ماهرعبد الرحمن's Blog, page 6
March 7, 2016
مائة ألف وجه للكذب
ماهر عبد الرحمن
وأنا في سن صغيرة كنت أظن أن الكذب مرتبط على نحو ما بالخوف؛ يعني اللي بيكذب ده شخص خايف، من أهله أو من شيوخه، أو من أساتذته.. ثم بعد ذلك أَضَفْت سببًا آخر للكذب، وهو الخيال، من أبسط خيال لأبعد وأقصى خيال ممكن. ثمة حكمة قديمة تقول: "إن أعذب الشعر أكذبه"، أي أكثره خيالًا. ومعظم من يشتهرون بأنهم رواة حكايات ذوو خيال ما بعده خيال، شوف وصف أبو زيد الهلالي والزير سالم وحمزة البهلوان، طبعًا مش قصدي إنهم شخصيات حقيقية والخيال زوّد عليهم، لأ حتى باعتبارهم شخصيات خيالية والخيال زوّد - عبر العديد من الأجيال - فوق الخيال خيال. وحتى في سيرة الأنبياء والرسل التي لا تعدم مثل هذه الزيادات، وحكايات الأمهات والجدات التي تستخدم خوف الأطفال وتختلق شخصيات من صنع الخيال، زي أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة. ثم بعد ذلك ومع تعقيدات الحياة، أضَفْت، أو تعلمت أن الكذب قد يكون بغرض الخداع، بالتأكيد ليس خداع الذات، لكن خداع الآخرين. وفي "أحلام اليقظة للمتجول الوحيد" يضيف جان جاك روسو، للدوافع التي ذكرتها وهي: الخوف والخيال والخداع، التدليس والافتراء وهذا أسوأها جميعا.
في أبريل 1997 ألقى جاك دريدا محاضرة في الكوليج الدولي للفلسفة، وكانت تلك المحاضرة هي صياغة مختصرة لمجموعة الدروس التي ألقاها من قبل على طلبته خلال الموسم الجامعي 1994-1995 بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، وكانت بعنوان "مسائل المسؤولية IV. الشهود"، والتي ترجمها رشيد بازي في كتاب بعنوان "تاريخ الكذب". يطرح دريدا في المحاضرة تساؤلًا ممتدًا عن إمكانية كتابة ودراسة تاريخ خاص بالكذب. ثمة ضرورة للتمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم و بين تاريخه في حد ذاته. فحتى تعريف الكذب له تاريخ، أو قل عدة تعاريف، ومن ثم ووفقًا لكل تعريف وحضارة وثقافة وتاريخ زمني، يتغير مفهوم الكذب، ويتداخل مع مفاهيم أخرى، وهذه إشكالية يتناولها الكتاب بمتعة وبساطة.
يقول كانط مثلًا إن الكذب، في التحليل الأخير، هو الحنث بالوعد؛ الوعد بغرض توجيه السلوك: "أنا هجيبلك هدية كبيرة لو نجحت" مثلًا، وبعدين تنجح إنت وأنا أقولّك "مفيش هدية". هنا توجد علاقة عضوية بين مفهوم الكذب ومفهوم الحنث بالوعد، وغيره أيضًا من المفاهيم التي يشرحها دريدا بالتفصيل.
يفرّق دريدا بصرامة بين الكذب والخطأ، "فالكذب لا يعني على العموم الخطأ والغلط، فبإمكاننا أن نخطئ أو نغلط دون أن نكون قد كذبنا". إن نقيض الكذب ليس هو الحقيقة، بل الصدق، كيف ذلك؟ يرى القديس أوغسطين أنه يمكن أن نقول قولًا خاطئًا دون أن نُعتبر كاذبين، وذلك لو كنا نعتقد، بحسن نية وبدون رغبة في خداع الآخرين، أننا صادقين. بل ويذهب إلى أننا قد نقول قولًا صحيحا لكننا نعتبر كاذبين لو كان القصد هو خداع الآخرين. وبالتالي فالكذب يترتب في تعريفه –وفقا لرسالة القديس أوغسطين والتي كانت بعنوان"في الكذب"- على القصدية. هذا التعريف يستبعد إمكانية أن يكذب الإنسان على نفسه أو أن يرتكب خطأ في حق نفسه. ثمة حالة واحدة يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه. ولكن لنعرّف أولا الكذب.
إن التعريف "التقليدي" للكذب والذي يقدمه دريدا في البداية، يذهب إلى أنه فعل مقصود؛ وبالتالي بدلًا من الحديث عن الكذب يجب الحديث عن "فعل الكذب"؛ الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام للآخرين لكي نُسمِعهُم مجموعة من الادعاءات، ونعرف بوعي بيّن أنها ادعاءات خاطئة جزئيًا أو كليًا. القصد والوعي بعملية الخداع هو العنصر الجوهري في تحديد الكذب، وليس محتوى ما قيل. بالعودة لأوغسطين "نحن لا نكذب عندما نزعم أشياء خاطئة نعتقد أنها صحيحة. ونكون كاذبين عندما نزعم أشياء صحيحة، نعتقد أنها خاطئة. وذلك لأنه لا يمكن الحكم على مدى مطابقة الأفعال للأخلاق إلا من خلال المقاصد". لكن هل يمكن أن يخدع الإنسان نفسه بقصد ووعي للإضرار بها؟ نعم يحدث في حال فصلها واعتبارها بمثابة شخص آخر.
ورغم هذا المدخل والمقاربات الممتدة لتعريف الكذب على امتداد الكتاب، فإن دريدا يقول بصعوبة أو باستحالة الوصول لتعريف للكذب؛ فرغم السهولة الظاهرية للتعريفات السابقة، وحتى اللاحقة؛ فإن الاستحالة تأتي من أن العوامل المحيطة والمساهمة في تحديد مفهوم أو فعل الكذب قد تتكاثر إلى ما لا نهاية، فالتطرق إلى جوهر الإرادة والقصدية والوعي القصدي سوف يكون بمثابة الدخول في متاهة قد تجعلنا نضل طريقنا في أية لحظة. ويذكر دريدا قول مونتاني "لو كان للكذب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الحقيقة، وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن مما هي عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منا، إلا أن نقيض الحقيقة له مائة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليا بالحقل الذي يشغله".
يطرح دريدا بعد ذلك أسئلة مثل، هل يجب اعتبار الابتسامات المتكلفة من باب حسن اللياقة على إنها أكاذيب؟ هل الأدبيات التي تتحدث عن هزة الجماع المفتعلة (fake orgasm) أدبيات كاذبة؟ ثم ينتقل إلى مناقشة الكذب في مجال السياسة، فالسياسة - كما تشير حنا آرندت في أكثر من مناسبة، خصوصا دراستها: "السياسة والحقيقة" - تعتبر مجالًا خصبًا للكذب. ولا يكتفي دريدا بمناقشة الكذب في مجال السياسة لكنه أيضا يناقش هذ الكذب من خلال نقد مفهوم "الكذب المطلق" الذي تتحدث عنه آرندت في كتاباتها، باعتباره مفهوم مهدد بأن يكون بمثابة الوجه الآخر للمعرفة المطلقة. ويربط دريدا بين دراسات آرندت وبين دراسة ألكسندر كواري عن الاستعمال المنهجي للكذب من قبل الأنظمة الشمولية.
يختم دريدا دراسته بأن "تاريخ الكذب لا يمكن له أن يتحول إلى موضوع نظري بإمكان المعرفة الإلمام به. بالطبع إنه موضوع يستدعي المعرفة، أقصى ما يمكن من المعرفة، إلا أنه - مع ذلك - يبقى مغايرًا بنيويًا لها؛ وبالتالي فإن كل ما يمكننا الحديث عنه، هو الشكل الذي قد يتخذه أو يجب أن يتخذه، ما وراء المعرفة، تاريخ الكذب، هذا في حالة إذا كان وجوده ممكنًا".
https://almanassa.com/ar/story/1277
وأنا في سن صغيرة كنت أظن أن الكذب مرتبط على نحو ما بالخوف؛ يعني اللي بيكذب ده شخص خايف، من أهله أو من شيوخه، أو من أساتذته.. ثم بعد ذلك أَضَفْت سببًا آخر للكذب، وهو الخيال، من أبسط خيال لأبعد وأقصى خيال ممكن. ثمة حكمة قديمة تقول: "إن أعذب الشعر أكذبه"، أي أكثره خيالًا. ومعظم من يشتهرون بأنهم رواة حكايات ذوو خيال ما بعده خيال، شوف وصف أبو زيد الهلالي والزير سالم وحمزة البهلوان، طبعًا مش قصدي إنهم شخصيات حقيقية والخيال زوّد عليهم، لأ حتى باعتبارهم شخصيات خيالية والخيال زوّد - عبر العديد من الأجيال - فوق الخيال خيال. وحتى في سيرة الأنبياء والرسل التي لا تعدم مثل هذه الزيادات، وحكايات الأمهات والجدات التي تستخدم خوف الأطفال وتختلق شخصيات من صنع الخيال، زي أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة. ثم بعد ذلك ومع تعقيدات الحياة، أضَفْت، أو تعلمت أن الكذب قد يكون بغرض الخداع، بالتأكيد ليس خداع الذات، لكن خداع الآخرين. وفي "أحلام اليقظة للمتجول الوحيد" يضيف جان جاك روسو، للدوافع التي ذكرتها وهي: الخوف والخيال والخداع، التدليس والافتراء وهذا أسوأها جميعا.
في أبريل 1997 ألقى جاك دريدا محاضرة في الكوليج الدولي للفلسفة، وكانت تلك المحاضرة هي صياغة مختصرة لمجموعة الدروس التي ألقاها من قبل على طلبته خلال الموسم الجامعي 1994-1995 بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، وكانت بعنوان "مسائل المسؤولية IV. الشهود"، والتي ترجمها رشيد بازي في كتاب بعنوان "تاريخ الكذب". يطرح دريدا في المحاضرة تساؤلًا ممتدًا عن إمكانية كتابة ودراسة تاريخ خاص بالكذب. ثمة ضرورة للتمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم و بين تاريخه في حد ذاته. فحتى تعريف الكذب له تاريخ، أو قل عدة تعاريف، ومن ثم ووفقًا لكل تعريف وحضارة وثقافة وتاريخ زمني، يتغير مفهوم الكذب، ويتداخل مع مفاهيم أخرى، وهذه إشكالية يتناولها الكتاب بمتعة وبساطة.
يقول كانط مثلًا إن الكذب، في التحليل الأخير، هو الحنث بالوعد؛ الوعد بغرض توجيه السلوك: "أنا هجيبلك هدية كبيرة لو نجحت" مثلًا، وبعدين تنجح إنت وأنا أقولّك "مفيش هدية". هنا توجد علاقة عضوية بين مفهوم الكذب ومفهوم الحنث بالوعد، وغيره أيضًا من المفاهيم التي يشرحها دريدا بالتفصيل.
يفرّق دريدا بصرامة بين الكذب والخطأ، "فالكذب لا يعني على العموم الخطأ والغلط، فبإمكاننا أن نخطئ أو نغلط دون أن نكون قد كذبنا". إن نقيض الكذب ليس هو الحقيقة، بل الصدق، كيف ذلك؟ يرى القديس أوغسطين أنه يمكن أن نقول قولًا خاطئًا دون أن نُعتبر كاذبين، وذلك لو كنا نعتقد، بحسن نية وبدون رغبة في خداع الآخرين، أننا صادقين. بل ويذهب إلى أننا قد نقول قولًا صحيحا لكننا نعتبر كاذبين لو كان القصد هو خداع الآخرين. وبالتالي فالكذب يترتب في تعريفه –وفقا لرسالة القديس أوغسطين والتي كانت بعنوان"في الكذب"- على القصدية. هذا التعريف يستبعد إمكانية أن يكذب الإنسان على نفسه أو أن يرتكب خطأ في حق نفسه. ثمة حالة واحدة يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه. ولكن لنعرّف أولا الكذب.
إن التعريف "التقليدي" للكذب والذي يقدمه دريدا في البداية، يذهب إلى أنه فعل مقصود؛ وبالتالي بدلًا من الحديث عن الكذب يجب الحديث عن "فعل الكذب"؛ الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام للآخرين لكي نُسمِعهُم مجموعة من الادعاءات، ونعرف بوعي بيّن أنها ادعاءات خاطئة جزئيًا أو كليًا. القصد والوعي بعملية الخداع هو العنصر الجوهري في تحديد الكذب، وليس محتوى ما قيل. بالعودة لأوغسطين "نحن لا نكذب عندما نزعم أشياء خاطئة نعتقد أنها صحيحة. ونكون كاذبين عندما نزعم أشياء صحيحة، نعتقد أنها خاطئة. وذلك لأنه لا يمكن الحكم على مدى مطابقة الأفعال للأخلاق إلا من خلال المقاصد". لكن هل يمكن أن يخدع الإنسان نفسه بقصد ووعي للإضرار بها؟ نعم يحدث في حال فصلها واعتبارها بمثابة شخص آخر.
ورغم هذا المدخل والمقاربات الممتدة لتعريف الكذب على امتداد الكتاب، فإن دريدا يقول بصعوبة أو باستحالة الوصول لتعريف للكذب؛ فرغم السهولة الظاهرية للتعريفات السابقة، وحتى اللاحقة؛ فإن الاستحالة تأتي من أن العوامل المحيطة والمساهمة في تحديد مفهوم أو فعل الكذب قد تتكاثر إلى ما لا نهاية، فالتطرق إلى جوهر الإرادة والقصدية والوعي القصدي سوف يكون بمثابة الدخول في متاهة قد تجعلنا نضل طريقنا في أية لحظة. ويذكر دريدا قول مونتاني "لو كان للكذب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الحقيقة، وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن مما هي عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منا، إلا أن نقيض الحقيقة له مائة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليا بالحقل الذي يشغله".
يطرح دريدا بعد ذلك أسئلة مثل، هل يجب اعتبار الابتسامات المتكلفة من باب حسن اللياقة على إنها أكاذيب؟ هل الأدبيات التي تتحدث عن هزة الجماع المفتعلة (fake orgasm) أدبيات كاذبة؟ ثم ينتقل إلى مناقشة الكذب في مجال السياسة، فالسياسة - كما تشير حنا آرندت في أكثر من مناسبة، خصوصا دراستها: "السياسة والحقيقة" - تعتبر مجالًا خصبًا للكذب. ولا يكتفي دريدا بمناقشة الكذب في مجال السياسة لكنه أيضا يناقش هذ الكذب من خلال نقد مفهوم "الكذب المطلق" الذي تتحدث عنه آرندت في كتاباتها، باعتباره مفهوم مهدد بأن يكون بمثابة الوجه الآخر للمعرفة المطلقة. ويربط دريدا بين دراسات آرندت وبين دراسة ألكسندر كواري عن الاستعمال المنهجي للكذب من قبل الأنظمة الشمولية.
يختم دريدا دراسته بأن "تاريخ الكذب لا يمكن له أن يتحول إلى موضوع نظري بإمكان المعرفة الإلمام به. بالطبع إنه موضوع يستدعي المعرفة، أقصى ما يمكن من المعرفة، إلا أنه - مع ذلك - يبقى مغايرًا بنيويًا لها؛ وبالتالي فإن كل ما يمكننا الحديث عنه، هو الشكل الذي قد يتخذه أو يجب أن يتخذه، ما وراء المعرفة، تاريخ الكذب، هذا في حالة إذا كان وجوده ممكنًا".
https://almanassa.com/ar/story/1277
Published on March 07, 2016 08:05
March 2, 2016
"كلنا عاوزين سعادة".. حتى دكتور فاوست
ماهر عبد الرحمن
في إحدى الليالي البعيدة والصعبة، كنت أسير وحدي في شارع عماد الدين، عندما تكون الضغوط كبيرة أحاول أن أكسر الروتين المعتاد؛ أمشي مثلًا من وسط البلد حتى رمسيس، أضع السماعات في أذني وأسمع مزيكا وأنا ماشي. وفي أحد الأيام التي قررت فيها المشي، وجدت في الطريق "يافطة" على إحدى العمارات لبنسيون اسمه "بنسيون السعادة". دفعني الفضول والرغبة في المغامرة وكسر الروتين، وأيضًا الرغبة في تخفيف الأحمال زي بتوع شركة الكهرباء، إلى دخوله.
صعدت وسألت الرجل العجوز الذي وجدته، والذي بدا من هيئته أنه مات مرتين قبل كدا: "بكام الليلة هنا يا حاج؟"
أشار لي بيديه إشارة معناها أنه لا يسمع جيدا. قلت في عقلي ياسلام ولا كأننا في الأفلام بتاعة زمان بالظبط والله.. سألته مرة أخرى بصوت مرتفع فأجاب الرجل: "بكذا بس لازم تكون من خارج القاهرة، هذه هي تعليمات الداخلية".
"أنا أصلًا مش عايز أنزل عندك يا حاج والله وكتَر خير الداخلية".
ترددت لفترة ثم سألته مرة أخرى: "طب يا حاج ممكن أعرف هي إيه السعادة اللي في البنسيون هنا؟" بسبب التردد كان صوتي متوسطًا، لا منخفضًا ولا مرتفعًا. ولعل الرجل العجوز سمع وتعجب من السؤال ورفض تضييع وقته في الإجابة، هو لم يحرك يديه بإشارة عدم السمع، فسألته مرة أخرى بهزار وبصوت منخفض: "طب عندكم نسوان؟"
في أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 نشرت سلسلة عالم المعرفة كتابًا بعنوان "السعادة موجز تاريخى". تذكرت البنسيون والرجل العجوز وتخفيف الأحمال، وشركة الكهرباء، ومونولوج "السعادة" لإسماعيل ياسين. فكرت في سؤال ما هى السعادة، وكيف تكون محل دراسة وهى تختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر. فالذى يسعدنا الآن قد لا يسعدنا غدا، ولله فى خلقه شئون. الكتابة عن معنى غير ثابت ومتغير باستمرار هى مغامرة، فماذا لو كان تأملًا من الناحية الفلسفية كما يفعل هذا الكتاب، لنكتشف هذا الأمر.
كان أرسطو يعتقد أن السعادة هى "الخير البشرى" وأن كل شخص يهدف إلى تلك السعادة من أجل مصلحته هو، وهو فقط، وكان يرى أن السعادة في فضيلة التأمل العقلي التي هي أكمل فضائل النفس الإنسانية. الكتاب يقدم عرضًا تاريخيًا، وبقدر لا بأس به من التشويق، لنظريات ومعنى السعادة منذ أرسطو وأفلاطون حتى العصر الحديث. هناك الكثير من الاختلافات في آراء الفلاسفة عن السعادة: هل السعادة تكون في اللذة؟ أم في الانسجام بين أهدافنا ورغباتنا؟ أم، كما يذهب الرواقيون، توجد السعادة في حالة السكينة الروحية؟ ويحاول الكتاب أن يثير، إلى جانب العرض التاريخي، بعض الأسئلة تجاه القناعات الراسخة لدينا حول السعادة.. فمن خلال استعراض الآراء عن معنى السعادة نجد أن هناك من الفلاسفة من كان يسأل، هل السعادة غاية بذاتها؟
فى مونولوج طويل كان الدكتور فاوست يندب حاله، فهو الذى تعلم ودرس الفلسفة والطب والقانون واللاهوت، وهو الأبرع من كل الأدعياء، والدكاترة والأساتذة والكتاب والكهان، ومع ذلك ليس لديه لقب تشريف وتبجيل، ولا أموال، ولا حبيبة. وينادي في الليل على البدر الساطع: "يا ليتك تشاهد عذابي لآخر مرة. كم مرة سهرت على هذا المكتب حتى منتصف الليل، فتجليت لي، أيها الصديق الحزين، وألقيت ضياءك على كتبي وأوراقي! آه! ليتنى كنت أستطيع أن أسير في ضوئك الحبيب فوق دورة الجبل، وأن أتخلص من كل عذابات المعرفة، وأن أستحم في نداك وأنا سليم معافى!".. وبقية الحكاية معروفة، فقد أسلم فاوست نفسه للسحر وللشيطان. وهناك أشخاص مثل فاوست، لكنهم يسلمون أنفسهم للحزن؛ لأنهم لا يجدون السعادة.
إن السعادة التى يفتقدها البعض، كما يقول نيتشه، أقرب إلى أن تكون عقارًا طبيا مهدئًا وطريقة فى التفكير.. كأنها إجازة يوم السبت، إذا استخدمنا فصاحة القديس أوغسطين. إن التوتر يظهر حين تتجاوز أحلامنا لموهبتنا. وحتى هذا التوتر لا ينبغي أن يدفعك للحزن، بل للفهم وإعادة المحاولة.
ثمة فصل في الكتاب يتناول التضارب الذي قد يحدث بين السعادة والواجب أو الأخلاق، إن كانط يرى أن "السعادة" ليست مفهومًا متماسكًا، وبالتالي ينبغي أن تكون التقييمات العقلانية مرتبطة بالسمات الأخلاقية.. وبعيدا عن فكرة كانط الحادة تلك، فإننا فعلا ينبغي أن نقف أمام المخاطر المحتملة للشمولية التامة لمفهوم السعادة كبُعد واحد للتقييم. على كل حال يبدو كانط أخف حدة من نيتشه الذى كان يزدري أحيانًا أن يجعل المرء هدفه من الحياة هو السعادة وفقط.
يقول محمود درويش: "لا أشياءَ أملكُها لتملكني"، شخصيًا يجعلنى هذا البيت أشعر بالرضا دائمًا. إن السعادة هى مفهومنا عنها، وبالتالى ينتج الحزن أيضا كمفهوم، كما يقول نيتشه. لأ أقصد أن كل الأمور على ما يرام في هذه الحياة، لكني أقصد التعاطي مع الأمور بصبر ورضا وأمل، ومقاومة اليأس والحزن "لست مهزومًا ما دمت تقاوم". يكمل فاوست الحديث: "ومع ذلك لا تزال تسائل نفسك لماذا يخفق قلبك فى صدرك بالضيق والقلق، ولماذا يعترض ألم غامض كل نشاط لك فى الحياة؟ ذلك أنك بدلا من الطبيعة البسيطة التى خلق الله الناس عليها، أحطت نفسك بين الدخان والعفن، بهياكل وعظام الموتى. اهرب! اهرب! إلى الأرض الواسعة!". غير أن فاوست لم يهرب بل تورط أكثر فى البحث عن ذلك الوهم المخدر الذى كان يظن أنه "السعادة". فى النهاية يقول مؤلف كتاب "السعادة موجز تاريخى إن المشكلة تكمن في أننا "ننشئ تصورًا عما تكون عليه السعادة بمنأى عن الأهداف التي تكون لدينا". ومن ثم فإن تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء لا يمكن الحصول عليه. وفي ظني أن المشكلة ليست في التفكير في السعادة بعيدًا عن الأهداف التي تكون لدينا كما يختم المؤلف، لكن في أن تكون تلك الأهداف هي نفسها بعيدة عن قدراتنا وما نملكه، أو في التفكير في هذه الأهداف، حتى، دون عمل وجهد وإخلاص.
في كتاب "مع أبي العلاء في سجنه" يقول لنا الدكتور طه حسين إن محنة وشقاء أبي العلاء كانت في التناقض بين قوة عقله الجبارة وقدرته المحدودة على الفعل، "أظن أن العلة الحقيقية التي شقي بها أبو العلاء خمسين عامًا إنما هي الكبرياء. الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق وإلى الطمع فيما لا مطمع منه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله.. ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حده ووقف به عند طاقته كما عرف لجسمه حده وكما وقف بجسمه عند طاقته، لجُنِّبَ من هذه المحنة شرًا كثيرًا، ولاستراح من عذاب أليم.. لو فعل هذا لاستراح وأراح".
شخصيًا، بالإضافة لما سبق، ومع الزمن والتجارب والحياة والقراءة والسياسة والليالي الصعبة والأيام المُجهدة، تعلمت وأتعلم أن السعادة أو الرضا وعدم الضجر، كلها معان تأتي أولًا من داخلنا. وتعلمت وأتعلم ألا أبحث عن السعادة باعتبارها غاية بحد ذاتها. وتعلمت وأتعلم من المحنة العلائية الحقيقية، ومحنة فاوست الخيالية، وما ينتجه دائمًا التناقض والتفاوت بين العقل والعمل، بين الفكر والفعل، وأنه لا معنى هنا وفي هذا السياق، للطمع فيما لا مطمع منه ولا إلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه.
https://almanassa.com/ar/story/1241
في إحدى الليالي البعيدة والصعبة، كنت أسير وحدي في شارع عماد الدين، عندما تكون الضغوط كبيرة أحاول أن أكسر الروتين المعتاد؛ أمشي مثلًا من وسط البلد حتى رمسيس، أضع السماعات في أذني وأسمع مزيكا وأنا ماشي. وفي أحد الأيام التي قررت فيها المشي، وجدت في الطريق "يافطة" على إحدى العمارات لبنسيون اسمه "بنسيون السعادة". دفعني الفضول والرغبة في المغامرة وكسر الروتين، وأيضًا الرغبة في تخفيف الأحمال زي بتوع شركة الكهرباء، إلى دخوله.
صعدت وسألت الرجل العجوز الذي وجدته، والذي بدا من هيئته أنه مات مرتين قبل كدا: "بكام الليلة هنا يا حاج؟"
أشار لي بيديه إشارة معناها أنه لا يسمع جيدا. قلت في عقلي ياسلام ولا كأننا في الأفلام بتاعة زمان بالظبط والله.. سألته مرة أخرى بصوت مرتفع فأجاب الرجل: "بكذا بس لازم تكون من خارج القاهرة، هذه هي تعليمات الداخلية".
"أنا أصلًا مش عايز أنزل عندك يا حاج والله وكتَر خير الداخلية".
ترددت لفترة ثم سألته مرة أخرى: "طب يا حاج ممكن أعرف هي إيه السعادة اللي في البنسيون هنا؟" بسبب التردد كان صوتي متوسطًا، لا منخفضًا ولا مرتفعًا. ولعل الرجل العجوز سمع وتعجب من السؤال ورفض تضييع وقته في الإجابة، هو لم يحرك يديه بإشارة عدم السمع، فسألته مرة أخرى بهزار وبصوت منخفض: "طب عندكم نسوان؟"
في أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 نشرت سلسلة عالم المعرفة كتابًا بعنوان "السعادة موجز تاريخى". تذكرت البنسيون والرجل العجوز وتخفيف الأحمال، وشركة الكهرباء، ومونولوج "السعادة" لإسماعيل ياسين. فكرت في سؤال ما هى السعادة، وكيف تكون محل دراسة وهى تختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر. فالذى يسعدنا الآن قد لا يسعدنا غدا، ولله فى خلقه شئون. الكتابة عن معنى غير ثابت ومتغير باستمرار هى مغامرة، فماذا لو كان تأملًا من الناحية الفلسفية كما يفعل هذا الكتاب، لنكتشف هذا الأمر.
كان أرسطو يعتقد أن السعادة هى "الخير البشرى" وأن كل شخص يهدف إلى تلك السعادة من أجل مصلحته هو، وهو فقط، وكان يرى أن السعادة في فضيلة التأمل العقلي التي هي أكمل فضائل النفس الإنسانية. الكتاب يقدم عرضًا تاريخيًا، وبقدر لا بأس به من التشويق، لنظريات ومعنى السعادة منذ أرسطو وأفلاطون حتى العصر الحديث. هناك الكثير من الاختلافات في آراء الفلاسفة عن السعادة: هل السعادة تكون في اللذة؟ أم في الانسجام بين أهدافنا ورغباتنا؟ أم، كما يذهب الرواقيون، توجد السعادة في حالة السكينة الروحية؟ ويحاول الكتاب أن يثير، إلى جانب العرض التاريخي، بعض الأسئلة تجاه القناعات الراسخة لدينا حول السعادة.. فمن خلال استعراض الآراء عن معنى السعادة نجد أن هناك من الفلاسفة من كان يسأل، هل السعادة غاية بذاتها؟
فى مونولوج طويل كان الدكتور فاوست يندب حاله، فهو الذى تعلم ودرس الفلسفة والطب والقانون واللاهوت، وهو الأبرع من كل الأدعياء، والدكاترة والأساتذة والكتاب والكهان، ومع ذلك ليس لديه لقب تشريف وتبجيل، ولا أموال، ولا حبيبة. وينادي في الليل على البدر الساطع: "يا ليتك تشاهد عذابي لآخر مرة. كم مرة سهرت على هذا المكتب حتى منتصف الليل، فتجليت لي، أيها الصديق الحزين، وألقيت ضياءك على كتبي وأوراقي! آه! ليتنى كنت أستطيع أن أسير في ضوئك الحبيب فوق دورة الجبل، وأن أتخلص من كل عذابات المعرفة، وأن أستحم في نداك وأنا سليم معافى!".. وبقية الحكاية معروفة، فقد أسلم فاوست نفسه للسحر وللشيطان. وهناك أشخاص مثل فاوست، لكنهم يسلمون أنفسهم للحزن؛ لأنهم لا يجدون السعادة.
إن السعادة التى يفتقدها البعض، كما يقول نيتشه، أقرب إلى أن تكون عقارًا طبيا مهدئًا وطريقة فى التفكير.. كأنها إجازة يوم السبت، إذا استخدمنا فصاحة القديس أوغسطين. إن التوتر يظهر حين تتجاوز أحلامنا لموهبتنا. وحتى هذا التوتر لا ينبغي أن يدفعك للحزن، بل للفهم وإعادة المحاولة.
ثمة فصل في الكتاب يتناول التضارب الذي قد يحدث بين السعادة والواجب أو الأخلاق، إن كانط يرى أن "السعادة" ليست مفهومًا متماسكًا، وبالتالي ينبغي أن تكون التقييمات العقلانية مرتبطة بالسمات الأخلاقية.. وبعيدا عن فكرة كانط الحادة تلك، فإننا فعلا ينبغي أن نقف أمام المخاطر المحتملة للشمولية التامة لمفهوم السعادة كبُعد واحد للتقييم. على كل حال يبدو كانط أخف حدة من نيتشه الذى كان يزدري أحيانًا أن يجعل المرء هدفه من الحياة هو السعادة وفقط.
يقول محمود درويش: "لا أشياءَ أملكُها لتملكني"، شخصيًا يجعلنى هذا البيت أشعر بالرضا دائمًا. إن السعادة هى مفهومنا عنها، وبالتالى ينتج الحزن أيضا كمفهوم، كما يقول نيتشه. لأ أقصد أن كل الأمور على ما يرام في هذه الحياة، لكني أقصد التعاطي مع الأمور بصبر ورضا وأمل، ومقاومة اليأس والحزن "لست مهزومًا ما دمت تقاوم". يكمل فاوست الحديث: "ومع ذلك لا تزال تسائل نفسك لماذا يخفق قلبك فى صدرك بالضيق والقلق، ولماذا يعترض ألم غامض كل نشاط لك فى الحياة؟ ذلك أنك بدلا من الطبيعة البسيطة التى خلق الله الناس عليها، أحطت نفسك بين الدخان والعفن، بهياكل وعظام الموتى. اهرب! اهرب! إلى الأرض الواسعة!". غير أن فاوست لم يهرب بل تورط أكثر فى البحث عن ذلك الوهم المخدر الذى كان يظن أنه "السعادة". فى النهاية يقول مؤلف كتاب "السعادة موجز تاريخى إن المشكلة تكمن في أننا "ننشئ تصورًا عما تكون عليه السعادة بمنأى عن الأهداف التي تكون لدينا". ومن ثم فإن تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء لا يمكن الحصول عليه. وفي ظني أن المشكلة ليست في التفكير في السعادة بعيدًا عن الأهداف التي تكون لدينا كما يختم المؤلف، لكن في أن تكون تلك الأهداف هي نفسها بعيدة عن قدراتنا وما نملكه، أو في التفكير في هذه الأهداف، حتى، دون عمل وجهد وإخلاص.
في كتاب "مع أبي العلاء في سجنه" يقول لنا الدكتور طه حسين إن محنة وشقاء أبي العلاء كانت في التناقض بين قوة عقله الجبارة وقدرته المحدودة على الفعل، "أظن أن العلة الحقيقية التي شقي بها أبو العلاء خمسين عامًا إنما هي الكبرياء. الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق وإلى الطمع فيما لا مطمع منه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله.. ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حده ووقف به عند طاقته كما عرف لجسمه حده وكما وقف بجسمه عند طاقته، لجُنِّبَ من هذه المحنة شرًا كثيرًا، ولاستراح من عذاب أليم.. لو فعل هذا لاستراح وأراح".
شخصيًا، بالإضافة لما سبق، ومع الزمن والتجارب والحياة والقراءة والسياسة والليالي الصعبة والأيام المُجهدة، تعلمت وأتعلم أن السعادة أو الرضا وعدم الضجر، كلها معان تأتي أولًا من داخلنا. وتعلمت وأتعلم ألا أبحث عن السعادة باعتبارها غاية بحد ذاتها. وتعلمت وأتعلم من المحنة العلائية الحقيقية، ومحنة فاوست الخيالية، وما ينتجه دائمًا التناقض والتفاوت بين العقل والعمل، بين الفكر والفعل، وأنه لا معنى هنا وفي هذا السياق، للطمع فيما لا مطمع منه ولا إلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه.
https://almanassa.com/ar/story/1241
Published on March 02, 2016 10:41
February 29, 2016
حكايات للأمير حتى يخرج
ماهر عبد الرحمن
عرفت أحمد ناجي في عام 2008، كان يريد أن نلتقي لإجراء حوار صحفي عن روايتي الجديدة وقتها، "عضو عامل". كان الموعد في السابعة مساء بمكتبة البلد بشارع محمد محمود. كنت متوترًا قبل المقابلة وحامل هم أول حوار يتعمل معايا بعد ما بقيت روائي. كان الأمر جديدًا تمامًا علىّ، خاصة وأنا قادم من وسط آخر مختلف إلى حد كبير عن الوسط الأدبي والثقافي، وهو الوسط السياسي. الرواية نفسها تحكي في أجزاء منها عن العمل السياسي السري، وأن هناك قواعد صارمة للأمان الشخصي. كتابة الرواية ونشرها باسمي الحقيقي كانا مغامرة بهذا المعنى. فكرت ما الذي يمكن أن أقوله في هذا الحوار الصحفي زيادة عما كتبته في الرواية؟ وماذا لو طلب مني صورة شخصية؟ كما أنني كنت مؤمنًا، وما زلت، أنه لا يصح الحديث، لا مدحًا ولا قدحًا ولا تفسيرًا، عن عمل نُشر بالفعل؛ فأنا، هنا، غير ذي صفة. ذهبت في الموعد فوجدت أحمد جالسًا وأمامه جهاز لاب توب ونوتة ورقية وقلم. اندهش أحمد عندما وجدني شابًا صغيرًا ولست رجلًا عجوزًا، فالرواية، كما قال لي، توحي بأن كاتبها رجل كبير. كان يتحدث معي بحماس عن روايتي وعن إعجابه بها بشكل عام، وإعجابه بالأخص بأنها، على غير العادة، كانت بمثابة نقد لـ "المعارضة" وليس لـ "السلطة" كما هي العادة في مثل هذا النوع من الأدب، كما يرى هو. وقتها تحدثت معه عن تأثري بأفكار ميشيل فوكو، حول أن السلطة ليست هي فقط السلطة الحاكمة في مقابل الطبقات المحكومة، وعن تجاوز فوكو لرؤية كارل ماركس عن السلطة أو الطبقة الحاكمة، فإذا كانت أطروحة ماركس الأساسية عن استغلال الطبقة الحاكمة للعمال، فإن فوكو يذهب إلى أن أجساد الأفراد، قبل أن يكونوا "عمالا"، كانت قد أُدمجت ضمن إطار تنظيمي ورقابي وعقابي. وبالتالي فإن فوكو لا يقدم لنا السلطة باعتبارها طبقة حاكمة في مواجهة طبقات يتم استغلالها، لكن باعتبارها استراتيجية. كيف تتحقق وكيف تظهر وتتبدى في الأفعال. والفرد، على هذا النحو، ووفقا لهذا التصور، لا يوضع في مقابل السلطة، ولا في مقابل الحزب أو الأخ الكبير، ولا في مقابل الطبقة الحاكمة، بل باعتباره أحد آثار تلك السلطة، أو نتيجة من نتائجها. ومنذ هذه اللحظة بقيت تلك الحكايات عن السلطة موضوع حديث ممتد بيني وبين أحمد.
عندما عرفت بترحيله من قسم بولاق إلى سجن طره، عنبر الزراعة، تذكرت التجربة التي كنت قد عشتها من قبل وكتبت عنها تلك الرواية التي كانت، بدورها، سببا لمعرفتنا. ففي عام 2000، وكنت وقتها طالبا بكلية الحقوق جامعة عين شمس، قُبض علىّ ضمن مجموعة أخرى من الطلبة بسبب المظاهرات التي خرجنا بها تضامنا مع الانتفاضة والشعب الفلسطينيين. رُحلت من قسم الوايلي إلى سجن طره، عنبر الزراعة. كان مأمور السجن وقتها يُدعى نبيل مزارع ولا أظن أنه ما زال موجودًا هناك إلى الآن. فيما بعد، أصبحت كل الزيارات من رفاقنا وأصدقائنا والمحامين تقول لنا: "احمدوا ربنا إنكم نزلتم هنا، طره ده مش سجن، ده فندق خمس نجوم". وهو بالفعل، وبالمقارنة بسجون أخرى كثيرة وتجارب قاسية سمعت وقرأت عنها، يعتبر حاجة تستحق الحمد والشكر.
فكرت أن أكتب لأحمد وللقارئ عن هذا السجن كما وجدته ونزلت به لمدة 45 يومًا، عن النظام المعمول به هناك. أن أكتب حكايات للأمير حتى يخرج، مع الاعتذار ليحي الطاهر عبد الله، ولصديقنا محمد فرج الذي كتب مقالًا جميلًا لأحمد ناجي، أيضًا، بعنوان قريب: حكايات للسجين حتى ينام.
مع الدخول من الباب الأمامي لسجن عنبر الزراعة، تجد ساحة مربعة وكبيرة إلى حد ما. على يمين هذه الساحة يوجد مكانان للزيارة، الأول للزيارة من خلف الأسلاك، وزيارة السلك هي من أصعب أنواع الزيارات على الأهل أو على المسجون نفسه، الذي يرى أهله ويتحدث إليهم، لكنه لا يستطيع أن يلمسهم بسبب السلك اللعين، كما أن تأثير السلك على النفس يكون مضاعفًا لو كان الأهل من هواة مشاهدة المسلسلات والأفلام العربي مع استدعاء كل مشاهد النكد والشحنات العاطفية الموجودة في زيارات السجون، كما تصورها الأعمال الدرامية، الأهالي بيكونوا عملاء موضوعيين للسلطة، لكن فوكو لم يكتب عنهم.
على الجانب الآخر لهذه الساحة يوجد مكان، أقرب لكافيتريا، للزيارات المفتوحة بدون سلك، توجد به أماكن للجلوس وهناك مساجين زملاء يبيعون بعض المشاريب. لا أذكر الوقت الذي تستغرقه الزيارة، لكني أذكر أن زيارة السلك تكون أقصر في وقتها من الزيارة العادية. بعد هذه الساحة وأماكن الزيارة يوجد سور مرتفع وبه بوابة حديدية ندخل منها إلى السجن نفسه، مثل طبقات الأرض، نتجاوز القشرة لندخل إلى اللب. بعد الدخول من هذا الباب يوجد أمامنا مباشرة ملعب كرة، وهي أرض واسعة يمكن ممارسة أنشطة رياضية أخرى بها، مثل الجري. لكن أحمد لن يذهب إلى هذا الملعب في اليوم الأول. بل سيمشي إلى يسار هذا الباب، ويمر في الطريق بقطعة أرض زراعية، ثم يمر بباب آخر ليعبر إلى ساحة السجن نفسه. في هذه الرحلة القصيرة يصحبنا ويوجهنا بعض العساكر، وغايتهم هي الحفاظ على انضباط الطابور. يظهر الآن مبنى السجن، أمامه أيضًا قطعة أرض صغيرة نصفها خارج حدود المبنى، وهي عبارة عن أرض رملية يمكن، أيضًا، ممارسة بعض الرياضة بها أو استعراض الطوابير. النصف الآخر يحيطه المبنى وبه بلاط.
في اليوم الذي ذهبت فيه إلى هذا السجن، كان عددنا أكثر من عشرين طالبًا وكان مقبوضًا على محامين ومهندس أيضًا في نفس القضية. وقفنا في طابور على الأرض الرملية بناء على إشارة من يد مأمور السجن، أما المأمور نفسه فقد جلس على كرسي على البلاط. ألقى علينا خطبة عصماء لم تخل من التهديد والوعيد والتحذير من العاقبة السيئة لأي محاولة شغب. وبالفعل فكرنا ذات مرة في الإضراب وسألنا نبطجي العنبر المعلم سيد جاز عن تقديره للموقف، حذرنا الرجل من عواقب أي شغب مع وجود مأمور مثل نبيل مزارع، وحكى لنا عن قصص قاسية لمواجهة اﻹضرابات. ثم تبدأ الإجراءات بعد الخطبة، نتحول في كل خطوة إلى موضوعات بيد السلطة، هكذا سوف يتم التحكم فينا من خلال الرقابة علينا وتطويعنا ومحاولة إصلاحنا، هذا هو هدف وعمل المأمور والعساكر والنبطجي وحتى المباني بتصميمها الخاص هنا. السلطة تتبدى في إجراءات العقاب والرقابة والتطويع والإكراه. نقوم بتسليم كل أغراضنا للإدارة، ثم تجري عملية حلاقة الشعر زيرو، واستلام بدلة السجن وارتداؤها أو بديلها الخاص في حالة توفره، طالما كان بنفس الألوان المستخدمة هنا. ولأنني كنت محبوسًا احتياطيًا فبدلتي كانت بيضاء ومكتوب على ظهرها باللون الأصفر الفاقع "مسجون". أحمد سيرتدي زيا أزرق لأنه صدر عليه حكم. ثم نذهب للتصوير واستكمال البيانات في ملفنا بالسجن. نعود للساحة السابقة، باب المبنى موجود جهة اليسار بالدخول، على ما أذكر توجد العيادة، بعدها ممر طويل لعنابر الإيراد. عنبر الإيراد، سواء 5/1 أو 6/1 ينزل به كل الناس الجديدة، سواء كانوا ببدل بيضاء أو ببدل زرقاء. العنبر الذي نزلتُ فيه كان عبارة عن عنبر كبير به سراير حديد، ثلاثة أدوار فوق بعض. السراير موجودة على الجانبين من أول الباب لحد الحمام، وبينهما طرقة طويلة. كان يوجد به تليفزيون ملون وأيضًا مراوح سقف. الحمامات كانت من غير أبواب، وكل الناس في الحمام عرايا. عملنا ستارة لأول حمام وخصصناه للطلبة. لكل عنبر نبطجي يعتبر هو العاهل والآمر الناهي وممثل المأمور داخل العنبر في ما يخص الشغب بالأساس. لكنه لا يمانع بخصوص تعاطي أو الاتجار في المخدرات. بعد فترة يُصنف المساجين من ذوي البدل الزرقاء، فمنهم من يذهب إلى عنبر جرايم النفس، أو عنبر السرقة والنشل، أو عنبر الأموال العامة. وكان، وما زال حلم أي مسجون أن يطلع الأموال العامة، فهو فندق 7 نجوم داخل الفندق الـ 5 نجوم. يقدم السجن وجبات أكل رديئة، الصبح فول وجراية عيش، بعد الظهر رز وخضار ولحمة أو فراخ، في المساء حلاوة أو مربى مع أي فاكهة موجودة. العملة داخل السجن هي السجاير، كنا شرب الشاي داخل العنبر بسجاير، أو غسل الملابس، الأوراق والأقلام، المخدرات أو الصور السكس. نادرا ما تجد أحد يرتدي بدلة السجن الخشنة نفسها، والبركة في الزيارات التي تأتي بملابس نظيفة وجيدة، بشرط أن تكون بنفس الألوان. الزيارات أيضا تأتي بالأكل الجيد والسجاير الكثيرة حتى لمن لا يشربها. لو دخل أحمد عنابر الإيراد هتكون أسوأ حاجة هي نوبة الصبح، عندما يأتي المأمور في السادسة صباح كل يوم. كان الشاويش "دبانة" يدخل ويفتح الباب بعصبية وينادي في كل العنبر بصوت مرتفع وقوي: انتبااااه، ثم يتابع بوابل من الشتائم في الهواء: انتباه يا كذا إنت وهو. مع سماع صوت الباب، كنا نقفز من فوق السراير إلى الأرض، ثم ننظر للحائط ونرفع أيدينا للأعلى. كان نبيل مزارع يطلب منا أحيانا تقبيل الحائط!
لا أعرف هل سيذهب أحمد للمكتبة أم لا، لكني ذهبت إليها مرة ووجدت بها نسخة من كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، الممنوع خارج السجن. فكرت لماذا لا نتحدى أخلاق وقيم السلطة، بل ونُقط ضعفها، ونُدخل نسخة من رواية أحمد إلى مكتبة السجن؟ على قدر ما تكون تجربة السجن قاسية جدا، لكنها قد تكون مفيدة.
صديقي العزيز أحمد، أرجو أن تستفيد من هذه التجربة، وأن تتجاوز المحنة بالتأمل. أنا شخصيا بدأت كتابة روايتي في عنبر الإيراد، وتعرفت على بعض أفكار كارل ماركس ومنهجه من زميل كان معي في نفس القضية. تماسك وإياك أن تنكسر يا صديقي، قاوم وحاول أن تستمتع بالتجربة.
http://www.madamasr.com/ar/opinion/cu...
عرفت أحمد ناجي في عام 2008، كان يريد أن نلتقي لإجراء حوار صحفي عن روايتي الجديدة وقتها، "عضو عامل". كان الموعد في السابعة مساء بمكتبة البلد بشارع محمد محمود. كنت متوترًا قبل المقابلة وحامل هم أول حوار يتعمل معايا بعد ما بقيت روائي. كان الأمر جديدًا تمامًا علىّ، خاصة وأنا قادم من وسط آخر مختلف إلى حد كبير عن الوسط الأدبي والثقافي، وهو الوسط السياسي. الرواية نفسها تحكي في أجزاء منها عن العمل السياسي السري، وأن هناك قواعد صارمة للأمان الشخصي. كتابة الرواية ونشرها باسمي الحقيقي كانا مغامرة بهذا المعنى. فكرت ما الذي يمكن أن أقوله في هذا الحوار الصحفي زيادة عما كتبته في الرواية؟ وماذا لو طلب مني صورة شخصية؟ كما أنني كنت مؤمنًا، وما زلت، أنه لا يصح الحديث، لا مدحًا ولا قدحًا ولا تفسيرًا، عن عمل نُشر بالفعل؛ فأنا، هنا، غير ذي صفة. ذهبت في الموعد فوجدت أحمد جالسًا وأمامه جهاز لاب توب ونوتة ورقية وقلم. اندهش أحمد عندما وجدني شابًا صغيرًا ولست رجلًا عجوزًا، فالرواية، كما قال لي، توحي بأن كاتبها رجل كبير. كان يتحدث معي بحماس عن روايتي وعن إعجابه بها بشكل عام، وإعجابه بالأخص بأنها، على غير العادة، كانت بمثابة نقد لـ "المعارضة" وليس لـ "السلطة" كما هي العادة في مثل هذا النوع من الأدب، كما يرى هو. وقتها تحدثت معه عن تأثري بأفكار ميشيل فوكو، حول أن السلطة ليست هي فقط السلطة الحاكمة في مقابل الطبقات المحكومة، وعن تجاوز فوكو لرؤية كارل ماركس عن السلطة أو الطبقة الحاكمة، فإذا كانت أطروحة ماركس الأساسية عن استغلال الطبقة الحاكمة للعمال، فإن فوكو يذهب إلى أن أجساد الأفراد، قبل أن يكونوا "عمالا"، كانت قد أُدمجت ضمن إطار تنظيمي ورقابي وعقابي. وبالتالي فإن فوكو لا يقدم لنا السلطة باعتبارها طبقة حاكمة في مواجهة طبقات يتم استغلالها، لكن باعتبارها استراتيجية. كيف تتحقق وكيف تظهر وتتبدى في الأفعال. والفرد، على هذا النحو، ووفقا لهذا التصور، لا يوضع في مقابل السلطة، ولا في مقابل الحزب أو الأخ الكبير، ولا في مقابل الطبقة الحاكمة، بل باعتباره أحد آثار تلك السلطة، أو نتيجة من نتائجها. ومنذ هذه اللحظة بقيت تلك الحكايات عن السلطة موضوع حديث ممتد بيني وبين أحمد.
عندما عرفت بترحيله من قسم بولاق إلى سجن طره، عنبر الزراعة، تذكرت التجربة التي كنت قد عشتها من قبل وكتبت عنها تلك الرواية التي كانت، بدورها، سببا لمعرفتنا. ففي عام 2000، وكنت وقتها طالبا بكلية الحقوق جامعة عين شمس، قُبض علىّ ضمن مجموعة أخرى من الطلبة بسبب المظاهرات التي خرجنا بها تضامنا مع الانتفاضة والشعب الفلسطينيين. رُحلت من قسم الوايلي إلى سجن طره، عنبر الزراعة. كان مأمور السجن وقتها يُدعى نبيل مزارع ولا أظن أنه ما زال موجودًا هناك إلى الآن. فيما بعد، أصبحت كل الزيارات من رفاقنا وأصدقائنا والمحامين تقول لنا: "احمدوا ربنا إنكم نزلتم هنا، طره ده مش سجن، ده فندق خمس نجوم". وهو بالفعل، وبالمقارنة بسجون أخرى كثيرة وتجارب قاسية سمعت وقرأت عنها، يعتبر حاجة تستحق الحمد والشكر.
فكرت أن أكتب لأحمد وللقارئ عن هذا السجن كما وجدته ونزلت به لمدة 45 يومًا، عن النظام المعمول به هناك. أن أكتب حكايات للأمير حتى يخرج، مع الاعتذار ليحي الطاهر عبد الله، ولصديقنا محمد فرج الذي كتب مقالًا جميلًا لأحمد ناجي، أيضًا، بعنوان قريب: حكايات للسجين حتى ينام.
مع الدخول من الباب الأمامي لسجن عنبر الزراعة، تجد ساحة مربعة وكبيرة إلى حد ما. على يمين هذه الساحة يوجد مكانان للزيارة، الأول للزيارة من خلف الأسلاك، وزيارة السلك هي من أصعب أنواع الزيارات على الأهل أو على المسجون نفسه، الذي يرى أهله ويتحدث إليهم، لكنه لا يستطيع أن يلمسهم بسبب السلك اللعين، كما أن تأثير السلك على النفس يكون مضاعفًا لو كان الأهل من هواة مشاهدة المسلسلات والأفلام العربي مع استدعاء كل مشاهد النكد والشحنات العاطفية الموجودة في زيارات السجون، كما تصورها الأعمال الدرامية، الأهالي بيكونوا عملاء موضوعيين للسلطة، لكن فوكو لم يكتب عنهم.
على الجانب الآخر لهذه الساحة يوجد مكان، أقرب لكافيتريا، للزيارات المفتوحة بدون سلك، توجد به أماكن للجلوس وهناك مساجين زملاء يبيعون بعض المشاريب. لا أذكر الوقت الذي تستغرقه الزيارة، لكني أذكر أن زيارة السلك تكون أقصر في وقتها من الزيارة العادية. بعد هذه الساحة وأماكن الزيارة يوجد سور مرتفع وبه بوابة حديدية ندخل منها إلى السجن نفسه، مثل طبقات الأرض، نتجاوز القشرة لندخل إلى اللب. بعد الدخول من هذا الباب يوجد أمامنا مباشرة ملعب كرة، وهي أرض واسعة يمكن ممارسة أنشطة رياضية أخرى بها، مثل الجري. لكن أحمد لن يذهب إلى هذا الملعب في اليوم الأول. بل سيمشي إلى يسار هذا الباب، ويمر في الطريق بقطعة أرض زراعية، ثم يمر بباب آخر ليعبر إلى ساحة السجن نفسه. في هذه الرحلة القصيرة يصحبنا ويوجهنا بعض العساكر، وغايتهم هي الحفاظ على انضباط الطابور. يظهر الآن مبنى السجن، أمامه أيضًا قطعة أرض صغيرة نصفها خارج حدود المبنى، وهي عبارة عن أرض رملية يمكن، أيضًا، ممارسة بعض الرياضة بها أو استعراض الطوابير. النصف الآخر يحيطه المبنى وبه بلاط.
في اليوم الذي ذهبت فيه إلى هذا السجن، كان عددنا أكثر من عشرين طالبًا وكان مقبوضًا على محامين ومهندس أيضًا في نفس القضية. وقفنا في طابور على الأرض الرملية بناء على إشارة من يد مأمور السجن، أما المأمور نفسه فقد جلس على كرسي على البلاط. ألقى علينا خطبة عصماء لم تخل من التهديد والوعيد والتحذير من العاقبة السيئة لأي محاولة شغب. وبالفعل فكرنا ذات مرة في الإضراب وسألنا نبطجي العنبر المعلم سيد جاز عن تقديره للموقف، حذرنا الرجل من عواقب أي شغب مع وجود مأمور مثل نبيل مزارع، وحكى لنا عن قصص قاسية لمواجهة اﻹضرابات. ثم تبدأ الإجراءات بعد الخطبة، نتحول في كل خطوة إلى موضوعات بيد السلطة، هكذا سوف يتم التحكم فينا من خلال الرقابة علينا وتطويعنا ومحاولة إصلاحنا، هذا هو هدف وعمل المأمور والعساكر والنبطجي وحتى المباني بتصميمها الخاص هنا. السلطة تتبدى في إجراءات العقاب والرقابة والتطويع والإكراه. نقوم بتسليم كل أغراضنا للإدارة، ثم تجري عملية حلاقة الشعر زيرو، واستلام بدلة السجن وارتداؤها أو بديلها الخاص في حالة توفره، طالما كان بنفس الألوان المستخدمة هنا. ولأنني كنت محبوسًا احتياطيًا فبدلتي كانت بيضاء ومكتوب على ظهرها باللون الأصفر الفاقع "مسجون". أحمد سيرتدي زيا أزرق لأنه صدر عليه حكم. ثم نذهب للتصوير واستكمال البيانات في ملفنا بالسجن. نعود للساحة السابقة، باب المبنى موجود جهة اليسار بالدخول، على ما أذكر توجد العيادة، بعدها ممر طويل لعنابر الإيراد. عنبر الإيراد، سواء 5/1 أو 6/1 ينزل به كل الناس الجديدة، سواء كانوا ببدل بيضاء أو ببدل زرقاء. العنبر الذي نزلتُ فيه كان عبارة عن عنبر كبير به سراير حديد، ثلاثة أدوار فوق بعض. السراير موجودة على الجانبين من أول الباب لحد الحمام، وبينهما طرقة طويلة. كان يوجد به تليفزيون ملون وأيضًا مراوح سقف. الحمامات كانت من غير أبواب، وكل الناس في الحمام عرايا. عملنا ستارة لأول حمام وخصصناه للطلبة. لكل عنبر نبطجي يعتبر هو العاهل والآمر الناهي وممثل المأمور داخل العنبر في ما يخص الشغب بالأساس. لكنه لا يمانع بخصوص تعاطي أو الاتجار في المخدرات. بعد فترة يُصنف المساجين من ذوي البدل الزرقاء، فمنهم من يذهب إلى عنبر جرايم النفس، أو عنبر السرقة والنشل، أو عنبر الأموال العامة. وكان، وما زال حلم أي مسجون أن يطلع الأموال العامة، فهو فندق 7 نجوم داخل الفندق الـ 5 نجوم. يقدم السجن وجبات أكل رديئة، الصبح فول وجراية عيش، بعد الظهر رز وخضار ولحمة أو فراخ، في المساء حلاوة أو مربى مع أي فاكهة موجودة. العملة داخل السجن هي السجاير، كنا شرب الشاي داخل العنبر بسجاير، أو غسل الملابس، الأوراق والأقلام، المخدرات أو الصور السكس. نادرا ما تجد أحد يرتدي بدلة السجن الخشنة نفسها، والبركة في الزيارات التي تأتي بملابس نظيفة وجيدة، بشرط أن تكون بنفس الألوان. الزيارات أيضا تأتي بالأكل الجيد والسجاير الكثيرة حتى لمن لا يشربها. لو دخل أحمد عنابر الإيراد هتكون أسوأ حاجة هي نوبة الصبح، عندما يأتي المأمور في السادسة صباح كل يوم. كان الشاويش "دبانة" يدخل ويفتح الباب بعصبية وينادي في كل العنبر بصوت مرتفع وقوي: انتبااااه، ثم يتابع بوابل من الشتائم في الهواء: انتباه يا كذا إنت وهو. مع سماع صوت الباب، كنا نقفز من فوق السراير إلى الأرض، ثم ننظر للحائط ونرفع أيدينا للأعلى. كان نبيل مزارع يطلب منا أحيانا تقبيل الحائط!
لا أعرف هل سيذهب أحمد للمكتبة أم لا، لكني ذهبت إليها مرة ووجدت بها نسخة من كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، الممنوع خارج السجن. فكرت لماذا لا نتحدى أخلاق وقيم السلطة، بل ونُقط ضعفها، ونُدخل نسخة من رواية أحمد إلى مكتبة السجن؟ على قدر ما تكون تجربة السجن قاسية جدا، لكنها قد تكون مفيدة.
صديقي العزيز أحمد، أرجو أن تستفيد من هذه التجربة، وأن تتجاوز المحنة بالتأمل. أنا شخصيا بدأت كتابة روايتي في عنبر الإيراد، وتعرفت على بعض أفكار كارل ماركس ومنهجه من زميل كان معي في نفس القضية. تماسك وإياك أن تنكسر يا صديقي، قاوم وحاول أن تستمتع بالتجربة.
http://www.madamasr.com/ar/opinion/cu...
Published on February 29, 2016 12:54
February 28, 2016
حكايات مجاور.. وسحر الزي الأزهري
ماهر عبد الرحمن
في واقعة طريفة ادعى طالب بكلية صيدلة فرع جامعة الأزهر بأسيوط، أنه سافر إلى دولة ماليزيا حيث تنعقد بها مسابقة عالمية لحفظ القرآن الكريم، وأنه قد حصل على المركز الأول في تلك المسابقة. وبالفعل على ذلك تم تكريمه من عدة أماكن مختلفة رسمية وغير رسمية، سواء في محافظته أو على مستوى أكبر هنا بالعاصمة. وكان في طريقه لمقابلة شيخ الأزهر، وقيل أيضا أن رئاسة الجمهورية كانت بصدد تكريمه. وقام هذا الطالب بعدد من المقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة ومن ضمنها مقابلة مع المذيع تامر أمين. كان يحكي بالتفصيل عن سفره والحفاوة التي وجدها في ماليزيا، بداية من لافتة "مرحبا بقارئ الأزهر" وقراءته للقرآن في المسابقة أو خارجها بناء على طلب الجمهور لذلك الطالب المصري من بلد الأزهر الشريف. كان يحكي بثقة ويقين مع عتاب على الجهات الرسمية في مصر التي لم تشجعه أو حتى تودعه بالمطار. وحكى أيضا عن الاجهاد الشديد لصوته من كثرة القراءة. بل وذكر أن هناك نصائح طبية له بعدم القراءة لمدة معينة حتى تتعافى الأحبال الصوتية التي أُجهدت يا ولداه في هذه الرحلة.. وكل ما كان يحكي كان المذيع يعبر عن سعادته وانبهاره مع بعض الخجل والأسى من عدم التقدير لمثل هذا الفتى الماهر بالقرآن قبل سفره. وبالتأكيد كان هناك قطاع كبير من الجمهور لديه ذات المشاعر المختلطة بين التقدير والأسى لهذا الطالب المتفوق حافظ وحامل كتاب الله. لكن وقبل موعد اللقاء بشيخ الأزهر تم اكتشاف ادعاء وكذب هذا الطالب الذي لم يحصل لا على تأشيرة ولا سافر ولا قرا حتى جزء عم. ومن ثم تم الغاء كل ترتيبات التكريم. حكاية هذا الطالب فكرتني بحكايات كثيرة قرأتها عن طلبة الأزهر على مر السنين. دائما ما كانت هناك نظرة تقدير للطالب الذي يرتدي زي الأزهر المعروف، وتقدير أكبر لحفظة القرآن، الكرام البررة، وهو وصف جاء في القرآن للملائكة ومعناه أن خلقهم كريم طيب طاهر؛ وبالتالي فعلى حافظ القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد، أسوة بهؤلاء الكرام، مازالت هذه النظرة والتقدير حاضرة بقدر في معظم قرى مصر. وقد تسبب هذه النظرة وهذا التقدير المبالغ فيه نفسهم، وتصور الناس لمواصفات غير بشرية لحافظ القرآن، خلل نفسي وعدم اتزان لهذا الطالب أو ذاك، خصوصا مع حداثة السن.
يحكي طه حسين في "الأيام" عن نفسه عندما أصبح شيخا ولم يكن عمره قد تجاوز التاسعة؛ شيخا لأنه حفظ القرآن "ومن حفظ القرآن فهو شيخ مها تكن سنه" وأنه أحب هذا الوصف في بداية الأمر، لكنه كان ينتظر ما هو أكثر من لقب "شيخ" من مظاهر المكافآة والتشجيع، كان يحلم الشيخ طه بالجبة والقفطان كما ينبغي لهيئة الشيوخ أن تكون. ولعل طالب أسيوط كان يحلم هو الآخر، لكن بما هو أبعد من اللقب أو الزي، بالشهرة والمجد ومزيد من نظرات التقدير والإعجاب. أيضا يحكي طه حسين عن شعوره بالظلم بسبب عدم التقدير الكافي وأنه لم يقتنع بأن ضآلة جسمه وكونه مازال مفعوصا وأصغر من أن يحمل العِمَّة وأن يدخل في القفطان رغم كونه حافظا للقرآن! هذا الشعور بالظلم وعدم التقدير كما كان ينتظره جعله يُهمل حفظ القرآن، إلى أن جاء اليوم الأسود في حياة هذا الصغير، اليوم الذي ذاق فيه الفتى "لأول مرة مرارة الخزي والذلة والضعة وكره الحياة" حين طلب منه أبوه أن يقرأ أمام الضيوف، من الشعراء ثم النمل، ثم القصص.. لم يكن يتجاوز فيما قرأ الفواتح: طسم، طس، طسم.. لكن طالب أسيوط، عبد الرحيم راضي، لم يهمل القرآن بل كان كاذبا.. كاذبا لأبعد حد، سافر بخياله إلى ماليزيا، ووصف مشهد مهيب لاستقباله في المطار هناك، بل وكتب لافتة الترحيب بنفسه لنفسه "مرحبا بقارئ الأزهر". وقد وصفه واتهمه مجلس تأديب كليته وجامعته: بالإخلال بالشرف والكرامة، والإخلال، أيضا، بحسن السمعة والسلوك داخل الكلية وخارجها؛ بادعائه كذبًا حصوله على المركز الأول بالمسابقة العالمية.
النظرة التي يسجلها طه حسين في "الأيام" لتقدير وإجلال الناس لطلبة الأزهر ولزيهم في سنوات العشرينيات وقت أن كان يدرس هو، وما سجله سليمان فياض عن مجاوري الأزهر في فترة لاحقة في الأربيعنيات في سيرته "أيام مجاور"، تكاد تكون واحدة. تأثير نظرة المجتمع على نفسية هؤلاء الطلاب الفقراء في الغالب وكيف يكون لها أحيانا مفعول السحر عليهم، وأيضا ما يذكره فياض وهو يرسم تأثير التناقض النفسي على طالب الأزهر الذي يدرس مواد ومناهج وطريقة تفكير من القرون الوسطى، بينما هو يعيش واقعيا في القرن العشرين. هذا الأمر مازال حاضرا إلى اليوم. ويمكن أن نتخيل مفعول تلك النظرة وهذا التناقض، والذي قابل نفس ضعيفة في حكاية طالب أسيوط. كل هذه الأفكار والحكايات خطرت في بالي وأنا أتابع حكاية وكذب "الشيخ" عبد الرحيم راضي والذي اختفى بعد هذه الواقعة تقريبا ولم يستطع أن يحضر مجلس التأديب والذي قرر فصله نهائيا من كليته. حاولت أن أفكر وأتصور بهذه الطريقة دوافع هذا الطالب الصغير في نسج هذه الكذبة، ومدى تأثيرة نظرة الناس، وجرأته الممزوجة بجنون الشهرة، وبراعته في الأداء والحكي،، ونجاحه في تنفيذ معظم ما فكر فيه.. وقلت في بالي: يا ابن الـ..
https://almanassa.com/ar/story/1236
في واقعة طريفة ادعى طالب بكلية صيدلة فرع جامعة الأزهر بأسيوط، أنه سافر إلى دولة ماليزيا حيث تنعقد بها مسابقة عالمية لحفظ القرآن الكريم، وأنه قد حصل على المركز الأول في تلك المسابقة. وبالفعل على ذلك تم تكريمه من عدة أماكن مختلفة رسمية وغير رسمية، سواء في محافظته أو على مستوى أكبر هنا بالعاصمة. وكان في طريقه لمقابلة شيخ الأزهر، وقيل أيضا أن رئاسة الجمهورية كانت بصدد تكريمه. وقام هذا الطالب بعدد من المقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة ومن ضمنها مقابلة مع المذيع تامر أمين. كان يحكي بالتفصيل عن سفره والحفاوة التي وجدها في ماليزيا، بداية من لافتة "مرحبا بقارئ الأزهر" وقراءته للقرآن في المسابقة أو خارجها بناء على طلب الجمهور لذلك الطالب المصري من بلد الأزهر الشريف. كان يحكي بثقة ويقين مع عتاب على الجهات الرسمية في مصر التي لم تشجعه أو حتى تودعه بالمطار. وحكى أيضا عن الاجهاد الشديد لصوته من كثرة القراءة. بل وذكر أن هناك نصائح طبية له بعدم القراءة لمدة معينة حتى تتعافى الأحبال الصوتية التي أُجهدت يا ولداه في هذه الرحلة.. وكل ما كان يحكي كان المذيع يعبر عن سعادته وانبهاره مع بعض الخجل والأسى من عدم التقدير لمثل هذا الفتى الماهر بالقرآن قبل سفره. وبالتأكيد كان هناك قطاع كبير من الجمهور لديه ذات المشاعر المختلطة بين التقدير والأسى لهذا الطالب المتفوق حافظ وحامل كتاب الله. لكن وقبل موعد اللقاء بشيخ الأزهر تم اكتشاف ادعاء وكذب هذا الطالب الذي لم يحصل لا على تأشيرة ولا سافر ولا قرا حتى جزء عم. ومن ثم تم الغاء كل ترتيبات التكريم. حكاية هذا الطالب فكرتني بحكايات كثيرة قرأتها عن طلبة الأزهر على مر السنين. دائما ما كانت هناك نظرة تقدير للطالب الذي يرتدي زي الأزهر المعروف، وتقدير أكبر لحفظة القرآن، الكرام البررة، وهو وصف جاء في القرآن للملائكة ومعناه أن خلقهم كريم طيب طاهر؛ وبالتالي فعلى حافظ القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد، أسوة بهؤلاء الكرام، مازالت هذه النظرة والتقدير حاضرة بقدر في معظم قرى مصر. وقد تسبب هذه النظرة وهذا التقدير المبالغ فيه نفسهم، وتصور الناس لمواصفات غير بشرية لحافظ القرآن، خلل نفسي وعدم اتزان لهذا الطالب أو ذاك، خصوصا مع حداثة السن.
يحكي طه حسين في "الأيام" عن نفسه عندما أصبح شيخا ولم يكن عمره قد تجاوز التاسعة؛ شيخا لأنه حفظ القرآن "ومن حفظ القرآن فهو شيخ مها تكن سنه" وأنه أحب هذا الوصف في بداية الأمر، لكنه كان ينتظر ما هو أكثر من لقب "شيخ" من مظاهر المكافآة والتشجيع، كان يحلم الشيخ طه بالجبة والقفطان كما ينبغي لهيئة الشيوخ أن تكون. ولعل طالب أسيوط كان يحلم هو الآخر، لكن بما هو أبعد من اللقب أو الزي، بالشهرة والمجد ومزيد من نظرات التقدير والإعجاب. أيضا يحكي طه حسين عن شعوره بالظلم بسبب عدم التقدير الكافي وأنه لم يقتنع بأن ضآلة جسمه وكونه مازال مفعوصا وأصغر من أن يحمل العِمَّة وأن يدخل في القفطان رغم كونه حافظا للقرآن! هذا الشعور بالظلم وعدم التقدير كما كان ينتظره جعله يُهمل حفظ القرآن، إلى أن جاء اليوم الأسود في حياة هذا الصغير، اليوم الذي ذاق فيه الفتى "لأول مرة مرارة الخزي والذلة والضعة وكره الحياة" حين طلب منه أبوه أن يقرأ أمام الضيوف، من الشعراء ثم النمل، ثم القصص.. لم يكن يتجاوز فيما قرأ الفواتح: طسم، طس، طسم.. لكن طالب أسيوط، عبد الرحيم راضي، لم يهمل القرآن بل كان كاذبا.. كاذبا لأبعد حد، سافر بخياله إلى ماليزيا، ووصف مشهد مهيب لاستقباله في المطار هناك، بل وكتب لافتة الترحيب بنفسه لنفسه "مرحبا بقارئ الأزهر". وقد وصفه واتهمه مجلس تأديب كليته وجامعته: بالإخلال بالشرف والكرامة، والإخلال، أيضا، بحسن السمعة والسلوك داخل الكلية وخارجها؛ بادعائه كذبًا حصوله على المركز الأول بالمسابقة العالمية.
النظرة التي يسجلها طه حسين في "الأيام" لتقدير وإجلال الناس لطلبة الأزهر ولزيهم في سنوات العشرينيات وقت أن كان يدرس هو، وما سجله سليمان فياض عن مجاوري الأزهر في فترة لاحقة في الأربيعنيات في سيرته "أيام مجاور"، تكاد تكون واحدة. تأثير نظرة المجتمع على نفسية هؤلاء الطلاب الفقراء في الغالب وكيف يكون لها أحيانا مفعول السحر عليهم، وأيضا ما يذكره فياض وهو يرسم تأثير التناقض النفسي على طالب الأزهر الذي يدرس مواد ومناهج وطريقة تفكير من القرون الوسطى، بينما هو يعيش واقعيا في القرن العشرين. هذا الأمر مازال حاضرا إلى اليوم. ويمكن أن نتخيل مفعول تلك النظرة وهذا التناقض، والذي قابل نفس ضعيفة في حكاية طالب أسيوط. كل هذه الأفكار والحكايات خطرت في بالي وأنا أتابع حكاية وكذب "الشيخ" عبد الرحيم راضي والذي اختفى بعد هذه الواقعة تقريبا ولم يستطع أن يحضر مجلس التأديب والذي قرر فصله نهائيا من كليته. حاولت أن أفكر وأتصور بهذه الطريقة دوافع هذا الطالب الصغير في نسج هذه الكذبة، ومدى تأثيرة نظرة الناس، وجرأته الممزوجة بجنون الشهرة، وبراعته في الأداء والحكي،، ونجاحه في تنفيذ معظم ما فكر فيه.. وقلت في بالي: يا ابن الـ..
https://almanassa.com/ar/story/1236
Published on February 28, 2016 05:44
February 27, 2016
وداعًا علاء الديب
تتناول أعمال علاء الديب الروائية تمجيد الحياة ابتداء من الحياة النباتية، الأزهار والأشجار، ثم الطيور والأطفال؛ وأعماله تحنو على الكائنات البشرية البسيطة التى لا تقترب إلى مستوى السياسات المعقدة. وتتناول رواياته القضايا الأخلاقية باعتبار أن كل سلوك طبيعى تلقائى هو خيّر الأخلاق، وتدب الحياة فى شخصياته الطيبة بأبسط أشكال الحساسية.
عاش علاء الديب مثقفًا واسع الثقافة الأدبية الرفيعة مهمومًا بقضايا الوطن وقضايا الجماهير مدافعًا عن الحريات باحثًا عن المواهب الجديدة متبنيًا لأصحابها فى كتابة أعطاها عنوان «عصير الكتب». وهذا العصير المكثف دائب الإحاطة بالأسئلة الفكرية العصرية محاولاً العثور على إجابات لها تتسم بالتفتح والتقدمية. كما كان مترجمًا ينقل إلى العربية كتب الاتجاهات الحديثة. وتناولت إبداعاته فيما تناولت أزمات المثقفين فى آتون التغيرات السياسية والاجتماعية والنكسات القومية.
وكان بطل رواية الستينيات أيام شعارات الانتصارات والاشتراكية، مثقف الطبقة الوسطى القادم من الريف إلى المدينة يتملكه رغم الشعارات إحساس بالمطاردة والخوف لأنه يرفض الانقياد للطريقة التى أقنعت بها السلطة أغلبية الناس. ولكن روايتى الستينيات «القاهرة» و»الحصان الأجوف» تتناولان موضوعات تتكرر فى معظم رواياته مع تغيرات فى إيقاعها وخصوصًا جمال ورمزية الحياة الطبيعية فى تضادها مع خشونة وقسوة الحياة السياسية. فحياة القرية يكون فيها الترابط العضوى بين الأهل محسوسًا بعيدًا عن الاصطناع والزيف، وتنمو مع موضوعات التناول هذه رمزية الشجرة فى روايات تالية.
وقد نقل علاء الديب الصحفى اللامع طرائق الكتابة الصحفية إلى السرد الروائى فى اعتماد على الصيغة الاختزالية الطبيعية البسيطة التى تناسب جميع مستويات القراء وتصور واقع قيم مشتركة لعالم التجارب المألوفة الذى نقرأ أخباره وحوادثه فى الصحف. وتدور الأخبار على الحوادث المعاصرة فى الهنا والآن؛ والذوات الشخصية فى هذه الحوادث محددة الإطار لها مركز نفسى مرسوم تعى ما بداخلها وتحكم على نفسها وفق سلم سائد مشترك من القيم. ولا يهتم علاء الديب بتقديم طلاء لغوى براق، ويراقب باطنه كأنه حوض شفاف من الماء تسبح فيها انفعالاته كأنها أسماك ملونة. وفى تصوير الشخصيات يحيط البساطة بهالة من التمجيد ويناصر الضعفاء احتجاجًا على العالم المعاصر ويرفض إدانة ما يختلف معه إدانة قاطعة.
وفى رواية «أطفال بلا دموع» -1989- نرى السرد يعتمد على المونولوج الداخلي، المحاكاة المباشرة لكلام المرء مع نفسه، كلام أفراد منعزلين انفصل زمنهم الذاتى عن الزمن التاريخى الموضوعى يدل على درجة معينة من انكفاء الشخصية على نفسها، وأنها فى حالة من الضياع تلجأ إلى الخمر والحشيش ويهرب من الجميع ولكن لا إلى أحد وينزل إلى حدائق جرداء كنفسه القاحلة.
وهناك رائعة أبدعها علاء الديب هى رواية «أيام وردية» (صدرت فى 2002). وكيف تكون الحياة وردية عند أبطاله فى عالم اليوم وهم يعانون من الوحدة والاغتراب والشعور بالكآبة والزيف والخواء والإحباط؟ بطل هذه الرواية مثل أبطال رواية علاء الديب الأولى «القاهرة» يرى شريط حياته ممتدًا أمامه كذكرى صديق مات، وفى استرجاع ماضى حياته والشريط كله يسمى نفسه تعيس الألفي، محبط الألفي، صاحب محلات الألفى للكآبة. هو مفكر عربى قديم ومصلح اجتماعى سابق ومترجم وكاتب منفى داخل جلده يرمز لشريحة عالية الصوت فى فترة اشتراكية الطبقة الوسطى قومية الطراز، ومثل نظرائه كان كثير الأقنعة ملاحًا قديمًا رابضًا على الشاطئ، بعيدًا عن تيار الفعل، مهزومًا. تفرغ لعمل لا شيء وكانت يساريته العتيقة تعاوده كأنها نوبات حمى. ونرى أمين الألفى فى صالة شقته أمام أكواب القهوة الفارغة والمنفضة
مقال الأستاذ ابراهيم فتحى - الأهرام 27 فبراير 2016
الممتلئة عاريًا منزوع السلاح ليس عنده ما يقول، وقد تمكن منه العجز والإحباط بصورة مرضية دفعت به إلى مصحة للأمراض النفسية. فى تلك المصحة خلا الألفى إلى نفسه وإلى أحلامه الضائعة. حاول جاهدًا أن يجد تفسيرًا «لما حدث»، ما حدث له وللوطن وللدنيا، الهزيمة المسماة بالنكسة وانهيار المنظومة المسماة اشتراكية وهيمنة الرأسمالية المتوحشة المسماة الليبرالية الجديدة بفوارقها الهائلة. وغرق فى التساؤلات. وهناك يلتقى بفتاة فلسطينية اغتصبها كتائبيون فى الاجتياح الإسرائيلى للبنان وهى خطام. وتبدو فلسطين قضية مصرية شخصية فى وعى جيله. ويتذكر رحلة التنظيم الطليعى الناصرى إلى البلاد الاشتراكية وسط مجموعة مختارة من البلاد العربية مشغولين بالنهم والاستحواذ. وتتسع أيام المخيلة الوردية لكى يأخذ الفتاة الفلسطينية إلى مكان نظيف حسن الإضاءة فى محاولة للتوحد مع الوجود الطبيعي. ولكنه بفقد القدرة على الخيال والعيش بعيدًا عن الواقع، ويخرج من المصحة بعد أن صار شبحًا عابرًا رث الثياب حتى أدركه الموت وحيدًا. وتنتهى الأشياء لا فى صخب ولكن فى نشيج كما يقول إليوت فى قصيدة «الملك لك»، وخرجت أحشاء القرية بالأسمنت المسلح تنزف فى أحياء بأسماء البلاد مصدر النقود. ولاحظ النقاد، وهم على صواب فى ذلك، أن الرواية تخلو من تمجيد رومانسى للذات المنسحبة أو لعصاب البراءة فى ظل السنديانة، أو للوحدة فى وجه الاندماج القطيعى أو الذوبان فى قيم صوفية متعالية، كما تكررت الإشادة بالنقاء الأسلوبى وشعرية بناء الجمل.وقد بلغ علاء الديب فى الصنعة الروائية درجة عالية من الإبداع، وستظل أعماله فريدة فى تألقها، ويبقى أثره فى الكتاب والقراء عميقًأ.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/482069....
عاش علاء الديب مثقفًا واسع الثقافة الأدبية الرفيعة مهمومًا بقضايا الوطن وقضايا الجماهير مدافعًا عن الحريات باحثًا عن المواهب الجديدة متبنيًا لأصحابها فى كتابة أعطاها عنوان «عصير الكتب». وهذا العصير المكثف دائب الإحاطة بالأسئلة الفكرية العصرية محاولاً العثور على إجابات لها تتسم بالتفتح والتقدمية. كما كان مترجمًا ينقل إلى العربية كتب الاتجاهات الحديثة. وتناولت إبداعاته فيما تناولت أزمات المثقفين فى آتون التغيرات السياسية والاجتماعية والنكسات القومية.
وكان بطل رواية الستينيات أيام شعارات الانتصارات والاشتراكية، مثقف الطبقة الوسطى القادم من الريف إلى المدينة يتملكه رغم الشعارات إحساس بالمطاردة والخوف لأنه يرفض الانقياد للطريقة التى أقنعت بها السلطة أغلبية الناس. ولكن روايتى الستينيات «القاهرة» و»الحصان الأجوف» تتناولان موضوعات تتكرر فى معظم رواياته مع تغيرات فى إيقاعها وخصوصًا جمال ورمزية الحياة الطبيعية فى تضادها مع خشونة وقسوة الحياة السياسية. فحياة القرية يكون فيها الترابط العضوى بين الأهل محسوسًا بعيدًا عن الاصطناع والزيف، وتنمو مع موضوعات التناول هذه رمزية الشجرة فى روايات تالية.
وقد نقل علاء الديب الصحفى اللامع طرائق الكتابة الصحفية إلى السرد الروائى فى اعتماد على الصيغة الاختزالية الطبيعية البسيطة التى تناسب جميع مستويات القراء وتصور واقع قيم مشتركة لعالم التجارب المألوفة الذى نقرأ أخباره وحوادثه فى الصحف. وتدور الأخبار على الحوادث المعاصرة فى الهنا والآن؛ والذوات الشخصية فى هذه الحوادث محددة الإطار لها مركز نفسى مرسوم تعى ما بداخلها وتحكم على نفسها وفق سلم سائد مشترك من القيم. ولا يهتم علاء الديب بتقديم طلاء لغوى براق، ويراقب باطنه كأنه حوض شفاف من الماء تسبح فيها انفعالاته كأنها أسماك ملونة. وفى تصوير الشخصيات يحيط البساطة بهالة من التمجيد ويناصر الضعفاء احتجاجًا على العالم المعاصر ويرفض إدانة ما يختلف معه إدانة قاطعة.
وفى رواية «أطفال بلا دموع» -1989- نرى السرد يعتمد على المونولوج الداخلي، المحاكاة المباشرة لكلام المرء مع نفسه، كلام أفراد منعزلين انفصل زمنهم الذاتى عن الزمن التاريخى الموضوعى يدل على درجة معينة من انكفاء الشخصية على نفسها، وأنها فى حالة من الضياع تلجأ إلى الخمر والحشيش ويهرب من الجميع ولكن لا إلى أحد وينزل إلى حدائق جرداء كنفسه القاحلة.
وهناك رائعة أبدعها علاء الديب هى رواية «أيام وردية» (صدرت فى 2002). وكيف تكون الحياة وردية عند أبطاله فى عالم اليوم وهم يعانون من الوحدة والاغتراب والشعور بالكآبة والزيف والخواء والإحباط؟ بطل هذه الرواية مثل أبطال رواية علاء الديب الأولى «القاهرة» يرى شريط حياته ممتدًا أمامه كذكرى صديق مات، وفى استرجاع ماضى حياته والشريط كله يسمى نفسه تعيس الألفي، محبط الألفي، صاحب محلات الألفى للكآبة. هو مفكر عربى قديم ومصلح اجتماعى سابق ومترجم وكاتب منفى داخل جلده يرمز لشريحة عالية الصوت فى فترة اشتراكية الطبقة الوسطى قومية الطراز، ومثل نظرائه كان كثير الأقنعة ملاحًا قديمًا رابضًا على الشاطئ، بعيدًا عن تيار الفعل، مهزومًا. تفرغ لعمل لا شيء وكانت يساريته العتيقة تعاوده كأنها نوبات حمى. ونرى أمين الألفى فى صالة شقته أمام أكواب القهوة الفارغة والمنفضة
مقال الأستاذ ابراهيم فتحى - الأهرام 27 فبراير 2016
الممتلئة عاريًا منزوع السلاح ليس عنده ما يقول، وقد تمكن منه العجز والإحباط بصورة مرضية دفعت به إلى مصحة للأمراض النفسية. فى تلك المصحة خلا الألفى إلى نفسه وإلى أحلامه الضائعة. حاول جاهدًا أن يجد تفسيرًا «لما حدث»، ما حدث له وللوطن وللدنيا، الهزيمة المسماة بالنكسة وانهيار المنظومة المسماة اشتراكية وهيمنة الرأسمالية المتوحشة المسماة الليبرالية الجديدة بفوارقها الهائلة. وغرق فى التساؤلات. وهناك يلتقى بفتاة فلسطينية اغتصبها كتائبيون فى الاجتياح الإسرائيلى للبنان وهى خطام. وتبدو فلسطين قضية مصرية شخصية فى وعى جيله. ويتذكر رحلة التنظيم الطليعى الناصرى إلى البلاد الاشتراكية وسط مجموعة مختارة من البلاد العربية مشغولين بالنهم والاستحواذ. وتتسع أيام المخيلة الوردية لكى يأخذ الفتاة الفلسطينية إلى مكان نظيف حسن الإضاءة فى محاولة للتوحد مع الوجود الطبيعي. ولكنه بفقد القدرة على الخيال والعيش بعيدًا عن الواقع، ويخرج من المصحة بعد أن صار شبحًا عابرًا رث الثياب حتى أدركه الموت وحيدًا. وتنتهى الأشياء لا فى صخب ولكن فى نشيج كما يقول إليوت فى قصيدة «الملك لك»، وخرجت أحشاء القرية بالأسمنت المسلح تنزف فى أحياء بأسماء البلاد مصدر النقود. ولاحظ النقاد، وهم على صواب فى ذلك، أن الرواية تخلو من تمجيد رومانسى للذات المنسحبة أو لعصاب البراءة فى ظل السنديانة، أو للوحدة فى وجه الاندماج القطيعى أو الذوبان فى قيم صوفية متعالية، كما تكررت الإشادة بالنقاء الأسلوبى وشعرية بناء الجمل.وقد بلغ علاء الديب فى الصنعة الروائية درجة عالية من الإبداع، وستظل أعماله فريدة فى تألقها، ويبقى أثره فى الكتاب والقراء عميقًأ.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/482069....
Published on February 27, 2016 00:32
February 17, 2016
فيلم ذيب
في الأنشودة الخامسة عشر من كتاب الجحيم في الكوميديا الإلهية، يلتقي دانتي في رحلته الطويلة ببرونيتو لاتيني، وكان في الواقع صديقا لدانتي وفتح له أبواب المعرفة وغرس في نفسه حب الوطن وتخليد الذكرى ومات ولم يكن دانتي قد بلغ الثلاثين من عمره. وفي اللقاء دار هذ الحوار:
برونيتو: أي قدر يسوقك هنا في الأسفل، قبل اليوم الأخير؟ ومن ذا يدلك على الطريق؟
دانتي: هناك في الحياة الهادئة فوقنا في العالم الأعلى، ضللت في واد قبل أن تكتمل مني السن.
القطعة دي هي اللي جت في بالي وأنا بشوف الفيلم العظيم "ذيب" من كام يوم لما اتعرض في سينما Zawya
قصة نضج طفل في 24 ساعة وقبل أن تكتمل منه السن.. و100 دقيقة من المتعة والدهشة والجمال
ده رابط مقال جيد عن الفيلم:
http://www.ultrasawt.com/%D8%B0%D9%8A...
برونيتو: أي قدر يسوقك هنا في الأسفل، قبل اليوم الأخير؟ ومن ذا يدلك على الطريق؟
دانتي: هناك في الحياة الهادئة فوقنا في العالم الأعلى، ضللت في واد قبل أن تكتمل مني السن.
القطعة دي هي اللي جت في بالي وأنا بشوف الفيلم العظيم "ذيب" من كام يوم لما اتعرض في سينما Zawya
قصة نضج طفل في 24 ساعة وقبل أن تكتمل منه السن.. و100 دقيقة من المتعة والدهشة والجمال
ده رابط مقال جيد عن الفيلم:
http://www.ultrasawt.com/%D8%B0%D9%8A...
Published on February 17, 2016 14:31
January 29, 2016
كابوريا
من المشاهد القوية لأحمد زكي في الفيلم ده، المشهده اللي بيروح فيه لمدرب الملاكمة بتاعه عشان يدربه قبل ماتش جديد كان عايز يلعبه وهو مستعد تماما وضامن الفوز.. لكن الكابتن بيقوله إنت بعت نفسك بالرخيص يا هدهد، الرياضة أخلاق قبل أي حاجة.. مشهد فيه هدهد بيدافع باستماتة عن الغلط اللي ارتكبه بسبب الحاجة والفقر الشديد، لكنه يعرف هنا -بداخله- إنه يكذب، وإن اللي حققه مش نجاح؛ لأنه خسر نفسه ومكنش أكتر من تسلية للناس اللي معاها فلوس.. وبيرجع هدهد في الآخر لنفسه وبسيب الزيف ده كله، وبيتمرن بجد وبيتعب بجد عشان يحقق حلمه بشرف ومن غير ما يحتقر نفسه ولا حد يحتقره، بيرمي كل الفلوس الزايفة في وشهم قبل ما بيخرج من زيه المستعار ده لزيه الحقيقي، رحلة اكتشافه لنفسه.
بيطلع حسن هدهد بمساعدة صحابه لشباك قمر في يوم جديد لسه بيبتدي، بيخبط عليها وهو مضروب في عينه، بتسأله كنت فين؟ بيقولها كنت بحارب.
بتسأله وغلبت؟
بيقولها غلبت
بتسأله جبتلي إيه معاك؟ قالها أنا!
-والفلوس؟
-خدها الغراب وطار
-ولما يصحى أبويا؟
-هقوله يا عم نونو أنا وقمر عايزين نجيب نونو صغير
-ومهر أم نونو؟
-دراعي يا قمر.. أنا هرجع الشغل تاني وهتمرن وهخش الأولمبية
-بجد؟
بجد..
المقال التالي كتبه حسن حداد
في الاسبوع الماضي كان حديثنا عن فيلم (الطوق والاسورة) الذي يمثل قمة ما قدمه المخرج خيري بشارة في مرحلته الفنية الأولى. مرحلة الواقعية الجديدة. أي انه يشكل أهم النماذج التي قدمها هذا المخرج في نطاق بحثه في التعبير عن الواقع. وفي موضوعنا هذا الأسبوع سنتحدث عن فيلم أخر لنفس المخرج، فيلم يشكل انطلاقة جديدة في مشواره السينمائي، فيلمنا هو (كابوريا- 1989).
بعد أربعة أفلام صبغها بألوان واقعية شاعرية تميل إلى السواد (الأقدار الدامية، العوامة 70، الطوق والآسرة، يوم مر ويوم حلو) قفز خيري بشارة - وبلا مقدمات - إلى عالم الفنتازيا الساخرة وقدم (كابوريا). وهو الفيلم الذي استقبله نقاد السينما في مصر بفتور وأحيانا بعداوة، وأقبل عليه الجمهور المصري بحماس شديد، فحقق في الأسابيع الثلاثة الأولى له على الشاشات المصريـة، إيرادات تـعـدت الثلاثمائة ألف جنيه وهو رقم لم تسجله سوى أفلام قليلة، بينهما أفلام النجم عادل إمام.
شخصيا كان استقبالي للفيلم في مشاهدتي الأولى له استقبالا فاترا، بل أنني صدمت بالفيلم واعتبرته أقل مستوى مما تعودته من خيري بشارة. هذه الصدمة، ربما كانت نتيجة حتمية بعد كل ذلك الانبهار والتعاطف لما قدمه خيري بشارة من قبل، وان هذا التحول المفاجئ في أسلوبه، هو بالضبط ما جعلني مرتبكا في استقبالي لفيلمه الجديد.
يقول خيري بشارة : (علي المستوى الشخصي، أنا طول عمري "كابوريا" أفلامي الأربعة الأولى، على الرغم من كل العواطف التي تحملها، حققتها بوعي ذهني شديد، وفي كل مرة كنت أسابق نفسي باحثا عن كيفية التخلص من سيطرة هذا الوعي الذهني علي. كان كاتب الكابوريا في داخلي، وكبت رغبة التمرد الدائمة في داخلي .. وأثناء تحقيقي لأفلامي التسجيلية وأعمالي الروائية الأربعة قبل كابوريا، كنت أمينا مع رؤيتي في السينما هو دور تنويري (…) اليوم، من حقي أن أتغير، أنا ديموقراطي مع نفسي قبل أن أكون ديموقراطياً مع الآخرين. في داخلي أشياء مكبوتة لابد أن أعطيها فرصة للخروج، أشعر أنني كنت ديكتاتوريا على نفسي، واليوم أعامل نفسي بمنتهى الرحابة، وأرى كابوريا اقرب فيلم لتركيبتي الشخصية الحقيقية، وبداية مرحلة سأقلب فيها كل شئ من دون أي رقابة ذاتية، وسأخرج من المياه العذبة لأستمتع بالمياه المالحة!!).
ومن هنا يصبح ما قاله خيري بشارة أمراً مشروعا لأي مبدع، حيث يفترض أن يكون الفنان صادقا مع نفسه، حتى يكون صادقا مع المتلقي، فمن حق أي فنان أن يقدم ما يريده من فن، ومن حق المتلقي قبوله أو رفضه، فالاختلاف ليس ظاهرة سلبية، بل هي على العكس إيجابية خاصة في مجـال الفن والإبداع، وليس صحيحا أن نهاجم الفنان ونصادر حريته لمجرد اختلافنا معه.
ففي فيلمه (كابوريا) يتحدث خيري بشارة عن أربعة شبان من الطبقة الشعبية الفقيرة، يهوون الملاكمة ويحلمون بالمبـاريات الدولية. ويتحدث من جانب آخر عن سيدة ثرية (رغدة) تبحث عن أحاسيس قوية تخرجها من سأم حياتها المخمليـة، فتصطاد الشباب وتدخلهم في فيلتها، حيث تستبدل المراهنات علي مباريات الديوك بالمراهنات على مباريات الملاكمة، ويعيش هدهد (حمد زكى) وأصدقائه سلسلة من المواقف، يلمسون فيها زيف المجتمع المخملي، فيعودون إلى ناديهم الشعبي الصغير، ويرجع هدهد إلى حبيبته فتاة النافذة المواجهة للنادي. ولأن "الكـابوريـا" يتم اصطيادها في غبش الفجر، عندما تسير منتشية علي الشاطئ، ليتسلى بأكلها ليلا، كذلك يتم اصطياد صعاليك الشوارع فجرا، ليتسلى بهم السادة ليلا، من هنا تعمد الفيلم أن يكون اللقاء الأول بين "رغدة" و"احمد زكى" على سطح النيل في الفجر، حيت يتسلق منتشيا جدار باخرتها، وهو لا يعلم أنها تصطاده للتسلي.
هذه هي الفكرة العامة التي صاغها خـيري بشارة مـع السيناريست (عصام الشماع) للفيلم، فهما في هذه الصياغة الجديدة، قد تجاوزا ما يسمى بالواقعية، وقدما كوميديا غنائية تسخر من تناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
يقول خيري بشارة، في هذا الصدد : (أثناء العمل علي سيناريو كابوريا، كنا دائما نردد أننا نريد أن نكون صادقين كالكريستال، لا مكان في اهتمامـاتنـا لخلفيـات الشخصيـات الاجتماعيـة والاقتصادية والزمن والمكان التاريخيين، وكل هذه الأشياء المرتبطة بـالواقـعيـة الاشتراكية، ما قبل ذوبان ثلوج 56 إنتهت بالنسبة لي، عبرت عنها في أربعة أفلام ولا أرغب في المزيد من الترداد).
وبما أن خيري بشارة يعلن صراحة بأنه في فيلمه هذا، لا يتخذ من الواقعية أسلوبا له، فلن يكون هناك مجال للحديث عن مواءمة تصرفـات أي من شخصياته في الفيلم مع طبيعتها وأبعادها من عدمها، حيث من المفترض عدم التعرض لمناقشة الفيلم بأدوات لا تتناسب والأسلوب الفني الذي يتبناه. وهذا بالضبط ما وقع فيه بعض النقاد عندما انتقدوا فيلم كابوريا، حيث تعاملوا معه كفيلم واقعي. أننا في (كابوريا) أمام فيلم فنتازي ساخر يتعرض لطبقة الأغنياء (المليونيرات) وطبقة الفقراء (الصعاليك) يسخر منهما ويدينهما في نفس الوقت. إنه يصور لنا شكلا من أشكال الاستغلال يمارسه أغنياء على فقراء.
أن خيري بشارة هنا يقدم لنا حياة هؤلاء المرفهين الباحثين عن المتعة والتسلية لقتل الفراغ والملل الذي يعانون منه، وبالتالي. يسعون للبحث عن كل ما هو جديد يكسر هذه الرتابة والملل، حتى ولو أدى إلى توظيف بعض الكـائنـات البشريـة لتحقيق أغراضهم. كما انه يدين أيضا تلك السلبية واللامبالاة التي تلازم أغنياء من هذا النوع، كذلك عندما يتناول حيـاة هؤلاء الصعاليك، فهو لايتعاطف معم تماما، إنما يقدمهم كحيوانات سرك، يتسلى بهم الأغنياء، بل ويدين سلبيتهم كذلك وقبولهم لمثل هذا الوضع المزري. ، لقد نجح خيري بشارة في تقديم فيلم جديد، هادف وسريع، حيث وفق في إدارة فريقه الفني من فنانين وفنيين، خصوصا في تلك المشاهد التي يرصد فيها، بحيوية ومهارة، أثر اللكمات علي وجوه الملاكمين.
http://www.cinematechhaddad.com/Deras...
بيطلع حسن هدهد بمساعدة صحابه لشباك قمر في يوم جديد لسه بيبتدي، بيخبط عليها وهو مضروب في عينه، بتسأله كنت فين؟ بيقولها كنت بحارب.
بتسأله وغلبت؟
بيقولها غلبت
بتسأله جبتلي إيه معاك؟ قالها أنا!
-والفلوس؟
-خدها الغراب وطار
-ولما يصحى أبويا؟
-هقوله يا عم نونو أنا وقمر عايزين نجيب نونو صغير
-ومهر أم نونو؟
-دراعي يا قمر.. أنا هرجع الشغل تاني وهتمرن وهخش الأولمبية
-بجد؟
بجد..
المقال التالي كتبه حسن حداد
في الاسبوع الماضي كان حديثنا عن فيلم (الطوق والاسورة) الذي يمثل قمة ما قدمه المخرج خيري بشارة في مرحلته الفنية الأولى. مرحلة الواقعية الجديدة. أي انه يشكل أهم النماذج التي قدمها هذا المخرج في نطاق بحثه في التعبير عن الواقع. وفي موضوعنا هذا الأسبوع سنتحدث عن فيلم أخر لنفس المخرج، فيلم يشكل انطلاقة جديدة في مشواره السينمائي، فيلمنا هو (كابوريا- 1989).
بعد أربعة أفلام صبغها بألوان واقعية شاعرية تميل إلى السواد (الأقدار الدامية، العوامة 70، الطوق والآسرة، يوم مر ويوم حلو) قفز خيري بشارة - وبلا مقدمات - إلى عالم الفنتازيا الساخرة وقدم (كابوريا). وهو الفيلم الذي استقبله نقاد السينما في مصر بفتور وأحيانا بعداوة، وأقبل عليه الجمهور المصري بحماس شديد، فحقق في الأسابيع الثلاثة الأولى له على الشاشات المصريـة، إيرادات تـعـدت الثلاثمائة ألف جنيه وهو رقم لم تسجله سوى أفلام قليلة، بينهما أفلام النجم عادل إمام.
شخصيا كان استقبالي للفيلم في مشاهدتي الأولى له استقبالا فاترا، بل أنني صدمت بالفيلم واعتبرته أقل مستوى مما تعودته من خيري بشارة. هذه الصدمة، ربما كانت نتيجة حتمية بعد كل ذلك الانبهار والتعاطف لما قدمه خيري بشارة من قبل، وان هذا التحول المفاجئ في أسلوبه، هو بالضبط ما جعلني مرتبكا في استقبالي لفيلمه الجديد.
يقول خيري بشارة : (علي المستوى الشخصي، أنا طول عمري "كابوريا" أفلامي الأربعة الأولى، على الرغم من كل العواطف التي تحملها، حققتها بوعي ذهني شديد، وفي كل مرة كنت أسابق نفسي باحثا عن كيفية التخلص من سيطرة هذا الوعي الذهني علي. كان كاتب الكابوريا في داخلي، وكبت رغبة التمرد الدائمة في داخلي .. وأثناء تحقيقي لأفلامي التسجيلية وأعمالي الروائية الأربعة قبل كابوريا، كنت أمينا مع رؤيتي في السينما هو دور تنويري (…) اليوم، من حقي أن أتغير، أنا ديموقراطي مع نفسي قبل أن أكون ديموقراطياً مع الآخرين. في داخلي أشياء مكبوتة لابد أن أعطيها فرصة للخروج، أشعر أنني كنت ديكتاتوريا على نفسي، واليوم أعامل نفسي بمنتهى الرحابة، وأرى كابوريا اقرب فيلم لتركيبتي الشخصية الحقيقية، وبداية مرحلة سأقلب فيها كل شئ من دون أي رقابة ذاتية، وسأخرج من المياه العذبة لأستمتع بالمياه المالحة!!).
ومن هنا يصبح ما قاله خيري بشارة أمراً مشروعا لأي مبدع، حيث يفترض أن يكون الفنان صادقا مع نفسه، حتى يكون صادقا مع المتلقي، فمن حق أي فنان أن يقدم ما يريده من فن، ومن حق المتلقي قبوله أو رفضه، فالاختلاف ليس ظاهرة سلبية، بل هي على العكس إيجابية خاصة في مجـال الفن والإبداع، وليس صحيحا أن نهاجم الفنان ونصادر حريته لمجرد اختلافنا معه.
ففي فيلمه (كابوريا) يتحدث خيري بشارة عن أربعة شبان من الطبقة الشعبية الفقيرة، يهوون الملاكمة ويحلمون بالمبـاريات الدولية. ويتحدث من جانب آخر عن سيدة ثرية (رغدة) تبحث عن أحاسيس قوية تخرجها من سأم حياتها المخمليـة، فتصطاد الشباب وتدخلهم في فيلتها، حيث تستبدل المراهنات علي مباريات الديوك بالمراهنات على مباريات الملاكمة، ويعيش هدهد (حمد زكى) وأصدقائه سلسلة من المواقف، يلمسون فيها زيف المجتمع المخملي، فيعودون إلى ناديهم الشعبي الصغير، ويرجع هدهد إلى حبيبته فتاة النافذة المواجهة للنادي. ولأن "الكـابوريـا" يتم اصطيادها في غبش الفجر، عندما تسير منتشية علي الشاطئ، ليتسلى بأكلها ليلا، كذلك يتم اصطياد صعاليك الشوارع فجرا، ليتسلى بهم السادة ليلا، من هنا تعمد الفيلم أن يكون اللقاء الأول بين "رغدة" و"احمد زكى" على سطح النيل في الفجر، حيت يتسلق منتشيا جدار باخرتها، وهو لا يعلم أنها تصطاده للتسلي.
هذه هي الفكرة العامة التي صاغها خـيري بشارة مـع السيناريست (عصام الشماع) للفيلم، فهما في هذه الصياغة الجديدة، قد تجاوزا ما يسمى بالواقعية، وقدما كوميديا غنائية تسخر من تناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
يقول خيري بشارة، في هذا الصدد : (أثناء العمل علي سيناريو كابوريا، كنا دائما نردد أننا نريد أن نكون صادقين كالكريستال، لا مكان في اهتمامـاتنـا لخلفيـات الشخصيـات الاجتماعيـة والاقتصادية والزمن والمكان التاريخيين، وكل هذه الأشياء المرتبطة بـالواقـعيـة الاشتراكية، ما قبل ذوبان ثلوج 56 إنتهت بالنسبة لي، عبرت عنها في أربعة أفلام ولا أرغب في المزيد من الترداد).
وبما أن خيري بشارة يعلن صراحة بأنه في فيلمه هذا، لا يتخذ من الواقعية أسلوبا له، فلن يكون هناك مجال للحديث عن مواءمة تصرفـات أي من شخصياته في الفيلم مع طبيعتها وأبعادها من عدمها، حيث من المفترض عدم التعرض لمناقشة الفيلم بأدوات لا تتناسب والأسلوب الفني الذي يتبناه. وهذا بالضبط ما وقع فيه بعض النقاد عندما انتقدوا فيلم كابوريا، حيث تعاملوا معه كفيلم واقعي. أننا في (كابوريا) أمام فيلم فنتازي ساخر يتعرض لطبقة الأغنياء (المليونيرات) وطبقة الفقراء (الصعاليك) يسخر منهما ويدينهما في نفس الوقت. إنه يصور لنا شكلا من أشكال الاستغلال يمارسه أغنياء على فقراء.
أن خيري بشارة هنا يقدم لنا حياة هؤلاء المرفهين الباحثين عن المتعة والتسلية لقتل الفراغ والملل الذي يعانون منه، وبالتالي. يسعون للبحث عن كل ما هو جديد يكسر هذه الرتابة والملل، حتى ولو أدى إلى توظيف بعض الكـائنـات البشريـة لتحقيق أغراضهم. كما انه يدين أيضا تلك السلبية واللامبالاة التي تلازم أغنياء من هذا النوع، كذلك عندما يتناول حيـاة هؤلاء الصعاليك، فهو لايتعاطف معم تماما، إنما يقدمهم كحيوانات سرك، يتسلى بهم الأغنياء، بل ويدين سلبيتهم كذلك وقبولهم لمثل هذا الوضع المزري. ، لقد نجح خيري بشارة في تقديم فيلم جديد، هادف وسريع، حيث وفق في إدارة فريقه الفني من فنانين وفنيين، خصوصا في تلك المشاهد التي يرصد فيها، بحيوية ومهارة، أثر اللكمات علي وجوه الملاكمين.
http://www.cinematechhaddad.com/Deras...
Published on January 29, 2016 13:29
January 20, 2016
فى محبة ما يرمز إليه «علاء الديب»
مقال لماجدة الجندي
ما بين عامى 1972 و1973... كنت ارقبه من على بعد ولا أملك جرأة اقتحام «هداته» الصامتة، فى المرات القليلة التى يتصادف فيها حضوره فى مجلة «صباح الخير» وبين ترددى الخجول على المكان...
أول مرة اقترن فيها الاسم الذى كنت أتابع ما يكتبه وبين الشخص نفسه، كانت ذات ضحي، لما تابعه عم حسين، أقدم معاونى الخدمة وأحد أهم من عاصروا الاستاذ احسان، مناديا «يا أستاذ علاء.. الحاجات واحد سابها لك».. ولم تكن الحاجات إلا «كتب» بالطبع.
عصير الكتب «على واحدة من الصفحات الاخيرة لمجلة صباح الخير.. تلك التى كنا نطلق عليها «الافيش»، «بألوانها التى تتغير اسبوعيا، وحيث نافذته وشباكنا على المعارف: «عصير الكتب» وتوقيعه، وبورتريه صغير... كم مرة حاولت أن استقرئ أو استشف رد فعل الأستاذ.. ماذا، لو امتلكت شجاعة فض الصمت، ودخلت عليه وهو جالس على المكتب الرمادى ماركة «ايديال» منكب على الورق، ورحت ومددت له يدى مصافحة، واعلنتها انا اقرأ كل ما تكتبه عن الكتب... واحب الكتب.. وونسة الكتب؟.
كنت أدير الحوار بينى وبين نفسي، ولا أتحرك ولا أسعي، المحه مارقا قرب الظهيرة.. متوقفا على باب الأستاذ رءوف توفيق، متعهالله بالصحة والعافية: «سلام» يا رءوف... ربما فى موعد شبه ثابت، حتى كان ذلك اليوم المشهود... يوم مشهود فعلا، اليوم الذى يتوقف فيه، واطل برأسه من على باب الحجرة التى اتشاركها وزملاء، وأنا فى زاويتى المختارة، قرب النافذة المطلة على شارع قصر العيني... ودون مقدمات، وبألفة وود بالغين وكأننا «عز المعرفة» وجه إلى الكلام «على فكرة موضوعك حلو... مكتوب كويس».. ومضي.. لم ينتظر منى أن أرد، أو ليرى ما أحدثته كلماته.. أو لربما قبلته انفعالا.. نعم، لم يكن ليوازى كلماته الاربع غير ذلك..
يكتب الأستاذ علاء الديب، بعزلة «وعدل القاضي».. تماما كما يقرأ بحرية، واستقلال.. ويطوف فى الأرض باحثا عما يستحق ان يصل إلى الناس، ويقلب فى التربة، غير قانع بالطافى فوق السطح، له عين «جواهرجي» قادرة على النفاذ والتمييز ما بين لمعة «الزائف» والاصيل الذى ربما مدفوس أو مدفونة، فتكون «عين» علاء الديب، وقلمه، هما جناحا كل عمل أصيل، لينفض الغبار ويحلق إلى حيث يليق به أن يكون...
كان «حضور» شخصية الأستاذ علاء الديب دوما فى المكان، أقرب إلى حفيف أوراق الشجر، لما تهزه نسمة عصارى رائقة... لا تسمع له مطلبا خاصا، فهو الزاهد، المترفع، ولا تعلو نبرات صوته، أن خاطبته أو كلمك، عن مستوى لا يتجاوز الهمس بأكثر من درجة أو درجتين... قادر على اضغام المعانى فى وضوح وبساطة، وتلك عبقريته، التى تلخصها معالجة أى عمل، مهما تشابكت افكاره، بانسياب وسلاسة، كانما هو أشبه بمحول، ينتقل بأصعب الافكار من فولت لآخر، بضمان وصول التيار...
كانت السبعينيات والثمانينيات، متخمة بالتحولات الاقرب إلى «الانقلابات القيمية».. التى فى اطارها كنا شهودا على أنواع «صادمة»... من المواقف التى ربما عصفت بما تربينا على أنه من البديهيات... كان الأستاذ علاء «رمانة ميزان».. لنا نحن المتوسمين خيرا فيما شببنا عليه، من انحيازات للناس، وانتماءات لوطن.
فتش عن وضوح المواقف.. وصفاء الرؤية. عن الزهد فى أن تكون فى القلب من الصور المروجة... فتش عن معنى أن تكد لاكثر من نصف قرن، كى تكسب عيشك، بشرف ونزاهة القديسين، قرشا قرشا، بينما «يغرف» العرابون والسماسرة وتجار الثقافة، من ماعون فاسد ما لا يحصى من ثروات وامتيازات حرام، وستبقى حراما... وأنت الأكثر موهبة وعطاء.. فتش عن صرامة الأخذ بالمعايير، عن تواضع العارف الذى كلما عرف ادرك الحدود لمحيط المعرفة... فتش عن المؤمن باحقية البشر فى عدالة على الأرض، فتش عن الذى لم يقايض، ولم يبع، ولم يساوم، وارتضى القبض على جمرين، جمر شرف العيش، وجمر ثبات المبدأ.
فتش... وأن اعياك البحث تعال إلى حفنة معدودة، على رأسها الأستاذ علاء الديب..
ما بين الحين والحين كان يأتينى صوته، بالذات فى تلك الاوقات التى كنت احس فيها بصقيع الدنيا ووحدتها، ومؤخرا أتانى صوته رقراقا مواسيا، ولم أجد ما أرد به غير عبارة واحدة: ربنا يخليك يا أستاذ علاء ربنا يعلم محبتك فى قلوبنا... ومحبتنا لكل ما ترمز إليه من جمال.. وصفوهما الزاد المعين علي، ما نمر به..
أستاذ علاء الديب: قطرت لنا انبل المعانى فى عصير كتبك، ومواقفك، وجل مشوارك.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/469762....
ما بين عامى 1972 و1973... كنت ارقبه من على بعد ولا أملك جرأة اقتحام «هداته» الصامتة، فى المرات القليلة التى يتصادف فيها حضوره فى مجلة «صباح الخير» وبين ترددى الخجول على المكان...
أول مرة اقترن فيها الاسم الذى كنت أتابع ما يكتبه وبين الشخص نفسه، كانت ذات ضحي، لما تابعه عم حسين، أقدم معاونى الخدمة وأحد أهم من عاصروا الاستاذ احسان، مناديا «يا أستاذ علاء.. الحاجات واحد سابها لك».. ولم تكن الحاجات إلا «كتب» بالطبع.
عصير الكتب «على واحدة من الصفحات الاخيرة لمجلة صباح الخير.. تلك التى كنا نطلق عليها «الافيش»، «بألوانها التى تتغير اسبوعيا، وحيث نافذته وشباكنا على المعارف: «عصير الكتب» وتوقيعه، وبورتريه صغير... كم مرة حاولت أن استقرئ أو استشف رد فعل الأستاذ.. ماذا، لو امتلكت شجاعة فض الصمت، ودخلت عليه وهو جالس على المكتب الرمادى ماركة «ايديال» منكب على الورق، ورحت ومددت له يدى مصافحة، واعلنتها انا اقرأ كل ما تكتبه عن الكتب... واحب الكتب.. وونسة الكتب؟.
كنت أدير الحوار بينى وبين نفسي، ولا أتحرك ولا أسعي، المحه مارقا قرب الظهيرة.. متوقفا على باب الأستاذ رءوف توفيق، متعهالله بالصحة والعافية: «سلام» يا رءوف... ربما فى موعد شبه ثابت، حتى كان ذلك اليوم المشهود... يوم مشهود فعلا، اليوم الذى يتوقف فيه، واطل برأسه من على باب الحجرة التى اتشاركها وزملاء، وأنا فى زاويتى المختارة، قرب النافذة المطلة على شارع قصر العيني... ودون مقدمات، وبألفة وود بالغين وكأننا «عز المعرفة» وجه إلى الكلام «على فكرة موضوعك حلو... مكتوب كويس».. ومضي.. لم ينتظر منى أن أرد، أو ليرى ما أحدثته كلماته.. أو لربما قبلته انفعالا.. نعم، لم يكن ليوازى كلماته الاربع غير ذلك..
يكتب الأستاذ علاء الديب، بعزلة «وعدل القاضي».. تماما كما يقرأ بحرية، واستقلال.. ويطوف فى الأرض باحثا عما يستحق ان يصل إلى الناس، ويقلب فى التربة، غير قانع بالطافى فوق السطح، له عين «جواهرجي» قادرة على النفاذ والتمييز ما بين لمعة «الزائف» والاصيل الذى ربما مدفوس أو مدفونة، فتكون «عين» علاء الديب، وقلمه، هما جناحا كل عمل أصيل، لينفض الغبار ويحلق إلى حيث يليق به أن يكون...
كان «حضور» شخصية الأستاذ علاء الديب دوما فى المكان، أقرب إلى حفيف أوراق الشجر، لما تهزه نسمة عصارى رائقة... لا تسمع له مطلبا خاصا، فهو الزاهد، المترفع، ولا تعلو نبرات صوته، أن خاطبته أو كلمك، عن مستوى لا يتجاوز الهمس بأكثر من درجة أو درجتين... قادر على اضغام المعانى فى وضوح وبساطة، وتلك عبقريته، التى تلخصها معالجة أى عمل، مهما تشابكت افكاره، بانسياب وسلاسة، كانما هو أشبه بمحول، ينتقل بأصعب الافكار من فولت لآخر، بضمان وصول التيار...
كانت السبعينيات والثمانينيات، متخمة بالتحولات الاقرب إلى «الانقلابات القيمية».. التى فى اطارها كنا شهودا على أنواع «صادمة»... من المواقف التى ربما عصفت بما تربينا على أنه من البديهيات... كان الأستاذ علاء «رمانة ميزان».. لنا نحن المتوسمين خيرا فيما شببنا عليه، من انحيازات للناس، وانتماءات لوطن.
فتش عن وضوح المواقف.. وصفاء الرؤية. عن الزهد فى أن تكون فى القلب من الصور المروجة... فتش عن معنى أن تكد لاكثر من نصف قرن، كى تكسب عيشك، بشرف ونزاهة القديسين، قرشا قرشا، بينما «يغرف» العرابون والسماسرة وتجار الثقافة، من ماعون فاسد ما لا يحصى من ثروات وامتيازات حرام، وستبقى حراما... وأنت الأكثر موهبة وعطاء.. فتش عن صرامة الأخذ بالمعايير، عن تواضع العارف الذى كلما عرف ادرك الحدود لمحيط المعرفة... فتش عن المؤمن باحقية البشر فى عدالة على الأرض، فتش عن الذى لم يقايض، ولم يبع، ولم يساوم، وارتضى القبض على جمرين، جمر شرف العيش، وجمر ثبات المبدأ.
فتش... وأن اعياك البحث تعال إلى حفنة معدودة، على رأسها الأستاذ علاء الديب..
ما بين الحين والحين كان يأتينى صوته، بالذات فى تلك الاوقات التى كنت احس فيها بصقيع الدنيا ووحدتها، ومؤخرا أتانى صوته رقراقا مواسيا، ولم أجد ما أرد به غير عبارة واحدة: ربنا يخليك يا أستاذ علاء ربنا يعلم محبتك فى قلوبنا... ومحبتنا لكل ما ترمز إليه من جمال.. وصفوهما الزاد المعين علي، ما نمر به..
أستاذ علاء الديب: قطرت لنا انبل المعانى فى عصير كتبك، ومواقفك، وجل مشوارك.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/469762....
Published on January 20, 2016 01:32
January 17, 2016
إن كنتي تفتكري ولا تنسي مانيش بحبك...بحب نفسي :)
في لازمة شهيرة لعمار الشريعي لما كان يشغل أغنية في برنامجه الجميل جدا اللي كان بييجي على إذاعة البرنامج العام زمان وكنت بتابعه كل ما تيسر لي، كان دايما يقول بعد الأغنية، الله الله الله.. وعمار عموما كان شخص يرى الجمال دائما وكان حكاء للصبح ومفيش مانع يزود حتة ولاّ يقول وصف بليغ ومجامل أحيانا؛ باعتبار البرنامج للمستمع العام بالأساس. وكتر خيره لأنه كان بيسمع الناس مزيكا وكلام وأصوات حلوة وكمان كان بيشرح ليه هي حلوة.. فكان الواحد بياخد الحسنيين، المتعة والفهم، الحس والعقل. في كتاب الفيلسوف والكاتب والشاعر فريدريش شيلر، التربية الجمالية للإنسان، ترجمته وقدمت له الدكتور وفاء إبراهيم، وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بيعتبر شيلر إن الجمال ممكن نعتبره وسيلة انقاذ فبيقول: يجب أن يستعيد الإنسان نفسه من جديد في كل لحظة عن طريق الحياة الجميلة.. دي طقطوقة نادرة وجميلة ومن اللي يتقال بعدها: الله الله الله.. كتبها أحمد رامي سنة 1926، وهي تعبير عن فكرة مهمة لشخص رومانتيكي منيل بنيلة بيحب فكرته عن واحدة، مش بيحب الواحدة دي نفسها.. بيقولها كده بصراحة:
إن كنت تفتكري والا تنسي
ما نيش بحبك بحب نفسي
وفي مكان تاني هيقولها:
أحب فيكي ذوقي وخيالي
وأشوف في حبك سبب كمالي
وهي مكتوبة حلو ودمها خفيف، ومتلحنة حلو، وصوت عبد الوهاب بقى في بداية العشرينات لسه صغير شوية صحيح لكنه حيوي وطبعا دايما فاهم بيعمل إيه كويس.
الطقطوقة هي مذهب وكوبليهات واللحن الأساسي أو المقام هو المذهب اللي بيتكرر بين الكوبليهات، يعني بننقل منه. طيب ولما نخلص الكوبليه؟ في الأول كان الملحن بيرجع للمذهب كله ومع التطور بقى يرجع لآخر جزء من المذهب.. ومع التطور خالص مبقاش في مذهب وبقت كوبليهات على طول يقولها مطرب فرد وبطوله، ودي بقى هي الأغنية سيداتي سادتي :)
https://www.youtube.com/watch?v=bMAAE...
إن كنت تفتكري والا تنسي
ما نيش بحبك بحب نفسي
وفي مكان تاني هيقولها:
أحب فيكي ذوقي وخيالي
وأشوف في حبك سبب كمالي
وهي مكتوبة حلو ودمها خفيف، ومتلحنة حلو، وصوت عبد الوهاب بقى في بداية العشرينات لسه صغير شوية صحيح لكنه حيوي وطبعا دايما فاهم بيعمل إيه كويس.
الطقطوقة هي مذهب وكوبليهات واللحن الأساسي أو المقام هو المذهب اللي بيتكرر بين الكوبليهات، يعني بننقل منه. طيب ولما نخلص الكوبليه؟ في الأول كان الملحن بيرجع للمذهب كله ومع التطور بقى يرجع لآخر جزء من المذهب.. ومع التطور خالص مبقاش في مذهب وبقت كوبليهات على طول يقولها مطرب فرد وبطوله، ودي بقى هي الأغنية سيداتي سادتي :)
https://www.youtube.com/watch?v=bMAAE...
Published on January 17, 2016 15:28
January 11, 2016
الأخطاء ليست سببا لليأس
ده مقال كان منشور بالأمس في جريدة الأهرام للدكتور حازم الببلاوي الخبير الاقتصادي المعروف، ورئيس الوزراء المصري السابق.. ويدور حول فكرة أن التجربة هي أحد أهم سبل التعلم. الواحد يجرب عشان يتعلم، ويغلط عشان يتعلم. لكن التجربة والغلط يكون ليهم معنى لما نتغير ونتعلم منهم ونراكم معرفة؛ لكن الإصرار على الغلط والتمادي فيه، ده حماقة وطفولة وغلط تاني، أو تطبيع بقى.. زي الشخص اللي قرر يبقى حرامي أو متسلق أو فاسد؛ يعني عنده مشروع ومكمل حياته على كده.. حتى الناس اللي بتقول هنسرق لحد ما نقف على رجلنا وبعدين نروح نعمل عمرة.. المشوار ده بياخد من روحهم ومن ضميرهم وبتتكسر فيهم حاجة كبيرة وهتحتاج لإرادة حديدية عشان يتجاوزوها وخسارتهم بتكون أكبر.. لكن التجاوز في كل الأحوال ممكن، يقول الدكتور حازم في المقال: فالمشكلة الحقيقية ليست فى وجود الخطأ فى ذاته، بقدر ما هى فى الفشل فى التعليم من الأخطاء. فالعاقل ليس هو من لا يخطيء، وإنما هو من يتعلم من أخطائه ويصوب نظرته إلى الأمور حتى يصل إلى الطريق الصحيح.
المقال:
لا أحد يحب «الخطأ» أو يدعو إليه. ومع ذلك، لا يمكن أن نتجاهل أن »الأخطاء« هى من طبيعة الحياة، بل ويمكن القول ـ بشكل ما ـ أنها وراء التقدم والحضارة. فالعلم يقوم على أساس »التجربة والخطأ«. فمع اكتشاف الأخطاء نصل إلى الحقيقة أو نقترب منها. فالفارق بين العلم الحديث وعلوم الأسبقين، أن العلم المعاصر يعتمد على »اختبار الفروض« العلمية على أرض الواقع من خلال »التجربة والخطأ«. وفى ضوء ذلك تتقدم المعرفة. فالمشكلة الحقيقية ليست فى وجود الخطأ فى ذاته، بقدر ما هى فى الفشل فى التعليم من الأخطاء. فالعاقل ليس هو من لا يخطيء، وإنما هو من يتعلم من أخطائه ويصوب نظرته إلى الأمور حتى يصل إلى الطريق الصحيح.
ويكفى أن ننظر إلى تاريخ البشرية أو حتى حياة الفرد، لنكتشف، فى كل الحالتين، أنه تاريخ «التجربة والخطأ»، والإستفادة من هذه الأخطاء. حتى غير المقصودة، لتصحيح المسار. فالتقدم البشرى كله هو تاريخ اكتشاف الأخطاء وتصحيحها. فالوليد يتعلم السير بعد محاولات متعددة للوقوف والسيطرة على توازنه وذلك بعد اخفاقات متعددة، ونفس الشيء فى تعلمه للغة فى البيت وبعدها فى المدرسة والجامعة بل والحياة العملية. ففى مسرح الحياة العامة لا يمكن اكتساب الخبرة إلا من خلال التجارب، وبعضها بالغ الألم والتكلفة. لذلك فإن المجتمعات، بدورها تقدمت بفضل التجارب واكتشاف الحقائق من خلال مراحل متعددة من الأخطاء، والتعلم من هذه التجارب. وليست هناك نهاية لهذا التطور. فنحن نتقدم كل يوم، ولكن هذا التقدم لا يتحقق مجانا، فهناك اخفاقات هنا وهناك. ومع ذلك نتقدم كل يوم لأننا على استعداد لتحمل الأخطاء والتعلم منها لعدم تكرارها ومجاوزتها. وهكذا طريق التقدم، فهو ليس طريقا سلسا ومعبدا، بل هو طريق متعرج متعدد المطبات والعراقيل، ولكنه مع ذلك يستحق المحاولة والاستفادة من الدروس والتجارب. وهكذا العلم والتعلم، ليس بالبكاء والعويل، وإنما بالتأمل وإعادة النظر واستخلاص الموعظة والأمل فى المستقبل ومعاودة المحاولة برؤية جديدة. وهذا هو طريق التطور.
داروين ونظرية التطور
ربما كان داروين، هو أول صاحب محاولة علمية حديثة لوضع موضوع »التطور«، ومن ورائه »التجربة والخطأ«، كأساس لتفسير تطور الحياة. ويمكن أن نشير هنا أيضا إلى ابن خلدون، حيث ركز على تطور المجتمعات، وبذلك كان أحد أهم رواد فكر »التطور«. ومع ذلك يظل داروين هو الأكثر تأثيرا فى ابراز مفهوم »التطور« فى الفكر العلمي. وإذا كان اصطلاح »البقاء للأصلح« لم يصدر عن داروين نفسه، حيث استخدمه هربرت سبنسر Herbert Spencer، فإن هذا الاصطلاح يعنى أن التطور يتجه نحو الأفضل والأكمل والأقوي. وعندما أصدر داروين كتابه عن »أصل الأنواع« فى الخمسينيات من القرن التاسع عشر، لم يكن مدركا لقوانين الوراثة، رغم أن الألمانى مندل Gregor Mendel نشر بحثه عن قوانين الوراثة بعد صدور كتاب داروين بسنوات قليلة. ولم تكتمل نظرية داروين ـ إلى حد بعيد ـ حتى ما يقرب من مائة عام من تاريخ صدور كتابه، وذلك عندما اكتشف العالمان واطسن Watson وكريك Crick قوانين الوراثة من خلال اكتشاف الحمض النووى DNA وقدرة »الجينات« على نقل الصفات الوراثية بين الأجيال. فهذه الجينات هى نوع من المطبعة Replicatoz تعيد نسخ الصفات الوراثية بين الأجيال، وبما يحفظ بالتالى شكل الحياة وخصائصها من جيل لآخر. وبطبيعة الأحوال، فإن هذا لا يمنع من بعض الفروقات الوراثية بين المواليد، نظرا لأن كل مولود يرث نصف صفاته الوراثية من كل من الأم والأب. وهكذا يحمل كل مولود خصائصه الوراثية ـ بأشكال مختلفة ـ من كل من الأم والأب. وبذلك تستمر هذه الصفات الوراثية وتنتقل من جيل لآخر. ومع ذلك، فهناك استثناءات قليلة ونادرة ـ ولكنها كما سنرى مهمة ومؤثرة ـ وهى أن أى خطأ أو تغيير فى نسخ الصفات الوراثية بين الأجيال، يأتى المولود الجديد بخصائص مختلفة نوعا ما عن الوالدين، ليس لاختلاف التوليفة بين الخصائص الموروثة من الأم والأب، وإنما بسبب خطأ بيولوجى (غير مقصود) فى نسخ الصفات الوراثية بين الأجيال. وهنا يأتى المولود الجديد بخصائص مختلفة وغير مقصودة نتيجة نوع من الخلل فى عملية استنساخ الصفات الوراثية بين الأباء والأبناء. وغالبا، ما يؤدى هذا الخطأ إلى وفاة المولود الجديد أو ظهور تشوهات به قد تؤدى إلى اضطراب فى صحته إن لم تؤد إلى وفاته. ولكن ـ وهذا نادر جدا ـ قد تؤدى الخصائص الجديدة إلى زيادة قدرة المولود على الحياة أو مقاومة الأمراض، ويترتب على ذلك، أن يتمتع المولود الجديد بقدرات أفضل للحياة، وبالتالى يزداد نسله ويزيد أعدادهم فى المستقبل، وبذلك يؤدى خطأ فى عملية الاستنساخ للجينات إلى تحسين نسل الأجيال الجديدة. فانظر مثلا، إلى معظم الدول الافريقية جنوب الصحراء خاصة المناطق المعرضة لأمراض الملاريا، حيث لوحظ أن أبناء هذه الدول يتمتعون بصفات وراثية تجعلهم أكثر قدرة على مقاومة الملاريا. ولكنهم أيضا، وبسبب هذه المناعة الوراثية ضد الملاريا، فإن قدرتهم على هضم ومعالجة الألبان ومشتقاتها ـ بعد فترة الرضاعة ـ تكون منعدمة. وقد عرفت الولايات المتحدة هذه الظاهرة بين الأمريكيين من أصول افريقية. فهنا يبدو، أن هذه الخصائص الوراثية المنتشرة بينهم، إنما ترجع إلى أنهم أحفاد الأفارقة الذين حملوا هذه الخصائص الوراثية من افريقيا. فهنا نحن بصدد نوع من الخطأ البيولوجى الذى أثبت فائدته فى ظروف جغرافية معينة، وبالتالى انتشر فى الأجيال اللاحقة لأبناء هذه المناطق، ولكنه لم يكن مناسبا لظروف البيئة الجديدة.
التعلم من الأخطاء
قوة إيجابية
ولكن ما هى العبرة من كل هذا؟ العبرة هى أن الحياة تقوم على »التجربة والخطأ«، وأن العاقل هو من يستفيد من أخطائه بتغيير سلوكه بما يناسب البيئة التى يعيش فيها. فالمشكلة ليست فى وجود أخطاء، ولكن فى استمرارها. هناك أخطاء دائما، والمطلوب هو محاولة القضاء عليها والتخلص منها. وما قد يكون مناسبا لظروف معينة قد لا يكون كذلك لظروف أخري، فمناعة الافريقى إزاء الملاريا تبرر حماية الجسم، ولو ترتب على ذلك حرمانه من الألبان ومشتقاتها فى إفريقيا. ولكن الأمر فى الولايات المتحدة ليس كذلك، فهى لا تتعرض للملاريا، وهذا الحرمان من المنتجات من الحليب قد يضر بصحته. ولذلك فإن المراجعة ضرورية ولازمة، وما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر. ومن هنا أهمية التطور. ولكن هذا يتطلب التلاؤم مع الظروف المستجدة دون تهويل أو تهوين. ولكن تظل نقطة البدء هى ضرورة الثقة فى النفس فى الثقة بالمستقبل.
لقد عرفت مصر ثورتين هائلتين فى 25 يناير، 30 يونيو، أظهر فيهما الشعب قدرة هائلة على الاصرار على التغيير والاصلاح دون شائبة من تدمير أو تخريب، وفى خلال الفترة الانتقالية ظهر العديد من المشكلات التى تحتاج اعادة نظر. وفتح الباب للكشف عن الأخطاء والمسالب. وهذا يمثل أحد أهم الجوانب الايجابية. فالبدء بالاصلاح يبدأ بالكشف عن العيوب بكل صراحة ووضوح.. هذا مهم وضروري.
ولكن، وهذا مهم، ليس معنى وجود فساد وأخطاء أن البلد كلها فاسدة، أو أنه لا فائدة! عندما تطرح هذه العبارة (لا فائدة) فمعنى ذلك أننا فى خطر حقيقي. كل شيء يمكن اصلاحه وعلاجه، إلا »مفيش فائدة«، هذا هو السلاح الوحيد الذى يمكن أن يقضى على المستقبل. إن من يدافع عن ضرورة الاصلاح، يبدأ من منطلق ـ أن هناك فائدة ـ ولذلك، فإن أخطر ما تتعرض له البلاد ليس اختلافات الآراء، فهذا مطلوب. ولكن السلاح الوحيد القاتل هو انتشار اليأس، وأنه »مفيش فايدة«: هذا ليس فقط غير صحيح ولكنه أقرب إلى الخيانة. اننا نواجه مشاكل كثيرة، ومتراكمة.. ولكن هناك أمل. وأمل كبير، إذا قام كل منا بواجبه قبل أن يعين نفسه مراقبا عاما على سلوك الآخرين.. والله أعلم.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/467769....
المقال:
لا أحد يحب «الخطأ» أو يدعو إليه. ومع ذلك، لا يمكن أن نتجاهل أن »الأخطاء« هى من طبيعة الحياة، بل ويمكن القول ـ بشكل ما ـ أنها وراء التقدم والحضارة. فالعلم يقوم على أساس »التجربة والخطأ«. فمع اكتشاف الأخطاء نصل إلى الحقيقة أو نقترب منها. فالفارق بين العلم الحديث وعلوم الأسبقين، أن العلم المعاصر يعتمد على »اختبار الفروض« العلمية على أرض الواقع من خلال »التجربة والخطأ«. وفى ضوء ذلك تتقدم المعرفة. فالمشكلة الحقيقية ليست فى وجود الخطأ فى ذاته، بقدر ما هى فى الفشل فى التعليم من الأخطاء. فالعاقل ليس هو من لا يخطيء، وإنما هو من يتعلم من أخطائه ويصوب نظرته إلى الأمور حتى يصل إلى الطريق الصحيح.
ويكفى أن ننظر إلى تاريخ البشرية أو حتى حياة الفرد، لنكتشف، فى كل الحالتين، أنه تاريخ «التجربة والخطأ»، والإستفادة من هذه الأخطاء. حتى غير المقصودة، لتصحيح المسار. فالتقدم البشرى كله هو تاريخ اكتشاف الأخطاء وتصحيحها. فالوليد يتعلم السير بعد محاولات متعددة للوقوف والسيطرة على توازنه وذلك بعد اخفاقات متعددة، ونفس الشيء فى تعلمه للغة فى البيت وبعدها فى المدرسة والجامعة بل والحياة العملية. ففى مسرح الحياة العامة لا يمكن اكتساب الخبرة إلا من خلال التجارب، وبعضها بالغ الألم والتكلفة. لذلك فإن المجتمعات، بدورها تقدمت بفضل التجارب واكتشاف الحقائق من خلال مراحل متعددة من الأخطاء، والتعلم من هذه التجارب. وليست هناك نهاية لهذا التطور. فنحن نتقدم كل يوم، ولكن هذا التقدم لا يتحقق مجانا، فهناك اخفاقات هنا وهناك. ومع ذلك نتقدم كل يوم لأننا على استعداد لتحمل الأخطاء والتعلم منها لعدم تكرارها ومجاوزتها. وهكذا طريق التقدم، فهو ليس طريقا سلسا ومعبدا، بل هو طريق متعرج متعدد المطبات والعراقيل، ولكنه مع ذلك يستحق المحاولة والاستفادة من الدروس والتجارب. وهكذا العلم والتعلم، ليس بالبكاء والعويل، وإنما بالتأمل وإعادة النظر واستخلاص الموعظة والأمل فى المستقبل ومعاودة المحاولة برؤية جديدة. وهذا هو طريق التطور.
داروين ونظرية التطور
ربما كان داروين، هو أول صاحب محاولة علمية حديثة لوضع موضوع »التطور«، ومن ورائه »التجربة والخطأ«، كأساس لتفسير تطور الحياة. ويمكن أن نشير هنا أيضا إلى ابن خلدون، حيث ركز على تطور المجتمعات، وبذلك كان أحد أهم رواد فكر »التطور«. ومع ذلك يظل داروين هو الأكثر تأثيرا فى ابراز مفهوم »التطور« فى الفكر العلمي. وإذا كان اصطلاح »البقاء للأصلح« لم يصدر عن داروين نفسه، حيث استخدمه هربرت سبنسر Herbert Spencer، فإن هذا الاصطلاح يعنى أن التطور يتجه نحو الأفضل والأكمل والأقوي. وعندما أصدر داروين كتابه عن »أصل الأنواع« فى الخمسينيات من القرن التاسع عشر، لم يكن مدركا لقوانين الوراثة، رغم أن الألمانى مندل Gregor Mendel نشر بحثه عن قوانين الوراثة بعد صدور كتاب داروين بسنوات قليلة. ولم تكتمل نظرية داروين ـ إلى حد بعيد ـ حتى ما يقرب من مائة عام من تاريخ صدور كتابه، وذلك عندما اكتشف العالمان واطسن Watson وكريك Crick قوانين الوراثة من خلال اكتشاف الحمض النووى DNA وقدرة »الجينات« على نقل الصفات الوراثية بين الأجيال. فهذه الجينات هى نوع من المطبعة Replicatoz تعيد نسخ الصفات الوراثية بين الأجيال، وبما يحفظ بالتالى شكل الحياة وخصائصها من جيل لآخر. وبطبيعة الأحوال، فإن هذا لا يمنع من بعض الفروقات الوراثية بين المواليد، نظرا لأن كل مولود يرث نصف صفاته الوراثية من كل من الأم والأب. وهكذا يحمل كل مولود خصائصه الوراثية ـ بأشكال مختلفة ـ من كل من الأم والأب. وبذلك تستمر هذه الصفات الوراثية وتنتقل من جيل لآخر. ومع ذلك، فهناك استثناءات قليلة ونادرة ـ ولكنها كما سنرى مهمة ومؤثرة ـ وهى أن أى خطأ أو تغيير فى نسخ الصفات الوراثية بين الأجيال، يأتى المولود الجديد بخصائص مختلفة نوعا ما عن الوالدين، ليس لاختلاف التوليفة بين الخصائص الموروثة من الأم والأب، وإنما بسبب خطأ بيولوجى (غير مقصود) فى نسخ الصفات الوراثية بين الأجيال. وهنا يأتى المولود الجديد بخصائص مختلفة وغير مقصودة نتيجة نوع من الخلل فى عملية استنساخ الصفات الوراثية بين الأباء والأبناء. وغالبا، ما يؤدى هذا الخطأ إلى وفاة المولود الجديد أو ظهور تشوهات به قد تؤدى إلى اضطراب فى صحته إن لم تؤد إلى وفاته. ولكن ـ وهذا نادر جدا ـ قد تؤدى الخصائص الجديدة إلى زيادة قدرة المولود على الحياة أو مقاومة الأمراض، ويترتب على ذلك، أن يتمتع المولود الجديد بقدرات أفضل للحياة، وبالتالى يزداد نسله ويزيد أعدادهم فى المستقبل، وبذلك يؤدى خطأ فى عملية الاستنساخ للجينات إلى تحسين نسل الأجيال الجديدة. فانظر مثلا، إلى معظم الدول الافريقية جنوب الصحراء خاصة المناطق المعرضة لأمراض الملاريا، حيث لوحظ أن أبناء هذه الدول يتمتعون بصفات وراثية تجعلهم أكثر قدرة على مقاومة الملاريا. ولكنهم أيضا، وبسبب هذه المناعة الوراثية ضد الملاريا، فإن قدرتهم على هضم ومعالجة الألبان ومشتقاتها ـ بعد فترة الرضاعة ـ تكون منعدمة. وقد عرفت الولايات المتحدة هذه الظاهرة بين الأمريكيين من أصول افريقية. فهنا يبدو، أن هذه الخصائص الوراثية المنتشرة بينهم، إنما ترجع إلى أنهم أحفاد الأفارقة الذين حملوا هذه الخصائص الوراثية من افريقيا. فهنا نحن بصدد نوع من الخطأ البيولوجى الذى أثبت فائدته فى ظروف جغرافية معينة، وبالتالى انتشر فى الأجيال اللاحقة لأبناء هذه المناطق، ولكنه لم يكن مناسبا لظروف البيئة الجديدة.
التعلم من الأخطاء
قوة إيجابية
ولكن ما هى العبرة من كل هذا؟ العبرة هى أن الحياة تقوم على »التجربة والخطأ«، وأن العاقل هو من يستفيد من أخطائه بتغيير سلوكه بما يناسب البيئة التى يعيش فيها. فالمشكلة ليست فى وجود أخطاء، ولكن فى استمرارها. هناك أخطاء دائما، والمطلوب هو محاولة القضاء عليها والتخلص منها. وما قد يكون مناسبا لظروف معينة قد لا يكون كذلك لظروف أخري، فمناعة الافريقى إزاء الملاريا تبرر حماية الجسم، ولو ترتب على ذلك حرمانه من الألبان ومشتقاتها فى إفريقيا. ولكن الأمر فى الولايات المتحدة ليس كذلك، فهى لا تتعرض للملاريا، وهذا الحرمان من المنتجات من الحليب قد يضر بصحته. ولذلك فإن المراجعة ضرورية ولازمة، وما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر. ومن هنا أهمية التطور. ولكن هذا يتطلب التلاؤم مع الظروف المستجدة دون تهويل أو تهوين. ولكن تظل نقطة البدء هى ضرورة الثقة فى النفس فى الثقة بالمستقبل.
لقد عرفت مصر ثورتين هائلتين فى 25 يناير، 30 يونيو، أظهر فيهما الشعب قدرة هائلة على الاصرار على التغيير والاصلاح دون شائبة من تدمير أو تخريب، وفى خلال الفترة الانتقالية ظهر العديد من المشكلات التى تحتاج اعادة نظر. وفتح الباب للكشف عن الأخطاء والمسالب. وهذا يمثل أحد أهم الجوانب الايجابية. فالبدء بالاصلاح يبدأ بالكشف عن العيوب بكل صراحة ووضوح.. هذا مهم وضروري.
ولكن، وهذا مهم، ليس معنى وجود فساد وأخطاء أن البلد كلها فاسدة، أو أنه لا فائدة! عندما تطرح هذه العبارة (لا فائدة) فمعنى ذلك أننا فى خطر حقيقي. كل شيء يمكن اصلاحه وعلاجه، إلا »مفيش فائدة«، هذا هو السلاح الوحيد الذى يمكن أن يقضى على المستقبل. إن من يدافع عن ضرورة الاصلاح، يبدأ من منطلق ـ أن هناك فائدة ـ ولذلك، فإن أخطر ما تتعرض له البلاد ليس اختلافات الآراء، فهذا مطلوب. ولكن السلاح الوحيد القاتل هو انتشار اليأس، وأنه »مفيش فايدة«: هذا ليس فقط غير صحيح ولكنه أقرب إلى الخيانة. اننا نواجه مشاكل كثيرة، ومتراكمة.. ولكن هناك أمل. وأمل كبير، إذا قام كل منا بواجبه قبل أن يعين نفسه مراقبا عاما على سلوك الآخرين.. والله أعلم.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/467769....
Published on January 11, 2016 06:25


