية والتواضع بالضرورة... أي أن الحب يقتضي المعرفة وبذل الجهد والتعلم من الأخطاء. وهو ليس إحساساً تابعاً للذة، بل هو فن، تماما كالحياة، نتعلمه كما نتعلم كل الأشياء.
يقول إريك فروم: إن كلمة الوقوع فى الحب ليست صحيحة، فالمحبة فعل إيجابى، والإنسان فيه ينهض، ويخطو ويسير، ويتعلم.
لكنك فى لحظة ما سوف تحتاج إلى اختيار الشخص المناسب، والإنجذاب بينكما ليس إلا مجرد خطوة بسيطة فى العلاقة. فليس كل من ينجذب لنا أو ننجذب له صالح ليكون هو شريكنا فى رحلة الحياة. إن طبيعة العصر الذى نعيش فيه جعلت فكرة الإنجذاب هى السبب الوحيد لكثير من العلاقات، يقول فروم فـ"بالنسبة للرجل تعد الفتاة الجذابة وبالنسبة للمرأة يعد الرجل الجذاب الجائزتين اللتين يسعيان وراءهما" فى سوق السلع الإنسانية. وتلك العلاقات القائمة على هذا النوع من التفكير (بطريقة التسوق) عادة تنتهى بعد وقت قصير بسبب تغير الحال وحتى تغير شكل الموضة نفسها، يقول فروم، مرة أخرى، فقد كان على الرجل فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أن يكون عدوانيا وطموحا- واليوم عليه أن يكون متسامحا واجتماعيا لكى يكون جذابا.
هناك فكرة أخرى سائدة عن أن الحب هو لحظة/ صدفة/ نظرة.. تتبعها قصة رومانسية عظيمة زى أفلام السينما التى تقدم لحظات جميلة وحميمية، لكن مع ذلك ليست حقيقية تماما. فطول البقاء بالضرورة سوف يخفف مع الوقت من تلك الرومانسية التى يحبها المراهقين وبنات الطبقة الوسطى. وتظهر الرتابة والملل مع مرور الوقت بالقرب والاعتياد.
إن شدة الإفتتان بشخص ما لا تعنى بالضرورة أنها حب، فالأغلب أنها تعبير عن درجة الوحدة قبل ظهور هذا الشخص الجديد فى حياتنا.
(بفكر مرة أصدم الناس وأكتب عن تعاسة كافكا وبؤسه الشديد حتى فى عز قربه من ميلينا إحدى صديقاته)
كانت أم كلثوم تغنى بالأمس القريب :أنا كنت إيه قبل ما أشوفك؟؟ فى تجاربنا الأولى نظن أننا خلقنا من جديد، مع أننا نحمل تاريخا ثقيلا فوق ظهورنا هذا التاريخ هو نحن ببساطة شديدة. وما أن تنتهى علاقتنا الأولى حتى نظن أن العالم نفسه قد انتهى أو يجب أن ينتهى احتراما لحزننا!!
يقول ميلان كونديرا فى "غراميات مرحة" إننا نعبر الحاضر بأعين معصوبة، وقصارى ما نستطيعه أن نتنبأ ونحدس بما نعيشه. وفيما بعد فحسب، حين تحل العصابة ونتفحص الماضى، ندرك ما عشناه ونفهم معناه.
إن الحب -بحسب إريك فروم- هو فن يجب أن نتعلمه، وحتى فى حالات الفشل يجب أن نتعلم أن نتجاوز بل وأن نغفر ونسامح أنفسنا وغيرنا، وأن نعيد المحاولة بخبرة جديدة. إن الحب هو نقيض الأنانية وهو القدرة على العطاء وعلى الفهم،وهو عين النضج، وكذلك هوالإيمان بالطرف الآخر.
إن قصة هانيبال والصخرة التى إعترضت طريقه أثناء عبوره جبال الألب تقول لنا أنه يمكن أن نستخدم قوة الصخرة لهزيمتها. وقد كان من مبادئه: دائما هناك حل، أو سنصنعه. إن صخرة الفشل فى علاقات الحب يمكن هزيمتها دائما، فقط يقتضى ذلك التواضع والمعرفة وبذل الجهد والقدرة على العطاء.
يكتب إيريك فروم هنا عن معنى الحب ليس كما هو شائع، وإنما بطريقة عقلانية فلسفية. بالقطع هناك أشكال متعددة وكثيرة لهذا "الحب"، وأحيانا نجد البعض يفهم الحب بمعنى "التملك" والسيطرة على من نحب، واحتوائه، وسجنه. إنها عملية خنق وإهلاك. إلا أن إريك يميز بين مفهوم الحب الناضج وغيره ليتوصل لفكرةتحتاج إلى تأمل، فهو يرى أن الحب ليس علاقة عاطفية ذات انفعالات جياشة ولا يرتبط بعالم الأسرة المسيطر عليه من قبل الذكر وعالم الملكية السائد،(تقوم فلسفة إريك بشكل عام على ثنائية: إما أن تملك وإما أن تكون) لكن الحب -عنده- هو فن يتطلب المسؤولية والاحترام والنظام والتركيز والصبر والاهتمام .وهو موقف عام من الحياة، يتنافى مع الأنانية ويتضمن الموضوعية والعقلانية والتواضع بالضرورة... أي أن الحب يقتضي المعرفة وبذل الجهد والتعلم من الأخطاء. وهو ليس إحساساً تابعاً للذة، بل هو فن، تماما كالحياة، نتعلمه كما نتعلم كل الأشياء.
يقول إريك فروم: إن كلمة الوقوع فى الحب ليست صحيحة، فالمحبة فعل إيجابى، والإنسان فيه ينهض، ويخطو ويسير، ويتعلم.
Published on November 01, 2013 11:32
October 13, 2013
عن روايتى وأشياء أخرى
كتبت الإهداء فى روايتى الأولى إلى: "فيرمينا داثا"، وهو اسم بطلة رواية "الحب فى زمن الكوليرا"، عن قصة الحب الكبيرة بين تلك الفتاة وهذا الولد الشاحب "فلورنتينو أريثا" لقد كانت قصة حب ملتهبة بينهما؛ ولأسباب ما (دائما هناك أسباب يا أخى) رحلت فيرمينا داثا وتزوجت من الطبيب الناجح. وتألم فلورنتينوا إلى الدرجة التى جعلت أمه تعتقد أنه قد أصيب بالكوليرا، غير أن الطبيب أخبرها: أن للحب -أحيانا- أعراض الكوليرا. وعلى مدى أكثر من خمسين عاما كان فلورنتينو يجاهد من أجل أن يكون شخصا ناجحا ويكون ثروة حتى يصبح جديرا بمن أحب ذات يوم. ولم يتوقف عن الكتابة عنها طوال هذه الفترة. ورغم تعدد علاقاته النسائية فإنه لم يحب سواها. وفى النهاية قررا أن يذهبا معا فى رحلة على مركبه، رحلة رفعت الراية الصفراء (راية الكوليرا) حتى لا تتوقف فى أى مينا.. ولما سأل قبطان المركب: إلى متى يا سيدى؟ أجاب فلورنتينو: مدى الحياة. وكنت قد كتبت الاهداء، إليها.. مدى الحياة. وكتابة الرواية -مثل موضوع هاملت وموضوع الحنين بالظبط- كانت شكل من أشكال التحرر من "البؤس الذى أغرقنى"، تماما كما يقول هذا الكاتب عن حكايته التى كتب عنها فيلما:
500 Days of Summer المقال عن فيلم
نُشر في جريدة "دايلي ميل" البريطانية في أغسطس 2009
تحتوي تترات البداية في فيلمي على إخلاء الطرف القانوني التقليدي الذي ينص على أن "أي تشابه مع شخصية حية أو ميتة يُعد من باب الصدفة"، إلا أنه يضيف بعدها "بالذات أنت، جيني بكمان، أيتها الحقيرة."
بالطبع يقول لك هذا الكثير عن مشاعري عندما قرَّرت هي إنهاء علاقة أردتُ بكل جوارحي -وإلى حدٍّ مثير للشفقة- أن تنجح، وهذا على الرغم من أنها كانت ترى دومًا، وبوضوح، أن لا مستقبل لنا معًا (هناك الكثير من الجدل على الإنترنت عما إذا كان هذا اسمها الحقيقي، لكنني لن أفصح).
كنتُ قد رأيتها للمرة الأولى على الجانب الآخر من غرفة في أكتوبر عام 2002، عندما التحقتُ بكلية الاقتصاد في لندن للحصول على درجة البكالوريوس في الإعلام والاتصالات، وعلى الفور تقريبًا خطرت لي فكرتان: الأولى أنني وجدتُ فيها بالفعل ما كنتُ أبحث عنه بالضبط، والثانية أن النهاية ستكون سيئة إلى أقصى حد.
كنتُ وقتها أعاني بقايا علاقة سابقة انتهت قبل شهور في نيويورك، عندما كنت أعمل لحساب شركة إنتاج سينمائي. كنت معتزلاً العالم محاطًا بالكآبة. لابد أنك تعرف الموقف جيدًا: الليالي بلا نوم، وأيام طويلة أقضيها في مشاهدة الأفلام السويدية وسماع الموسيقا بلا توقُّف.
لكن اكتئابي تلاشى عندما التقيت هذه الفتاة في لندن، وامتلأ قلبي بالحب، وشعرت بأن يدًا إلهية هي صاحبة كل هذا. بدأنا نتكلَّم، ووجدنا أن لدينا الذوق نفسه في الكتب والموسيقا، وخطر لي أن لهذا دلالة ما لا ريب، أليس كذلك؟
كنت غارقًا في الحب حتى الثمالة، لكنني لم أخبرها بأي شيء، فهي لم تُبد أي لمحة اهتمام بي على الإطلاق. على أنني أخبرت كل من عداها من الأصدقاء المشتركين تقريبًا، ومن ثم أخبرها أحدهم بالحقيقة في حفل ما. أفضى هذا إلى تمشية غير مريحة معها إلى محطة الأتوبيس، لكن كل شيء تغيَّر عندما قبَّلتني في نهاية الطريق.
ثم إننا قرَّرنا –في الواقع، قرَّرت هي- ألا نضع تسمية بعينها لعلاقتنا، لا صاحب وصاحبة أو أي شيء من هذا. المسمَّيات تعني الاستحواذ، وهذه الفتاة كانت سيدة نفسها. لم أمانع، فمن يبالي بالمسمَّى الذي نُطلقه على نفسينا طالما هي معي؟
اعتبرتُ الموقف عصريًّا ثقافيًّا... إلى آخره من الأشياء التي خالفت الواقع تمامًا من ارتباك وحيرة وعزلة. بعض أيامنا معًا كان رائعًا لا شك، وما زالت لديَّ ذكريات جميلة عنا ونحن نحتسي النبيذ ونشاهد العروض الموسيقية ونختلس القبلات في المصاعد. الأيام الأخرى -معظمها- كان شنيعًا إلى درجة يصعب نسيانها؛ وفي النهاية أفصحت هي عما كنت أعرفه طوال الوقت في أعماق قلبي، أن ذلك الشيء، ذلك الذي بيننا أيًّا كان، لن ينجح بأي شكل من الأشكال.
هكذا عدتُ إلى الولايات لأجد نفسي من جديد في دوامة الأفلام السويدية والموسيقا.
قلتُ لنفسي إن الحكاية كلها كانت خطأً كبيرًا. يد إلهية؟ يا للهراء! كان صديقي مايكل هـ. وبر قد بلغ به الملل أقصاه بالطبع من اكتئابي، فقرَّرنا تحويل هذه المشاعر إلى شيء ذي قيمة، أي إلى نص سينمائي.
طبعًا عشتُ كل لحظة مؤلمة وغير مؤلمة من حبي الذي كان أحادي الطرف من جديد، لكن التجربة كانت مُطهِّرة للنفس، والنتيجة كانت فيلمًا لا بأس به على الإطلاق، وهو ما صدمنا في الحقيقة!
يحكي الفيلم القصة كما حدثت بالضبط، حتى عندما صوَّرني مُخلصًا كالكلاب وصوَّرها غير مبالية بأي شيء. يختلف مكان الأحداث في الفيلم عن الواقع، بالإضافة إلى الأسماء كذلك، فتوم هانسن -أنا!- لعب دوره جوزيف جوردون ليفيت الذي يكتب الرسائل على البطاقات البريدية، والفتاة التي حطمَّت قلبه -سمر فين- هي زوي ديشانل التي تعمل سكرتيرة في المكتب نفسه. على أن شيئًا لم يتغير إطلاقًا في النهاية التي لن أحرقها على من لم يشاهد الفيلم، بل سأكتفي بأن أقول إنه لم تكن هناك نهاية سعيدة لقصة توم وسمر، تمامًا كنهاية قصتي مع جيني بكمان.
لقد استطعت بفضل هذا السيناريو وعملية كتابته تحرير نفسي من البؤس الذي أغرقني، وها أنا ذا قد مرَّ عليَّ عامان في علاقة أخرى تُشعرني بسعادة لم أعرفها من قبل أبدًا.
فقط ثمة ملاحظة أخيرة مثيرة للاهتمام: بعد كتابة السيناريو التقيت بجيني للمرة الأولى والوحيدة بعد انفصالنا. يومها تناولنا العشاء في مطعم في كاليفورنيا، وتكلَّمنا عن الحياة والأصدقاء وخلافه، عن كل شيء سوى أي شيء حدث بيننا.
يومها أعطيتها السيناريو لتقرأه على متن الطائرة وهي عائدة إلى لندن، وبعد فترة كتبت لي رسالة تقول إنها أحبت القصة حقًّا، وإن الأحداث فاجأتها ومسَّتها لأنها ارتبطت بشخصية توم بشدة.
نعم، الحقيقة أن جيني لم تُدرك أنها وسمر شخص واحد على الإطلاق!
https://www.facebook.com/notes/%D8%A7...
500 Days of Summer المقال عن فيلم
نُشر في جريدة "دايلي ميل" البريطانية في أغسطس 2009
تحتوي تترات البداية في فيلمي على إخلاء الطرف القانوني التقليدي الذي ينص على أن "أي تشابه مع شخصية حية أو ميتة يُعد من باب الصدفة"، إلا أنه يضيف بعدها "بالذات أنت، جيني بكمان، أيتها الحقيرة."
بالطبع يقول لك هذا الكثير عن مشاعري عندما قرَّرت هي إنهاء علاقة أردتُ بكل جوارحي -وإلى حدٍّ مثير للشفقة- أن تنجح، وهذا على الرغم من أنها كانت ترى دومًا، وبوضوح، أن لا مستقبل لنا معًا (هناك الكثير من الجدل على الإنترنت عما إذا كان هذا اسمها الحقيقي، لكنني لن أفصح).
كنتُ قد رأيتها للمرة الأولى على الجانب الآخر من غرفة في أكتوبر عام 2002، عندما التحقتُ بكلية الاقتصاد في لندن للحصول على درجة البكالوريوس في الإعلام والاتصالات، وعلى الفور تقريبًا خطرت لي فكرتان: الأولى أنني وجدتُ فيها بالفعل ما كنتُ أبحث عنه بالضبط، والثانية أن النهاية ستكون سيئة إلى أقصى حد.
كنتُ وقتها أعاني بقايا علاقة سابقة انتهت قبل شهور في نيويورك، عندما كنت أعمل لحساب شركة إنتاج سينمائي. كنت معتزلاً العالم محاطًا بالكآبة. لابد أنك تعرف الموقف جيدًا: الليالي بلا نوم، وأيام طويلة أقضيها في مشاهدة الأفلام السويدية وسماع الموسيقا بلا توقُّف.
لكن اكتئابي تلاشى عندما التقيت هذه الفتاة في لندن، وامتلأ قلبي بالحب، وشعرت بأن يدًا إلهية هي صاحبة كل هذا. بدأنا نتكلَّم، ووجدنا أن لدينا الذوق نفسه في الكتب والموسيقا، وخطر لي أن لهذا دلالة ما لا ريب، أليس كذلك؟
كنت غارقًا في الحب حتى الثمالة، لكنني لم أخبرها بأي شيء، فهي لم تُبد أي لمحة اهتمام بي على الإطلاق. على أنني أخبرت كل من عداها من الأصدقاء المشتركين تقريبًا، ومن ثم أخبرها أحدهم بالحقيقة في حفل ما. أفضى هذا إلى تمشية غير مريحة معها إلى محطة الأتوبيس، لكن كل شيء تغيَّر عندما قبَّلتني في نهاية الطريق.
ثم إننا قرَّرنا –في الواقع، قرَّرت هي- ألا نضع تسمية بعينها لعلاقتنا، لا صاحب وصاحبة أو أي شيء من هذا. المسمَّيات تعني الاستحواذ، وهذه الفتاة كانت سيدة نفسها. لم أمانع، فمن يبالي بالمسمَّى الذي نُطلقه على نفسينا طالما هي معي؟
اعتبرتُ الموقف عصريًّا ثقافيًّا... إلى آخره من الأشياء التي خالفت الواقع تمامًا من ارتباك وحيرة وعزلة. بعض أيامنا معًا كان رائعًا لا شك، وما زالت لديَّ ذكريات جميلة عنا ونحن نحتسي النبيذ ونشاهد العروض الموسيقية ونختلس القبلات في المصاعد. الأيام الأخرى -معظمها- كان شنيعًا إلى درجة يصعب نسيانها؛ وفي النهاية أفصحت هي عما كنت أعرفه طوال الوقت في أعماق قلبي، أن ذلك الشيء، ذلك الذي بيننا أيًّا كان، لن ينجح بأي شكل من الأشكال.
هكذا عدتُ إلى الولايات لأجد نفسي من جديد في دوامة الأفلام السويدية والموسيقا.
قلتُ لنفسي إن الحكاية كلها كانت خطأً كبيرًا. يد إلهية؟ يا للهراء! كان صديقي مايكل هـ. وبر قد بلغ به الملل أقصاه بالطبع من اكتئابي، فقرَّرنا تحويل هذه المشاعر إلى شيء ذي قيمة، أي إلى نص سينمائي.
طبعًا عشتُ كل لحظة مؤلمة وغير مؤلمة من حبي الذي كان أحادي الطرف من جديد، لكن التجربة كانت مُطهِّرة للنفس، والنتيجة كانت فيلمًا لا بأس به على الإطلاق، وهو ما صدمنا في الحقيقة!
يحكي الفيلم القصة كما حدثت بالضبط، حتى عندما صوَّرني مُخلصًا كالكلاب وصوَّرها غير مبالية بأي شيء. يختلف مكان الأحداث في الفيلم عن الواقع، بالإضافة إلى الأسماء كذلك، فتوم هانسن -أنا!- لعب دوره جوزيف جوردون ليفيت الذي يكتب الرسائل على البطاقات البريدية، والفتاة التي حطمَّت قلبه -سمر فين- هي زوي ديشانل التي تعمل سكرتيرة في المكتب نفسه. على أن شيئًا لم يتغير إطلاقًا في النهاية التي لن أحرقها على من لم يشاهد الفيلم، بل سأكتفي بأن أقول إنه لم تكن هناك نهاية سعيدة لقصة توم وسمر، تمامًا كنهاية قصتي مع جيني بكمان.
لقد استطعت بفضل هذا السيناريو وعملية كتابته تحرير نفسي من البؤس الذي أغرقني، وها أنا ذا قد مرَّ عليَّ عامان في علاقة أخرى تُشعرني بسعادة لم أعرفها من قبل أبدًا.
فقط ثمة ملاحظة أخيرة مثيرة للاهتمام: بعد كتابة السيناريو التقيت بجيني للمرة الأولى والوحيدة بعد انفصالنا. يومها تناولنا العشاء في مطعم في كاليفورنيا، وتكلَّمنا عن الحياة والأصدقاء وخلافه، عن كل شيء سوى أي شيء حدث بيننا.
يومها أعطيتها السيناريو لتقرأه على متن الطائرة وهي عائدة إلى لندن، وبعد فترة كتبت لي رسالة تقول إنها أحبت القصة حقًّا، وإن الأحداث فاجأتها ومسَّتها لأنها ارتبطت بشخصية توم بشدة.
نعم، الحقيقة أن جيني لم تُدرك أنها وسمر شخص واحد على الإطلاق!
https://www.facebook.com/notes/%D8%A7...
Published on October 13, 2013 08:47
September 27, 2013
فى مديح الحب
فى 2008 قال ويل سميث عن شخصية فيلمه الجديد(هانكوك): هانكوك، ليس بطلك الخارق المعتاد،إنه يستيقظ كل يوم غاضباً من العالم، وهو لا يتذكر ما حدث له، ولا يوجد أحد ليساعده للوصول لإجابات.http://nypost.com/2008/06/29/stuporman/
فى أحد المشاهد المؤثرة (الفيلم كله ملوش لازمة باستثناء المشهد ده) يقول : أى وغد كنت حتى لا يسأل على أحد طوال الفترة التى هى عمرى؟. وبالرغم من وجود الصخب فى حياتنا دائما والعديد من الأشخاص، إلا أننا،مع ذلك، نشعر أنه لا أحد.
وأحيانا يضطر بعض الناس بسبب اليأس من ظهور هذا "الأحد" إلى اللجوء للصخب الكاذب بطبيعة الحال باعتباره حلا لمشكلة الوحدة.
ضمن سلسلة مسرح الأفكار فى مهرجان "أفينون" اقترح نيكولاس ترونج وهو من كتاب صحيفة "لوموند" على الفيلسوف الفرنسى الشهير آلان باديو أن يحاوره حول موضوع الحب. وما ذكرته حول سلافوى جيجيك من كلام الناقد الأمريكى فريدريك جيمسون http://www.goodreads.com/review/show/... يمكن أن نعيده هنا -لكن مع التأكيد على كون باديو أعمق - فباديو هو الفيلسوف الأشهر فى فرنسا خصوصا بعد أن قدم أهم أعماله: "نظرية التناقض" (1975) و"الكائن والحدث" (1988) و "منطق العوالم" (2006)، بالإضافة للصدى الواسع لكتاب "حالة ساركوزى". فى كتابه "مديح الحب" يؤمن باديو بقول أفلاطون: إن الشخص الذي لا يتخذ الحب نقطة بداية له لن يعرف أبدا ما هي الفلسفة . إن الفلسفة فى أحد تعريفاتها : هى حب الحكمة. وبالتالى فنحن كما ندرس الحكمة يمكن أن ندرس الحب باعتباره موضوعا فلسفيا.
يقول أوسترافسكى الشاعر: قالت قطعة الجليد - وقد مسها أول شعاع من أشعة الشمس فى مستهل الربيع-: أنا أحب، وأنا أذوب، وليس فى الإمكان أن أحب، وأوجد معا؛ فإنه لابد من الاختيار بين أمرين، وجود بدون حب، وهذا هو الشتاء القارس، أو حب بدون وجود، وذلك هو الموت فى مطلع الربيع. وبسبب الخوف من هذا "الذوبان" يتراجع البعض عن خوض التجربة ويكتفى بحب ذاته والجلوس فى الشتاء وحيدا.. فالحب كما يقول باديو هو مشروع وجود يبدأ بفرصة تلوح من أجل تغيير يحدث لشخصين ويتحداهما من أجل أن يعاينا العالم من وجهة نظر شخصين وليس شخصا واحدا.إن الحب "-رغم خوف البعض منه- هو محور إهتمام للبشرية جميعها وإلا ما ظهرت كل تلك القصص والحكايات والأفلام. لقد تغنى هوميروس بحب باريس لهلينا فى الإلياذة، وتغنى دانتى بحب بياتريس، وتغنى شكسبير بحب رميو لجوليت، وتغنى جوته بحب فاوست لمرجريت، وتغنى تولستوى بحب أندرو لنتاشا، وتغنى ثربانتس بحب دون كيشوت لدولسينا.. وأنا شخصيا هنا "تغنيت" بحب سوزان طه حسين لزوجها http://www.goodreads.com/review/show/...، وبحب عائشة عبد الرحمن للأستاذ أمين الخولى http://www.goodreads.com/review/show/....
ولأن باديو سياسى أيضا، فهو يسأل: ماذا يمكن للأفراد القيام به عندما يجتمعون وينظمون أنفسهم ويفكرون ويتخذون قرارات؟ وفى حالة الحب بين إثنين فإنهما يقومان بإدارة الفوارق بينهما وابتكار شئ جديد.
إلا أن الخطر الذى يواجه الحب فى عصرنا هذا هو خطر البحث عن "حب آمن" ففكرة البحث عن نموذج ما مثل الذى تقدمه الإعلانات في المواقع الإلكترونية، تلك التى تنتصر لمبدأ "حماية الحب"، كما يبدو من شعاراتها: يمكنك أن تكون محبا بدون أن تتألم"، و"يمكنك أن تكون محبا بدون أن تسقط في الحب"، "اكتشف الحب بعيدا عن الصدفة"، ومثل هذا الإغواء كمن يعرض علينا مدربا يحضرنا لمواجهة الإمتحان، لعلنا نحقق حبا مضمون النجاح بعد انتقاء الشريك من خلال معلومات تقترحها تلك المواقع كالصور والاهتمامات وتاريخ الميلاد والبرج وغيرها من التفاصيل التي تدفعك للقول بأن هذا المسار يحقق ما كنت تتمناه.هذا الأمر شبيه بدعاية الجيش الأمريكي لنظرية "الحرب بصفر ضحية"؛رغم أن التاريخ لم يخبرنا أبدا بمعارك بدون ضحايا. هذا البحث المضنى عن الأمان التام، أو عن الهروب من المغامرة أو المخاطرة يحاول -أو يتخيل- أنه يتجنب بذلك المخاطرة، كل شيء محسوب، بعيدا عن الصدفة وعن اللقاء، وبالتالي يضيع كل "الشعر عن الحياة". إن الحب لا يمكنه أن يقوم في ظل الغياب الكامل للمخاطرات. مجرد أن يسقط المرء في حبال الحب يعني أنه قد خاطر بإمكانية الألم والخطأ وخيبة الأمل. وهذه المخاطرة هى ما تعطي الحياة دلالة وكثافة. وفى كل مرة نفشل فيها نستطيع أن نحول الفشل إلى نجاح فى مغامرة جديدة.إن الحب، كما نعلم، يجب أن يبتكر من جديد-كما يقول آرثر رامبو- فى كل مرة إلى أن نصل لذلك"الأحد" والذى قد يساعدنا فى الوصول لإجابات.
فى أحد المشاهد المؤثرة (الفيلم كله ملوش لازمة باستثناء المشهد ده) يقول : أى وغد كنت حتى لا يسأل على أحد طوال الفترة التى هى عمرى؟. وبالرغم من وجود الصخب فى حياتنا دائما والعديد من الأشخاص، إلا أننا،مع ذلك، نشعر أنه لا أحد.
وأحيانا يضطر بعض الناس بسبب اليأس من ظهور هذا "الأحد" إلى اللجوء للصخب الكاذب بطبيعة الحال باعتباره حلا لمشكلة الوحدة.
ضمن سلسلة مسرح الأفكار فى مهرجان "أفينون" اقترح نيكولاس ترونج وهو من كتاب صحيفة "لوموند" على الفيلسوف الفرنسى الشهير آلان باديو أن يحاوره حول موضوع الحب. وما ذكرته حول سلافوى جيجيك من كلام الناقد الأمريكى فريدريك جيمسون http://www.goodreads.com/review/show/... يمكن أن نعيده هنا -لكن مع التأكيد على كون باديو أعمق - فباديو هو الفيلسوف الأشهر فى فرنسا خصوصا بعد أن قدم أهم أعماله: "نظرية التناقض" (1975) و"الكائن والحدث" (1988) و "منطق العوالم" (2006)، بالإضافة للصدى الواسع لكتاب "حالة ساركوزى". فى كتابه "مديح الحب" يؤمن باديو بقول أفلاطون: إن الشخص الذي لا يتخذ الحب نقطة بداية له لن يعرف أبدا ما هي الفلسفة . إن الفلسفة فى أحد تعريفاتها : هى حب الحكمة. وبالتالى فنحن كما ندرس الحكمة يمكن أن ندرس الحب باعتباره موضوعا فلسفيا.
يقول أوسترافسكى الشاعر: قالت قطعة الجليد - وقد مسها أول شعاع من أشعة الشمس فى مستهل الربيع-: أنا أحب، وأنا أذوب، وليس فى الإمكان أن أحب، وأوجد معا؛ فإنه لابد من الاختيار بين أمرين، وجود بدون حب، وهذا هو الشتاء القارس، أو حب بدون وجود، وذلك هو الموت فى مطلع الربيع. وبسبب الخوف من هذا "الذوبان" يتراجع البعض عن خوض التجربة ويكتفى بحب ذاته والجلوس فى الشتاء وحيدا.. فالحب كما يقول باديو هو مشروع وجود يبدأ بفرصة تلوح من أجل تغيير يحدث لشخصين ويتحداهما من أجل أن يعاينا العالم من وجهة نظر شخصين وليس شخصا واحدا.إن الحب "-رغم خوف البعض منه- هو محور إهتمام للبشرية جميعها وإلا ما ظهرت كل تلك القصص والحكايات والأفلام. لقد تغنى هوميروس بحب باريس لهلينا فى الإلياذة، وتغنى دانتى بحب بياتريس، وتغنى شكسبير بحب رميو لجوليت، وتغنى جوته بحب فاوست لمرجريت، وتغنى تولستوى بحب أندرو لنتاشا، وتغنى ثربانتس بحب دون كيشوت لدولسينا.. وأنا شخصيا هنا "تغنيت" بحب سوزان طه حسين لزوجها http://www.goodreads.com/review/show/...، وبحب عائشة عبد الرحمن للأستاذ أمين الخولى http://www.goodreads.com/review/show/....
ولأن باديو سياسى أيضا، فهو يسأل: ماذا يمكن للأفراد القيام به عندما يجتمعون وينظمون أنفسهم ويفكرون ويتخذون قرارات؟ وفى حالة الحب بين إثنين فإنهما يقومان بإدارة الفوارق بينهما وابتكار شئ جديد.
إلا أن الخطر الذى يواجه الحب فى عصرنا هذا هو خطر البحث عن "حب آمن" ففكرة البحث عن نموذج ما مثل الذى تقدمه الإعلانات في المواقع الإلكترونية، تلك التى تنتصر لمبدأ "حماية الحب"، كما يبدو من شعاراتها: يمكنك أن تكون محبا بدون أن تتألم"، و"يمكنك أن تكون محبا بدون أن تسقط في الحب"، "اكتشف الحب بعيدا عن الصدفة"، ومثل هذا الإغواء كمن يعرض علينا مدربا يحضرنا لمواجهة الإمتحان، لعلنا نحقق حبا مضمون النجاح بعد انتقاء الشريك من خلال معلومات تقترحها تلك المواقع كالصور والاهتمامات وتاريخ الميلاد والبرج وغيرها من التفاصيل التي تدفعك للقول بأن هذا المسار يحقق ما كنت تتمناه.هذا الأمر شبيه بدعاية الجيش الأمريكي لنظرية "الحرب بصفر ضحية"؛رغم أن التاريخ لم يخبرنا أبدا بمعارك بدون ضحايا. هذا البحث المضنى عن الأمان التام، أو عن الهروب من المغامرة أو المخاطرة يحاول -أو يتخيل- أنه يتجنب بذلك المخاطرة، كل شيء محسوب، بعيدا عن الصدفة وعن اللقاء، وبالتالي يضيع كل "الشعر عن الحياة". إن الحب لا يمكنه أن يقوم في ظل الغياب الكامل للمخاطرات. مجرد أن يسقط المرء في حبال الحب يعني أنه قد خاطر بإمكانية الألم والخطأ وخيبة الأمل. وهذه المخاطرة هى ما تعطي الحياة دلالة وكثافة. وفى كل مرة نفشل فيها نستطيع أن نحول الفشل إلى نجاح فى مغامرة جديدة.إن الحب، كما نعلم، يجب أن يبتكر من جديد-كما يقول آرثر رامبو- فى كل مرة إلى أن نصل لذلك"الأحد" والذى قد يساعدنا فى الوصول لإجابات.
Published on September 27, 2013 17:15
August 20, 2013
الرغبة فى الرسم
الرغبة فى الرسم
سأم باريس-شارل بودلير
ترجمة: بشير السباعى
قد يكون الإنسان تعيسا، لكن ما أسعد الفنان الذى تمزقه الرغبة!
أحترق بالرغبة فى رسم تلك التى ظهرت لى نادرا جدا وهربت سريعا جدا، كشئ جميل يؤسف لفقده خلف المسافر الذى يعدو فى الليل. ما أطول اختفائها بالفعل!
إنها جميلة، وأكثر من جميلة؛ إنها مدهشة. فيها تفيض الحلكة: وكل ما تلهمه ليلى وعميق. عيناها كهفان يلمع اللغز فيهما لمعانا غامضا، ونظرتها تضئ كالبرق: إنه انفجار فى العتمات.
فلأقارنها بشمس سوداء، إن كان بالإمكان تصور نجم أسود ينشر النور والغبطة. لكنها تذكر بشكل تلقائى أكثر بالقمر، الذى لا ريب فى أنه قد ترك عليها أثره المخيف؛ ليس قمر الغزليات الأبيض، الذى يشبه عروسا باردة، بل القمر الخبيث والمسكر، المعلق فى قلب ليلة عاصفة والذى تؤجحه السحب الراكضة؛ ليس القمر الوديع الوقور الذى يزور نعاس الرجال الأطهار، بل القمر المنتزع من السماء، المغلوب والساخط الذى ترغمه ساحرات تيساليا بقسوة على الرقص على العشب المفزوع!
في جبينها الصغير تسكن الإرادة الثابتة وعشق الفريسة. إلا أنه أسفل هذا الوجه [المقلق، حيث فتحتا الانف المتحركتان تستنشقان المجهول والمستحيل]. تنفجر، بجمال لا يمكن التعبير عنه، ضحكة فم [واسع]، أحمر وأبيض، ولذيذ، تجعل المرء يحلم بمعجزة زهرة رائعة [تتفتح] في ساحة بركانية.
هناك نساء يلهمن الرغبة في قهرهن والاستمتاع بهن، لكن هذه المرأة تلهم الرغبة في الموت ببطء تحت نظرها.
سأم باريس-شارل بودلير
ترجمة: بشير السباعى
قد يكون الإنسان تعيسا، لكن ما أسعد الفنان الذى تمزقه الرغبة!
أحترق بالرغبة فى رسم تلك التى ظهرت لى نادرا جدا وهربت سريعا جدا، كشئ جميل يؤسف لفقده خلف المسافر الذى يعدو فى الليل. ما أطول اختفائها بالفعل!
إنها جميلة، وأكثر من جميلة؛ إنها مدهشة. فيها تفيض الحلكة: وكل ما تلهمه ليلى وعميق. عيناها كهفان يلمع اللغز فيهما لمعانا غامضا، ونظرتها تضئ كالبرق: إنه انفجار فى العتمات.
فلأقارنها بشمس سوداء، إن كان بالإمكان تصور نجم أسود ينشر النور والغبطة. لكنها تذكر بشكل تلقائى أكثر بالقمر، الذى لا ريب فى أنه قد ترك عليها أثره المخيف؛ ليس قمر الغزليات الأبيض، الذى يشبه عروسا باردة، بل القمر الخبيث والمسكر، المعلق فى قلب ليلة عاصفة والذى تؤجحه السحب الراكضة؛ ليس القمر الوديع الوقور الذى يزور نعاس الرجال الأطهار، بل القمر المنتزع من السماء، المغلوب والساخط الذى ترغمه ساحرات تيساليا بقسوة على الرقص على العشب المفزوع!
في جبينها الصغير تسكن الإرادة الثابتة وعشق الفريسة. إلا أنه أسفل هذا الوجه [المقلق، حيث فتحتا الانف المتحركتان تستنشقان المجهول والمستحيل]. تنفجر، بجمال لا يمكن التعبير عنه، ضحكة فم [واسع]، أحمر وأبيض، ولذيذ، تجعل المرء يحلم بمعجزة زهرة رائعة [تتفتح] في ساحة بركانية.
هناك نساء يلهمن الرغبة في قهرهن والاستمتاع بهن، لكن هذه المرأة تلهم الرغبة في الموت ببطء تحت نظرها.
Published on August 20, 2013 15:27
June 29, 2013
مختارات من فن الرواية
ثلاثية حول الرواية - ميلان كونديرا
ترجمة: بدر الدين عرودكى
(1)
روح الرواية هى روح الاستمرارية: كل عمل هو إجابة لأعمال سابقة، كل عمل يحتوى الخبرات السابقة.. لكن روح عصرنا مركزة بثبات على الحاضر الذى هو متسع وزاخر بحيث يدفع الماضى بعيدا عن رؤيتنا.. فى داخل هذا النظام لم تعد الرواية عملا-يكتب ليبقى- بل حادثة عابرة وسط العديد من الأحداث، مجرد إيماءة بلا غد
(2)
يتمنى الإنسان عالما يمكن فيه تمييز الخير والشر بوضوح كامل لأن فى أعماقه رغبة فطرية لا فكاك منها فى الحكم على الأمور قبل فهمها. على هذه الرغبة قامت الأديان والأيديولوجيات. إنها لا يمكن أن تتصالح مع الرواية إلا إذا ترجمت لغتها النسبية والغامضة إلى خطابها العقائدى والقاطع. إنها تطلب أن يكون ثمة أحد على حق؛ فإما أنا كارنينا ضحية مستبد محدود العقل، وإما أن زوجها ضحية امرأة لا أخلاقية؛ تتضمن هذه ال "إما و إما" العجز عن تحمل النسبية الجوهرية للأشياء الإنسانية، العجز عن رؤية غياب الحاكم المطلق وجها لوجه. ومن الصعب، بسبب هذا العجز، قبول حكمة الرواية وفهمها (اللايقين).
(3)
كان توحيد تاريخ الكوكب الأرضى، هذا الحلم الإنسانى، الذى سمح له الله أن يصبح حقيقة، صحبته عملية اختزال مدوخة. صحيح إن دودة الإختزال تنخر فى الحياة دائما، حتى قصص الحب الكبرى تنتهى كهيكل عظمى من الذكريات الواهنة، لكن طابع المجتمع الحديث فاقمت ببشاعة من هذه اللعنة: تتقلص حياة الإنسان إلى الوظيفة الاجتماعية، وتاريخ شعب ما إلى عدد من الأحداث التى اختصرت بدورها إلى صراع سياسى، والذى أختصر بدوره إلى مواجهة بين قوتين عالميتين. يجد الإنسان نفسه فى إعصار تقليص حقيقى حيث يظلم فيه على نحو قدرى"عالم الحياة المعاشة" الذى تحدث عنه "هوسرل" أصبح غامضا بشكل مميت، والوجود طاله النسيان.
(4)
فى خفة الكائن تعيش تيرزا مع توماس، لكن حبها يتطلب منها استنفار قواها كلها، وفجأة لم تعد تستطيع الاحتمال، فتريد العودة إلى الوراء، "إلى الأسفل" من حيث أتت. وأتساءل: ما الذى أصابها؟ وأجد الجواب: لقد أصيبت بالدوار، لكن ما الدوار؟ أبحث عن التعريف، وأقول: "رغبة خانقة، لا تقاوم، فى السقوط". لكنى سرعان ما أصحح نفسى، وأدقق التعريف: "أن يصاب المرء بالدوار يعنى أن يكون سكرانا من ضعفه. إننا نعى ضعفنا ولا نريد مقاومته، بل الاستسلام له. نسكر من ضعفنا، ونود أن نكون أكثر ضعفا، إننا نريد أن ننهار فى الطريق أمام نظر الجميع، إننا نريد أن نكون على الأرض، بل ما هو أسفل من الأرض". إن "الدوار" واحدا من مفاتيح فهم تيريزا. إنه ليس مفتاحا صالحا لفهمك أو لفهمى. ومع ذلك فأنت وأنا نعرف هذا النوع من الدوار على الأقل كإمكانية، إحدى إمكانيات وجودنا.
قاموس للكلمات:
هزلى
المأساة تعزينا بتزويدنا بالوهم الجميل للعظمة الإنسانية، الملهاة أكثر قسوة: انها تكشف لنا بوحشية عبث كل شئ.
قبيح
بعد خيانات كثيرة من زوجها، ومشاكل عديدة مع الشرطة، تقول تيريزا "أصبحت براغ قبيحة". أراد بعض المترجمين استبدال كلمة "قبيحة" بكلمات مثل "مرعبة" أو "لا تطاق"، فقد رأوا إنه من غير المنطقى أن نتفاعل مع موقف أخلاقى بحكم جمالى. لكن الكلمة لا يمكن استبدالها: فهناك قبح كلى فى عالمنا الحديث يغلفه الروتين برحمة، لكنه يخترقنا بعنف فى اللحظة التى تواجهنا فيها أقل مشكلة.
شباب
موجة من الغضب اجتاحتنى: كنت غاضبا من نفسى ومن سنى فى ذلك الوقت، ذلك السن العاطفى الغبى - المزحة.
إثارة
لا اللذة، والاستمتاع، والشعور، والهوى. إن الإثارة هى أساس العشق، ولغزه الأعمق، وكلمته الجوهرية.
ترجمة: بدر الدين عرودكى
(1)
روح الرواية هى روح الاستمرارية: كل عمل هو إجابة لأعمال سابقة، كل عمل يحتوى الخبرات السابقة.. لكن روح عصرنا مركزة بثبات على الحاضر الذى هو متسع وزاخر بحيث يدفع الماضى بعيدا عن رؤيتنا.. فى داخل هذا النظام لم تعد الرواية عملا-يكتب ليبقى- بل حادثة عابرة وسط العديد من الأحداث، مجرد إيماءة بلا غد
(2)
يتمنى الإنسان عالما يمكن فيه تمييز الخير والشر بوضوح كامل لأن فى أعماقه رغبة فطرية لا فكاك منها فى الحكم على الأمور قبل فهمها. على هذه الرغبة قامت الأديان والأيديولوجيات. إنها لا يمكن أن تتصالح مع الرواية إلا إذا ترجمت لغتها النسبية والغامضة إلى خطابها العقائدى والقاطع. إنها تطلب أن يكون ثمة أحد على حق؛ فإما أنا كارنينا ضحية مستبد محدود العقل، وإما أن زوجها ضحية امرأة لا أخلاقية؛ تتضمن هذه ال "إما و إما" العجز عن تحمل النسبية الجوهرية للأشياء الإنسانية، العجز عن رؤية غياب الحاكم المطلق وجها لوجه. ومن الصعب، بسبب هذا العجز، قبول حكمة الرواية وفهمها (اللايقين).
(3)
كان توحيد تاريخ الكوكب الأرضى، هذا الحلم الإنسانى، الذى سمح له الله أن يصبح حقيقة، صحبته عملية اختزال مدوخة. صحيح إن دودة الإختزال تنخر فى الحياة دائما، حتى قصص الحب الكبرى تنتهى كهيكل عظمى من الذكريات الواهنة، لكن طابع المجتمع الحديث فاقمت ببشاعة من هذه اللعنة: تتقلص حياة الإنسان إلى الوظيفة الاجتماعية، وتاريخ شعب ما إلى عدد من الأحداث التى اختصرت بدورها إلى صراع سياسى، والذى أختصر بدوره إلى مواجهة بين قوتين عالميتين. يجد الإنسان نفسه فى إعصار تقليص حقيقى حيث يظلم فيه على نحو قدرى"عالم الحياة المعاشة" الذى تحدث عنه "هوسرل" أصبح غامضا بشكل مميت، والوجود طاله النسيان.
(4)
فى خفة الكائن تعيش تيرزا مع توماس، لكن حبها يتطلب منها استنفار قواها كلها، وفجأة لم تعد تستطيع الاحتمال، فتريد العودة إلى الوراء، "إلى الأسفل" من حيث أتت. وأتساءل: ما الذى أصابها؟ وأجد الجواب: لقد أصيبت بالدوار، لكن ما الدوار؟ أبحث عن التعريف، وأقول: "رغبة خانقة، لا تقاوم، فى السقوط". لكنى سرعان ما أصحح نفسى، وأدقق التعريف: "أن يصاب المرء بالدوار يعنى أن يكون سكرانا من ضعفه. إننا نعى ضعفنا ولا نريد مقاومته، بل الاستسلام له. نسكر من ضعفنا، ونود أن نكون أكثر ضعفا، إننا نريد أن ننهار فى الطريق أمام نظر الجميع، إننا نريد أن نكون على الأرض، بل ما هو أسفل من الأرض". إن "الدوار" واحدا من مفاتيح فهم تيريزا. إنه ليس مفتاحا صالحا لفهمك أو لفهمى. ومع ذلك فأنت وأنا نعرف هذا النوع من الدوار على الأقل كإمكانية، إحدى إمكانيات وجودنا.
قاموس للكلمات:
هزلى
المأساة تعزينا بتزويدنا بالوهم الجميل للعظمة الإنسانية، الملهاة أكثر قسوة: انها تكشف لنا بوحشية عبث كل شئ.
قبيح
بعد خيانات كثيرة من زوجها، ومشاكل عديدة مع الشرطة، تقول تيريزا "أصبحت براغ قبيحة". أراد بعض المترجمين استبدال كلمة "قبيحة" بكلمات مثل "مرعبة" أو "لا تطاق"، فقد رأوا إنه من غير المنطقى أن نتفاعل مع موقف أخلاقى بحكم جمالى. لكن الكلمة لا يمكن استبدالها: فهناك قبح كلى فى عالمنا الحديث يغلفه الروتين برحمة، لكنه يخترقنا بعنف فى اللحظة التى تواجهنا فيها أقل مشكلة.
شباب
موجة من الغضب اجتاحتنى: كنت غاضبا من نفسى ومن سنى فى ذلك الوقت، ذلك السن العاطفى الغبى - المزحة.
إثارة
لا اللذة، والاستمتاع، والشعور، والهوى. إن الإثارة هى أساس العشق، ولغزه الأعمق، وكلمته الجوهرية.
Published on June 29, 2013 07:26


