ماهرعبد الرحمن's Blog, page 5
June 11, 2016
الصوت الذهبي الصادح عبد الباسط عبد الصمد
ماهر عبد الرحمن
رب يسر وأعن
جاء فى تاريخ الخلفاء أن أبا نعيم أخرج في «الحلية» عن أبي صالح قال: لما قدم أهل اليمن زمان أبي بكر وسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست قلوبنا. ويشرح الإمام أبو حامد الغزالى فى كتاب آداب "السماع والوجد" من "إحياء علوم الدين"، أن الغناء أشد تهييجا من القرآن من سبعة أوجه على ما ذكر. ومن هذه الأوجه ما يشرح لنا لماذا لم يبك أبو بكر. فإن القرآن إذا كان محفوظا ومتكررا فلن يحرك ساكنا؛ وبالتالى فدموع أبى بكر لم تنزل "لما حصل له من الأُنس بكثرة استماعه".
من الآراء الطريفة التى يذكرها الأستاذ محمود السعدنى فى كتابه "ألحان السماء" أن الشيخ محمد سلامة كان لا يخفى استنكاره للطريقة التى يقرأ بها الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، باعتبار أن قراءة القرآن تحتاج إلى صوت قوي ووقور، أما الصوت "الجميل" فليس مستحبا! وفي ظنى، وليس كل الظن إثمًا، أن أبا بكر الصديق لو سمع القرآن بهذه الأصوات "الجميلة" لرق قلبه ولان. الكتابة عن الشيخ عبد الباسط ممتعة، خاصة وأنا أكتب وأنا فى رحاب صوته الآن. وكتابتى فى حدود ما تيسر لى من المعرفة. من يدخل مسجد السيدة زينب سوف يجد على المقصورة عبارة منقوشة تقول: يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مددك. وكان المدد فى انتظار الشيخ عبد الباسط، الذى جاء إلى القاهرة فى عام 1950 بغرض زيارة السيدة زينب فى ذكرى يوم مولدها. يومها كان يحيى هذه الليلة الكبيرة أكابر القراء فى هذا الوقت، كان هناك الشيخ الشعشاعى ومصطفى إسماعيل وعبد العظيم زاهر وأبو العينين شعيشع وغيرهم. وفى أثناء إحدى الاستراحات تقدم قريب الشيخ عبد الباسط إلى إمام المسجد
-وقتها- الشيخ على سبيع، ليطلب الإذن لقريبه ليقرأ ما تيسر له من آى الذكر الحكيم. جلس الشيخ عبد الباسط يومها مكان كبار المشايخ وانساب صوته بقول الله تعالى:
"إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". وظل جمهور المستمعين، بمن فيهم المشايخ، يطلبون المزيد، فقد كان صوته بردًا وسلامًا على القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومع أن الشيخ كان مشهورا فى قريته وفى القرى المجاورة قبل هذا اليوم، إلا أن تلك الليلة كانت بمثابة الفتح المبين، والشهرة الكبيرة، ليس فى مصر المحروسة وحدها، بل فى العديد من بلاد الله.
ليس هناك ذكر لليوم أو الشهر الذى ولد فيه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فقط العام 1927 الموافق لعام 1346 من الهجرة. بقرية المراعزة بمدينة أرمنت، محافظة قنا. التحق بالكتاب وهو فى السادسة من عمره، وأتم حفظ القرآن كاملا وهو دون العاشرة على يد الشيخ محمد الأمير. ويذكر، رحمه الله، فى مذكراته أنه أتم حفظ القرآن الذى كان يتدفق على لسانه كالنهر الجارى. وكان والده موظفا بوزارة المواصلات، وكان جده من العلماء، فطلب منهما أن يتعلم القراءات، فأشارا عليه أن يذهب إلى طنطا بالوجه البحرى ليتلقى علوم القرآن والقراءات. وقد راجع القرآن وحفظ الشاطبية، وهى: متن "حرز الأمانى ووجه التهانى فى القراءات السبع"، المعروفة عند الناس بـ"متن الشاطبية" للإمام أبى القاسم الشاطبى الأندلسى. وأتمها على يد الشيخ المُتقن محمد سليم حمادة. وانهالت الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا بمساعدة شيخه محمد سليم الذى زكاه فى كل منزل ينزله، وشهادته كانت محل ثقة الناس. وكانت الاحتفالات فى الصعيد تماما كما فى القاهرة بالموالد والليالي، وعادة ما تكون ميدانا للقراء يتبارون فيه. وكان للصعيد قراؤه ومنهم: الشيخ صديق المنشاوي وهو والد الشيخين محمد ومحمود صديق المنشاوي، وغيرهم من القراء أصحاب الصيت.
بدأ الشيخ عبد الباسط فى احتراف قراءة القرآن عام 1940، ويذكر الأستاذ محمود السعدنى أن أولى لياليه كانت فى قريته، فى مأتم أحد أقاربه، وقرأ عشر ساعات كاملة بعشرة قروش فضية. ومع نهاية عام 1951 طلب الشيخ نور الدين علي محمد حسن الملقب بالضبّاع، شيخ عموم المقارئ المصرية وقتها، من الشيخ عبد الباسط أن يتقدم لاختبارات الإذاعة، غير أن الشيخ عبد الباسط أراد أن يرجئ الأمر لحين إنهاء ارتباطاته، وكذلك ترتيب أموره للإقامة بالقاهرة. إلا أن الشيخ الضباع كان قد حصل على تسجيل الليلة الزينبية التى سبق وذكرناها، وكان يومها أحد الحاضرين، وقدمه للجنة الاستماع بالإذاعة وكانت تضم الشيخ الضباع نفسه، والشيخ محمود شلتوت، قبل أن يتولى إمامة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا. انبهرت اللجنة بالأداء الجميل والمُحكم وتم اعتماده ليكون أحد النجوم النيّرة للإذاعة المصرية. مما جعل الشيخ، وفى خلال بضعة أشهر من التحاقه بالإذاعة، يأتى وأسرته للإقامة الدائمة بالقاهرة، من أرمنت إلى مصر المحروسة، وعلى وجه التحديد إلى حى السيدة زينب بنت فاطمة الزهراء، صاحبة المدد.
هناك العديد من الطرائف الواردة فى سيرة الشيخ عبد الباسط، فهناك أحيانا إشارة لدى من يكتب عن سيرته للمقارنة بينه وبين الشيخ محمود الطبلاوى، فعبد الباسط قُبل فى الإذاعة دون أن يحضر الاختبار، بينما الشيخ الطبلاوى تقدم إلى الاختبار تسع مرات ولم ينجح إلا فى المرة العاشرة. ومن الحكايات الطريفة، أيضا، أن صوت عبد الباسط كان أحد أسباب انتشار ورواج الراديو فى مصر. فالناس كانت تنتظر تلاوته مساء يوم السبت من كل أسبوع. وقد سجل القرآن برواية حفص عن عاصم للإذاعة مع الأربعة الكبار: الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود علي البنا والشيخ محمد صديق المنشاوي. وما زالت هذه التسجيلات تذاع إلى الآن في إذاعة القرآن الكريم. وشخصيا فقد تربيت على هذه الأصوات السليمة، وفى البداية كنت أتدرب مع صوت عبد الباسط، لأنه صوت قريب من صوت الأطفال. ثم اخترت أن أُكمل الطريق مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. وكل من يدرس أحكام التلاوة وعلم القراءات يعرف فضل المصحف المرتل لهؤلاء الخمسة، وفضل المصحف المعلم الذى سجله الشيخ محمود الحصرى، فى ضبط أحكام التلاوة. وكان الشيخ عبد الباسط يحب صوت الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل، ويذكر أنه كان يسير عشرات الكيلو مترات يومي الثلاثاء والجمعة ليستمع للصوت الشجى للشيخ رفعت فى الراديو، كانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة ولا يملكها الكثير من الناس.
فى عام 1952 تم تعيين الشيخ عبد الباسط قارئا للسورة بمسجد الإمام الشافعى، ثم قارئا لمسجد الحسين عام 1985 خلفا للشيخ محمود على البنا، وأصبح أول نقيب للقراء عام 1984 وظل في هذا المنصب حتى وافته المنية فى 30 نوفمبر 1988 والموافق لعشر بقين من ربيع الآخر 1409.
طاف الشيخ عبد الباسط معظم بلاد المسلمين وغيرها، ورتل القرآن فى مكة والمدينة، وفى المسجد الأموى الكبير. كما قرأ القرآن بأكبر مساجد إندونيسيا، وافتتح مسجد "كتشاوا" بالجزائر وقرأ بساحة الشهداء، وذهب إلى العراق والمغرب وليبيا وفلسطين وماليزيا والهند وباكستان وبورما وجنوب إفريقيا وكينيا ومعظم الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا التى ارتدى فيها لأول وآخر مرة فى حياته البدلة وهو يمشى فى شوارع باريس.
كان يقول، رحمه الله: إن القارئ للقرآن لا يملك آلة موسيقية ولا تختًا، اللهم صوتَه وأحكام التجويد والقراءة. ذلك الصوت الساحر الذى أسر الناس فى كل تلك البلاد. مر الشيخ عبد الباسط بمرحلتين صوتيتين فى حياته، فالتسجيلات الأولى كانت بطبقة صوتية تعرف لدى المتخصصين فى الموسيقى بالـ(Alto) وهى أعمق أصوات النساء وأخفضها. لكن الغالب على حياته هو صوت الـ(Tenor) وهى أعلى أصوات الرجال. وبعض التحليلات تكتفى بهذه الطبقة الصوتية لوصف صوت الشيخ عبد الباسط بشكل عام. بعبارات بسيطة يمكن وصف صوت الشيخ عبد الباسط،عموما، بأنه كان صوتا ذهبيا صادحا ونقيا. وكانت مساحة صوته واسعة، فيعتمد فى أدائه على الركزات فى الجوابات العالية، دون أن يعصيه صوته أو "يخس" منه مرة واحدة. ويظهر هذا فى المصحف المجود. وكان يملك نفسا طويلا يستطيع أن يؤدى به أكثر من آية. والتسجيلات الأخيرة له تظهر صوته أرفع من صوته المعتاد، لكن، مع ذلك، كان صوته يلمع أكثر فأكثر وكأنه يذهب ليكتشف منطقة ومساحة جديدة فيه. وكان طول نفسه يجعله يتحرك بطلاقة لا بين المقامات فحسب، ولكن بين القراءات أيضا وبتمكن كبير، فيقول من سورة يوسف، مرة: (هيت لك، ومرة: هئت لك، ومرة: هيْت لك). وتلك هى القراءات السبع المتواترة كاملة لهذه الكلمة. وفى كل مرة كان المستمع يطلب الإعادة، وفى كل مرة يأتيه الشيخ من حيث لا يحتسب. فهو يحكى قصة سيدنا يوسف ويصورها بصوته. فكان، مثل الشيخ رفعت، لديه موهبة فطرية على تطويع صوته حسب المشاهد القرآنية. وكان الشيخ عبد الباسط يرى أن قارئ القرآن هو فنان بالأساس. ومطربه المفضل هو محمد عبد الوهاب، خاصة حين ينشد: فى الليل لما خلى. وكان يرى أن أم كلثوم معجزة، مثل الشيخ رفعت، لن تتكرر. وهكذا يمكننا أن نقول عن الشيخ عبد الباسط إنه، أيضا، لن يتكرر وتلك سنة الله فى خلقه.
http://www.tahrirnews.com/posts/43254...
رب يسر وأعن
جاء فى تاريخ الخلفاء أن أبا نعيم أخرج في «الحلية» عن أبي صالح قال: لما قدم أهل اليمن زمان أبي بكر وسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست قلوبنا. ويشرح الإمام أبو حامد الغزالى فى كتاب آداب "السماع والوجد" من "إحياء علوم الدين"، أن الغناء أشد تهييجا من القرآن من سبعة أوجه على ما ذكر. ومن هذه الأوجه ما يشرح لنا لماذا لم يبك أبو بكر. فإن القرآن إذا كان محفوظا ومتكررا فلن يحرك ساكنا؛ وبالتالى فدموع أبى بكر لم تنزل "لما حصل له من الأُنس بكثرة استماعه".
من الآراء الطريفة التى يذكرها الأستاذ محمود السعدنى فى كتابه "ألحان السماء" أن الشيخ محمد سلامة كان لا يخفى استنكاره للطريقة التى يقرأ بها الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، باعتبار أن قراءة القرآن تحتاج إلى صوت قوي ووقور، أما الصوت "الجميل" فليس مستحبا! وفي ظنى، وليس كل الظن إثمًا، أن أبا بكر الصديق لو سمع القرآن بهذه الأصوات "الجميلة" لرق قلبه ولان. الكتابة عن الشيخ عبد الباسط ممتعة، خاصة وأنا أكتب وأنا فى رحاب صوته الآن. وكتابتى فى حدود ما تيسر لى من المعرفة. من يدخل مسجد السيدة زينب سوف يجد على المقصورة عبارة منقوشة تقول: يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مددك. وكان المدد فى انتظار الشيخ عبد الباسط، الذى جاء إلى القاهرة فى عام 1950 بغرض زيارة السيدة زينب فى ذكرى يوم مولدها. يومها كان يحيى هذه الليلة الكبيرة أكابر القراء فى هذا الوقت، كان هناك الشيخ الشعشاعى ومصطفى إسماعيل وعبد العظيم زاهر وأبو العينين شعيشع وغيرهم. وفى أثناء إحدى الاستراحات تقدم قريب الشيخ عبد الباسط إلى إمام المسجد
-وقتها- الشيخ على سبيع، ليطلب الإذن لقريبه ليقرأ ما تيسر له من آى الذكر الحكيم. جلس الشيخ عبد الباسط يومها مكان كبار المشايخ وانساب صوته بقول الله تعالى:
"إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". وظل جمهور المستمعين، بمن فيهم المشايخ، يطلبون المزيد، فقد كان صوته بردًا وسلامًا على القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومع أن الشيخ كان مشهورا فى قريته وفى القرى المجاورة قبل هذا اليوم، إلا أن تلك الليلة كانت بمثابة الفتح المبين، والشهرة الكبيرة، ليس فى مصر المحروسة وحدها، بل فى العديد من بلاد الله.
ليس هناك ذكر لليوم أو الشهر الذى ولد فيه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فقط العام 1927 الموافق لعام 1346 من الهجرة. بقرية المراعزة بمدينة أرمنت، محافظة قنا. التحق بالكتاب وهو فى السادسة من عمره، وأتم حفظ القرآن كاملا وهو دون العاشرة على يد الشيخ محمد الأمير. ويذكر، رحمه الله، فى مذكراته أنه أتم حفظ القرآن الذى كان يتدفق على لسانه كالنهر الجارى. وكان والده موظفا بوزارة المواصلات، وكان جده من العلماء، فطلب منهما أن يتعلم القراءات، فأشارا عليه أن يذهب إلى طنطا بالوجه البحرى ليتلقى علوم القرآن والقراءات. وقد راجع القرآن وحفظ الشاطبية، وهى: متن "حرز الأمانى ووجه التهانى فى القراءات السبع"، المعروفة عند الناس بـ"متن الشاطبية" للإمام أبى القاسم الشاطبى الأندلسى. وأتمها على يد الشيخ المُتقن محمد سليم حمادة. وانهالت الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا بمساعدة شيخه محمد سليم الذى زكاه فى كل منزل ينزله، وشهادته كانت محل ثقة الناس. وكانت الاحتفالات فى الصعيد تماما كما فى القاهرة بالموالد والليالي، وعادة ما تكون ميدانا للقراء يتبارون فيه. وكان للصعيد قراؤه ومنهم: الشيخ صديق المنشاوي وهو والد الشيخين محمد ومحمود صديق المنشاوي، وغيرهم من القراء أصحاب الصيت.
بدأ الشيخ عبد الباسط فى احتراف قراءة القرآن عام 1940، ويذكر الأستاذ محمود السعدنى أن أولى لياليه كانت فى قريته، فى مأتم أحد أقاربه، وقرأ عشر ساعات كاملة بعشرة قروش فضية. ومع نهاية عام 1951 طلب الشيخ نور الدين علي محمد حسن الملقب بالضبّاع، شيخ عموم المقارئ المصرية وقتها، من الشيخ عبد الباسط أن يتقدم لاختبارات الإذاعة، غير أن الشيخ عبد الباسط أراد أن يرجئ الأمر لحين إنهاء ارتباطاته، وكذلك ترتيب أموره للإقامة بالقاهرة. إلا أن الشيخ الضباع كان قد حصل على تسجيل الليلة الزينبية التى سبق وذكرناها، وكان يومها أحد الحاضرين، وقدمه للجنة الاستماع بالإذاعة وكانت تضم الشيخ الضباع نفسه، والشيخ محمود شلتوت، قبل أن يتولى إمامة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا. انبهرت اللجنة بالأداء الجميل والمُحكم وتم اعتماده ليكون أحد النجوم النيّرة للإذاعة المصرية. مما جعل الشيخ، وفى خلال بضعة أشهر من التحاقه بالإذاعة، يأتى وأسرته للإقامة الدائمة بالقاهرة، من أرمنت إلى مصر المحروسة، وعلى وجه التحديد إلى حى السيدة زينب بنت فاطمة الزهراء، صاحبة المدد.
هناك العديد من الطرائف الواردة فى سيرة الشيخ عبد الباسط، فهناك أحيانا إشارة لدى من يكتب عن سيرته للمقارنة بينه وبين الشيخ محمود الطبلاوى، فعبد الباسط قُبل فى الإذاعة دون أن يحضر الاختبار، بينما الشيخ الطبلاوى تقدم إلى الاختبار تسع مرات ولم ينجح إلا فى المرة العاشرة. ومن الحكايات الطريفة، أيضا، أن صوت عبد الباسط كان أحد أسباب انتشار ورواج الراديو فى مصر. فالناس كانت تنتظر تلاوته مساء يوم السبت من كل أسبوع. وقد سجل القرآن برواية حفص عن عاصم للإذاعة مع الأربعة الكبار: الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود علي البنا والشيخ محمد صديق المنشاوي. وما زالت هذه التسجيلات تذاع إلى الآن في إذاعة القرآن الكريم. وشخصيا فقد تربيت على هذه الأصوات السليمة، وفى البداية كنت أتدرب مع صوت عبد الباسط، لأنه صوت قريب من صوت الأطفال. ثم اخترت أن أُكمل الطريق مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. وكل من يدرس أحكام التلاوة وعلم القراءات يعرف فضل المصحف المرتل لهؤلاء الخمسة، وفضل المصحف المعلم الذى سجله الشيخ محمود الحصرى، فى ضبط أحكام التلاوة. وكان الشيخ عبد الباسط يحب صوت الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل، ويذكر أنه كان يسير عشرات الكيلو مترات يومي الثلاثاء والجمعة ليستمع للصوت الشجى للشيخ رفعت فى الراديو، كانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة ولا يملكها الكثير من الناس.
فى عام 1952 تم تعيين الشيخ عبد الباسط قارئا للسورة بمسجد الإمام الشافعى، ثم قارئا لمسجد الحسين عام 1985 خلفا للشيخ محمود على البنا، وأصبح أول نقيب للقراء عام 1984 وظل في هذا المنصب حتى وافته المنية فى 30 نوفمبر 1988 والموافق لعشر بقين من ربيع الآخر 1409.
طاف الشيخ عبد الباسط معظم بلاد المسلمين وغيرها، ورتل القرآن فى مكة والمدينة، وفى المسجد الأموى الكبير. كما قرأ القرآن بأكبر مساجد إندونيسيا، وافتتح مسجد "كتشاوا" بالجزائر وقرأ بساحة الشهداء، وذهب إلى العراق والمغرب وليبيا وفلسطين وماليزيا والهند وباكستان وبورما وجنوب إفريقيا وكينيا ومعظم الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا التى ارتدى فيها لأول وآخر مرة فى حياته البدلة وهو يمشى فى شوارع باريس.
كان يقول، رحمه الله: إن القارئ للقرآن لا يملك آلة موسيقية ولا تختًا، اللهم صوتَه وأحكام التجويد والقراءة. ذلك الصوت الساحر الذى أسر الناس فى كل تلك البلاد. مر الشيخ عبد الباسط بمرحلتين صوتيتين فى حياته، فالتسجيلات الأولى كانت بطبقة صوتية تعرف لدى المتخصصين فى الموسيقى بالـ(Alto) وهى أعمق أصوات النساء وأخفضها. لكن الغالب على حياته هو صوت الـ(Tenor) وهى أعلى أصوات الرجال. وبعض التحليلات تكتفى بهذه الطبقة الصوتية لوصف صوت الشيخ عبد الباسط بشكل عام. بعبارات بسيطة يمكن وصف صوت الشيخ عبد الباسط،عموما، بأنه كان صوتا ذهبيا صادحا ونقيا. وكانت مساحة صوته واسعة، فيعتمد فى أدائه على الركزات فى الجوابات العالية، دون أن يعصيه صوته أو "يخس" منه مرة واحدة. ويظهر هذا فى المصحف المجود. وكان يملك نفسا طويلا يستطيع أن يؤدى به أكثر من آية. والتسجيلات الأخيرة له تظهر صوته أرفع من صوته المعتاد، لكن، مع ذلك، كان صوته يلمع أكثر فأكثر وكأنه يذهب ليكتشف منطقة ومساحة جديدة فيه. وكان طول نفسه يجعله يتحرك بطلاقة لا بين المقامات فحسب، ولكن بين القراءات أيضا وبتمكن كبير، فيقول من سورة يوسف، مرة: (هيت لك، ومرة: هئت لك، ومرة: هيْت لك). وتلك هى القراءات السبع المتواترة كاملة لهذه الكلمة. وفى كل مرة كان المستمع يطلب الإعادة، وفى كل مرة يأتيه الشيخ من حيث لا يحتسب. فهو يحكى قصة سيدنا يوسف ويصورها بصوته. فكان، مثل الشيخ رفعت، لديه موهبة فطرية على تطويع صوته حسب المشاهد القرآنية. وكان الشيخ عبد الباسط يرى أن قارئ القرآن هو فنان بالأساس. ومطربه المفضل هو محمد عبد الوهاب، خاصة حين ينشد: فى الليل لما خلى. وكان يرى أن أم كلثوم معجزة، مثل الشيخ رفعت، لن تتكرر. وهكذا يمكننا أن نقول عن الشيخ عبد الباسط إنه، أيضا، لن يتكرر وتلك سنة الله فى خلقه.
http://www.tahrirnews.com/posts/43254...
Published on June 11, 2016 08:52
May 30, 2016
خارج دفاتر هاملت: تدوينة عن الرومانتيكية وعلو الهمّة وقَدْر الرجال
ماهر عبد الرحمن
كان عام 2007 بالنسبة لي عام الحنين إلى ذكرى ما، وكان هو نفسه العام الذي صدرت فيه روايتي الأولى "عضو عامل". وتحولت الذكرى إلى إهداء في الرواية. وقتها قررت، بالتوازي، وضع نوبة الحنين على الورق، واعتبار هذا الحنين هو عين "الجهل" كما يقول ميلان كونديرا في روايته بنفس العنوان. وقتها كتبت بعض الخواطر السريعة عن رواية "كائن لا تحتمل خفته" ورواية "الجهل". كتبت ضد الحنين وفي مواجهته.
بالقطع لم يكن الأمر وقتها بهذه السهولة التي أكتب بها الآن، فقد كانت معاناة الحنين تجربة شديدة الصعوبة، خاصة مع حداثة السن، وكان الخروج منها يحتاج مني إلى رياضة ومجاهدة وتفكير وإمعان للنظر، وبالأساس إرادة ورغبة في التجاوز.
تبدأ مذكرات فالتر بنيامين "طفولة في برلين" بقوله: "في عام 1932، عندما كنت في الخارج، بدأ يتضح لي أنه سيتحتّم عليّ في القريب العاجل أن أودع المدينة التي ولدت فيها لفترة طويلة أو ربما علي الدوام. لمرات عديدة كانت خبرة عملية التطعيم شافية لحياتي الداخلية، فوضعت نفسي في هذه الحالة واستدعيت عمدًا أكثر الصور إثارة للحنين في المنفي، إنها صور الطفولة. وكان ضروريًا ألا تتعدي هيمنة إحساس الحنين علي الروح، هذا التأثير الذي للتطعيم على جسد سليم. وقد سعيت لتحجيم هذا الإحساس من خلال التبصر في الاستحالة الاجتماعية لاستعادة الماضي، وليس من خلال النظر في تفاصيل السيرة الحياتية العارضة".
هكذا تُمكن صياغة المَخرج بكل بساطة "التبصر في استحالة استعادة الماضي". وكل شخص يستطيع بنفسه صياغة هذه العبارة للخروج من أزمة "الحنين". وهذه الكتابة، وقبلها القراءة بالطبع، التي أقوم بها الآن، هي "عبارتي" عن مرض الحنين، وفي نفس الوقت عن مرض آخر ذي صلة هنا، مرض "الحساسية المفرطة" أو "النزعة الرومانتيكية" في الكتابة وفي الحياة.
هاملت- بداية الظهور
أيام دراستي الجامعية، وكنت وقتها قريبًا من بعض التنظيمات السياسية الطلابية، تعلمت إلى جوار السياسة بعض المهارات الأخرى التي تفرضها الضرورة، وتحتل مساحة كبيرة مع ذلك في هذه الأوساط، مهارات من عينة فرز أو اكتشاف الطلبة العاملين في خدمة الأمن، أو اكتشاف العنصر المؤهل للتجنيد للعمل معنا. وبسبب الضرورة العملية البحتة، تتعمق فكرة تصنيف وفرز الناس. لكن مع ذلك، ومهما كان تدريبك، فقد تنخدع في أحد الأشخاص. في البداية تكون اللحظة التي أكتشف فيها خيانة شخص ما، وأنه عميل للمباحث هي الطامة الكبرى. كنت أغضب غضبًا شديدًا من أن فلان دا طلع خاين/مباحث/كذاب. ولسلامة التنظيم والأعضاء كان القرار هو استبعاد الشخص الموصوم، أو حتى استخدامه بأشكال مختلفة. لكن اﻷمر يختلف خارج السياسة بطبيعة الحال، حيث تكون لدينا فرصة أكبر للتسامح مع بعض الصفات أو التصرفات السيئة، وفي بعض الأوقات "بنعصلج" في الغلط، عندما نصل لدرجة إنكار صفات سيئة لشخص، أو حتى قبولها مع انتظار إصلاحه، ونقعد نقول إن فلان ده حد كويس واللـه، ونقعد ندور على كل الحاجات الكويسة اللي عملها (طبعًا مفيش حد وحش في المطلق؛ ومن ثم لازم يكون عنده حاجة كويسة بالتأكيد) غير أن هذا، أعزك اللـه، وقتها، يدخل في باب الحماقة والتغفيل، حتى وإن لم يرد في كتاب ابن الجوزي عظيم الفائدة عن "الحمقى والمغفلين"، فإن العبرة تكون أن فلانًا إجمالًا لا يعول عليه. وإدراك ذلك من أمارات النضج. وغريب أمر "النضج" هذا؛ يأتي بعد أن نتجاوز الأمر ونتورط به. تتراكم الحوادث في حياتنا ويتراكم الحزن، وكلاهما ينمو ويصعد على عمرنا. والناس تتفاوت في حظها من هذا "النضج" وفي ما ينتج عنه ويصحبه من حزن يثقل القلوب. كانت تراودني وأنا صغير فكرة الكتابة ضد "النضج"، أو الخروج بمسيرة تدافع عن "الرعونة" وتتمسك بـ"الصبيانية". وكثيرًا ما لعنت الملك "كلوديس"، عم الأمير هاملت، وزوج أمه بعد أن توفى والده، الذي كان ينصح عِترة شباب الدنمارك وأميرها هاملت، ألا يستسلم لحزنه على أبيه "فذلك عناد خارج عن الدين، وحزن لا يليق برجل، وينبئ عن إرادة عاصية للـه، وقلب خائر، وعقل لا يحسن الصبر، وإدراك ساذج خال من الدربة".
أي هاملت.."أيها النبيل... إن الإفعوان الذي لدغ أباك في حياته" و"يلبس الآن تاجه" هو من ينصحك، ينصحك بالعقل، وهو من "توّج جريمة القتل الشاذة بالزواج المحرم [من الملكة]، قبل أن يبلى ذلك الحذاء الذي سارت به وراء جثمان أبيك المسكين" آه يا هاملت حين يطالبونك بالعقل، أو حين تسألك أمك "معصوبة العينين" ببراءة عن شحوبك الدائم وشرودك في الصخب و"لماذا يبدو أمرك شاذًا؟" إنهم لا يعرفون أن لا "رداءك الحالِك... ولا ملابس الحداد المألوفة، ولا زفراتك المصعدة، أو النهر الدافق من عينيك، أو الغم البادي على وجهك، ولا كل ما يتخذ الحزن من صور وأحوال... هي وحدها ما ينبئ بصدق أمرك. هذه حقًا.... ليست إلا حُليًا ومظاهر للأسى". لكن في باطنك ما يعجز عن التمثيل. آه يا أمير، حين يسألك قاتلك: ما بك؟ حتى أوفيليا المسكينة، التي شاركت في تدبير الملك والملكة وأبيها من أجلك، أو هكذا أوهموها مستغلين سذاجتها وحبها لك، حتى هي "لم تكن شريفة"، حين قبلت أن تخدعك معهم وحملت كتابًا من كتب الدين لتبرر انفرادها بنفسها، بعد أن أقنعها بولونيوس الخبيث بقوله: "إنها خطيئة من خطايانا المألوفة، وهو أمر ثابت بالتجربة إننا نستطيع بالمظهر الورع والعمل التقي أن نجمّل الشيطان نفسه ببريق خلاب".
وما أكثر الخيانة؛ بروتس حين خان يوليوس، ويهوذا حين خان المسيح، وإخوة يوسف حين أعمتهم الغيرة وألقوه في غيابة الجب، ونبوية زوجة سعيد مهران التي أصبحت، بعد خيانتها هي وعليش مساعد زوجها السابق "نبوية عليش.. كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا"؟
أي هاملت.. "من الذي يحتمل سياط الزمن وسخريته، وظلم الظالمين، وزراية المتكبرين، وتباريح الحب المهين، وبطء المحاكم، وصلف ذوي السلطان، وما يلقاه ذوو الفضل الصابرون على يد التافهين من مهانة"؟ أسمعك تذكر أن الخوف من مجهول بعد الموت "ذلك الذي لا يؤوب من حدوده مسافر، يحيّر الإرادة، ويدفعنا إلى أن نحتمل ما يحل بنا من شرور".
إذن نحيا، وتصير القضية "كيف"، أو نحيا على شاطئ "ليث"، كما في "الملك لير"، نشرب كالأرواح، فننسى الماضي، ونفرغ ما في قلبنا "في مجرد ألفاظ كالمومس" و"نأخذ في استنزال اللعنات كالعاهرة"، أو نكون كما أراد الله أن يعاقبنا بهم، بالتافهين من ذوي السلطان، ويعاقبهم بنا، أن نكون سوط عذابه ومنفذين إرادته.
***
كنت ألعن كلمات "النضج" و"العقل" و"الرويّة" وأراها مسمومة وملعونة، خاصة حين تخرج من أفواه الأنذال. وكنت أتعجب من موقف هاملت المتردد في قتل العم الخائن، مغتصب العرش، وأسأل نفسي بغضب: "أو ينقبض السيف ويمد في أجلِ أيام كلوديس السقيمة؟" وكانت كلمات العقل بلا معنى، والقلب أسود سواد الموت، ونياطه في صلابة الفولاذ، والعلاج فاسد، وليست ثمة فرصة أبشع يا هاملت!
كيف يُقعدك الفكرُ عن العمل؟ كيف يصير عقلكُ هو عين عجزك وترددك؟ ما الذي يجعلك تختار ادعاء الجنون في البداية، وتتردد في معاقبة الخونة؟ لم يكن جنون هاملت المسكين عدوًا له، بل أسقمه الفكر الشاحب. حتى جنونه لم ينقصه العقل، وكان يعتمد الاستعارة والتلاعب بالألفاظ، كان جنونًا ذا حس جمالي وبليغ.
أي هاملت.. أي كلمات خلقتك؟ ومن ذا أوحى بك؟ وأي ضعف أمام كلماتك؟ ومن ذا يُظهرك بدور الشبح في مسرحيتي وحياتي؟
الجلال والعبث
في كتابه "صيد الخاطر" يذكر ابن الجوزي أنه ما ابتلى إنسان قط بأعظم من علوِّ همّته، ويكررها بغير عبارة، فيقول: "إن البلايا على مقادير الرجال”. وأسأل نفسي، هل كانت هذه العبارات صحيحة، أم تُرى لأن صاحبها كان من غير أصحاب البلايا، أو لم تشتد به البلايا، استسهل قولَها، خاصة وقد كان واعظًا، وكان أيضًا من المؤمنين بأن "ربك ليس بظلام للعبيد"؟
ألم تجاوز المحنة همّة هاملت وأوفيليا، وهمّة عطيل الذي لم يناسبه ما دون الانتحار، ولير حين جُنَّ، وجلوسلتر حين حاول الانتحار لما عزَّ عليه الجنون؟ "اعصفي يا رياح حتى تنفجر منك الأشداق، وأنتِ أيتها السيول والأمطار رخي رخي". وألم ينته المطاف بسعيد مهران وهو يمصمص العظام مثل من كان يواجههم تمامًا، ككلب؟ وأخيرًا لم يجد بدًا من الاستسلام بلا مبالاة.. بلا مبالاة.
ودَع عنك هذا، فإن في الدنيا ما هو أكثر شططًا، فما أشد بلايا الناس دون ما يكونوا ذوي همة، وما أشد ما ذُلّ الرجال دون أن يكونوا ذوي قامة، وقد ابتُلوا بعظيم البلايا وبـ"نقص من الأموال والأنفس والثمرات"، ودون ما بشرى، وهذا واللـه يدخل في باب العنت، ولزوم ما لا يلزم، وما شابهه في مآسي شكسبير من تمسك المؤمنين بالكلاسيكية ودفاعهم باستماتة عن الجلال التراجيدي ضد أي تطاول أو هرطقة عصرية! لكني لا أستطيع –على الجانبين- إلا أن أرى، واضعًا في الاعتبار طبيعة عصرنا، العذاب والألم، بل الجنون والقسوة، لا بوصفهم أدوات للتطهر والسمو والعلو والارتفاع النفسي، بل بوصفهم مجرد عبث يدعو إلى الضحك اليائس. لم يعد هناك أملٌ بالمعنى الطفولي، ولا ثمة وجود لخلاص نهائي حتى، لقد "مات فعلًا" كما أشار إدجار، وحُمل الجثمان خارجًا وأُعلن الحداد العام "وعلينا نحن الشباب أن نحمل عبء هذه الأيام الأسيفة".
قد تكثر البلايا والمِحَن وتشتد دون أن يعني ذلك شيئًا بذاته، بالعكس فقد يعمّق هذا موقفَ الشخص ويزيد من ثباته وإيمانه ورسوخه دون أي تقدم. وقد تكثر الحوادث دون أن يعني هذا شيئًا أصلًا، كمثل الحمار يحمل أحداثًا. وقد تنقلك الحوادث بخفة وتظل نقلتك بلا معنى حقيقي، وأنت إلى الارتداد أقرب. والخلاصة أن النضج لا يأتي بكثرة المحصول وإنما بسلامة النهج، وليس معنى ذلك أن كثرة المحصول ليست شرطًا، فتأمل. والطريق إلى النضج وسلامة النهج بلا إرشادات، وعلامته الوحيدة أنه بلا علامة، إذا استعنا بفريد الدين العطار، وليس غياب العلامة هنا بمعنى انتفائها، بل بحضورها حضورًا فيه التباس. وقد تظل في الطريق بلا إدراك لأي علامة، و"ترحل وما في يدك إلا قبض الريح". وبلوغ الأمر شرطه المجاهدة. وقد يعطلك الحزن في الطريق ما لم تدرك أن الفرح هو العارض. وإذا ما وضعت قدمك على الطريق فإنك تبدأ رحلة جديدة، وإن كانت غير مقطوعة الصلة بما قبلها، ففيها أيضًا "منازلُ للسائرين ومدارجُ للسالكين”.
وبالعودة إلى الأمير هاملت الذي انصدم في أمه حين اكتشف طبيعتها السطحية الضحلة، ورغم أن المسرحية لا تعطينا معلومات عن هذه الأم قبل تلك اللحظة إلا على لسان ابنها، الذي كان يعتقد فيها الكمال، ربما كابن يثق في أمه، بالإضافة لامتلاكه روح شاعر تعشق كل ما هو جميل، إلا أن هذا لا يمنعنا من توقع أن تكون اﻷم من البداية شخصية ضحلة الأحاسيس، تهرع بخفة إلى فراش محرم. ويمكننا أن نعرف سبب انتهاء العلاقة بين هاملت و أوفيليا على هذا النحو، رغم أنها أحبته وأنه أحبها، ليس بتخمين كونه أدرك أنهم يخدعونه باستخدامها، لكن لأن "السم قد جرى في فكره كله" ولم يعد قادرًا على رؤية أوفيليا كما كان يراها من قبل، إنها امرأة وأمه امرأة، فإذا نطقت أمامه بكلمة قصيرة كان الجواب العاجل الذي "يقطر كالسم من شفتيه".
"إن هاملت وشخصيات أخرى لا شك، هي أعظم شخصيات أبدعها الإنسان، وقد تدثّرت صورهم، وهم في ذلك يشبهون الرجال العظام الذين خلقهم اللـه مباشرة في كل جيل، بدثار متزايد من الأساطير والآراء والتفسيرات والرموز"، كما يقول عبد الرحمن بدوي في تقديمه لـ"دون كيشوت"، وهي من العظمة والاكتمال والإلهام بمكان أننا نستطيع وصف شخص حقيقي بها، فنقول فلان دون كيشوتي مثلًا، أو هاملتي النزعة، أو أن تمنحنا هذه الشخصيات بذاتها مزيدًا من الأفكار والكتابة والفن.
وإليكم على سبيل المثال، في المشهد الخامس من الفصل الأول، بعد أن يجد هاملت دفتره، يكتب فيه أن المرء يستطيع أن يبتسم ويبتسم ويكون نذلًا، وبعد ذلك يسجّل شعاره "الوداع الوداع - اذكرني"، وقد التقط نجيب سرور هذه الإشارة ليقدّم لنا "أفكار جنونية في دفتر هاملت"، وإذا التقطنا منه الإشارة بدورنا، نضيف أن سرور ربما تبع "النذالة" بـ"الكس أميات" في استخدامه للدفتر، فهاملت بحساسيته المفرطة كان يستخدم كلمات قاسية وحادة، بل وتعبيرات جنسية أحيانًا، فلما قالت له أوفيليا مرة: “إنك حاد القول يا سيدي اللورد.. إنك حاد”! قال لها: "قد يكلفك بعض التوجع أن تثلمي حدي”. وهذه كانت أحسن دعابة وأسوأ قصد، فهاملت لعب بكلمة "حاد"، مشيرًا بها لمعنى غير برئ، أريدك أن تهدّئي من حدته، ويقصد عضوه. كذلك استخدم نجيب سرور الشعر في تشويه بعض الناس.
ويمكن على جانب آخر، وغير بعيد بحال، أن يكون دفتر هاملت، قد انتهى في صيغة أخرى إلى "معالم على الطريق" لسيد قطب، الذي استبدل بـ"الشتيمة" التكفير هذه المرة، رغم احتفاظه باللغة الأدبية وبالجماليات، فقد كان قطب يخاطب مشاعر الجماهير لا عقولها.
كان نجيب سرور يمثل درجة أقل في التطرف، اكتفى فيها بالكلام والكتابة والفضح والتعرية في مواجهة الخونة/ الصهاينة/ الماسونيين، إلخ، بينما مثّل قطب الجانب الأكثر تطرفًا، وبكرم حاتمي؛ فهو يطالب بالحركة ويبدأ في التمهيد لها في مواجهة الجاهلية/ الكفر.
ولدى مقاربة شخصية هاملت بنموذج سيد قطب، نكتشف أن اﻷخير لم يكن جبانًا أو متخاذلًا، رغم تلميح شكري مصطفى بذلك، فقد كفّر المجتمع بلا أي تردد أو احتياط. كذلك لم يكن هاملت جبانًا، رغم وصفه بهذا، فلم يُقعده "جبنُه" عن المواجهة السريعة مع عمه وأمه، بالعكس فقد صوّرته المسرحية شابًا من أشجع الفتيان في عصره، لم يتردد مثلًا في قبول مبارزة ليارتيس، ولا في إرسال صديقيه إلى حتفهما، لما أحس منهما الغدر، وكانت أوفيليا تندبه بقولها: "آه، يا لهذا العقل النبيل المضيع! لسان أمير وبصر عالم وسيف جندي”.
نحن نتحدث عن تنويعات على نموذج، وقد تكون هذه التنويعات بدورها نماذج لتنويعات أخرى أكثر أو أقل تطرفًا، وقد تكون سلبية أو إيجابية، وهذا ليس من باب المدح أو الذم، فالنموذج اﻹيجابي هو من قام بفعل، مثل سيد قطب، والأكثر إيجابية منه كان شكري مصطفى. أما النماذج السلبية فهي التي تغرق في أحلام اليقظة أو تشرب المخدرات في مواجهة قسوة واقعها وهروبًا منها. غير أن الملامح العامة للنموذج تبقى متشابهة. وهاملت نفسه تنويعة أصيلة على نموذج الإنسان الحديث المنقسم على ذاته، ليس الانقسام بين الفكر والعمل بالتعريف كما يذهب بعض النقاد، وإنما بين التفكير بطريقة معينة والعمل أيضًا بطريقة معينة. فهاملت لم يكن بطلًا بقدر ما كان فتى مليئًا بالحماسة والإحساس المرهف، صدمه واقعٌ ملوث قاس، فيه القتل والخيانة والتملق والتآمر "وقشور قبيحة على الجسد الأملس". لم يستطع هاملت التوفيق بين العالمين الداخلي والخارجي، فحدث الانقسام، وكان التفكير على هذا النحو هو ما جعله مترددًا في تنفيذ قراره، وكانت النجوى، ومنعه تفكيره هذا من الحفاظ على "أوفيليا"، فلم يكن شخصية قوية الإرادة إلى هذا الحد، وإن أراد القوة. حتى نيتشه، صاحب "إرادة القوة”، شخصيًا، رغم نقده العنيف للرومانتيكية، كانت أفكاره هي وسيلته الناجعة للتعبير عن اشمئزازه وقرفه من الواقع، وكان رفضه للخضوع لشوبنهاور وكذلك لفاجنر، هو عين خوفه من الاستسلام. لقد كان يريد القوة رغم الوهن، أو قل بسبب الوهن. هذا الإنسان الحديث لم يظهر في القرن الثامن عشر فجأة، وكان التنوير نفسه نتيجة للصراعات الدينية والدموية غير الحاسمة التي شهدها القرن السادس عشر والسابع عشر وكان يتشكل وتنضج أسباب ظهوره ويتشكل معه وله الرأي العام المؤيد. ولا بد أن رومانتيكية القرن التاسع عشر وجدت لها من الأسباب في القرون الخوالي، كلٌ بقدر، ما جعلها تظهر بتنويعات ونماذج كثيرة وغنية للدرجة التي قد تبدو فيها متناقضة تمامًا، وغنية لأن أمثلتها ببساطة هي بايرون، ديستوفيسكي، تولستوي، لامارتين، تشيكوف، جوته، كانط، وروسو، وكان بمثابة الأم للرومانتيكية، حسب تعبير ساخر لول ديورانت، دون التزام من هؤلاء، أو من بعضهم، بالإقامة في القرن التاسع عشر.
التنوير مقابل الرومانتيكية
كانت لحظة الانفصال عن كل ما هو غير طبيعي أو متعال على الطبيعة، وإعلان موت ما لم يعد يلزم من خرافة، وبلوغ الإنسان وخروجه من الوصاية، ومحاولته إيجاد السعادة باستخدام عقله هنا على الأرض، لحظة طويلة في عمر البشرية. كان على هذا الإنسان إثبات ذاته بوصفه سيد نفسه، وكان العقل أو الفكر سببًا كافيًا للوجود. كان الظلام الشديد دافعًا للتنوير الشديد أيضًا؛ فكان العقل صارمًا وثوريًا، وكانت الثورة حادة وقاسية، لا تعرف سوى الكفاح والنضال والنقد الحاسم. لكنه، رغم ذلك أو بسببه، ظل تنويرًا أكثر منه تعميقًا، ولأن لكل "تغيّر"، بحسب هيجل، شكلًا أوليًا بسيطًا سرعان ما يتعقد ويتضخم، تعقد التنوير وتضخم، واستبدل بالثنائية الميتافيزيقية بين الإنسان واللـه ثنائية أخرى هي الإنسان وواقعه، فانقسم مرة أخرى بين "الذات" و "الموضوع" ، بين "العقل" و"العالم"، ولعل ما بعد الحداثة تكون هي محاولة التعمق ولحظته.
في حدود هذه الثنائية كان على الإنسان الحديث رؤية الواقع دون أي وهم ميتافيزيقي، هذا الواقع بما فيه من قسوة وظلم وفساد و"قشور بغيضة على الجسد الأملس". وأحد تعريفات الرومانتيكية هي أنها "ظمأ إلى الجميل والبعيد واللامحدود، أو تخليص العالم من قشوره البغيضة"، لكن تلك الرومانتيكية، ولا نقول آفتها فهي بذاتها آفة، لم تعد ترى الفساد في الواقع بل ترفضه كله أصلًا، ثم تقرر أن تأخذ موقفًا ما تجاهه. يصبح الفرد رومانتيكيًا بغريزة البقاء، وقد عجز عن التكيف مع هذا الواقع. وتأخذ المواجهة أشكالًا مختلفة ومتعددة ومتفاوتة وبلا حصر، لكنها لا تخرج بحال عن أن تكون إما سلبًا، بالانعزال بعيدًا عن توتر المواجهة، وتكون دروب المنعزلين عادة في الغرائب وأحلام اليقظة والروحانيات وعوالم الرؤى والنزعات العاطفية المستعرة، أو إيجابًا، ويكون هذا الشخص أصلًا إيجابيًا لكنه ممنوع من الصرف والإبداع في المجتمع المتخلف، وهذا النوع بطبعه لن يهرب من مواجهة الواقع المرفوض وإنما سيعود حاملًا سلاحه "ولنفسه التأييد" - على حد وصف ثربانتس لدون كيشوت - حتى يفضح الواقع ويعري بشاعته.
ومنذ عزازيل الذي هو إبليس وحتى الآن، لم يتوقف هذا التمرد، ولم ينضب المعين الذي يأتي بهؤلاء الرومانتيكيين، وفي كل العصور يكون هناك من الأسباب ما يسمح بظهورهم، وهم لا يشكلون أي خطر في عصور القوة، بل بالعكس تمامًا، لكن ما أشد خطورتهم في عصور انحطاط العقل والحضارة، وما أشد خطورة الإيجابي منهم على وجه التحديد! ولا ينضب أبدًا "سياق المعاني"الذي يدعمهم. والمعاني التي نجدها في هاملت، وتجعله هاملت، هي الرجولة مقابل العهر، والوفاء مقابل الخيانة، والأخوة والأمانة مقابل الغدر والغيلة. وأخيرًا في نهاية تلك المسرحية، وفي المواجهة، نجد أنفسنا أمام "فكران ماكران حول أمر واحد" دون أن تصطدم غايتهما، وكلاهما يريد التخلص من الآخر، الملك المستعار كلوديس والأمير المخبول هاملت. أما الوسيلة فهي العنف. ولا أظن أن عدد القتلى الكبير نسبيًا في مسرحية "هاملت" قد صدم "النُظارة" -رغم تعليق "فولتير" عليها بأنها مسرحية همجية مبتذلة لا يمكن أن تطيقها حتى أحط الجماهير، أو حتى ملاحظته القاسية بأنه لا يكتبها إلا "متوحش سكران”- فمشاهدو العصر الإليزابيثي بحكم العادة لا يرفضون رؤية مثل هذا العنف.
ويمكن قول نفس الشيء عن "دفتر هاملت" بتنويعات نجيب سرور أو سيد قطب، فهما أيضًا بمعنى ما، نزلا على رغبة الجماهير، بوعي أو بدون وعي. وهذه الجماهير ليست كتلة واحدة متجانسة، بل متنوعة وغنية إلى الدرجة التي تجعل أمثال هاملت وسيد قطب وشكري مصطفى وحتى نجيب سرور وإبراهيم الأبيض، يجدون نصيبهم من المؤيدين على تنوعهم هذا. حتى الأنبياء، فيما مضى، لم يرسلوا إلا بلسان قومهم وبمعجزة تناسب مشاهديها. غير أنني لا أعني أن الإنسان هكذا ليس أكثر من مرآة تعكس الأفكار، فكل مُعطى يقابله اختيار، وهذا "الاختيار" يمكن وصفه، باستعارة فوكو، بما هو أكثر من "مجرد إحساس بالذات"، بل هو تكوين للنفس بما تحمله من "تزهد" و "مران ذاتي" والأهم "تذويت-بمعنى إضفاء الطابع الذاتى". فكما توجد جماهير ونظارة تؤيد عنف هاملت وغيره، توجد جماهير ونظارة ترفض ذلك العنف.
كُتبت هذه "الشخبطة" في 2007، ويبدو أن هذا العام كان من الأعوام الفارقة في حياتي؛ فروايتي الأولى صدرت في هذا العام، وكانت "شخبطتى" ضد مرض "الحنين" و"الرومانتيكية المفرطة" وأتى "المران الذاتي"، و" التزهد" في كل تلك الأشياء "العبيطة" في حياتي. ولا أكتب هنا بمنطق محاكمتها أبدًا، بل بمنطق تسجيلها وإعادة تأملها ومراجعتها، وقد حاولت ألا أغير كثيرًا في صياغتها وحافظت على جوها وتدفقها العام.
قبل عام 2000 كنت أحمل سيفًا خشبيًا ضد طواحين الهواء، وفي عام 2000 كانت النقلة الكبرى، ففيه سُجنت في أحداث مظاهرات الانتفاضة الفلسطينية، وفي السجن تعلمت ماركس وهيجل، ثم خرجت واضطررت لترك منزل أهلي، وكان عليّ منذ هذا الوقت الاعتماد على نفسي تمامًا، ليس بمعنى العمل وتكاليف الحياة فقط فهذا كان قد بدأ منذ بعيد، لكن بمعنى مواجهة العالم دون دليل أو رعاية. وتعلمت أن المرء حينما يعجز عن فهم العالم يحاكمه. وأصبحت مقتنعًا أن السيف (التغيير) سيكون أكثر فائدة إذا وزّعناه على الناس، بمعنى محاولة فهم العالم معهم، ومن ثم تغييره إلى ما هو أفضل. تشبه شخصية هاملت هنا إلى حد ما شخصية دون كيشوت، وإن افتقدت البهجة. وفي الحالتين وفي التنويعات عليهما، كان هناك الغضب الذي لم ير سوى الشياطين واليأس، حمل "الدون كيشوتي" الماضي على كتفه، وارتدى درعه الحديدي ضد الحياة والناس والمستقبل. دون عقل ذهب لينتقم ويحطم طواحين الهواء.
إن ذلك "الغضب المقدس" قد يكون وقود الحضارة والتقدم، وقد يصبح طاقة جديدة لإدارة تلك الطواحين بدلًا من هدمها، وقد ينزع عنه درعه الحديدي ليتعلم مع الناس، ويتفاءل بالمستقبل الذي يساهم في بنائه.
المصادر:
- هناك ترجمات كثيرة لمسرحيات "شكسبير" في اللغة العربية، وتأتي "هاملت" و"لير"، والمآسي بشكل عام، في الصدر دائمًا. وما لم ترد إشارة بغير ذلك، فالاقتباسات هنا كلها من مسرحيتي "هاملت" و "الملك لير". وقد اضطررت في بعضها لتعديل بسيط بما لا يمس بالمعنى اﻷصلي، وقد اعتمدت في الأولى على ترجمة عبد القادر القط وترجمة أخرى لجبرا إبراهيم جبرا، على الترتيب. أما في "لير" فقد اعتمدت على ترجمة الدكتورة فاطمة موسى. وقد استفدت كثيرًا من تقديمهم الممتاز لهذه النصوص (خاصة مقدمة الدكتور القط). ولم أعدم الاستفادة من العديد من المراجع والدراسات التي تصدت لأعمال شكسبير عمومًا، ومسرحية "هاملت" خصوصًا، مما لا يتسع المقام هنا لإثباتها.
- هناك نصوص أخرى اعتمدت عليها في النص، منها رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و"دون كيشوت" لثربانتس. كما اعتمدت على العديد من المراجع والمصادر في تاريخ أوروبا وتاريخ الرومانتيكية وغيرها، وبشكل كبير اعتمدت في هذا الصدد على موسوعة قصة الحضارة لول ديورانت، وكتاب "الرومانتيكية والواقعية، دراسات في الأدب الأوروبي" ليانكون لافرين.
http://www.madamasr.com/ar/opinion/%D...
كان عام 2007 بالنسبة لي عام الحنين إلى ذكرى ما، وكان هو نفسه العام الذي صدرت فيه روايتي الأولى "عضو عامل". وتحولت الذكرى إلى إهداء في الرواية. وقتها قررت، بالتوازي، وضع نوبة الحنين على الورق، واعتبار هذا الحنين هو عين "الجهل" كما يقول ميلان كونديرا في روايته بنفس العنوان. وقتها كتبت بعض الخواطر السريعة عن رواية "كائن لا تحتمل خفته" ورواية "الجهل". كتبت ضد الحنين وفي مواجهته.
بالقطع لم يكن الأمر وقتها بهذه السهولة التي أكتب بها الآن، فقد كانت معاناة الحنين تجربة شديدة الصعوبة، خاصة مع حداثة السن، وكان الخروج منها يحتاج مني إلى رياضة ومجاهدة وتفكير وإمعان للنظر، وبالأساس إرادة ورغبة في التجاوز.
تبدأ مذكرات فالتر بنيامين "طفولة في برلين" بقوله: "في عام 1932، عندما كنت في الخارج، بدأ يتضح لي أنه سيتحتّم عليّ في القريب العاجل أن أودع المدينة التي ولدت فيها لفترة طويلة أو ربما علي الدوام. لمرات عديدة كانت خبرة عملية التطعيم شافية لحياتي الداخلية، فوضعت نفسي في هذه الحالة واستدعيت عمدًا أكثر الصور إثارة للحنين في المنفي، إنها صور الطفولة. وكان ضروريًا ألا تتعدي هيمنة إحساس الحنين علي الروح، هذا التأثير الذي للتطعيم على جسد سليم. وقد سعيت لتحجيم هذا الإحساس من خلال التبصر في الاستحالة الاجتماعية لاستعادة الماضي، وليس من خلال النظر في تفاصيل السيرة الحياتية العارضة".
هكذا تُمكن صياغة المَخرج بكل بساطة "التبصر في استحالة استعادة الماضي". وكل شخص يستطيع بنفسه صياغة هذه العبارة للخروج من أزمة "الحنين". وهذه الكتابة، وقبلها القراءة بالطبع، التي أقوم بها الآن، هي "عبارتي" عن مرض الحنين، وفي نفس الوقت عن مرض آخر ذي صلة هنا، مرض "الحساسية المفرطة" أو "النزعة الرومانتيكية" في الكتابة وفي الحياة.
هاملت- بداية الظهور
أيام دراستي الجامعية، وكنت وقتها قريبًا من بعض التنظيمات السياسية الطلابية، تعلمت إلى جوار السياسة بعض المهارات الأخرى التي تفرضها الضرورة، وتحتل مساحة كبيرة مع ذلك في هذه الأوساط، مهارات من عينة فرز أو اكتشاف الطلبة العاملين في خدمة الأمن، أو اكتشاف العنصر المؤهل للتجنيد للعمل معنا. وبسبب الضرورة العملية البحتة، تتعمق فكرة تصنيف وفرز الناس. لكن مع ذلك، ومهما كان تدريبك، فقد تنخدع في أحد الأشخاص. في البداية تكون اللحظة التي أكتشف فيها خيانة شخص ما، وأنه عميل للمباحث هي الطامة الكبرى. كنت أغضب غضبًا شديدًا من أن فلان دا طلع خاين/مباحث/كذاب. ولسلامة التنظيم والأعضاء كان القرار هو استبعاد الشخص الموصوم، أو حتى استخدامه بأشكال مختلفة. لكن اﻷمر يختلف خارج السياسة بطبيعة الحال، حيث تكون لدينا فرصة أكبر للتسامح مع بعض الصفات أو التصرفات السيئة، وفي بعض الأوقات "بنعصلج" في الغلط، عندما نصل لدرجة إنكار صفات سيئة لشخص، أو حتى قبولها مع انتظار إصلاحه، ونقعد نقول إن فلان ده حد كويس واللـه، ونقعد ندور على كل الحاجات الكويسة اللي عملها (طبعًا مفيش حد وحش في المطلق؛ ومن ثم لازم يكون عنده حاجة كويسة بالتأكيد) غير أن هذا، أعزك اللـه، وقتها، يدخل في باب الحماقة والتغفيل، حتى وإن لم يرد في كتاب ابن الجوزي عظيم الفائدة عن "الحمقى والمغفلين"، فإن العبرة تكون أن فلانًا إجمالًا لا يعول عليه. وإدراك ذلك من أمارات النضج. وغريب أمر "النضج" هذا؛ يأتي بعد أن نتجاوز الأمر ونتورط به. تتراكم الحوادث في حياتنا ويتراكم الحزن، وكلاهما ينمو ويصعد على عمرنا. والناس تتفاوت في حظها من هذا "النضج" وفي ما ينتج عنه ويصحبه من حزن يثقل القلوب. كانت تراودني وأنا صغير فكرة الكتابة ضد "النضج"، أو الخروج بمسيرة تدافع عن "الرعونة" وتتمسك بـ"الصبيانية". وكثيرًا ما لعنت الملك "كلوديس"، عم الأمير هاملت، وزوج أمه بعد أن توفى والده، الذي كان ينصح عِترة شباب الدنمارك وأميرها هاملت، ألا يستسلم لحزنه على أبيه "فذلك عناد خارج عن الدين، وحزن لا يليق برجل، وينبئ عن إرادة عاصية للـه، وقلب خائر، وعقل لا يحسن الصبر، وإدراك ساذج خال من الدربة".
أي هاملت.."أيها النبيل... إن الإفعوان الذي لدغ أباك في حياته" و"يلبس الآن تاجه" هو من ينصحك، ينصحك بالعقل، وهو من "توّج جريمة القتل الشاذة بالزواج المحرم [من الملكة]، قبل أن يبلى ذلك الحذاء الذي سارت به وراء جثمان أبيك المسكين" آه يا هاملت حين يطالبونك بالعقل، أو حين تسألك أمك "معصوبة العينين" ببراءة عن شحوبك الدائم وشرودك في الصخب و"لماذا يبدو أمرك شاذًا؟" إنهم لا يعرفون أن لا "رداءك الحالِك... ولا ملابس الحداد المألوفة، ولا زفراتك المصعدة، أو النهر الدافق من عينيك، أو الغم البادي على وجهك، ولا كل ما يتخذ الحزن من صور وأحوال... هي وحدها ما ينبئ بصدق أمرك. هذه حقًا.... ليست إلا حُليًا ومظاهر للأسى". لكن في باطنك ما يعجز عن التمثيل. آه يا أمير، حين يسألك قاتلك: ما بك؟ حتى أوفيليا المسكينة، التي شاركت في تدبير الملك والملكة وأبيها من أجلك، أو هكذا أوهموها مستغلين سذاجتها وحبها لك، حتى هي "لم تكن شريفة"، حين قبلت أن تخدعك معهم وحملت كتابًا من كتب الدين لتبرر انفرادها بنفسها، بعد أن أقنعها بولونيوس الخبيث بقوله: "إنها خطيئة من خطايانا المألوفة، وهو أمر ثابت بالتجربة إننا نستطيع بالمظهر الورع والعمل التقي أن نجمّل الشيطان نفسه ببريق خلاب".
وما أكثر الخيانة؛ بروتس حين خان يوليوس، ويهوذا حين خان المسيح، وإخوة يوسف حين أعمتهم الغيرة وألقوه في غيابة الجب، ونبوية زوجة سعيد مهران التي أصبحت، بعد خيانتها هي وعليش مساعد زوجها السابق "نبوية عليش.. كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا"؟
أي هاملت.. "من الذي يحتمل سياط الزمن وسخريته، وظلم الظالمين، وزراية المتكبرين، وتباريح الحب المهين، وبطء المحاكم، وصلف ذوي السلطان، وما يلقاه ذوو الفضل الصابرون على يد التافهين من مهانة"؟ أسمعك تذكر أن الخوف من مجهول بعد الموت "ذلك الذي لا يؤوب من حدوده مسافر، يحيّر الإرادة، ويدفعنا إلى أن نحتمل ما يحل بنا من شرور".
إذن نحيا، وتصير القضية "كيف"، أو نحيا على شاطئ "ليث"، كما في "الملك لير"، نشرب كالأرواح، فننسى الماضي، ونفرغ ما في قلبنا "في مجرد ألفاظ كالمومس" و"نأخذ في استنزال اللعنات كالعاهرة"، أو نكون كما أراد الله أن يعاقبنا بهم، بالتافهين من ذوي السلطان، ويعاقبهم بنا، أن نكون سوط عذابه ومنفذين إرادته.
***
كنت ألعن كلمات "النضج" و"العقل" و"الرويّة" وأراها مسمومة وملعونة، خاصة حين تخرج من أفواه الأنذال. وكنت أتعجب من موقف هاملت المتردد في قتل العم الخائن، مغتصب العرش، وأسأل نفسي بغضب: "أو ينقبض السيف ويمد في أجلِ أيام كلوديس السقيمة؟" وكانت كلمات العقل بلا معنى، والقلب أسود سواد الموت، ونياطه في صلابة الفولاذ، والعلاج فاسد، وليست ثمة فرصة أبشع يا هاملت!
كيف يُقعدك الفكرُ عن العمل؟ كيف يصير عقلكُ هو عين عجزك وترددك؟ ما الذي يجعلك تختار ادعاء الجنون في البداية، وتتردد في معاقبة الخونة؟ لم يكن جنون هاملت المسكين عدوًا له، بل أسقمه الفكر الشاحب. حتى جنونه لم ينقصه العقل، وكان يعتمد الاستعارة والتلاعب بالألفاظ، كان جنونًا ذا حس جمالي وبليغ.
أي هاملت.. أي كلمات خلقتك؟ ومن ذا أوحى بك؟ وأي ضعف أمام كلماتك؟ ومن ذا يُظهرك بدور الشبح في مسرحيتي وحياتي؟
الجلال والعبث
في كتابه "صيد الخاطر" يذكر ابن الجوزي أنه ما ابتلى إنسان قط بأعظم من علوِّ همّته، ويكررها بغير عبارة، فيقول: "إن البلايا على مقادير الرجال”. وأسأل نفسي، هل كانت هذه العبارات صحيحة، أم تُرى لأن صاحبها كان من غير أصحاب البلايا، أو لم تشتد به البلايا، استسهل قولَها، خاصة وقد كان واعظًا، وكان أيضًا من المؤمنين بأن "ربك ليس بظلام للعبيد"؟
ألم تجاوز المحنة همّة هاملت وأوفيليا، وهمّة عطيل الذي لم يناسبه ما دون الانتحار، ولير حين جُنَّ، وجلوسلتر حين حاول الانتحار لما عزَّ عليه الجنون؟ "اعصفي يا رياح حتى تنفجر منك الأشداق، وأنتِ أيتها السيول والأمطار رخي رخي". وألم ينته المطاف بسعيد مهران وهو يمصمص العظام مثل من كان يواجههم تمامًا، ككلب؟ وأخيرًا لم يجد بدًا من الاستسلام بلا مبالاة.. بلا مبالاة.
ودَع عنك هذا، فإن في الدنيا ما هو أكثر شططًا، فما أشد بلايا الناس دون ما يكونوا ذوي همة، وما أشد ما ذُلّ الرجال دون أن يكونوا ذوي قامة، وقد ابتُلوا بعظيم البلايا وبـ"نقص من الأموال والأنفس والثمرات"، ودون ما بشرى، وهذا واللـه يدخل في باب العنت، ولزوم ما لا يلزم، وما شابهه في مآسي شكسبير من تمسك المؤمنين بالكلاسيكية ودفاعهم باستماتة عن الجلال التراجيدي ضد أي تطاول أو هرطقة عصرية! لكني لا أستطيع –على الجانبين- إلا أن أرى، واضعًا في الاعتبار طبيعة عصرنا، العذاب والألم، بل الجنون والقسوة، لا بوصفهم أدوات للتطهر والسمو والعلو والارتفاع النفسي، بل بوصفهم مجرد عبث يدعو إلى الضحك اليائس. لم يعد هناك أملٌ بالمعنى الطفولي، ولا ثمة وجود لخلاص نهائي حتى، لقد "مات فعلًا" كما أشار إدجار، وحُمل الجثمان خارجًا وأُعلن الحداد العام "وعلينا نحن الشباب أن نحمل عبء هذه الأيام الأسيفة".
قد تكثر البلايا والمِحَن وتشتد دون أن يعني ذلك شيئًا بذاته، بالعكس فقد يعمّق هذا موقفَ الشخص ويزيد من ثباته وإيمانه ورسوخه دون أي تقدم. وقد تكثر الحوادث دون أن يعني هذا شيئًا أصلًا، كمثل الحمار يحمل أحداثًا. وقد تنقلك الحوادث بخفة وتظل نقلتك بلا معنى حقيقي، وأنت إلى الارتداد أقرب. والخلاصة أن النضج لا يأتي بكثرة المحصول وإنما بسلامة النهج، وليس معنى ذلك أن كثرة المحصول ليست شرطًا، فتأمل. والطريق إلى النضج وسلامة النهج بلا إرشادات، وعلامته الوحيدة أنه بلا علامة، إذا استعنا بفريد الدين العطار، وليس غياب العلامة هنا بمعنى انتفائها، بل بحضورها حضورًا فيه التباس. وقد تظل في الطريق بلا إدراك لأي علامة، و"ترحل وما في يدك إلا قبض الريح". وبلوغ الأمر شرطه المجاهدة. وقد يعطلك الحزن في الطريق ما لم تدرك أن الفرح هو العارض. وإذا ما وضعت قدمك على الطريق فإنك تبدأ رحلة جديدة، وإن كانت غير مقطوعة الصلة بما قبلها، ففيها أيضًا "منازلُ للسائرين ومدارجُ للسالكين”.
وبالعودة إلى الأمير هاملت الذي انصدم في أمه حين اكتشف طبيعتها السطحية الضحلة، ورغم أن المسرحية لا تعطينا معلومات عن هذه الأم قبل تلك اللحظة إلا على لسان ابنها، الذي كان يعتقد فيها الكمال، ربما كابن يثق في أمه، بالإضافة لامتلاكه روح شاعر تعشق كل ما هو جميل، إلا أن هذا لا يمنعنا من توقع أن تكون اﻷم من البداية شخصية ضحلة الأحاسيس، تهرع بخفة إلى فراش محرم. ويمكننا أن نعرف سبب انتهاء العلاقة بين هاملت و أوفيليا على هذا النحو، رغم أنها أحبته وأنه أحبها، ليس بتخمين كونه أدرك أنهم يخدعونه باستخدامها، لكن لأن "السم قد جرى في فكره كله" ولم يعد قادرًا على رؤية أوفيليا كما كان يراها من قبل، إنها امرأة وأمه امرأة، فإذا نطقت أمامه بكلمة قصيرة كان الجواب العاجل الذي "يقطر كالسم من شفتيه".
"إن هاملت وشخصيات أخرى لا شك، هي أعظم شخصيات أبدعها الإنسان، وقد تدثّرت صورهم، وهم في ذلك يشبهون الرجال العظام الذين خلقهم اللـه مباشرة في كل جيل، بدثار متزايد من الأساطير والآراء والتفسيرات والرموز"، كما يقول عبد الرحمن بدوي في تقديمه لـ"دون كيشوت"، وهي من العظمة والاكتمال والإلهام بمكان أننا نستطيع وصف شخص حقيقي بها، فنقول فلان دون كيشوتي مثلًا، أو هاملتي النزعة، أو أن تمنحنا هذه الشخصيات بذاتها مزيدًا من الأفكار والكتابة والفن.
وإليكم على سبيل المثال، في المشهد الخامس من الفصل الأول، بعد أن يجد هاملت دفتره، يكتب فيه أن المرء يستطيع أن يبتسم ويبتسم ويكون نذلًا، وبعد ذلك يسجّل شعاره "الوداع الوداع - اذكرني"، وقد التقط نجيب سرور هذه الإشارة ليقدّم لنا "أفكار جنونية في دفتر هاملت"، وإذا التقطنا منه الإشارة بدورنا، نضيف أن سرور ربما تبع "النذالة" بـ"الكس أميات" في استخدامه للدفتر، فهاملت بحساسيته المفرطة كان يستخدم كلمات قاسية وحادة، بل وتعبيرات جنسية أحيانًا، فلما قالت له أوفيليا مرة: “إنك حاد القول يا سيدي اللورد.. إنك حاد”! قال لها: "قد يكلفك بعض التوجع أن تثلمي حدي”. وهذه كانت أحسن دعابة وأسوأ قصد، فهاملت لعب بكلمة "حاد"، مشيرًا بها لمعنى غير برئ، أريدك أن تهدّئي من حدته، ويقصد عضوه. كذلك استخدم نجيب سرور الشعر في تشويه بعض الناس.
ويمكن على جانب آخر، وغير بعيد بحال، أن يكون دفتر هاملت، قد انتهى في صيغة أخرى إلى "معالم على الطريق" لسيد قطب، الذي استبدل بـ"الشتيمة" التكفير هذه المرة، رغم احتفاظه باللغة الأدبية وبالجماليات، فقد كان قطب يخاطب مشاعر الجماهير لا عقولها.
كان نجيب سرور يمثل درجة أقل في التطرف، اكتفى فيها بالكلام والكتابة والفضح والتعرية في مواجهة الخونة/ الصهاينة/ الماسونيين، إلخ، بينما مثّل قطب الجانب الأكثر تطرفًا، وبكرم حاتمي؛ فهو يطالب بالحركة ويبدأ في التمهيد لها في مواجهة الجاهلية/ الكفر.
ولدى مقاربة شخصية هاملت بنموذج سيد قطب، نكتشف أن اﻷخير لم يكن جبانًا أو متخاذلًا، رغم تلميح شكري مصطفى بذلك، فقد كفّر المجتمع بلا أي تردد أو احتياط. كذلك لم يكن هاملت جبانًا، رغم وصفه بهذا، فلم يُقعده "جبنُه" عن المواجهة السريعة مع عمه وأمه، بالعكس فقد صوّرته المسرحية شابًا من أشجع الفتيان في عصره، لم يتردد مثلًا في قبول مبارزة ليارتيس، ولا في إرسال صديقيه إلى حتفهما، لما أحس منهما الغدر، وكانت أوفيليا تندبه بقولها: "آه، يا لهذا العقل النبيل المضيع! لسان أمير وبصر عالم وسيف جندي”.
نحن نتحدث عن تنويعات على نموذج، وقد تكون هذه التنويعات بدورها نماذج لتنويعات أخرى أكثر أو أقل تطرفًا، وقد تكون سلبية أو إيجابية، وهذا ليس من باب المدح أو الذم، فالنموذج اﻹيجابي هو من قام بفعل، مثل سيد قطب، والأكثر إيجابية منه كان شكري مصطفى. أما النماذج السلبية فهي التي تغرق في أحلام اليقظة أو تشرب المخدرات في مواجهة قسوة واقعها وهروبًا منها. غير أن الملامح العامة للنموذج تبقى متشابهة. وهاملت نفسه تنويعة أصيلة على نموذج الإنسان الحديث المنقسم على ذاته، ليس الانقسام بين الفكر والعمل بالتعريف كما يذهب بعض النقاد، وإنما بين التفكير بطريقة معينة والعمل أيضًا بطريقة معينة. فهاملت لم يكن بطلًا بقدر ما كان فتى مليئًا بالحماسة والإحساس المرهف، صدمه واقعٌ ملوث قاس، فيه القتل والخيانة والتملق والتآمر "وقشور قبيحة على الجسد الأملس". لم يستطع هاملت التوفيق بين العالمين الداخلي والخارجي، فحدث الانقسام، وكان التفكير على هذا النحو هو ما جعله مترددًا في تنفيذ قراره، وكانت النجوى، ومنعه تفكيره هذا من الحفاظ على "أوفيليا"، فلم يكن شخصية قوية الإرادة إلى هذا الحد، وإن أراد القوة. حتى نيتشه، صاحب "إرادة القوة”، شخصيًا، رغم نقده العنيف للرومانتيكية، كانت أفكاره هي وسيلته الناجعة للتعبير عن اشمئزازه وقرفه من الواقع، وكان رفضه للخضوع لشوبنهاور وكذلك لفاجنر، هو عين خوفه من الاستسلام. لقد كان يريد القوة رغم الوهن، أو قل بسبب الوهن. هذا الإنسان الحديث لم يظهر في القرن الثامن عشر فجأة، وكان التنوير نفسه نتيجة للصراعات الدينية والدموية غير الحاسمة التي شهدها القرن السادس عشر والسابع عشر وكان يتشكل وتنضج أسباب ظهوره ويتشكل معه وله الرأي العام المؤيد. ولا بد أن رومانتيكية القرن التاسع عشر وجدت لها من الأسباب في القرون الخوالي، كلٌ بقدر، ما جعلها تظهر بتنويعات ونماذج كثيرة وغنية للدرجة التي قد تبدو فيها متناقضة تمامًا، وغنية لأن أمثلتها ببساطة هي بايرون، ديستوفيسكي، تولستوي، لامارتين، تشيكوف، جوته، كانط، وروسو، وكان بمثابة الأم للرومانتيكية، حسب تعبير ساخر لول ديورانت، دون التزام من هؤلاء، أو من بعضهم، بالإقامة في القرن التاسع عشر.
التنوير مقابل الرومانتيكية
كانت لحظة الانفصال عن كل ما هو غير طبيعي أو متعال على الطبيعة، وإعلان موت ما لم يعد يلزم من خرافة، وبلوغ الإنسان وخروجه من الوصاية، ومحاولته إيجاد السعادة باستخدام عقله هنا على الأرض، لحظة طويلة في عمر البشرية. كان على هذا الإنسان إثبات ذاته بوصفه سيد نفسه، وكان العقل أو الفكر سببًا كافيًا للوجود. كان الظلام الشديد دافعًا للتنوير الشديد أيضًا؛ فكان العقل صارمًا وثوريًا، وكانت الثورة حادة وقاسية، لا تعرف سوى الكفاح والنضال والنقد الحاسم. لكنه، رغم ذلك أو بسببه، ظل تنويرًا أكثر منه تعميقًا، ولأن لكل "تغيّر"، بحسب هيجل، شكلًا أوليًا بسيطًا سرعان ما يتعقد ويتضخم، تعقد التنوير وتضخم، واستبدل بالثنائية الميتافيزيقية بين الإنسان واللـه ثنائية أخرى هي الإنسان وواقعه، فانقسم مرة أخرى بين "الذات" و "الموضوع" ، بين "العقل" و"العالم"، ولعل ما بعد الحداثة تكون هي محاولة التعمق ولحظته.
في حدود هذه الثنائية كان على الإنسان الحديث رؤية الواقع دون أي وهم ميتافيزيقي، هذا الواقع بما فيه من قسوة وظلم وفساد و"قشور بغيضة على الجسد الأملس". وأحد تعريفات الرومانتيكية هي أنها "ظمأ إلى الجميل والبعيد واللامحدود، أو تخليص العالم من قشوره البغيضة"، لكن تلك الرومانتيكية، ولا نقول آفتها فهي بذاتها آفة، لم تعد ترى الفساد في الواقع بل ترفضه كله أصلًا، ثم تقرر أن تأخذ موقفًا ما تجاهه. يصبح الفرد رومانتيكيًا بغريزة البقاء، وقد عجز عن التكيف مع هذا الواقع. وتأخذ المواجهة أشكالًا مختلفة ومتعددة ومتفاوتة وبلا حصر، لكنها لا تخرج بحال عن أن تكون إما سلبًا، بالانعزال بعيدًا عن توتر المواجهة، وتكون دروب المنعزلين عادة في الغرائب وأحلام اليقظة والروحانيات وعوالم الرؤى والنزعات العاطفية المستعرة، أو إيجابًا، ويكون هذا الشخص أصلًا إيجابيًا لكنه ممنوع من الصرف والإبداع في المجتمع المتخلف، وهذا النوع بطبعه لن يهرب من مواجهة الواقع المرفوض وإنما سيعود حاملًا سلاحه "ولنفسه التأييد" - على حد وصف ثربانتس لدون كيشوت - حتى يفضح الواقع ويعري بشاعته.
ومنذ عزازيل الذي هو إبليس وحتى الآن، لم يتوقف هذا التمرد، ولم ينضب المعين الذي يأتي بهؤلاء الرومانتيكيين، وفي كل العصور يكون هناك من الأسباب ما يسمح بظهورهم، وهم لا يشكلون أي خطر في عصور القوة، بل بالعكس تمامًا، لكن ما أشد خطورتهم في عصور انحطاط العقل والحضارة، وما أشد خطورة الإيجابي منهم على وجه التحديد! ولا ينضب أبدًا "سياق المعاني"الذي يدعمهم. والمعاني التي نجدها في هاملت، وتجعله هاملت، هي الرجولة مقابل العهر، والوفاء مقابل الخيانة، والأخوة والأمانة مقابل الغدر والغيلة. وأخيرًا في نهاية تلك المسرحية، وفي المواجهة، نجد أنفسنا أمام "فكران ماكران حول أمر واحد" دون أن تصطدم غايتهما، وكلاهما يريد التخلص من الآخر، الملك المستعار كلوديس والأمير المخبول هاملت. أما الوسيلة فهي العنف. ولا أظن أن عدد القتلى الكبير نسبيًا في مسرحية "هاملت" قد صدم "النُظارة" -رغم تعليق "فولتير" عليها بأنها مسرحية همجية مبتذلة لا يمكن أن تطيقها حتى أحط الجماهير، أو حتى ملاحظته القاسية بأنه لا يكتبها إلا "متوحش سكران”- فمشاهدو العصر الإليزابيثي بحكم العادة لا يرفضون رؤية مثل هذا العنف.
ويمكن قول نفس الشيء عن "دفتر هاملت" بتنويعات نجيب سرور أو سيد قطب، فهما أيضًا بمعنى ما، نزلا على رغبة الجماهير، بوعي أو بدون وعي. وهذه الجماهير ليست كتلة واحدة متجانسة، بل متنوعة وغنية إلى الدرجة التي تجعل أمثال هاملت وسيد قطب وشكري مصطفى وحتى نجيب سرور وإبراهيم الأبيض، يجدون نصيبهم من المؤيدين على تنوعهم هذا. حتى الأنبياء، فيما مضى، لم يرسلوا إلا بلسان قومهم وبمعجزة تناسب مشاهديها. غير أنني لا أعني أن الإنسان هكذا ليس أكثر من مرآة تعكس الأفكار، فكل مُعطى يقابله اختيار، وهذا "الاختيار" يمكن وصفه، باستعارة فوكو، بما هو أكثر من "مجرد إحساس بالذات"، بل هو تكوين للنفس بما تحمله من "تزهد" و "مران ذاتي" والأهم "تذويت-بمعنى إضفاء الطابع الذاتى". فكما توجد جماهير ونظارة تؤيد عنف هاملت وغيره، توجد جماهير ونظارة ترفض ذلك العنف.
كُتبت هذه "الشخبطة" في 2007، ويبدو أن هذا العام كان من الأعوام الفارقة في حياتي؛ فروايتي الأولى صدرت في هذا العام، وكانت "شخبطتى" ضد مرض "الحنين" و"الرومانتيكية المفرطة" وأتى "المران الذاتي"، و" التزهد" في كل تلك الأشياء "العبيطة" في حياتي. ولا أكتب هنا بمنطق محاكمتها أبدًا، بل بمنطق تسجيلها وإعادة تأملها ومراجعتها، وقد حاولت ألا أغير كثيرًا في صياغتها وحافظت على جوها وتدفقها العام.
قبل عام 2000 كنت أحمل سيفًا خشبيًا ضد طواحين الهواء، وفي عام 2000 كانت النقلة الكبرى، ففيه سُجنت في أحداث مظاهرات الانتفاضة الفلسطينية، وفي السجن تعلمت ماركس وهيجل، ثم خرجت واضطررت لترك منزل أهلي، وكان عليّ منذ هذا الوقت الاعتماد على نفسي تمامًا، ليس بمعنى العمل وتكاليف الحياة فقط فهذا كان قد بدأ منذ بعيد، لكن بمعنى مواجهة العالم دون دليل أو رعاية. وتعلمت أن المرء حينما يعجز عن فهم العالم يحاكمه. وأصبحت مقتنعًا أن السيف (التغيير) سيكون أكثر فائدة إذا وزّعناه على الناس، بمعنى محاولة فهم العالم معهم، ومن ثم تغييره إلى ما هو أفضل. تشبه شخصية هاملت هنا إلى حد ما شخصية دون كيشوت، وإن افتقدت البهجة. وفي الحالتين وفي التنويعات عليهما، كان هناك الغضب الذي لم ير سوى الشياطين واليأس، حمل "الدون كيشوتي" الماضي على كتفه، وارتدى درعه الحديدي ضد الحياة والناس والمستقبل. دون عقل ذهب لينتقم ويحطم طواحين الهواء.
إن ذلك "الغضب المقدس" قد يكون وقود الحضارة والتقدم، وقد يصبح طاقة جديدة لإدارة تلك الطواحين بدلًا من هدمها، وقد ينزع عنه درعه الحديدي ليتعلم مع الناس، ويتفاءل بالمستقبل الذي يساهم في بنائه.
المصادر:
- هناك ترجمات كثيرة لمسرحيات "شكسبير" في اللغة العربية، وتأتي "هاملت" و"لير"، والمآسي بشكل عام، في الصدر دائمًا. وما لم ترد إشارة بغير ذلك، فالاقتباسات هنا كلها من مسرحيتي "هاملت" و "الملك لير". وقد اضطررت في بعضها لتعديل بسيط بما لا يمس بالمعنى اﻷصلي، وقد اعتمدت في الأولى على ترجمة عبد القادر القط وترجمة أخرى لجبرا إبراهيم جبرا، على الترتيب. أما في "لير" فقد اعتمدت على ترجمة الدكتورة فاطمة موسى. وقد استفدت كثيرًا من تقديمهم الممتاز لهذه النصوص (خاصة مقدمة الدكتور القط). ولم أعدم الاستفادة من العديد من المراجع والدراسات التي تصدت لأعمال شكسبير عمومًا، ومسرحية "هاملت" خصوصًا، مما لا يتسع المقام هنا لإثباتها.
- هناك نصوص أخرى اعتمدت عليها في النص، منها رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و"دون كيشوت" لثربانتس. كما اعتمدت على العديد من المراجع والمصادر في تاريخ أوروبا وتاريخ الرومانتيكية وغيرها، وبشكل كبير اعتمدت في هذا الصدد على موسوعة قصة الحضارة لول ديورانت، وكتاب "الرومانتيكية والواقعية، دراسات في الأدب الأوروبي" ليانكون لافرين.
http://www.madamasr.com/ar/opinion/%D...
Published on May 30, 2016 03:07
May 2, 2016
فصل في الهوى
ماهر عبد الرحمن
يحتاط أبو محمد علي بن حزم الأندلسي في سبب توفره على كتابة رسالته المعروفة بطوق الحمامة في الألفة والإلاف والمحبة، بما سمعه من القاضي حمام بن أحمد الذي حدثه عن يحيى بسند مرفوع لأبى الدرداء أنه قال: أجموا النفس بشيء من الباطل ليكون عونًا لها على الحق. والذي حدث أن ابن حزم قد ذاع صيته واشتهر بما كتبه وصنفه في رسالته تلك من حديث عميق وجميل عن "اللغو" و"الباطل"، لا بما صنفه في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والطب وغيرها من المعارف المختلفة.
وكان ابن حزم من أكبر علماء الإسلام تأليفا، وكان مجددًا وموضحًا وشارحًا وباعثًا لمذهب الإمام داوود الأصبهاني الظاهري، بل ويعتبر ظاهريًا أكثر من داوود نفسه، ولعل ذلك يرجع إلى أسباب عديدة منها، الطريقة العميقة والجملية التي تناول بها ابن حزم موضوع الحب وأحوال القلب في كتابه هذا. وأنه كتبه وفقا لخبرته فيما أورد وحلل من وقائع عاينها بنفسه أو "صحت عنده بنقل الثقات". وأيضا بسبب طبيعة الموضوع نفسه عن أمور الحب وماهيته ودرجاته بما لها من شعبيية جارفة، وفي هذا الباب نذكر ما كتبه مولانا محيي الدين بن عربي في مقدمة ديوانه "ترجمان الأشواق" بأن كلَّ ما يذكره من أسماء ومديح وغزل في هذا الكتاب إنما هو إشارة إلى معان إلهية رفيعة.
وقال-أيضا- في الفتوحات المكية أن ما يذكره في أشعاره، فيما يخص ترجمان الأشواق وغيره، فإنها كلها معارف إلهية في صور مختلفة من تشبيب ومديح وأسماء نساء وصفاتهن وأنهار وأماكن ونجوم. ولعله ذكر ذلك للتوضيح وإتقاء لهجوم من أخذوا عليه كتابته لمثل هذا النوع من الغزل الواضح والذى لا يستقيم والحديث عن الذات الإلهية. أما لماذا استعمل ألفاظ وأوصاف الغزل الواضح، فيشير إلى أنه أراد هذا لتتوفر الدواعى على الإصغاء إليها وتلك هي طبيعة الأمور.
وفي هذا "اللغو" الطيب عن الحب والمحبة كتب ابن القيم الجوزية، وهو من تلاميذ ابن تيمية -وإن كان ابن تيمية أشد تعصبا- كتب ابن القيم كتابا بعنوان: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وفيما يبدو أنه تأثر بالطوق لابن حزم. وكثيرا ما أفكر كيف أن ابن القيم المتشدد كشيخه في كتابات مثل "زاد المعاد" و "الروح" هو نفسه ابن القيم المتسامح في "روضة المحبين" وفي "مدارج السالكين".
يعرف ابن حزم الحب في رسالته بقوله: الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. ويقول أن الناس قد اختلفت في ماهية الحب، ورأيه أن الحب هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة. وشاهده من القرآن قوله تعالى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق لها زوجها ليسكن إليها" فيجعل علة السكون أنها منه، وشاهده أيضا قول الرسول: "أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف".
أما ابن القيم فلا يقطع برأي في معنى الحب وإنما يورد كلام الناس فيه، ويذكر منه أن الحب هو الميل الدائم، بالقلب الهائم. وقيل هي حركة القلب على الدوام إلى المحبوب وسكونه عنده. وهو يفرق بين الحب وبين الهوى؛ فالهوى لفظ في أكثر ما يستخدم يكون في الحب المذموم. وقيل أنه سمى هوى لأنه يهوي بصاحبه. ولذلك فقد فتح ابن القيم رسالته تلك بتفضيل من كانت الدولة أو اليد العليا لديه للعقل لا للهوى.
ونعود لابن حزم الذي يبين لنا أن مراتب الحب وأعلاها المحبة في الله، فيحب الإنسان لأجل التقوى مثلا أو القرابة؛ طاعة لله تعالى. وبعدها محبة الألفة والصداقة، وبعدها محبة العشق. ويفرق بين الحب الروحي والحب للشهوة، والأول لا يكون إلا لواحد، أما الحب الجسدي فقد يتعدد. وأن "للحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكيّ. فأولها إدمان النظر" والعلامات تكاد تتطابق لدى ابن القيم ومنها "إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه". وكلاهما يشدد على أن الحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره، فهو شعبة من الجنون. فكيف نعالج من إصابته لوثة الحب وكانت اليد العليا لديه للهوى وليس للعقل؟
لننتقل إلى مقام آخر تماما وفي حضرة عالم ثالث هو الشيخ الرئيس، أبو على الحسين بن عبد الله بن على بن سينا. فقد كتب مقال في كتابه "القانون في الطب" عن أمراض الرأس وفيه فصل عن مرض العشق أو لوثة الحب، ويعرفه بأنه مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا (Melancholy) وهي ما يمكن تعريفه بالمزاج السوداوي. ويقول ابن سينا أن هذا المرض يجلبه الإنسان لنفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل.
ومن ضمن علامات هذا المرض أن يكون الإنسان كثير الصعداء ويتغير حاله إلى فرح وضحك، أو غم وبكاء عند سماع ألفاظ الغزل والحب، ولا سيما عند ذكر الهجر والنوى. ولا يكون لشمائله ولا لنبضه نظام، كأصحاب الهموم. وعلاج هذا الأمر يكون باشغالهم، أو يحتال بحب آخر مما تحله الشريعة يجُبُّ ما قبله، وإن كان العاشق المريض على شيء من العقل، فيكون علاجه النصيحة والعظة والاستهزاء به وتعنيفه إن لزم الأمر. وينصح ابن سينا لعلاج العشق بتسليط العجائز على العاشق المريض، بتبغيض المعشوق إليه، ويذكرن منه أحوالا قذرة وأمورا منفرة، ويذكرنه بالجفا؛ "فإن هذا يسكن كثيرا".
وفي الختام فإني كتبت هذه المقالة من باب طرافة هذا المبحث وطرافة ما ذُكر فيه دون تزيد أو تسطيح، وفي ذهني ما ورد في الأثر بأن أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.
http://www.tahrirnews.com/Posts/share...
يحتاط أبو محمد علي بن حزم الأندلسي في سبب توفره على كتابة رسالته المعروفة بطوق الحمامة في الألفة والإلاف والمحبة، بما سمعه من القاضي حمام بن أحمد الذي حدثه عن يحيى بسند مرفوع لأبى الدرداء أنه قال: أجموا النفس بشيء من الباطل ليكون عونًا لها على الحق. والذي حدث أن ابن حزم قد ذاع صيته واشتهر بما كتبه وصنفه في رسالته تلك من حديث عميق وجميل عن "اللغو" و"الباطل"، لا بما صنفه في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والطب وغيرها من المعارف المختلفة.
وكان ابن حزم من أكبر علماء الإسلام تأليفا، وكان مجددًا وموضحًا وشارحًا وباعثًا لمذهب الإمام داوود الأصبهاني الظاهري، بل ويعتبر ظاهريًا أكثر من داوود نفسه، ولعل ذلك يرجع إلى أسباب عديدة منها، الطريقة العميقة والجملية التي تناول بها ابن حزم موضوع الحب وأحوال القلب في كتابه هذا. وأنه كتبه وفقا لخبرته فيما أورد وحلل من وقائع عاينها بنفسه أو "صحت عنده بنقل الثقات". وأيضا بسبب طبيعة الموضوع نفسه عن أمور الحب وماهيته ودرجاته بما لها من شعبيية جارفة، وفي هذا الباب نذكر ما كتبه مولانا محيي الدين بن عربي في مقدمة ديوانه "ترجمان الأشواق" بأن كلَّ ما يذكره من أسماء ومديح وغزل في هذا الكتاب إنما هو إشارة إلى معان إلهية رفيعة.
وقال-أيضا- في الفتوحات المكية أن ما يذكره في أشعاره، فيما يخص ترجمان الأشواق وغيره، فإنها كلها معارف إلهية في صور مختلفة من تشبيب ومديح وأسماء نساء وصفاتهن وأنهار وأماكن ونجوم. ولعله ذكر ذلك للتوضيح وإتقاء لهجوم من أخذوا عليه كتابته لمثل هذا النوع من الغزل الواضح والذى لا يستقيم والحديث عن الذات الإلهية. أما لماذا استعمل ألفاظ وأوصاف الغزل الواضح، فيشير إلى أنه أراد هذا لتتوفر الدواعى على الإصغاء إليها وتلك هي طبيعة الأمور.
وفي هذا "اللغو" الطيب عن الحب والمحبة كتب ابن القيم الجوزية، وهو من تلاميذ ابن تيمية -وإن كان ابن تيمية أشد تعصبا- كتب ابن القيم كتابا بعنوان: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وفيما يبدو أنه تأثر بالطوق لابن حزم. وكثيرا ما أفكر كيف أن ابن القيم المتشدد كشيخه في كتابات مثل "زاد المعاد" و "الروح" هو نفسه ابن القيم المتسامح في "روضة المحبين" وفي "مدارج السالكين".
يعرف ابن حزم الحب في رسالته بقوله: الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. ويقول أن الناس قد اختلفت في ماهية الحب، ورأيه أن الحب هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة. وشاهده من القرآن قوله تعالى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق لها زوجها ليسكن إليها" فيجعل علة السكون أنها منه، وشاهده أيضا قول الرسول: "أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف".
أما ابن القيم فلا يقطع برأي في معنى الحب وإنما يورد كلام الناس فيه، ويذكر منه أن الحب هو الميل الدائم، بالقلب الهائم. وقيل هي حركة القلب على الدوام إلى المحبوب وسكونه عنده. وهو يفرق بين الحب وبين الهوى؛ فالهوى لفظ في أكثر ما يستخدم يكون في الحب المذموم. وقيل أنه سمى هوى لأنه يهوي بصاحبه. ولذلك فقد فتح ابن القيم رسالته تلك بتفضيل من كانت الدولة أو اليد العليا لديه للعقل لا للهوى.
ونعود لابن حزم الذي يبين لنا أن مراتب الحب وأعلاها المحبة في الله، فيحب الإنسان لأجل التقوى مثلا أو القرابة؛ طاعة لله تعالى. وبعدها محبة الألفة والصداقة، وبعدها محبة العشق. ويفرق بين الحب الروحي والحب للشهوة، والأول لا يكون إلا لواحد، أما الحب الجسدي فقد يتعدد. وأن "للحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكيّ. فأولها إدمان النظر" والعلامات تكاد تتطابق لدى ابن القيم ومنها "إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه". وكلاهما يشدد على أن الحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره، فهو شعبة من الجنون. فكيف نعالج من إصابته لوثة الحب وكانت اليد العليا لديه للهوى وليس للعقل؟
لننتقل إلى مقام آخر تماما وفي حضرة عالم ثالث هو الشيخ الرئيس، أبو على الحسين بن عبد الله بن على بن سينا. فقد كتب مقال في كتابه "القانون في الطب" عن أمراض الرأس وفيه فصل عن مرض العشق أو لوثة الحب، ويعرفه بأنه مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا (Melancholy) وهي ما يمكن تعريفه بالمزاج السوداوي. ويقول ابن سينا أن هذا المرض يجلبه الإنسان لنفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل.
ومن ضمن علامات هذا المرض أن يكون الإنسان كثير الصعداء ويتغير حاله إلى فرح وضحك، أو غم وبكاء عند سماع ألفاظ الغزل والحب، ولا سيما عند ذكر الهجر والنوى. ولا يكون لشمائله ولا لنبضه نظام، كأصحاب الهموم. وعلاج هذا الأمر يكون باشغالهم، أو يحتال بحب آخر مما تحله الشريعة يجُبُّ ما قبله، وإن كان العاشق المريض على شيء من العقل، فيكون علاجه النصيحة والعظة والاستهزاء به وتعنيفه إن لزم الأمر. وينصح ابن سينا لعلاج العشق بتسليط العجائز على العاشق المريض، بتبغيض المعشوق إليه، ويذكرن منه أحوالا قذرة وأمورا منفرة، ويذكرنه بالجفا؛ "فإن هذا يسكن كثيرا".
وفي الختام فإني كتبت هذه المقالة من باب طرافة هذا المبحث وطرافة ما ذُكر فيه دون تزيد أو تسطيح، وفي ذهني ما ورد في الأثر بأن أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.
http://www.tahrirnews.com/Posts/share...
Published on May 02, 2016 12:54
April 28, 2016
متى ظهر المطلق.. ولماذا يستمر؟
ماهر عبد الرحمن
كتب الدكتور مراد وهبة مقالًا بالأهرام، في يوم الثلاثاء 12 أبريل/نيسان 2016، بعنوان: هل ماتت الحقيقة المطلقة؟ وبدايته كانت: "كن جريئًا في إعمال عقلك إذا كنت تريد إحداث ثورة دينية أو ثورة فكرية". وهذا هو شعار ومعنى التنوير كما سبق وعرضت له في مقالي السابق هنا عن المجال العام. ومقال الدكتور مراد وهبة في الحقيقة ملهم لاستكمال التفكير والكتابة، لكن هذه المرة عن الدين وبدايته وعن الحقيقة المطلقة.
في البداية أود الإشارة إلى أن للدكتور مراد وهبة كتيبات صغيرة وبسيطة وتعريفية عن الفكر، يضعها في شكل قصص، وكان منها كتيب "قصة الفلسفة"؛ ويحكي فيه لكل محب للفلسفة قصة هذا العلم أو الفن منذ بدايته إلى ما وصلنا إليه (الكتيب صدر عام 1968)، وفيه يقول إن الفلسفة هي سؤال عن المطلق، كانت البداية عندما أطلّ على عقل الفيلسوف اليوناني القديم طاليس سؤال عن المطلق تحديدًا؛ ما هو المطلق؟ وهل للمطلق معنى إلا بمقابل "النسبي"؛ وما هو ذلك النسبي؟ إن الصلة (أو "الجدلية") بين "المطلق" و "النسبي" هي "أن الإنسان يبحث عن المطلق دون أن يقتنصه" وتلك هي قصة الفلسفة كما يكتبها ويراها مراد وهبة ببساطة.
ولوهبة كتيب ثان بنفس الأسلوب والبساطة عن "قصة علم الجمال" وبعض قضاياه دون تعقيد أو تبحر في المناهج والنظريات. وأخيرًا، له كتاب عن "قصة الديالكتيك" وفيه يحكي قصة الجدل وتطوره عبر العصور، منذ العصر اليوناني القديم ومرورًا بالعصرين الوسيط والحديث، حتى وقتنا الراهن. على كل حال في هذه الكتب وغيرها، تشغل دائما العلاقة الجدلية بين المطلق والنسبي، وبين المذاهب الفلسفية المغلقة والمذاهب الفلسفية المفتوحة عقل وتفكير الدكتور مراد. وهو نفسه يشير في أحد أشهر وأشمل كتبه التي توضح رؤيته، "مُلاك الحقيقة المطلقة"، إلى أن الفكرة المحورية في فلسفته كانت دائمًا هي النضال ضد الروح الدوجماطيقية أي تلك التي تتوهم اقتناص الحقيقة المطلقة.
نعود لسؤال المطلق. في الفتوحات المكية يعتقد محيي الدين بن عربي أن الإنسان اكتشف الله بعد أن ظهر - هذا الإنسان - بعشرة آلاف سنة. هذا السؤال دائمًا ما يشغل بال الفلاسفة والمتكلمين وبعض المتصوفين؛ بداية ظهور الإله بشكل عام، ما هي تلك اللحظة التي ظهر فيها هذا المطلق.
في البداية كان ثمة نوعين من المطلق، الأول هو المطلق الأسطوري أو الخرافي؛ زيوس وآبائه وإخوانه وأبنائه. قد تكون بداية ظهور هذا المطلق الأسطوري، والمقصود به الإله غير الطبيعي المفارق للوجود العيني، في أشعار هوميروس، وهذه الأشعار بدأت حوالي القرن التاسع قبل الميلاد وتطورت وأصبحت نصوصًا ثابتة في القرن السادس قبل الميلاد. وشخصية هوميروس نفسها لا يوجد دليل على وجودها من عدمه وحولها خلافات تاريخية وعلمية كبيرة. وحتى الأشعار والملاحم التي تركها، على الأغلب، تعتبر تراكمًا لقرون من الحكي الشفاهي؛ وبالتالي فمن الجائز أنه لم يوجد في أي وقت هوميروس هذا. ومع ثبات الأشعار والملاحم المنسوبة لهذه الشخصية التاريخية في القرن السادس قبل الميلاد، بدأت تظهر بعض الأفكار حول هذا المطلق الأسطوري ونفى بعض الفلاسفة وجوده لصالح مطلق آخر طبيعي. فقال طاليس مثلًا بأن الماء هو أصل الأشياء. ثم جاء بروتاجورس في القرن الخامس قبل الميلاد وكتب في مقدمة كتاب له بعنوان "الحقيقة" أنه لا يستطيع أن يعلم إن كانت هناك آلهة أم لا لأسباب كثيرة أهمها غموض المسألة وقصر الحياة. وتم اتهام بروتاجورس بالإلحاد ومن ثم تم الحكم عليه بالإعدام. وهو ما تكرر مع سقراط والذي تم اتهامه بإنكار الآلهة وإفساد الشباب.
وفي مقال الدكتور مراد وهبة الذي تحدثت عنه في البداية، يشير إلى أن الفيلسوف الألماني كانط في عام 1793 نشر كتابًا بعنوان "الدين في حدود العقل وحده" ويناقش فيه كانط، علاقة الأخلاق بالدين، وعلاقة الدين بالطبيعة الإنسانية وبطريقة استعمال الإنسان لحريته. وكيف يكون إيمان الإنسان الحر في دولة مدنية. ويفرق كانط بين الإيمان كدوجما استعلائية، وبين الإيمان العقلاني أو في حدود العقل وحده، إيمان "يخجل من الانزلاق في أيّ نوع من (الأفكار المفارقة) التي تتخطى حدود عقولنا".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1794 أرسل الملك فردريك فلهلم الثاني رسالة إلى كانط يرفض فيها كتابه هذا وما فعله من تشويه وحط من قدر للعقائد الجوهرية في المسيحية، ويطلب له الحسنى وأن يقدر مسؤوليته، وأن يكف عن ذلك في المستقبل وإلا تعرض لإجراءات صارمة. ورد كانط وتعهد بالتوقف عن الكتابة في مثل هذه الأمور وقال: "إن إنكار واستنكار ما يقتنع به المرء أمر مهين دنيء، لكن السكوت في حالة كهذه هو واجب المحكومين، وحتى لو كان كل ما يقوله الإنسان صحيحًا فليس من الواجب أن يصرّح بكل الحقيقة علانية". لكنه عاد للكتابة في هذا الموضوع بعد وفاة هذا الملك.
ونكمل مع مقال الدكتور مراد وهبة الذي يشير بعد كانط إلى كتاب حديث للاهوتى بريطاني هو دون كَبِت والكتاب بعنوان رئيسى هو "ما بعد الله" وعنوان فرعى "مستقبل الدين". يحكي هذا الكاتب قصة عن تصورات البشر قديما عن الله فيقول إنه "كان شبيهًا بالإنسان وجالسًا على عرش في معبد حجري فى قلب المدينة ومحاطًا بكهنة مهمتهم تنفيذ ما يصدره من قوانين. ومن هنا كانت السلطة الإلهية هى مصدر جميع السلطات". ثم يكمل كَبِت أن المشكلة هي "أن البشر أنفسهم هم بناة المدينة بل هم بناة المعبد، وراسمو صورة الله، وبعد ذلك أسسوا المعتقد ثم أعلنوا فجأة أن الله نفسه هو الذى اختار موقع المدينة وهو الذى صمم المعبد وهو الذى عيَن الكهنة". والحقيقة أن الباحث في هذا الأمر يجد العديد من النظريات والتصورات حول بداية ظهور الإله، الخالق الأول، بل وحتى هناك نظريات وتصورات كثيرة حول تطوره، ثم بداية ظهور الدين فيما بعد. وهذا التعدد والتشعب "إنما يدل أوضح دلالة على ما في المشكلة الأصلية من عمق وطرافة"
وهذا هو ما قاله الدكتور سامي النشار في كتابه الطريف والبسيط عن "نشأة الدين". والدكتور سامي النشار كان أستاذًا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة فاروق الأول [الإسكندرية الآن]، وله كتاب آخر مهم بعنوان "نشأة الفكر الفلسفي"، وصدر عن دار المعارف. وأصدر كتاب "نشأة الدين" 1948 وأعاد مركز الإنماء الحضارى نشره في 1995 . يذهب الدكتور سامي في بحثه إلى أن الأفكار الرئيسية المسيطرة على النظريات الدينية هي فكرة التطور مقابل فكرة التوحيد أو الوحي الأول. وبشكل عام فإن الراجح هو أن الله وُجد قبل أن توجد طريقة عبادته: الطقوس/ الدين/ المراسم المقدسة. ويذهب التطوريون إلى تحليل ظهور الله والدين من خلال تحليل تطور حياة الإنسان نفسه. فالله – كما نعرفه الآن - لم يظهر مرة واحدة بل أخذ يتطور، من المادى الذى يسهل إدراكه، إلى تلك الفكرة الروحية الأكثر تعقيدًا؛ فكما أن التطور يسود الحياة البيولوجية للإنسان فإنه يسود أيضا الحياة العقلية له. إن الكائن ينتقل طبقا لقانون التطور من ماهية أدنى إلى ماهية أسمى ومن نوع بسيط إلى نوع أعلى وأكثر تعقيدًا؛ ومن ثم فمن الأولى أن يتطور هذا الإنسان في حياته الفكرية وأن تنتقل من طور إلى طور حتى تصل إلى كمالها النسبي لو جاز التعبير. وعلى العكس من ذلك نادى أصحاب فكرة التوحيد أو الوحي الأول بفطرة فكرة الله وأنكروا إنكارا باتًا نظرية التطور. واستندوا في ذلك على ظهور آثار وجود الله لدى المجتمعات البدائية كافة، "وعلى ما ندركه في أنفسنا من ناحية أخرى نحو هذه الفكرة الجليلة النبيلة "الله"". هذه الفكرة النبيلة والجليلة والمفارقة فيما يرى بعض علماء الأنثروبولوجي كان السبب الأول في ظهورها في طفولة الفكر الإنساني في البداية هو الخوف. وإليكم الحكاية: لقد كان الإنسان الأول يواجه ظواهر كثيرة دون أن يملك تفسيرًا لها، وكانت تلك الظواهر بالنسبة له مفزعة، بالإضافة إلى كونها غامضة؛ وهكذا - بشيء من التبسيط الاضطراري - صارت عادته أن يعبد ما لا يملك له تفسيرًا. هذا العقل لم يكن فقط عاجزًا عن تفسير الظواهر التي تحدث حوله، بل أيضًا لا يستطيع أن يعبد غير ما يراه، الشمس، القمر... بل وبعض الحيوانات أحيانًا. هناك أيضا من كان يعبد الأسلاف، الآباء، الأجداد، شيوخ القبيلة. ثم ارتقى هذا الإنسان وارتقى عقله وارتقت معه فكرة وجود إله أعلى.
بعد سؤال متى ظهر المطلق، ثمة سؤال آخر ما زال يحتاج إلى تأمل، مع كل هذا التقدم العلمي والمعرفي والصناعي الذي صنعته البشرية لنفسها وبنفسها، لماذا تظل هذه المشكلة الفلسفية موجودة وقائمة؟ ما هي الضرورة لوجود إله ووجود دين؟
يقول كانط إن الأخلاق تستطيع أن تقول لنا ماذا نفعل لكن الإنسان أيضا بحاجة لمعرفة "لأجل ماذا نفعل"، وثمة خيط رفيع يربط بين "ماذا" و "لأجل ماذا" فالربط بين ما يجب على الإنسان وبين نتيجة ذلك الواجب وغايته؛ يحقق السعادة لهذا الإنسان، شرط أن تكون الغاية حرة: "يمكن أن تساعد الإنسان على التّفكير في (غاية نهائيّة لواجباته) أوسع نطاقًا من مجرّد واجبه الخلقي، إلاّ أنّها (ناتجة عن تلك الواجبات ذاتها)". نفهم من هذا النص أن كانط، أهم فلاسفة التنوير، كان على شيء من التذبذب، ولم يصل إلى إنكار وجود الله إنكارًا مطلقًا، حتى في كتابه "نقد العقل العملي" حين قال "إن وجود الله فكرة يبعثها العقل المجرد، لكن لا يوجد لدينا سببًا وجيهًا لقبول والتسليم بهذه الفكرة تسليمًا مطلقًا". بل إنه، بعيدًا عن قضية وجود الله من عدمها، قال بضرورة الإيمان بوجود الله، الله المرتبط بمفهوم المثال الأسمى ومفهوم الخير، وكذلك السعادة والفضيلة. وله بحث و"ملاحظات عن الشعور بالجميل والجليل" والذي هو الكائن الأسمى، والفكرة النبيلة، الله.
وعلى مستوى الدين والإيمان، يرفض كانط إيمان "السُخرة" والذي لا يمكن النظر له بوصفه إيمانًا مخلصًا أبدًا؛ لأنه ليس خلقيًا. إن الإيمان المخلص بحق يجب أن يكون أولًا حرًا، ويجب أن يكون في حدود مجرد العقل. وهذا الإيمان الحر يحمل الفكرة النبيلة، "الله" الجميل والجليل، في قلب الإنسان بوصفه الخير الأقصى الممكن للبشر. وأنه ليس ثمة مخرج من الاستبداد الديني إلا بالإشارة والتنبيه بوجود مبادىء خلقية كونية للإيمان متقاسمة بين كافة عقول البشر.
https://almanassa.com/ar/story/1657
كتب الدكتور مراد وهبة مقالًا بالأهرام، في يوم الثلاثاء 12 أبريل/نيسان 2016، بعنوان: هل ماتت الحقيقة المطلقة؟ وبدايته كانت: "كن جريئًا في إعمال عقلك إذا كنت تريد إحداث ثورة دينية أو ثورة فكرية". وهذا هو شعار ومعنى التنوير كما سبق وعرضت له في مقالي السابق هنا عن المجال العام. ومقال الدكتور مراد وهبة في الحقيقة ملهم لاستكمال التفكير والكتابة، لكن هذه المرة عن الدين وبدايته وعن الحقيقة المطلقة.
في البداية أود الإشارة إلى أن للدكتور مراد وهبة كتيبات صغيرة وبسيطة وتعريفية عن الفكر، يضعها في شكل قصص، وكان منها كتيب "قصة الفلسفة"؛ ويحكي فيه لكل محب للفلسفة قصة هذا العلم أو الفن منذ بدايته إلى ما وصلنا إليه (الكتيب صدر عام 1968)، وفيه يقول إن الفلسفة هي سؤال عن المطلق، كانت البداية عندما أطلّ على عقل الفيلسوف اليوناني القديم طاليس سؤال عن المطلق تحديدًا؛ ما هو المطلق؟ وهل للمطلق معنى إلا بمقابل "النسبي"؛ وما هو ذلك النسبي؟ إن الصلة (أو "الجدلية") بين "المطلق" و "النسبي" هي "أن الإنسان يبحث عن المطلق دون أن يقتنصه" وتلك هي قصة الفلسفة كما يكتبها ويراها مراد وهبة ببساطة.
ولوهبة كتيب ثان بنفس الأسلوب والبساطة عن "قصة علم الجمال" وبعض قضاياه دون تعقيد أو تبحر في المناهج والنظريات. وأخيرًا، له كتاب عن "قصة الديالكتيك" وفيه يحكي قصة الجدل وتطوره عبر العصور، منذ العصر اليوناني القديم ومرورًا بالعصرين الوسيط والحديث، حتى وقتنا الراهن. على كل حال في هذه الكتب وغيرها، تشغل دائما العلاقة الجدلية بين المطلق والنسبي، وبين المذاهب الفلسفية المغلقة والمذاهب الفلسفية المفتوحة عقل وتفكير الدكتور مراد. وهو نفسه يشير في أحد أشهر وأشمل كتبه التي توضح رؤيته، "مُلاك الحقيقة المطلقة"، إلى أن الفكرة المحورية في فلسفته كانت دائمًا هي النضال ضد الروح الدوجماطيقية أي تلك التي تتوهم اقتناص الحقيقة المطلقة.
نعود لسؤال المطلق. في الفتوحات المكية يعتقد محيي الدين بن عربي أن الإنسان اكتشف الله بعد أن ظهر - هذا الإنسان - بعشرة آلاف سنة. هذا السؤال دائمًا ما يشغل بال الفلاسفة والمتكلمين وبعض المتصوفين؛ بداية ظهور الإله بشكل عام، ما هي تلك اللحظة التي ظهر فيها هذا المطلق.
في البداية كان ثمة نوعين من المطلق، الأول هو المطلق الأسطوري أو الخرافي؛ زيوس وآبائه وإخوانه وأبنائه. قد تكون بداية ظهور هذا المطلق الأسطوري، والمقصود به الإله غير الطبيعي المفارق للوجود العيني، في أشعار هوميروس، وهذه الأشعار بدأت حوالي القرن التاسع قبل الميلاد وتطورت وأصبحت نصوصًا ثابتة في القرن السادس قبل الميلاد. وشخصية هوميروس نفسها لا يوجد دليل على وجودها من عدمه وحولها خلافات تاريخية وعلمية كبيرة. وحتى الأشعار والملاحم التي تركها، على الأغلب، تعتبر تراكمًا لقرون من الحكي الشفاهي؛ وبالتالي فمن الجائز أنه لم يوجد في أي وقت هوميروس هذا. ومع ثبات الأشعار والملاحم المنسوبة لهذه الشخصية التاريخية في القرن السادس قبل الميلاد، بدأت تظهر بعض الأفكار حول هذا المطلق الأسطوري ونفى بعض الفلاسفة وجوده لصالح مطلق آخر طبيعي. فقال طاليس مثلًا بأن الماء هو أصل الأشياء. ثم جاء بروتاجورس في القرن الخامس قبل الميلاد وكتب في مقدمة كتاب له بعنوان "الحقيقة" أنه لا يستطيع أن يعلم إن كانت هناك آلهة أم لا لأسباب كثيرة أهمها غموض المسألة وقصر الحياة. وتم اتهام بروتاجورس بالإلحاد ومن ثم تم الحكم عليه بالإعدام. وهو ما تكرر مع سقراط والذي تم اتهامه بإنكار الآلهة وإفساد الشباب.
وفي مقال الدكتور مراد وهبة الذي تحدثت عنه في البداية، يشير إلى أن الفيلسوف الألماني كانط في عام 1793 نشر كتابًا بعنوان "الدين في حدود العقل وحده" ويناقش فيه كانط، علاقة الأخلاق بالدين، وعلاقة الدين بالطبيعة الإنسانية وبطريقة استعمال الإنسان لحريته. وكيف يكون إيمان الإنسان الحر في دولة مدنية. ويفرق كانط بين الإيمان كدوجما استعلائية، وبين الإيمان العقلاني أو في حدود العقل وحده، إيمان "يخجل من الانزلاق في أيّ نوع من (الأفكار المفارقة) التي تتخطى حدود عقولنا".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1794 أرسل الملك فردريك فلهلم الثاني رسالة إلى كانط يرفض فيها كتابه هذا وما فعله من تشويه وحط من قدر للعقائد الجوهرية في المسيحية، ويطلب له الحسنى وأن يقدر مسؤوليته، وأن يكف عن ذلك في المستقبل وإلا تعرض لإجراءات صارمة. ورد كانط وتعهد بالتوقف عن الكتابة في مثل هذه الأمور وقال: "إن إنكار واستنكار ما يقتنع به المرء أمر مهين دنيء، لكن السكوت في حالة كهذه هو واجب المحكومين، وحتى لو كان كل ما يقوله الإنسان صحيحًا فليس من الواجب أن يصرّح بكل الحقيقة علانية". لكنه عاد للكتابة في هذا الموضوع بعد وفاة هذا الملك.
ونكمل مع مقال الدكتور مراد وهبة الذي يشير بعد كانط إلى كتاب حديث للاهوتى بريطاني هو دون كَبِت والكتاب بعنوان رئيسى هو "ما بعد الله" وعنوان فرعى "مستقبل الدين". يحكي هذا الكاتب قصة عن تصورات البشر قديما عن الله فيقول إنه "كان شبيهًا بالإنسان وجالسًا على عرش في معبد حجري فى قلب المدينة ومحاطًا بكهنة مهمتهم تنفيذ ما يصدره من قوانين. ومن هنا كانت السلطة الإلهية هى مصدر جميع السلطات". ثم يكمل كَبِت أن المشكلة هي "أن البشر أنفسهم هم بناة المدينة بل هم بناة المعبد، وراسمو صورة الله، وبعد ذلك أسسوا المعتقد ثم أعلنوا فجأة أن الله نفسه هو الذى اختار موقع المدينة وهو الذى صمم المعبد وهو الذى عيَن الكهنة". والحقيقة أن الباحث في هذا الأمر يجد العديد من النظريات والتصورات حول بداية ظهور الإله، الخالق الأول، بل وحتى هناك نظريات وتصورات كثيرة حول تطوره، ثم بداية ظهور الدين فيما بعد. وهذا التعدد والتشعب "إنما يدل أوضح دلالة على ما في المشكلة الأصلية من عمق وطرافة"
وهذا هو ما قاله الدكتور سامي النشار في كتابه الطريف والبسيط عن "نشأة الدين". والدكتور سامي النشار كان أستاذًا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة فاروق الأول [الإسكندرية الآن]، وله كتاب آخر مهم بعنوان "نشأة الفكر الفلسفي"، وصدر عن دار المعارف. وأصدر كتاب "نشأة الدين" 1948 وأعاد مركز الإنماء الحضارى نشره في 1995 . يذهب الدكتور سامي في بحثه إلى أن الأفكار الرئيسية المسيطرة على النظريات الدينية هي فكرة التطور مقابل فكرة التوحيد أو الوحي الأول. وبشكل عام فإن الراجح هو أن الله وُجد قبل أن توجد طريقة عبادته: الطقوس/ الدين/ المراسم المقدسة. ويذهب التطوريون إلى تحليل ظهور الله والدين من خلال تحليل تطور حياة الإنسان نفسه. فالله – كما نعرفه الآن - لم يظهر مرة واحدة بل أخذ يتطور، من المادى الذى يسهل إدراكه، إلى تلك الفكرة الروحية الأكثر تعقيدًا؛ فكما أن التطور يسود الحياة البيولوجية للإنسان فإنه يسود أيضا الحياة العقلية له. إن الكائن ينتقل طبقا لقانون التطور من ماهية أدنى إلى ماهية أسمى ومن نوع بسيط إلى نوع أعلى وأكثر تعقيدًا؛ ومن ثم فمن الأولى أن يتطور هذا الإنسان في حياته الفكرية وأن تنتقل من طور إلى طور حتى تصل إلى كمالها النسبي لو جاز التعبير. وعلى العكس من ذلك نادى أصحاب فكرة التوحيد أو الوحي الأول بفطرة فكرة الله وأنكروا إنكارا باتًا نظرية التطور. واستندوا في ذلك على ظهور آثار وجود الله لدى المجتمعات البدائية كافة، "وعلى ما ندركه في أنفسنا من ناحية أخرى نحو هذه الفكرة الجليلة النبيلة "الله"". هذه الفكرة النبيلة والجليلة والمفارقة فيما يرى بعض علماء الأنثروبولوجي كان السبب الأول في ظهورها في طفولة الفكر الإنساني في البداية هو الخوف. وإليكم الحكاية: لقد كان الإنسان الأول يواجه ظواهر كثيرة دون أن يملك تفسيرًا لها، وكانت تلك الظواهر بالنسبة له مفزعة، بالإضافة إلى كونها غامضة؛ وهكذا - بشيء من التبسيط الاضطراري - صارت عادته أن يعبد ما لا يملك له تفسيرًا. هذا العقل لم يكن فقط عاجزًا عن تفسير الظواهر التي تحدث حوله، بل أيضًا لا يستطيع أن يعبد غير ما يراه، الشمس، القمر... بل وبعض الحيوانات أحيانًا. هناك أيضا من كان يعبد الأسلاف، الآباء، الأجداد، شيوخ القبيلة. ثم ارتقى هذا الإنسان وارتقى عقله وارتقت معه فكرة وجود إله أعلى.
بعد سؤال متى ظهر المطلق، ثمة سؤال آخر ما زال يحتاج إلى تأمل، مع كل هذا التقدم العلمي والمعرفي والصناعي الذي صنعته البشرية لنفسها وبنفسها، لماذا تظل هذه المشكلة الفلسفية موجودة وقائمة؟ ما هي الضرورة لوجود إله ووجود دين؟
يقول كانط إن الأخلاق تستطيع أن تقول لنا ماذا نفعل لكن الإنسان أيضا بحاجة لمعرفة "لأجل ماذا نفعل"، وثمة خيط رفيع يربط بين "ماذا" و "لأجل ماذا" فالربط بين ما يجب على الإنسان وبين نتيجة ذلك الواجب وغايته؛ يحقق السعادة لهذا الإنسان، شرط أن تكون الغاية حرة: "يمكن أن تساعد الإنسان على التّفكير في (غاية نهائيّة لواجباته) أوسع نطاقًا من مجرّد واجبه الخلقي، إلاّ أنّها (ناتجة عن تلك الواجبات ذاتها)". نفهم من هذا النص أن كانط، أهم فلاسفة التنوير، كان على شيء من التذبذب، ولم يصل إلى إنكار وجود الله إنكارًا مطلقًا، حتى في كتابه "نقد العقل العملي" حين قال "إن وجود الله فكرة يبعثها العقل المجرد، لكن لا يوجد لدينا سببًا وجيهًا لقبول والتسليم بهذه الفكرة تسليمًا مطلقًا". بل إنه، بعيدًا عن قضية وجود الله من عدمها، قال بضرورة الإيمان بوجود الله، الله المرتبط بمفهوم المثال الأسمى ومفهوم الخير، وكذلك السعادة والفضيلة. وله بحث و"ملاحظات عن الشعور بالجميل والجليل" والذي هو الكائن الأسمى، والفكرة النبيلة، الله.
وعلى مستوى الدين والإيمان، يرفض كانط إيمان "السُخرة" والذي لا يمكن النظر له بوصفه إيمانًا مخلصًا أبدًا؛ لأنه ليس خلقيًا. إن الإيمان المخلص بحق يجب أن يكون أولًا حرًا، ويجب أن يكون في حدود مجرد العقل. وهذا الإيمان الحر يحمل الفكرة النبيلة، "الله" الجميل والجليل، في قلب الإنسان بوصفه الخير الأقصى الممكن للبشر. وأنه ليس ثمة مخرج من الاستبداد الديني إلا بالإشارة والتنبيه بوجود مبادىء خلقية كونية للإيمان متقاسمة بين كافة عقول البشر.
https://almanassa.com/ar/story/1657
Published on April 28, 2016 09:09
April 23, 2016
في محبة القراءة 2 | مدح التواضع وذم الكبر
ماهر عبد الرحمن
في يوم 23 أبريل/نيسان من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للكتاب وهو تاريخ وفاة ثربانتس ووليام شكسبير وغيرهما من أعمدة الأدب العالمي. وفي عام 1995 اختار مؤتمر اليونسكو الذي عُقد في باريس هذا اليوم تقديرًا للكتاب والمبدعين، وتشجيعًا للقراءة بين جميع الناس، وخصوصًا الشباب. إنه يوم للكتاب ولحقوق المؤلف وللقراءة. وبهذه المناسبة ولهذه الذكرى أكتب، مرة ثانية، عن القراءة ومشوارها الممتد ومتعتها، وفي محبتها. والغرض من تلك الكتابة هو مجرد الإشارة والترشيح لبعض عناوين الكتب.
مدح التواضع وذم الكبر.. أبو القاسم على بن الحسن بن عساكر
ماذا تعلمنا القراءة؟ وماذا يعلمنا العلم بشكل عام؟ في ظني أن القراءة والعلم وتراكم الخبرة من الحياة تعلم، لذي البصيرة المتأمل، أن يكون متواضعًا. فعندما نتعلم خبرة جديدة يجب أن نتذكر أن هذا في معناه أننا كنا نجهل تلك المعلومة وليس ثمة سبب للكبر والحال كذلك.. وكان بعض الشيوخ يقولون لن تنال العلم إلا بالتواضع، وكان ابن المعتز يقول: "المتواضع فى طلاب العلم أكثرهم علمًا، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء"، وقيل إن الشافعي قال: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح". وللتواضع لغة هي التذلل، وتواضع الرجل إذا تذلل وخشع، وأصلها مأخوذ من تواضعت الأرض، وتذلل طالب العلم رفعة له وليس بمعنى الذل المنبوذ أبدًا، وفيها قال النبي في الحديث: "طوبى لمن تواضع في غير مسكنة". وهذا هو المقصود بالتواضع المستحب لعموم الناس، والواجب لطلبة العلم. والتواضع يصدق إن كان عن قدرة، كمِن القوي للضعيف، ومن العالِم لعموم الناس، ومن الغني مع الفقير. وقال الغزالي "إن التواضع هو وسط ما بين طرفين، طرف الكبر وطرف التخاسس والمذلة، وأن كلاهما ذميم وأن خير الأمور أوسطها.. ولا يزول الكبر بالتمني ولكن بقطع أصله وجذره من القلب".
كتب ابن عساكر رسالة في "مدح التواضع وذم الكبر"، وابن عساكر هو أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر (واسم عساكر شهرة وليس له من أجداده من كان اسمه كذلك) الدمشقي، وهو صاحب "تاريخ دمشق"، ذلك الكتاب الأشهر في مسيرته. وعلى ذكر التواضع فقد قيل في تواضع الإمام أحمد بن حنبل: "لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعَجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لا يتصدر، ويقعد حيث انتهى به المجلس".
ونعود لابن عساكر، فكان أبوه تقيا ورعًا، محبًا للعلم ومجالسة العلماء ورباه على ذلك. أما ابن عساكر نفسه فقد شغل نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلًا، وجعله هدفًا لا يصرفه عنه شيء، ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعًا في مال أو جاه، أعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد، فكافأه الله سعة في التأليف، وصيتًا لا يزال صداه يتردد حتى الآن، ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام. ورسالته تقع في أقل من 60 صفحة وهي من نوع المصنفات التي تعرف بالأمالي؛ وتعني الدروس التي يمليها الشيخ على تلاميذ مجلسه.
ويفتتح هذه الرسالة بحديث النبي: "لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من كبر". وأملى على طلبته أن الفضل بن يحيى دخل ذات يوم على أبيه وأنا عنده، وهو يتبختر في مشيته فكره ذلك منه، فقال لي يحيى: "يا أبا عبد الله أتدري ما بقى الحكيم في طرسه؟" (والطرس هو الكتاب الذي يمحوه صاحبه ويعيد كتابته) فقلت: لا، فقال: إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها سيئة غطت على حسنتين كبيرتين".
سامي الدروبي وإحسان بيات الدروبي
هذا التواضع الذي صنف فيه ابن عساكر كتابه وأماليه على طلابه، نستطيع أن نجده سلوكًا وتطبيقًا عند كاتب ومترجم ومفكر كبير من عصرنا وهو المترجم السوري الراحل سامي الدروبي. وقد كتبت ذات مرة في مكان آخر عن كتاب زوجته السيدة إحسان بيات الدروبي والذي كان بعنوان "سامي الدروبي"، وفي كتابها هذا تذكر قصة تعارفهما وطلبه للزواج منها فتقول إن في 7 أبريل/نيسان 1954 كان أول لقاء في حرم الجامعة، ووقع ما يُسَمّى بالحب من أول نظرة ولم تمضِ أربعة أيام حتى فاتحها بطلب يدها، وحدث أن قرأ الفاتحة معها في الحرم الجامعي. تذكر إحسان في كتابها: "لعله كان أسرع قرار اُتُّخِذَ في قضية زواج قُدِّرَ له فيما بعد أن يكون ناجحًا كل النجاح". وقبل أن تقوم بإبلاغ العائلة، توجَّهَتْ إلى منزل صديقتها ونسيبتها ألفة الإدلبي لتخبرها، فباركت لها هذه الخطوبة وهنأتها على جرأتها، وقالت لها: "يا ابنتي الزواج شيء شخصي جدًا، ويعود قبل كل شيء إلى قناعة الزوجين ببعضهما". وأُعلنت في اليوم التالي خطوبة الأستاذ سامي الدروبي على الطالبة الإذاعية إحسان بيات. بعد الخطوبة طلب منها الاستقالة من عملها الإذاعي للتفرغ كسكرتيرة له، وكان له ما أراد. وكان أول عمل مشترك بينهما ترجمة كتاب "مذلون مهانون" لدوستويفسكي. كان يمسك النص الفرنسي بيده ويُملي عليها بالعربية فتكتب وكانت هذه الطريقة في العمل توفر الكثير من الوقت، وكان قبل ذلك ترجم قصة "نيتوتشكا" لدوستويفسكي.
في رأي سامي الدروبي ورؤيته لمهمة وأدب المترجم ما يدل على شخصية غاية في التواضع رغم كل العظمة، درس في التواضع الكبير من شخص ذي قامة عالية. فكان يرى "أن الترجمة قبل كل شيء، إحساس بالمسؤولية تجاه الكلمة التي أترجم بها، إحساس بالمسؤولية مقرون بالواجب يتجاوز حدود الأنا في مستوى أوسع للـ(نحن). وبالتالي، هل يصبّ هذا العمل في مصلحة وخدمة الـ(نحن) وهنا المسؤولية، أم في مصلحة وخدمة الأنا وهنا الأنانية، والشعور بالفوقية، وحب الظهور، والكبرياء، والادّعاء الكاذب، والأقنعة المخيفة. وبالتالي، فالترجمة قبل كل شيء، تعني التواضع، لأنه وبدون التواضع ليس بوسعي أن أقدِّر عظمة القيمة المختبئة في العمل الذي أترجمه، هذا من جهة، وبدون التواضع ليس بوسعي احترام الآخر الذي أترجم له هذه القيمة الإبداعية أو الحضارية أو الجمال، فإن كنت متواضعًا لنحَرْتُ أنانيتي وأظهرت الآخر المبدِع إلى الآخر القارئ، أما أنا فأكون قد تواريتُ في عدمي الخاص، في إحساسي بالخجل من أنني لا شيء، ولست شيئًا، ولن أكون يومًا شيئًا ما".
عائشة عبد الرحمن مع أبي العلاء المعري
فى 25 مايو/آيار عام 1998 نشرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن مقالها الثابت فى الأهرام وكان عن ولاّدة بنت المستكفى والشاعر الوزير ابن زيدون، وصدّرت تلك المقالة الطريفة - ضمن مقالاتها عن تلك الملهمة وهذا الشاعر - برسالة من زميلها الأديب والكاتب ثروت أباظة، وكتب لها: "تفضلت الأستاذة الدكتورة.. بهذه الصفحات لتكون بداية تجديد فى الصفحة الأدبية على أمل كريم منها أن يتبع ما كتبته بمثل يسيل فى مجراه ويسير على هداه ونسيت أستاذتنا الدكتورة أنه ليس فى العالم العربى إلا عائشة عبد الرحمن واحدة وأن الجدول الذى يصفق فيه أدبها، يمتنع على أدب غيره أن يدلف إليه". وكلمات هذه الرسالة الرقيقة يمكن أن تصف كل كتابة بنت الشاطيء، لا كتابتها عن ولادة فقط، وإنما أيضًا عن أبي العلاء المعري، وعن سيدات بيت النبوة، وتفسيرها للقرآن، كما يمكن أن تنطبق على قصة حياتها وعلاقتها بالشيخ أمين الخولى والتي كتبتها في كتابها "على الجسر". لكني هنا سأكتفي بكتابها عن أبي العلاء. وقد ناقشت في عام 1950 رسالتها لنيل درجة الدكتوراة بموضوع بحث عن رسالة "الغفران، دراسة نقدية".
ورسالة الغفران هي أحد أهم وأصعب أعمال أبي العلاء؛ غير أن هذه الباحثة الجادة ظلت قائمة على تحقيق وبحث ودرس الغفران وغيرها (أضافت فصل عن رسالة الصاهل والشاحج في طبعات متقدمة لرسالتها الأصلية للدكتوراة) وقد أخرجت تحقيقًا مهمًا بعد سبع سنوات من الدرس، وصدر في سلسلة الذخائر بدار المعارف. أما رسالتها فكانت دراسة نقدية عن نص رسالة الغفران. وقد ناقشها وأجازها بدرجة ممتاز، عميد الأدب ودارس أي العلاء الدكتور طه حسين. وكان في تلك المناقشة أيضا الكاتب والمفكر الكبير أحمد أمين. وفيما بعد كتبت الدكتور عائشة كتابً بسيطًا وتعريفيًا عن أبي العلاء لتقدمه للقاريء العادي في السلسلة الشهيرة والمفيدة والمهمة التي كانت تصدرها "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" و "المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر" وهي سلسلة "أعلام العرب" (وأتمنى أن أجد فرصة للكتابة عن هذه السلسلة وعن بعض عناوينها المهمة التي قرأتها وتعلمت منها ومازلت، وأيضا السلسلة التي قام بكتابتها سليمان فياض وصدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، عن "علماء العرب")
غير أن معرفة ودراسة ومعرفة بنت الشاطئ لأبي العلاء تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد كتاب تعريفي بسيط؛ فأنجزت كتابها "مع أبي العلاء المعري.. في رحلة حياته" وفاء للشاعر والفيلسوف بالأساس، أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري. وهي نفسها أشارت لهذا فقالت "قدمت أبا العلاء في (سلسلة أعلام العرب) على رجاء العودة إليه، لأقدمه في طبعة منهجية حرة، غير مقيدة بسلاسل أو حلقات، وهذه هي محاولتي هنا، بعد طول صحبة لأبي العلاء في تراثه، وتخصص في تحقيقه ودراسته، راجية أن يطمئن القاريء إلى أنني في ترجمتي لأبي العلاء، اعتمد أصالة على ما تم لي من فهم لشخصيته، واستقراء لمصادر دراسته فيما وصل إلينا من آثاره، ثم في أقول مؤرخيه". وبنت الشاطيء في دراستها وكتابتها عن أبي العلاء، تثبت أنها باحثة جيدة وعظيمة وتلميذة نجيبة لطه حسين المتنور وأيضا لزوجها وأستاذها وشيخها، أمين الخولي، فطه حسين في "صوت أبي العلاء" و"مع أبي العلاء في سجنه" كان مدافعًا عن أبي العلاء وناقدًا له، وكذلك جاءت رسالة بنت الشاطيء وبحوثها فيما بعد. رغم كل ما لاقاه أبو العلاء من تكفير وهجوم عليه كونه أعمل عقله واجتهد. وكانت وصيته التي بقيت وتبقى لنا وغيرنا هي في قوله: "أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي" وليس غيره.
وفي الختام أود أن أتركك يا صديقي القارئ العزيز مع بعض مقتطفات من رسائل المفكر الإيطالي الكبير جرامشي من السجن..
رسائل السجن لأنطونيو جرامشي
جرامشي هو المفكر الإيطالي الكبير والمناضل الماركسي كذلك. تظل "كراسات السجن" هي عمله واسهامه النظري المهم في النظرية الماركسية، وفيها أفكاره المهمة عن دور الحزب السياسي والمجتمع المدني والعلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية من منظور اجتهاده داخل النظرية الماركسية. لقد كانت كراسات السجن كما كتب هو بمثابة "بؤرة حياتي الداخلية". لكن هذه الرسائل التي كتبها إلى أمه هي جانب آخر من جوانب هذا الإنسان العظيم، والمناضل الصلب والمثال.. يقول لأمه في إحدى الرسائل: "في العمق، وبطريقة أو بأخرى، أنا مَن أراد هذا السجن وهذه المحاكمة، بما أني لم أتراجع أبدًا عن آرائي التي من أجلها أنا مستعد للتضحية بحياتي وليس فقط البقاء في السجن. وبالنتيجة، لن أكون إلا فرحًا ومرتاحًا من نفسي". فكل اختيار تتبعه عواقب.. نقبلها باطمئنان وراحة بال وضمير. ثم يظل يخبر أمه بأنه رغم كل تلك الظروف القاسية، على يقين ورضا تام بصواب اختياره وانحيازه السياسي والفكري والاجتماعي، لصالح الإنسان والأفكار الاشتراكية والفلاحين والطبقة العاملة "فكّري أنني مطمئن تمامًا، ومتيقّن أن هذه القضية ستؤول إلى نهاية جيدة وسريعة". ويطلب منها في إحدى رسائله وكان يوقع لها باسمه الذي كانت تدلله به "نينو".. "ولنلخص ما قلته: أنا بصحة جيدة ولست مكتئبًا. أقدم جميع أشكال التهنئة بمناسبة عيد ميلادك القادم أرسلي إلى صورة جميلة لك، لكن التقطيها كما لو كنت في البيت ودون فخفخة، أليس كذلك؟ ودون تأنق زائد. أقبلك بقوة. نينو".
https://almanassa.com/ar/story/1539/c...
في يوم 23 أبريل/نيسان من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للكتاب وهو تاريخ وفاة ثربانتس ووليام شكسبير وغيرهما من أعمدة الأدب العالمي. وفي عام 1995 اختار مؤتمر اليونسكو الذي عُقد في باريس هذا اليوم تقديرًا للكتاب والمبدعين، وتشجيعًا للقراءة بين جميع الناس، وخصوصًا الشباب. إنه يوم للكتاب ولحقوق المؤلف وللقراءة. وبهذه المناسبة ولهذه الذكرى أكتب، مرة ثانية، عن القراءة ومشوارها الممتد ومتعتها، وفي محبتها. والغرض من تلك الكتابة هو مجرد الإشارة والترشيح لبعض عناوين الكتب.
مدح التواضع وذم الكبر.. أبو القاسم على بن الحسن بن عساكر
ماذا تعلمنا القراءة؟ وماذا يعلمنا العلم بشكل عام؟ في ظني أن القراءة والعلم وتراكم الخبرة من الحياة تعلم، لذي البصيرة المتأمل، أن يكون متواضعًا. فعندما نتعلم خبرة جديدة يجب أن نتذكر أن هذا في معناه أننا كنا نجهل تلك المعلومة وليس ثمة سبب للكبر والحال كذلك.. وكان بعض الشيوخ يقولون لن تنال العلم إلا بالتواضع، وكان ابن المعتز يقول: "المتواضع فى طلاب العلم أكثرهم علمًا، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء"، وقيل إن الشافعي قال: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح". وللتواضع لغة هي التذلل، وتواضع الرجل إذا تذلل وخشع، وأصلها مأخوذ من تواضعت الأرض، وتذلل طالب العلم رفعة له وليس بمعنى الذل المنبوذ أبدًا، وفيها قال النبي في الحديث: "طوبى لمن تواضع في غير مسكنة". وهذا هو المقصود بالتواضع المستحب لعموم الناس، والواجب لطلبة العلم. والتواضع يصدق إن كان عن قدرة، كمِن القوي للضعيف، ومن العالِم لعموم الناس، ومن الغني مع الفقير. وقال الغزالي "إن التواضع هو وسط ما بين طرفين، طرف الكبر وطرف التخاسس والمذلة، وأن كلاهما ذميم وأن خير الأمور أوسطها.. ولا يزول الكبر بالتمني ولكن بقطع أصله وجذره من القلب".
كتب ابن عساكر رسالة في "مدح التواضع وذم الكبر"، وابن عساكر هو أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر (واسم عساكر شهرة وليس له من أجداده من كان اسمه كذلك) الدمشقي، وهو صاحب "تاريخ دمشق"، ذلك الكتاب الأشهر في مسيرته. وعلى ذكر التواضع فقد قيل في تواضع الإمام أحمد بن حنبل: "لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعَجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لا يتصدر، ويقعد حيث انتهى به المجلس".
ونعود لابن عساكر، فكان أبوه تقيا ورعًا، محبًا للعلم ومجالسة العلماء ورباه على ذلك. أما ابن عساكر نفسه فقد شغل نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلًا، وجعله هدفًا لا يصرفه عنه شيء، ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعًا في مال أو جاه، أعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد، فكافأه الله سعة في التأليف، وصيتًا لا يزال صداه يتردد حتى الآن، ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام. ورسالته تقع في أقل من 60 صفحة وهي من نوع المصنفات التي تعرف بالأمالي؛ وتعني الدروس التي يمليها الشيخ على تلاميذ مجلسه.
ويفتتح هذه الرسالة بحديث النبي: "لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من كبر". وأملى على طلبته أن الفضل بن يحيى دخل ذات يوم على أبيه وأنا عنده، وهو يتبختر في مشيته فكره ذلك منه، فقال لي يحيى: "يا أبا عبد الله أتدري ما بقى الحكيم في طرسه؟" (والطرس هو الكتاب الذي يمحوه صاحبه ويعيد كتابته) فقلت: لا، فقال: إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها سيئة غطت على حسنتين كبيرتين".
سامي الدروبي وإحسان بيات الدروبي
هذا التواضع الذي صنف فيه ابن عساكر كتابه وأماليه على طلابه، نستطيع أن نجده سلوكًا وتطبيقًا عند كاتب ومترجم ومفكر كبير من عصرنا وهو المترجم السوري الراحل سامي الدروبي. وقد كتبت ذات مرة في مكان آخر عن كتاب زوجته السيدة إحسان بيات الدروبي والذي كان بعنوان "سامي الدروبي"، وفي كتابها هذا تذكر قصة تعارفهما وطلبه للزواج منها فتقول إن في 7 أبريل/نيسان 1954 كان أول لقاء في حرم الجامعة، ووقع ما يُسَمّى بالحب من أول نظرة ولم تمضِ أربعة أيام حتى فاتحها بطلب يدها، وحدث أن قرأ الفاتحة معها في الحرم الجامعي. تذكر إحسان في كتابها: "لعله كان أسرع قرار اُتُّخِذَ في قضية زواج قُدِّرَ له فيما بعد أن يكون ناجحًا كل النجاح". وقبل أن تقوم بإبلاغ العائلة، توجَّهَتْ إلى منزل صديقتها ونسيبتها ألفة الإدلبي لتخبرها، فباركت لها هذه الخطوبة وهنأتها على جرأتها، وقالت لها: "يا ابنتي الزواج شيء شخصي جدًا، ويعود قبل كل شيء إلى قناعة الزوجين ببعضهما". وأُعلنت في اليوم التالي خطوبة الأستاذ سامي الدروبي على الطالبة الإذاعية إحسان بيات. بعد الخطوبة طلب منها الاستقالة من عملها الإذاعي للتفرغ كسكرتيرة له، وكان له ما أراد. وكان أول عمل مشترك بينهما ترجمة كتاب "مذلون مهانون" لدوستويفسكي. كان يمسك النص الفرنسي بيده ويُملي عليها بالعربية فتكتب وكانت هذه الطريقة في العمل توفر الكثير من الوقت، وكان قبل ذلك ترجم قصة "نيتوتشكا" لدوستويفسكي.
في رأي سامي الدروبي ورؤيته لمهمة وأدب المترجم ما يدل على شخصية غاية في التواضع رغم كل العظمة، درس في التواضع الكبير من شخص ذي قامة عالية. فكان يرى "أن الترجمة قبل كل شيء، إحساس بالمسؤولية تجاه الكلمة التي أترجم بها، إحساس بالمسؤولية مقرون بالواجب يتجاوز حدود الأنا في مستوى أوسع للـ(نحن). وبالتالي، هل يصبّ هذا العمل في مصلحة وخدمة الـ(نحن) وهنا المسؤولية، أم في مصلحة وخدمة الأنا وهنا الأنانية، والشعور بالفوقية، وحب الظهور، والكبرياء، والادّعاء الكاذب، والأقنعة المخيفة. وبالتالي، فالترجمة قبل كل شيء، تعني التواضع، لأنه وبدون التواضع ليس بوسعي أن أقدِّر عظمة القيمة المختبئة في العمل الذي أترجمه، هذا من جهة، وبدون التواضع ليس بوسعي احترام الآخر الذي أترجم له هذه القيمة الإبداعية أو الحضارية أو الجمال، فإن كنت متواضعًا لنحَرْتُ أنانيتي وأظهرت الآخر المبدِع إلى الآخر القارئ، أما أنا فأكون قد تواريتُ في عدمي الخاص، في إحساسي بالخجل من أنني لا شيء، ولست شيئًا، ولن أكون يومًا شيئًا ما".
عائشة عبد الرحمن مع أبي العلاء المعري
فى 25 مايو/آيار عام 1998 نشرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن مقالها الثابت فى الأهرام وكان عن ولاّدة بنت المستكفى والشاعر الوزير ابن زيدون، وصدّرت تلك المقالة الطريفة - ضمن مقالاتها عن تلك الملهمة وهذا الشاعر - برسالة من زميلها الأديب والكاتب ثروت أباظة، وكتب لها: "تفضلت الأستاذة الدكتورة.. بهذه الصفحات لتكون بداية تجديد فى الصفحة الأدبية على أمل كريم منها أن يتبع ما كتبته بمثل يسيل فى مجراه ويسير على هداه ونسيت أستاذتنا الدكتورة أنه ليس فى العالم العربى إلا عائشة عبد الرحمن واحدة وأن الجدول الذى يصفق فيه أدبها، يمتنع على أدب غيره أن يدلف إليه". وكلمات هذه الرسالة الرقيقة يمكن أن تصف كل كتابة بنت الشاطيء، لا كتابتها عن ولادة فقط، وإنما أيضًا عن أبي العلاء المعري، وعن سيدات بيت النبوة، وتفسيرها للقرآن، كما يمكن أن تنطبق على قصة حياتها وعلاقتها بالشيخ أمين الخولى والتي كتبتها في كتابها "على الجسر". لكني هنا سأكتفي بكتابها عن أبي العلاء. وقد ناقشت في عام 1950 رسالتها لنيل درجة الدكتوراة بموضوع بحث عن رسالة "الغفران، دراسة نقدية".
ورسالة الغفران هي أحد أهم وأصعب أعمال أبي العلاء؛ غير أن هذه الباحثة الجادة ظلت قائمة على تحقيق وبحث ودرس الغفران وغيرها (أضافت فصل عن رسالة الصاهل والشاحج في طبعات متقدمة لرسالتها الأصلية للدكتوراة) وقد أخرجت تحقيقًا مهمًا بعد سبع سنوات من الدرس، وصدر في سلسلة الذخائر بدار المعارف. أما رسالتها فكانت دراسة نقدية عن نص رسالة الغفران. وقد ناقشها وأجازها بدرجة ممتاز، عميد الأدب ودارس أي العلاء الدكتور طه حسين. وكان في تلك المناقشة أيضا الكاتب والمفكر الكبير أحمد أمين. وفيما بعد كتبت الدكتور عائشة كتابً بسيطًا وتعريفيًا عن أبي العلاء لتقدمه للقاريء العادي في السلسلة الشهيرة والمفيدة والمهمة التي كانت تصدرها "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" و "المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر" وهي سلسلة "أعلام العرب" (وأتمنى أن أجد فرصة للكتابة عن هذه السلسلة وعن بعض عناوينها المهمة التي قرأتها وتعلمت منها ومازلت، وأيضا السلسلة التي قام بكتابتها سليمان فياض وصدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، عن "علماء العرب")
غير أن معرفة ودراسة ومعرفة بنت الشاطئ لأبي العلاء تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد كتاب تعريفي بسيط؛ فأنجزت كتابها "مع أبي العلاء المعري.. في رحلة حياته" وفاء للشاعر والفيلسوف بالأساس، أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري. وهي نفسها أشارت لهذا فقالت "قدمت أبا العلاء في (سلسلة أعلام العرب) على رجاء العودة إليه، لأقدمه في طبعة منهجية حرة، غير مقيدة بسلاسل أو حلقات، وهذه هي محاولتي هنا، بعد طول صحبة لأبي العلاء في تراثه، وتخصص في تحقيقه ودراسته، راجية أن يطمئن القاريء إلى أنني في ترجمتي لأبي العلاء، اعتمد أصالة على ما تم لي من فهم لشخصيته، واستقراء لمصادر دراسته فيما وصل إلينا من آثاره، ثم في أقول مؤرخيه". وبنت الشاطيء في دراستها وكتابتها عن أبي العلاء، تثبت أنها باحثة جيدة وعظيمة وتلميذة نجيبة لطه حسين المتنور وأيضا لزوجها وأستاذها وشيخها، أمين الخولي، فطه حسين في "صوت أبي العلاء" و"مع أبي العلاء في سجنه" كان مدافعًا عن أبي العلاء وناقدًا له، وكذلك جاءت رسالة بنت الشاطيء وبحوثها فيما بعد. رغم كل ما لاقاه أبو العلاء من تكفير وهجوم عليه كونه أعمل عقله واجتهد. وكانت وصيته التي بقيت وتبقى لنا وغيرنا هي في قوله: "أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي" وليس غيره.
وفي الختام أود أن أتركك يا صديقي القارئ العزيز مع بعض مقتطفات من رسائل المفكر الإيطالي الكبير جرامشي من السجن..
رسائل السجن لأنطونيو جرامشي
جرامشي هو المفكر الإيطالي الكبير والمناضل الماركسي كذلك. تظل "كراسات السجن" هي عمله واسهامه النظري المهم في النظرية الماركسية، وفيها أفكاره المهمة عن دور الحزب السياسي والمجتمع المدني والعلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية من منظور اجتهاده داخل النظرية الماركسية. لقد كانت كراسات السجن كما كتب هو بمثابة "بؤرة حياتي الداخلية". لكن هذه الرسائل التي كتبها إلى أمه هي جانب آخر من جوانب هذا الإنسان العظيم، والمناضل الصلب والمثال.. يقول لأمه في إحدى الرسائل: "في العمق، وبطريقة أو بأخرى، أنا مَن أراد هذا السجن وهذه المحاكمة، بما أني لم أتراجع أبدًا عن آرائي التي من أجلها أنا مستعد للتضحية بحياتي وليس فقط البقاء في السجن. وبالنتيجة، لن أكون إلا فرحًا ومرتاحًا من نفسي". فكل اختيار تتبعه عواقب.. نقبلها باطمئنان وراحة بال وضمير. ثم يظل يخبر أمه بأنه رغم كل تلك الظروف القاسية، على يقين ورضا تام بصواب اختياره وانحيازه السياسي والفكري والاجتماعي، لصالح الإنسان والأفكار الاشتراكية والفلاحين والطبقة العاملة "فكّري أنني مطمئن تمامًا، ومتيقّن أن هذه القضية ستؤول إلى نهاية جيدة وسريعة". ويطلب منها في إحدى رسائله وكان يوقع لها باسمه الذي كانت تدلله به "نينو".. "ولنلخص ما قلته: أنا بصحة جيدة ولست مكتئبًا. أقدم جميع أشكال التهنئة بمناسبة عيد ميلادك القادم أرسلي إلى صورة جميلة لك، لكن التقطيها كما لو كنت في البيت ودون فخفخة، أليس كذلك؟ ودون تأنق زائد. أقبلك بقوة. نينو".
https://almanassa.com/ar/story/1539/c...
Published on April 23, 2016 13:54
April 18, 2016
أحمد بن حنبل الذي لا يعرفه أحد!
ماهر عبد الرحمن
في مقدمة الشيخ محمد عبده لكتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب، كتب أنه اطلع على هذا الكتاب بالصدفة البحتة، وأنه تصفحه في البداية باعتباره "تسلية" لنفسه ولروحه عن مشاغل الدنيا. لكنه بعد عدة صفحات ومع التأمل قال "كان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة". ومن ثم وجد الشيخ في نفسه الهمة والرغبة ألا يكتفي بالمطالعة بل يصاحبها بالمراجعة، تصونا للذاكرة من النسيان. غير أن ما فعله كان أكبر من ذلك بطبيعة الحال؛ فقد جاء تحقيقا كافيا، وشرحا وافيا، وضبطا للنصوص عظيم الفائدة والجهد.
وفي تراثنا الإسلامي هناك معين لا ينضب من العلوم والفلسفة والأخلاق والتاريخ والمعاني والبلاغة، وفكرت وتذكرت عندما طُلب مني الكتابة هنا، ما كتبه الشيخ محمد عبده، والتمثيل مع الفارق طبعا، أن يصحب المطالعة المراجعة والكتابة عن بعض ما قرأته من كتب التراث تلك، تصونا للذكرة من النسيان. بما يتناسب مع المقام والمساحة هنا، والقدرة. وحسبي دائما قول ابن خلكان صاحب "وفيات الأعيان" بأن ما أكتبه وقد بذلت فيه كل جهدي يبقى، مع ذلك، "جهد المُقل، وبذل الاستطاعة، وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه، وفوق كل ذي علم عليم".
اسم الكتاب: مناقب الإمام أحمد بن حنبل
تأليف: أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي
في البداية ومع كل التحفظ على ابن الجوزي فيما أورده من روايات عن الإمام أحمد في كتابه هذا؛ فابن الجوزي كغيره في هذا الباب ممن يذكرون الأقوال والحكايات على عهدة الإسناد إلى راويها؛ رغم تعارضها مع ما هو متواتر عن الإمام أحمد وعن السنة نفسها. وياليت العمر يسعف لقراءة كل حرف خطه الإمام أحمد أو خُط عنه؛ لما له من قامة ونفس عالية.
ولعلي أرى في تشدد مذهب الإمام أحمد بن حنبل أثرا من تشدده وصدقه وإخلاصه واتساقه وزهده وصدقه في الحياة.. ورغم أني لما كنت طالب علم ومتوفر لدرس الفقه والحديث، كنت أدرس على المذهب الشافعي، سواء من طريق "متن الغاية والتقريب" أو غيره من الأصول والمتون المعتبرة.
رغم ذلك كانت شخصية الإمام أحمد، لا مذهبه، هي الأقرب إلي في هذا الوقت. وسوف أذكر ما كان يكبره في نظري هذا العالم الفذ والرجل الشريف المخلص. فذكر الجوزي في مناقب الإمام أحمد، أنه بحث "عن نائلي مرتبة الكمال في الأَمرين-أَعني العلم والعمل- من التابعين ومن بعدهم، فلم أَجد من تمَّ له الأَمران على الغاية التي لا يخدش وجه كمالها نَوع نقص، سوى ثلاثة أَشخاص: الحسن البصري، وسُفيان الثوري، وأحمد بن حنبل".
وعاش الإمام أحمد طول عمره فقيرًا محدودًا وكان يفضل ذلك على أن يكون ذا مال لا يتأكد أنه حلال خالص، أو حتى من عطاء أو منة من أحد. وكثيرا ما اضطرته الحاجة إلى أن يعمل بيديه ليكسب أو يؤجر نفسه في عمل من الأعمال.. والأصل أنه كان يعيش من إيجار منزل تركه له أبوه، لكن هذا الإيجار لم يكن يعيله ولا يعيل بيته بعد أن تزوج متأخرا (في الأربعين)؛ والذي أخره في الزواج هو أنه كان منشغلا بطلب العلم والسفر الدائم خلف الأحاديث التي أثبتها في مسنده، وبعبارة ابن الجوزي أن الإمام أحمد قبل الأربعين "لم ينشغل بكسب ولا نكاح".
ومما يروى عنه وقد كان أحد تلاميذ الإمام الشافعي في العراق، وقد التزم مجلسه ولم يكن يفارقه إلا لطلب العلم هنا أو هناك، ولاحظ الشافعي أن ابن حنبل يسافر اليمن لعبد الرزاق بن همام لطلب الحديث منه، "ولاحظ بعد الشقة وعظم المشقة" بسبب قلة المال؛ ولما كان الخليفة الأمين قد طلب من الشافعي أن يختار قاضيا لليمن فعرض الأمر على ابن حنبل من باب التسهيل عليه، فرفض الإمام أحمد غير مرة وقال بأدب جم لشيخه وأحد أئمة المسلمين، ولكن بوضوح، مع ذلك، وحسم وتشديد كعادته، قال له: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ منك هذا ثانياً لم ترني عندك.
وكان يقول أنه سمع عن أبيه: ليسَ يَتَّقي مَنْ لا يَدري ما يَتَّقي. وكان يقول في الزواج: تزوج ببكر واحرص أن لا يكون لها أم :).
وقال ابن الجوزي عنه: كان أحمد يذكر الجرح والتعديل والعلل من حفظه إذا سئل كما يقرأ الفاتحة.
رحم الله الإمام أحمد وجزاه كل الخير عما اجتهد فيه بصدق، عانى في سبيله ما اعتقد في صوابه بمحبة وتقرب وابتغاء مرضاة الله. وكان أكثر الأئمة قولا: لاأدري.
وكذلك رحم الله ابن الجوزي الذي تصدر لكتابة مناقب شيخ شيوخه الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين.
http://www.tahrirnews.com/posts/41099...
في مقدمة الشيخ محمد عبده لكتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب، كتب أنه اطلع على هذا الكتاب بالصدفة البحتة، وأنه تصفحه في البداية باعتباره "تسلية" لنفسه ولروحه عن مشاغل الدنيا. لكنه بعد عدة صفحات ومع التأمل قال "كان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة". ومن ثم وجد الشيخ في نفسه الهمة والرغبة ألا يكتفي بالمطالعة بل يصاحبها بالمراجعة، تصونا للذاكرة من النسيان. غير أن ما فعله كان أكبر من ذلك بطبيعة الحال؛ فقد جاء تحقيقا كافيا، وشرحا وافيا، وضبطا للنصوص عظيم الفائدة والجهد.
وفي تراثنا الإسلامي هناك معين لا ينضب من العلوم والفلسفة والأخلاق والتاريخ والمعاني والبلاغة، وفكرت وتذكرت عندما طُلب مني الكتابة هنا، ما كتبه الشيخ محمد عبده، والتمثيل مع الفارق طبعا، أن يصحب المطالعة المراجعة والكتابة عن بعض ما قرأته من كتب التراث تلك، تصونا للذكرة من النسيان. بما يتناسب مع المقام والمساحة هنا، والقدرة. وحسبي دائما قول ابن خلكان صاحب "وفيات الأعيان" بأن ما أكتبه وقد بذلت فيه كل جهدي يبقى، مع ذلك، "جهد المُقل، وبذل الاستطاعة، وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه، وفوق كل ذي علم عليم".
اسم الكتاب: مناقب الإمام أحمد بن حنبل
تأليف: أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي
في البداية ومع كل التحفظ على ابن الجوزي فيما أورده من روايات عن الإمام أحمد في كتابه هذا؛ فابن الجوزي كغيره في هذا الباب ممن يذكرون الأقوال والحكايات على عهدة الإسناد إلى راويها؛ رغم تعارضها مع ما هو متواتر عن الإمام أحمد وعن السنة نفسها. وياليت العمر يسعف لقراءة كل حرف خطه الإمام أحمد أو خُط عنه؛ لما له من قامة ونفس عالية.
ولعلي أرى في تشدد مذهب الإمام أحمد بن حنبل أثرا من تشدده وصدقه وإخلاصه واتساقه وزهده وصدقه في الحياة.. ورغم أني لما كنت طالب علم ومتوفر لدرس الفقه والحديث، كنت أدرس على المذهب الشافعي، سواء من طريق "متن الغاية والتقريب" أو غيره من الأصول والمتون المعتبرة.
رغم ذلك كانت شخصية الإمام أحمد، لا مذهبه، هي الأقرب إلي في هذا الوقت. وسوف أذكر ما كان يكبره في نظري هذا العالم الفذ والرجل الشريف المخلص. فذكر الجوزي في مناقب الإمام أحمد، أنه بحث "عن نائلي مرتبة الكمال في الأَمرين-أَعني العلم والعمل- من التابعين ومن بعدهم، فلم أَجد من تمَّ له الأَمران على الغاية التي لا يخدش وجه كمالها نَوع نقص، سوى ثلاثة أَشخاص: الحسن البصري، وسُفيان الثوري، وأحمد بن حنبل".
وعاش الإمام أحمد طول عمره فقيرًا محدودًا وكان يفضل ذلك على أن يكون ذا مال لا يتأكد أنه حلال خالص، أو حتى من عطاء أو منة من أحد. وكثيرا ما اضطرته الحاجة إلى أن يعمل بيديه ليكسب أو يؤجر نفسه في عمل من الأعمال.. والأصل أنه كان يعيش من إيجار منزل تركه له أبوه، لكن هذا الإيجار لم يكن يعيله ولا يعيل بيته بعد أن تزوج متأخرا (في الأربعين)؛ والذي أخره في الزواج هو أنه كان منشغلا بطلب العلم والسفر الدائم خلف الأحاديث التي أثبتها في مسنده، وبعبارة ابن الجوزي أن الإمام أحمد قبل الأربعين "لم ينشغل بكسب ولا نكاح".
ومما يروى عنه وقد كان أحد تلاميذ الإمام الشافعي في العراق، وقد التزم مجلسه ولم يكن يفارقه إلا لطلب العلم هنا أو هناك، ولاحظ الشافعي أن ابن حنبل يسافر اليمن لعبد الرزاق بن همام لطلب الحديث منه، "ولاحظ بعد الشقة وعظم المشقة" بسبب قلة المال؛ ولما كان الخليفة الأمين قد طلب من الشافعي أن يختار قاضيا لليمن فعرض الأمر على ابن حنبل من باب التسهيل عليه، فرفض الإمام أحمد غير مرة وقال بأدب جم لشيخه وأحد أئمة المسلمين، ولكن بوضوح، مع ذلك، وحسم وتشديد كعادته، قال له: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ منك هذا ثانياً لم ترني عندك.
وكان يقول أنه سمع عن أبيه: ليسَ يَتَّقي مَنْ لا يَدري ما يَتَّقي. وكان يقول في الزواج: تزوج ببكر واحرص أن لا يكون لها أم :).
وقال ابن الجوزي عنه: كان أحمد يذكر الجرح والتعديل والعلل من حفظه إذا سئل كما يقرأ الفاتحة.
رحم الله الإمام أحمد وجزاه كل الخير عما اجتهد فيه بصدق، عانى في سبيله ما اعتقد في صوابه بمحبة وتقرب وابتغاء مرضاة الله. وكان أكثر الأئمة قولا: لاأدري.
وكذلك رحم الله ابن الجوزي الذي تصدر لكتابة مناقب شيخ شيوخه الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين.
http://www.tahrirnews.com/posts/41099...
Published on April 18, 2016 06:20
April 11, 2016
ما هو المجال العام؟
ماهر عبد الرحمن
في عام 1784 كتب إيمانويل كانط مقاله الشهير بعنوان: "ما هو التنوير؟"، والذي كان في سياق المناقشة التى طرحتها المجلة الألمانية المعروفة في هذا الوقت "مجلة برلين الشهرية" Berlinische Monatsschrift على مجموعة من المفكرين الألمان. وكان رد كانط موجهًا للسؤال الذى طرحه أحد القساوسة البروتستانت وهو يوهان فريدريش تسولنر وذلك في معرض انتقاد الأخير لفكرة الزواج المدني ودفاعه عن الزواج داخل الكنيسة باعتبار ذلك أفضل للدولة. وقد طرح هذا القس في مقاله وبعبارة تهكمية استفسارًا حول تعريف التنوير وهو ما لم يجده لدى دعاة التنوير، على حد وصفه، فكيف ينادى البعض بالتنوير قبل أن يعرفه لنا؟!
وقبل أن يكتب كانط مقاله الشهير في الرد على هذا القس، سبقه موسى مندلسون بمقال بعنوان: "حول سؤال: ما معنى التنوير؟"، وكتب تعريفًا عامًا للتنوير قال فيه: "إن كلًا من المعرفة والثقافة والتنوير هي بمثابة تعديل للحياة الاجتماعية.. ويهتم التنوير بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الأشياء الموجودة في الحياة الإنسانية تبعًا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الإنسان".
ثم كتب كانط مقاله الشهير والأكثر شمولًا والذي يجيب فيه عن سؤال: ما هو التنوير؟ في هذا المقال تظهر ولأول مرة عبارة "المجال العام" والتي سوف تأخذ تعريفها –وكذلك- شهرتها فيما بعد من كتابات هابرماس كما سنرى لاحقًا. ولا أظن أنه يمكن ذكر مقولة "المجال العام" كما أشار إليها كانط دون النظر إلى تعريفه للتنوير نفسه، فقد عرّف كانط التنوير بأنه هجرة الإنسان من القصور والذي يرجع إلى الإنسان ذاته، والقصور هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله دون معونة من الآخرين. هذا القصور سببه الإنسان ذاته، فهو لا يعود إلى قصور في الفهم أو العقل، ولكنه نقص في الإرادة وفي الجرأة في استخدام العقل دون الاعتماد على أحد. إن شعار التنوير هو ببساطة: كن جريئًا في استخدام عقلك. وبالتالي يستطيع الفرد أن يتحرر من الوصاية ويصبح متنورًا بالجرأة على التفكير واستخدام العقل. ثم يكمل كانط فكرته عن التنوير بأنه يمكن أيضا للجمهور – المكون من مجموعة من الأفراد في النهاية- أن يستنير طالما أنه حر، لكن لا يمكن للجمهور أن يبلغ التنوير بنفس القدر من السرعة التي تحدث للفرد؛ وهنا يبرز أن كانط، والذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية بلا شك، كان، مع ذلك، يعتقد أن طريق الاستقلال العقلي عن الآخرين يحتاج إلى وقت لبناء العقل النقدي وهو الأمر الذي لا يتحقق بالثورة التي تحدث كتغيير مفاجيء.
ومن أجل هذا التنوير، سواء للفرد أو للجمهور، يتطلب الأمر حرية "الاستعمال العمومي للعقل" في كل الميادين. في هذا السياق يُعتبر مفهوم "المجال العمومي" من مفاهيم القرن الثامن عشر، وكان يُقصد به مجموع الناس الذين يجتمعون في مكان عام. ثم عاد ليظهر المصطلح مرة أخرى في عام 1961 عندما أصدر هابرماس دراسته الرائدة والتي جاءت بعنوان "التحول البنيوي للمجال العام" ويقصد بالمجال العام في هذه الدراسة: الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية، الانضباطية، والمستقل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة..إلخ. هذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة، والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات.
ويرى هابرماس أن هذا المجال العام بدأ في الظهور في القرن الثامن عشر تحديدًا بوصفه فضاء مستقلًا عن الدولة بمعناها الحديث ومجمل أجهزتها، بحيث يمكن للأشخاص أن يتواصلوا في هذا المجال فيما بينهم كمواطنين مستقلين وأحرار من أجل التداول والتفاهم حول الصالح العام. ومن ناحية أخرى يمكن الربط بين مفهوم "المجال العام" ونظرية العقد الاجتماعي التي تعني ببساطة أن أفراد مجتمع ما اتفقوا وأصبحت لديهم إرادة عامة على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا هي الدولة، بمعنى أن الدولة وُجدت نتيجة لهذا العقد ولهذ الاتفاق الطوعي. ويعتمد المجال العام على وجود العقد الاجتماعي باعتباره أحد نتائجه، وعلى وجود الدولة باعتبارها طرفًا في هذا العقد.
وللاهتمام بالشأن العام، الذي تطور في العصر الحديث إلى مجال عام أوسع وأكثر تعقيدًا وتأثيرًا، أساس في الحضارة الغربية قبل القرن الثامن عشر، فكانت هناك مناقشات تجري للأمور العامة في نوادي القراءة والصالونات. لكن أصبح المجال العمومي يناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمورًا خاصة فقط بالدولة، كما أصبح على نحو ما شريكًا ومكملًا للدولة في النظام الديمقراطي وليس في مقابلها. وإذا عرفنا المجال العام بأنه هو المساحة أو الفضاء المديني العقلاني العام؛ فإن هذا الفضاء هو ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع، وهو أيضا ليس موزعًا بالعدل بين الفئات، ولا يمكننا تصوره كتعبير عن ثقلها العددي فقط، لكن كذلك ثقلها الرمزي والسلطوي والاقتصادي والتاريخي وغير ذلك. ويقدم المجال العام على هذا النحو وبهذا الفهم، للقوى الاجتماعية المتصارعة باختلاف أوزانها، أدوات سلمية وديمقراطية لإدارة صراعها. والمجال العام في أي مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سياق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهومًا متعاليًا معلقًا في الفراغ.
أخيرًا، إن المجال العام هو أساس المشاركة الديمقراطية في المجتمع الحديث، وهو الذي يؤدي إلى خلق حياة سياسية وحزبية ومواطنة وانتماء بالتعريف، فلا ديمقراطية بلا تعددية.
https://almanassa.com/ar/story/1479
في عام 1784 كتب إيمانويل كانط مقاله الشهير بعنوان: "ما هو التنوير؟"، والذي كان في سياق المناقشة التى طرحتها المجلة الألمانية المعروفة في هذا الوقت "مجلة برلين الشهرية" Berlinische Monatsschrift على مجموعة من المفكرين الألمان. وكان رد كانط موجهًا للسؤال الذى طرحه أحد القساوسة البروتستانت وهو يوهان فريدريش تسولنر وذلك في معرض انتقاد الأخير لفكرة الزواج المدني ودفاعه عن الزواج داخل الكنيسة باعتبار ذلك أفضل للدولة. وقد طرح هذا القس في مقاله وبعبارة تهكمية استفسارًا حول تعريف التنوير وهو ما لم يجده لدى دعاة التنوير، على حد وصفه، فكيف ينادى البعض بالتنوير قبل أن يعرفه لنا؟!
وقبل أن يكتب كانط مقاله الشهير في الرد على هذا القس، سبقه موسى مندلسون بمقال بعنوان: "حول سؤال: ما معنى التنوير؟"، وكتب تعريفًا عامًا للتنوير قال فيه: "إن كلًا من المعرفة والثقافة والتنوير هي بمثابة تعديل للحياة الاجتماعية.. ويهتم التنوير بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الأشياء الموجودة في الحياة الإنسانية تبعًا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الإنسان".
ثم كتب كانط مقاله الشهير والأكثر شمولًا والذي يجيب فيه عن سؤال: ما هو التنوير؟ في هذا المقال تظهر ولأول مرة عبارة "المجال العام" والتي سوف تأخذ تعريفها –وكذلك- شهرتها فيما بعد من كتابات هابرماس كما سنرى لاحقًا. ولا أظن أنه يمكن ذكر مقولة "المجال العام" كما أشار إليها كانط دون النظر إلى تعريفه للتنوير نفسه، فقد عرّف كانط التنوير بأنه هجرة الإنسان من القصور والذي يرجع إلى الإنسان ذاته، والقصور هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله دون معونة من الآخرين. هذا القصور سببه الإنسان ذاته، فهو لا يعود إلى قصور في الفهم أو العقل، ولكنه نقص في الإرادة وفي الجرأة في استخدام العقل دون الاعتماد على أحد. إن شعار التنوير هو ببساطة: كن جريئًا في استخدام عقلك. وبالتالي يستطيع الفرد أن يتحرر من الوصاية ويصبح متنورًا بالجرأة على التفكير واستخدام العقل. ثم يكمل كانط فكرته عن التنوير بأنه يمكن أيضا للجمهور – المكون من مجموعة من الأفراد في النهاية- أن يستنير طالما أنه حر، لكن لا يمكن للجمهور أن يبلغ التنوير بنفس القدر من السرعة التي تحدث للفرد؛ وهنا يبرز أن كانط، والذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية بلا شك، كان، مع ذلك، يعتقد أن طريق الاستقلال العقلي عن الآخرين يحتاج إلى وقت لبناء العقل النقدي وهو الأمر الذي لا يتحقق بالثورة التي تحدث كتغيير مفاجيء.
ومن أجل هذا التنوير، سواء للفرد أو للجمهور، يتطلب الأمر حرية "الاستعمال العمومي للعقل" في كل الميادين. في هذا السياق يُعتبر مفهوم "المجال العمومي" من مفاهيم القرن الثامن عشر، وكان يُقصد به مجموع الناس الذين يجتمعون في مكان عام. ثم عاد ليظهر المصطلح مرة أخرى في عام 1961 عندما أصدر هابرماس دراسته الرائدة والتي جاءت بعنوان "التحول البنيوي للمجال العام" ويقصد بالمجال العام في هذه الدراسة: الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية، الانضباطية، والمستقل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة..إلخ. هذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة، والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات.
ويرى هابرماس أن هذا المجال العام بدأ في الظهور في القرن الثامن عشر تحديدًا بوصفه فضاء مستقلًا عن الدولة بمعناها الحديث ومجمل أجهزتها، بحيث يمكن للأشخاص أن يتواصلوا في هذا المجال فيما بينهم كمواطنين مستقلين وأحرار من أجل التداول والتفاهم حول الصالح العام. ومن ناحية أخرى يمكن الربط بين مفهوم "المجال العام" ونظرية العقد الاجتماعي التي تعني ببساطة أن أفراد مجتمع ما اتفقوا وأصبحت لديهم إرادة عامة على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا هي الدولة، بمعنى أن الدولة وُجدت نتيجة لهذا العقد ولهذ الاتفاق الطوعي. ويعتمد المجال العام على وجود العقد الاجتماعي باعتباره أحد نتائجه، وعلى وجود الدولة باعتبارها طرفًا في هذا العقد.
وللاهتمام بالشأن العام، الذي تطور في العصر الحديث إلى مجال عام أوسع وأكثر تعقيدًا وتأثيرًا، أساس في الحضارة الغربية قبل القرن الثامن عشر، فكانت هناك مناقشات تجري للأمور العامة في نوادي القراءة والصالونات. لكن أصبح المجال العمومي يناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمورًا خاصة فقط بالدولة، كما أصبح على نحو ما شريكًا ومكملًا للدولة في النظام الديمقراطي وليس في مقابلها. وإذا عرفنا المجال العام بأنه هو المساحة أو الفضاء المديني العقلاني العام؛ فإن هذا الفضاء هو ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع، وهو أيضا ليس موزعًا بالعدل بين الفئات، ولا يمكننا تصوره كتعبير عن ثقلها العددي فقط، لكن كذلك ثقلها الرمزي والسلطوي والاقتصادي والتاريخي وغير ذلك. ويقدم المجال العام على هذا النحو وبهذا الفهم، للقوى الاجتماعية المتصارعة باختلاف أوزانها، أدوات سلمية وديمقراطية لإدارة صراعها. والمجال العام في أي مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سياق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهومًا متعاليًا معلقًا في الفراغ.
أخيرًا، إن المجال العام هو أساس المشاركة الديمقراطية في المجتمع الحديث، وهو الذي يؤدي إلى خلق حياة سياسية وحزبية ومواطنة وانتماء بالتعريف، فلا ديمقراطية بلا تعددية.
https://almanassa.com/ar/story/1479
Published on April 11, 2016 07:23
ما هو المجال العام؟
ماهر عبد الرحمن
في عام 1784 كتب إيمانويل كانط مقاله الشهير بعنوان: "ما هو التنوير؟"، والذي كان في سياق المناقشة التى طرحتها المجلة الألمانية المعروفة في هذا الوقت "مجلة برلين الشهرية" Berlinische Monatsschrift على مجموعة من المفكرين الألمان. وكان رد كانط موجهًا للسؤال الذى طرحه أحد القساوسة البروتستانت وهو يوهان فريدريش تسولنر وذلك في معرض انتقاد الأخير لفكرة الزواج المدني ودفاعه عن الزواج داخل الكنيسة باعتبار ذلك أفضل للدولة. وقد طرح هذا القس في مقاله وبعبارة تهكمية استفسارًا حول تعريف التنوير وهو ما لم يجده لدى دعاة التنوير، على حد وصفه، فكيف ينادى البعض بالتنوير قبل أن يعرفه لنا؟!
وقبل أن يكتب كانط مقاله الشهير في الرد على هذا القس، سبقه موسى مندلسون بمقال بعنوان: "حول سؤال: ما معنى التنوير؟"، وكتب تعريفًا عامًا للتنوير قال فيه: "إن كلًا من المعرفة والثقافة والتنوير هي بمثابة تعديل للحياة الاجتماعية.. ويهتم التنوير بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الأشياء الموجودة في الحياة الإنسانية تبعًا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الإنسان".
ثم كتب كانط مقاله الشهير والأكثر شمولًا والذي يجيب فيه عن سؤال: ما هو التنوير؟ في هذا المقال تظهر ولأول مرة عبارة "المجال العام" والتي سوف تأخذ تعريفها –وكذلك- شهرتها فيما بعد من كتابات هابرماس كما سنرى لاحقًا. ولا أظن أنه يمكن ذكر مقولة "المجال العام" كما أشار إليها كانط دون النظر إلى تعريفه للتنوير نفسه، فقد عرّف كانط التنوير بأنه هجرة الإنسان من القصور والذي يرجع إلى الإنسان ذاته، والقصور هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله دون معونة من الآخرين. هذا القصور سببه الإنسان ذاته، فهو لا يعود إلى قصور في الفهم أو العقل، ولكنه نقص في الإرادة وفي الجرأة في استخدام العقل دون الاعتماد على أحد. إن شعار التنوير هو ببساطة: كن جريئًا في استخدام عقلك. وبالتالي يستطيع الفرد أن يتحرر من الوصاية ويصبح متنورًا بالجرأة على التفكير واستخدام العقل. ثم يكمل كانط فكرته عن التنوير بأنه يمكن أيضا للجمهور – المكون من مجموعة من الأفراد في النهاية- أن يستنير طالما أنه حر، لكن لا يمكن للجمهور أن يبلغ التنوير بنفس القدر من السرعة التي تحدث للفرد؛ وهنا يبرز أن كانط، والذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية بلا شك، كان، مع ذلك، يعتقد أن طريق الاستقلال العقلي عن الآخرين يحتاج إلى وقت لبناء العقل النقدي وهو الأمر الذي لا يتحقق بالثورة التي تحدث كتغيير مفاجيء.
ومن أجل هذا التنوير، سواء للفرد أو للجمهور، يتطلب الأمر حرية "الاستعمال العمومي للعقل" في كل الميادين. في هذا السياق يُعتبر مفهوم "المجال العمومي" من مفاهيم القرن الثامن عشر، وكان يُقصد به مجموع الناس الذين يجتمعون في مكان عام. ثم عاد ليظهر المصطلح مرة أخرى في عام 1961 عندما أصدر هابرماس دراسته الرائدة والتي جاءت بعنوان "التحول البنيوي للمجال العام" ويقصد بالمجال العام في هذه الدراسة: الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية، الانضباطية، والمستقل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة..إلخ. هذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة، والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات.
ويرى هابرماس أن هذا المجال العام بدأ في الظهور في القرن الثامن عشر تحديدًا بوصفه فضاء مستقلًا عن الدولة بمعناها الحديث ومجمل أجهزتها، بحيث يمكن للأشخاص أن يتواصلوا في هذا المجال فيما بينهم كمواطنين مستقلين وأحرار من أجل التداول والتفاهم حول الصالح العام. ومن ناحية أخرى يمكن الربط بين مفهوم "المجال العام" ونظرية العقد الاجتماعي التي تعني ببساطة أن أفراد مجتمع ما اتفقوا وأصبحت لديهم إرادة عامة على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا هي الدولة، بمعنى أن الدولة وُجدت نتيجة لهذا العقد ولهذ الاتفاق الطوعي. ويعتمد المجال العام على وجود العقد الاجتماعي باعتباره أحد نتائجه، وعلى وجود الدولة باعتبارها طرفًا في هذا العقد.
وللاهتمام بالشأن العام، الذي تطور في العصر الحديث إلى مجال عام أوسع وأكثر تعقيدًا وتأثيرًا، أساس في الحضارة الغربية قبل القرن الثامن عشر، فكانت هناك مناقشات تجري للأمور العامة في نوادي القراءة والصالونات. لكن أصبح المجال العمومي يناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمورًا خاصة فقط بالدولة، كما أصبح على نحو ما شريكًا ومكملًا للدولة في النظام الديمقراطي وليس في مقابلها. وإذا عرفنا المجال العام بأنه هو المساحة أو الفضاء المديني العقلاني العام؛ فإن هذا الفضاء هو ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع، وهو أيضا ليس موزعًا بالعدل بين الفئات، ولا يمكننا تصوره كتعبير عن ثقلها العددي فقط، لكن كذلك ثقلها الرمزي والسلطوي والاقتصادي والتاريخي وغير ذلك. ويقدم المجال العام على هذا النحو وبهذا الفهم، للقوى الاجتماعية المتصارعة باختلاف أوزانها، أدوات سلمية وديمقراطية لإدارة صراعها. والمجال العام في أي مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سياق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهومًا متعاليًا معلقًا في الفراغ.
أخيرًا، إن المجال العام هو أساس المشاركة الديمقراطية في المجتمع الحديث، وهو الذي يؤدي إلى خلق حياة سياسية وحزبية ومواطنة وانتماء بالتعريف، فلا ديمقراطية بلا تعددية.
في عام 1784 كتب إيمانويل كانط مقاله الشهير بعنوان: "ما هو التنوير؟"، والذي كان في سياق المناقشة التى طرحتها المجلة الألمانية المعروفة في هذا الوقت "مجلة برلين الشهرية" Berlinische Monatsschrift على مجموعة من المفكرين الألمان. وكان رد كانط موجهًا للسؤال الذى طرحه أحد القساوسة البروتستانت وهو يوهان فريدريش تسولنر وذلك في معرض انتقاد الأخير لفكرة الزواج المدني ودفاعه عن الزواج داخل الكنيسة باعتبار ذلك أفضل للدولة. وقد طرح هذا القس في مقاله وبعبارة تهكمية استفسارًا حول تعريف التنوير وهو ما لم يجده لدى دعاة التنوير، على حد وصفه، فكيف ينادى البعض بالتنوير قبل أن يعرفه لنا؟!
وقبل أن يكتب كانط مقاله الشهير في الرد على هذا القس، سبقه موسى مندلسون بمقال بعنوان: "حول سؤال: ما معنى التنوير؟"، وكتب تعريفًا عامًا للتنوير قال فيه: "إن كلًا من المعرفة والثقافة والتنوير هي بمثابة تعديل للحياة الاجتماعية.. ويهتم التنوير بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الأشياء الموجودة في الحياة الإنسانية تبعًا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الإنسان".
ثم كتب كانط مقاله الشهير والأكثر شمولًا والذي يجيب فيه عن سؤال: ما هو التنوير؟ في هذا المقال تظهر ولأول مرة عبارة "المجال العام" والتي سوف تأخذ تعريفها –وكذلك- شهرتها فيما بعد من كتابات هابرماس كما سنرى لاحقًا. ولا أظن أنه يمكن ذكر مقولة "المجال العام" كما أشار إليها كانط دون النظر إلى تعريفه للتنوير نفسه، فقد عرّف كانط التنوير بأنه هجرة الإنسان من القصور والذي يرجع إلى الإنسان ذاته، والقصور هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله دون معونة من الآخرين. هذا القصور سببه الإنسان ذاته، فهو لا يعود إلى قصور في الفهم أو العقل، ولكنه نقص في الإرادة وفي الجرأة في استخدام العقل دون الاعتماد على أحد. إن شعار التنوير هو ببساطة: كن جريئًا في استخدام عقلك. وبالتالي يستطيع الفرد أن يتحرر من الوصاية ويصبح متنورًا بالجرأة على التفكير واستخدام العقل. ثم يكمل كانط فكرته عن التنوير بأنه يمكن أيضا للجمهور – المكون من مجموعة من الأفراد في النهاية- أن يستنير طالما أنه حر، لكن لا يمكن للجمهور أن يبلغ التنوير بنفس القدر من السرعة التي تحدث للفرد؛ وهنا يبرز أن كانط، والذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية بلا شك، كان، مع ذلك، يعتقد أن طريق الاستقلال العقلي عن الآخرين يحتاج إلى وقت لبناء العقل النقدي وهو الأمر الذي لا يتحقق بالثورة التي تحدث كتغيير مفاجيء.
ومن أجل هذا التنوير، سواء للفرد أو للجمهور، يتطلب الأمر حرية "الاستعمال العمومي للعقل" في كل الميادين. في هذا السياق يُعتبر مفهوم "المجال العمومي" من مفاهيم القرن الثامن عشر، وكان يُقصد به مجموع الناس الذين يجتمعون في مكان عام. ثم عاد ليظهر المصطلح مرة أخرى في عام 1961 عندما أصدر هابرماس دراسته الرائدة والتي جاءت بعنوان "التحول البنيوي للمجال العام" ويقصد بالمجال العام في هذه الدراسة: الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية، الانضباطية، والمستقل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة..إلخ. هذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة، والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات.
ويرى هابرماس أن هذا المجال العام بدأ في الظهور في القرن الثامن عشر تحديدًا بوصفه فضاء مستقلًا عن الدولة بمعناها الحديث ومجمل أجهزتها، بحيث يمكن للأشخاص أن يتواصلوا في هذا المجال فيما بينهم كمواطنين مستقلين وأحرار من أجل التداول والتفاهم حول الصالح العام. ومن ناحية أخرى يمكن الربط بين مفهوم "المجال العام" ونظرية العقد الاجتماعي التي تعني ببساطة أن أفراد مجتمع ما اتفقوا وأصبحت لديهم إرادة عامة على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا هي الدولة، بمعنى أن الدولة وُجدت نتيجة لهذا العقد ولهذ الاتفاق الطوعي. ويعتمد المجال العام على وجود العقد الاجتماعي باعتباره أحد نتائجه، وعلى وجود الدولة باعتبارها طرفًا في هذا العقد.
وللاهتمام بالشأن العام، الذي تطور في العصر الحديث إلى مجال عام أوسع وأكثر تعقيدًا وتأثيرًا، أساس في الحضارة الغربية قبل القرن الثامن عشر، فكانت هناك مناقشات تجري للأمور العامة في نوادي القراءة والصالونات. لكن أصبح المجال العمومي يناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمورًا خاصة فقط بالدولة، كما أصبح على نحو ما شريكًا ومكملًا للدولة في النظام الديمقراطي وليس في مقابلها. وإذا عرفنا المجال العام بأنه هو المساحة أو الفضاء المديني العقلاني العام؛ فإن هذا الفضاء هو ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع، وهو أيضا ليس موزعًا بالعدل بين الفئات، ولا يمكننا تصوره كتعبير عن ثقلها العددي فقط، لكن كذلك ثقلها الرمزي والسلطوي والاقتصادي والتاريخي وغير ذلك. ويقدم المجال العام على هذا النحو وبهذا الفهم، للقوى الاجتماعية المتصارعة باختلاف أوزانها، أدوات سلمية وديمقراطية لإدارة صراعها. والمجال العام في أي مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سياق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهومًا متعاليًا معلقًا في الفراغ.
أخيرًا، إن المجال العام هو أساس المشاركة الديمقراطية في المجتمع الحديث، وهو الذي يؤدي إلى خلق حياة سياسية وحزبية ومواطنة وانتماء بالتعريف، فلا ديمقراطية بلا تعددية.
Published on April 11, 2016 07:23
March 27, 2016
في محبة القراءة
ماهر عبد الرحمن
قال عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب "الحيوان": "مَن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب، ألذَّ عنده من إنفاق عُشاق القيان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا". وذكر الحافظ بن حجر: "ما أَمَر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم".
ومما ذكره الجاحظ أيضا في ذات الكتاب: "وكانت فلاسفة اليونان تقول: لا تورثوا الابن المال، إلا ما يكون عونًا على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة، ليصير جمع العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنه العدة والعتاد، وأنه أكرم مستفاد".
في طريق القراءة لا نتذكر فقط الكتب التي نقرأها، بل أحيانًا ما نتذكر بعض الحكايات التي تصاحب شراء وتدبير نفقاتها أو غير ذلك من الحكايات. وأحيانًا ما تصبح لهذه الحكايات قيمتها الخاصة ويمكن المستقلة أحيانًا. هنا أحاول أن أتذكر بعض الحكايات وبعض الكتب وبعض النفقة وبعض اللذة التي ذكرها الجاحظ، والتي يعرفها وذاقها كل محب مخلص للقراءة والكتب والمعرفة والعلم.
أول كتاب أذكره هو كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد. صدر عن دار المعارف، بتحقيق الدكتور شوقي ضيف. ورغم إني قرأته في دار الكتب أكتر من مرة وساعات كنت بنسخ منه أحكام في بعض القراءات لأنه ماكانش بيبقى معايا فلوس لتصوير الورق. وساعات كنت بصوّر منه أجزاء على قد ما الميزانية تسمح. ورغم إني خلّصته وخلّصت غيره من كتب متون القراءات وهي على الترتيب: طيبة النشر، والشاطبية، والدرة، وشرحهم وغيرهم في المكتبات العامة - مثل دار الكتب برملة بولاق، ومكتبة القاهرة بالزمالك - لكن دائمًا كان لديّ أمل في شراء كتاب ابن مجاهد والاحتفاظ بنسخة منه في مكتبتي وهذا ما حدث في عام 2009 تقريبًا.
كنت قبل هذا العام أشتري كتبًا بالتأكيد بأكثر من سعر هذا الكتاب وقتها (70 جنيهًا)، لكني لم أكن أستطيع أن أشتري كتابًا واحدًا بهذا المبلغ. وفي عام 2009 وعندما ذهبت لشرائه وجدت سعره أصبح (50 جنيهًا فقط) مما جعلني أشتري مجموعة من سلسلة "اقرأ" بباقي المبلغ.
هذا العمل الجليل قام الدكتور شوقى ضيف بالعمل على تحقيقه، وشوقى ضيف من الجانب المشيخي في تلاميذ طه حسين. وهذا الكتاب يعد من الكتب العمدة في بابه، أما ابن مجاهد، فهو الذى قال فيه ابن خلدون في مقدمته: "ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كُتبت العلوم و دُونت، فكُتبت فيما كُتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلمًا منفردًا و تناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن مَلَك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين وكان معتنيًا بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر واجتهد في تعليمه وعرضه على مَن كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافرًا. و اختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عمومًا و بالقراءات خصوصًا". وقال فيه أحد تلاميذه، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه: "الإمام في القراءة وسائر الناس له تبع".
كان القرآن يُكتب في عهد النبي بأيدي الصحابة، بحيث لم يمت إلا وعدد من أصحابه قد حفظوه وكتبوه، ثم أَخذ عنهم الأتباع، فأتباعهم، أجيال عن أجيال، وهذا هو معنى التواتر. وابن مجاهد حاول في كتابه أن "يضع الأصول والأركان لقبول القراءات"، ويقصد بالقراءات المقبولة: "كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو تقديرًا، ووافقت اللغة العربية ولو بوجه، وصحّ إسنادها، فهذه هي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحل إنكارها، وهي سبعة متواترة اتفاقًا وثلاثة متواترة على الأصح، وتلك عشرة كاملة".
وهذا يعني أنه وضع منهجًا لقبول القراءات والأسانيد لديه، واختار على أساسه سبعة من القراء: "اختار من المدينة نافعًا ومن مكة ابن كثير ومن الكوفة عاصمًا وحمزة والكسائي ومن البصرة أبا عمرو بن العلاء ومن الشام عبد الله بن عامر". وهاجمه بعض العلماء بحجة أنه استبعد بكتابه هذا الكثير من القراء وأهدر الكثير من القراءات. وهاجمه البعض لأنه اختار سبع قراءات ليوافق الحديث القائل: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف". ويستفيض الدكتور شوقي ضيف في تفنيد هذه الآراء، فابن مجاهد حين اختار السبعة لم يُسقط رواية سواهم، بل دعاها شاذة بل وألف فيها كتابه في الشواذ، واعتمد عليه كثيرًا فيما بعد ابن جني في كتابه "المحتسب". ولو ظن ابن مجاهد-مثلا- أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة التي وردت بالحديث لأبطل غيرها من القراءات ولكنه لم يفعل ذلك. ورأى ضيف أن ابن مجاهد -بعمله هذا- أدى للأمة عملًا باهرًا باختياره هؤلاء السبعة، إذ كانت قد أدت كثرة الروايات في القراءات إلى ضرب من الاضطراب عند طائفة من القراء غير المتقنين.
الكتاب الثاني، هو كتاب "أشهر الأوبرات"، وهو كتاب بسيط وسعره كان وقتها 2 جنيه على ما أذكر. وجدته بالصدفة في مكتبة مصر بالفجالة قبل أن تتحول من مكتبة عظيمة تبيع كتب ثقافية مهمة، لأسماء كبيرة مثل نجيب محفوظ وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وعلى أحمد باكثير وأحمد شوقي وغيرهم، إلى مكتبة تبيع مساطر وبرّايات، وكتب دراسية خارجية، ومصاحف بأحجام مختلفة تجليد عادي وتجليد شمواه.
كنت عرفت منذ سنوات مكتبات الفجالة وبدأت أشتري منها كتب، مثل سلسلة "اقرأ" من دار المعارف، وسلسلة "حلمي مراد يقدم كنوز كتب التراث"، والكتب التي تضم اللوحات العالمية التي كان يقدمها جمال قطب وتنشرها مكتبة مصر.
وكتاب "أشهر الأوبرات" من تأليف: هنرى. و. سيمون وإبراهام فينوس. ويحتوى على أحداث أشهر 22 أوبرا عالمية، مثل عائدة لفردى، حلاق إشبيلية لروسيني، كارمن لبيزيه، دون جوفاني لموتسارت، فاوست لجونو، ولا ترافيتا لفردي، وغيرها من الأوبرات. وقام المترجم محمود أحمد الحفني، وهو مراقب عام الموسيقى بوزارة التربية والتعليم سابقًا، بتقديم تعريفات موجزة للموسيقيين الأعلام. المراجع هو الدكتور حسين فوزى وكيل وزارة الإرشاد القومي وقتها، والسندباد المصرى صاحب البرنامج الموسيقي الجميل على إذاعة البرنامج الثانى.
ومن ضمن الأسباب التي جعلتني أحب هذا النوع من الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، كتاب كان صدر فى عام 2000 عن مكتبة الأسرة فى سلسلة "الشباب"، بعنوان "مع الموسيقى ذكريات ودراسات"، للدكتور فؤاد زكريا. وكانت صدرت منه طبعة سابقة عن مكتبة مصر، وكتب الدكتور فؤاد في مقدمة كتابه هذا: "لا أستطيع أن أزعم أن معرفتى بالموسيقى ترقى إلى مستوى معرفة الخبراء بأصول هذا الفن. فلم أكن في أي وقت من محترفيها أو ممن يؤدونها علنًا، كما أنني لم أتلق فيها درسًا نظريًا أو عمليًا واحدًا. ومع ذلك فإن في تجربتي الموسيقية ما يستحق في نظرى أن يُروى، لأنها أولًا تجربة معتمدة على ذاتها اعتمادًا يكاد يكون تامًا، ولأنها ثانيًا تجربة نفس يغلب عليها حب العقل والمنطق، وتميل إلى الجانب الفكري في الأمور، ولأنها ثالثًا تجربة طال أمدها حتى ليمكن القول إنها عاصرت حياتي الواعية منذ بدايتها. ومن هنا فقد اعتقدت أن القاريء قد يجد طرافة في صفحات تحكي له كيف انتقل إنسان يعيش في بيئة شرقية خالصة إلى حب الموسيقى العالمية وفهمها فهمًا واعيًا بجهوده الذاتية وحدها".
وكانت هذه الكلمات بمثابة تشجيع على الخروج من البيئة الشرقية في السمع، بل وحتى تغيير مؤشر الراديو من إذاعة البرنامج العام وإذاعة أم كلثوم وإذاعة القرآن الكريم، إلى إذاعة البرنامج الثقافي وإذاعة البرنامج الموسيقي، وسماع الموسيقى والغناء الكلاسيكي والأوبرا، والتشجيع أيضا على الاعتماد على الجهد الذاتي في التعلم. وكان كتاب أشهر الأوبرات، بالإضافة إلى القصص، يحاول أن يوضح أن الفكرة السائدة عن الأوبرا بأنها عبارة عن مجموعة من الأشخاص غير الطبيعيين يقومون بالصراخ، ليست سوى خرافة وقد آن أن نواجهها.
الكتاب الثالث هو كتابيّ "أخبار الحمقى والمغفلين"، وكتاب "الأذكياء" لعبد الرحمن الجوزي. فى مقدمة كتاب "الأذكياء" يقول ابن الجوزى عن سبب تأليفه لهذا الكتاب: "لمّا كان العقلاء يتفاوتون فى موهبة العقل، ويتباينون في تحصيل ما يتقنون من التجارب والعلم أحببت أن أجمع كتابًا في (أخبار الأذكياء)، وفى ذلك ثلاثة أغراض: أحدهما معرفة أقدارهم بذكر أحوالهم. والثانى: تلقيح ألباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة. والثالث: تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من تعثر عليه لحاقه".
وعلى العكس من تلك الأسباب يأتى كتاب "الحمقى" لأغراض: "أن يشكر العاقل على خلوه من الحمق. حث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة. وأن يروح الإنسان قلبه بالنظر فى سير هؤلاء المبخوسين حظوظهم يوم القسمة، فإن النفس قد ترتاح إلى بعض المباح من اللهو، وقد قال رسول الله (ساعة وساعة). أما تعريف الحمق والتغفيل فهو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون، الذى هو خلل في الوسيلة والمقصود جميعا".
كنت أكتب مقالًا عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وفى سبيل مراجعتي عدت إلى الكتاب الطريف للأستاذ محمود السعدني "ألحان السماء" ووجدتني أعيد قراءته كله للمرة السادسة. غير أنها المرة الأولى التي أقف، وبالصدفة، عند أحد المشايخ ويدعى عنتر مسلم، الذى يصفه الأستاذ محمود بأنه صاحب صوت جميل للغاية، وله طريقة فذة فى الأداء. لكن كانت مأساة هذا الشيخ - فيما يروي الأستاذ - أنه تصور إن القراءة عملية اجتهادية لا تحتاج إلى ضوابط، وربما حاول أن يقلد الشيوخ في أن يقوم بالقراءة والتجويد بالقراءات السبعة دون أن يدرس علم القراءات نفسه. وقد سمعه الأستاذ محمود مرة يقرأ بصوت عذب من سورة إبراهيم: "إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا" ونطق "إبراهيم" مرة كما هي، ومرة "إبراهام" ثم أعادها "براهيم" ثم أعادها "برهوم" (ألحان السماء، الصفحات من:117:119). و"براهيم" و"برهوم" ليست من القراءات في شيء. أما "إبراهام"فصحيحة في مواضع مختلفة من القرآن فيما روى عن ابن عامر الشامي من طريق هشام بن عمار بن نصير، أو من طريق عبد الله بن ذكوان. وهذه الآية تحديدًا يقرأها هشام وحده "إبراهام". وشخصيًا لم أستمع لهذا التسجيل، لكنى وجدت تسجيلات أخرى له من سورة البقرة يميل فيما لا إمالة فيه، ومن المائدة سمعته يقول: "وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" لكن بسكون الباء في "السبع" وهكذا أصبحت رقمًا على لسانه.
ويذكر ابن الجوزى أمثال للشيخ عنتر مسلم في فصل بعنوان: "في ذكر المغفلين من القراء والمصحفين". منهم من قال: "ويعوق وبشرا"، بدلًا من: "ويعوق ونسرا". ومنهم من قال: "فإن لم يصبها وابل فظل"، بدلًا من: "فطل". ومنهم من قال: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هويًا"، بدلًا من: "هونًا". ومنهم من قال: "فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رجل أخيه"، بدلًا من: "رحل أخيه".
وشخصيًا قابلت الكثير من هؤلاء الحمقى، سواء كانوا حمقى من القراء والمصحفين، أو حمقى فى الإنسانية بشكل عام، وهم كثيرون. أذكر في بداية حفظي للقرآن وكنت في السادسة من عمري، وكنت أحفظه في البداية على يد أحد المشايخ واسمه الشيخ عبد العزيز، والذي لم أعرف إلا في ما بعد أنه لم يكن سوى عامل بالمسجد يرفع الآذان ويصلي بالناس مؤقتًا إلى أن تُرسل وزارة الأوقاف مقيم شعائر من طرفها. وبعد وقت تم تعيين شيخ آخر اسمه الشيخ حسين كمقيم للشعائر بالمسجد، وهو شيخ حقيقي هذه المرة، وخريج معهد قراءات. حدث ذلك بعد أن أصبحت في الثامنة من عمري وكنت حفظت من سورة الأحقاف حتى سورة الناس. كانت صدمتي وصدمة والدي عظيمة حين عرفت أن الشيخ عبد العزيز كان يعلمني القرآن على نحو خاطيء، خصوصا في تشكيل الكثير من الكلمات، فكان يجعلنا نقرأ كلمة "النعمة" في قوله تعالي "وذرني والمكذبين أولي النعمة" بالكسر وليس بالفتح على النحو الذي وردت به في هذا الموضع من سورة المزمل. وسألت الشيخ الجديد، وهو الشيخ حسين، عن الفرق بين المعنيين، فأجاب بقول القرطبي إن: النعمة (بالفتح) التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. والنعمة (بالكسر) اليد والصنيعة والمنة وما أُنعم به عليك. وقال لي إن "النعمة" بالفتح هنا هي من باب "التعريض بالتهكم لأنهم كانوا يعدُّون سعة العيش ووفرة المال كمالًا" بذاتها. ووصفهم في موضع آخر بـقوله تعالى "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا"، فكيف تكون "نعمة" بالكسر، بل هي بالفتح وباتفاق القراء.
وبعد أن أتقنت قراءة حفص عن عاصم نصحني البعض، ومنهم الشيخ حسين، بقراءة القرآن كاملًا مرة في حضرة وبين يدي الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف، وهو من أكابر الشيوخ وأحد أعضاء لجنة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية. فحضرت عنده بساحة الجامع الأزهر. وهناك غيري الكثير ممن جاءوا للقراءة بين يدي مولانا الشيخ عبد الحكيم. وقرأ أحدهم من سورة الزمر "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" وبكى فجأة بعد قراءة الاستعاذة وكلمة "سيق"، فقال له الشيخ متعجبًا "كيف تبكي بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، طب استنى أما تخش النار يا أخي".
كنت، وما زلت، أُذكّر نفسى دائما بأسباب ابن الجوزى؛ بأن العاقل إذا سمع (أو رأى) أخبار هؤلاء الحمقى عرف قدر ما وُهب؛ فحثه ذلك على الشكر. وكنت أتذكر، بجانب الشكر والحمد، أن هذه المواقف والحماقات تستدعى الضحك والتأمل لا البكاء والغضب. بل إن بعض العلماء كانت لهم عناية بجمع مثل هذه الأخبار والحكايات، وكتب عنها الجاحظ وسماها "عناية العلماء بالمُلح والفكاهات". وفى حديث مرفوع لأبى الدرداء، جاء "أجمّوا النفس بشيء من الباطل". وفي ما رُوي عن أسامة بن زيد قال: "روّحوا القلوب تعي الذكر".
https://almanassa.com/ar/story/1389
قال عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب "الحيوان": "مَن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب، ألذَّ عنده من إنفاق عُشاق القيان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا". وذكر الحافظ بن حجر: "ما أَمَر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم".
ومما ذكره الجاحظ أيضا في ذات الكتاب: "وكانت فلاسفة اليونان تقول: لا تورثوا الابن المال، إلا ما يكون عونًا على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة، ليصير جمع العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنه العدة والعتاد، وأنه أكرم مستفاد".
في طريق القراءة لا نتذكر فقط الكتب التي نقرأها، بل أحيانًا ما نتذكر بعض الحكايات التي تصاحب شراء وتدبير نفقاتها أو غير ذلك من الحكايات. وأحيانًا ما تصبح لهذه الحكايات قيمتها الخاصة ويمكن المستقلة أحيانًا. هنا أحاول أن أتذكر بعض الحكايات وبعض الكتب وبعض النفقة وبعض اللذة التي ذكرها الجاحظ، والتي يعرفها وذاقها كل محب مخلص للقراءة والكتب والمعرفة والعلم.
أول كتاب أذكره هو كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد. صدر عن دار المعارف، بتحقيق الدكتور شوقي ضيف. ورغم إني قرأته في دار الكتب أكتر من مرة وساعات كنت بنسخ منه أحكام في بعض القراءات لأنه ماكانش بيبقى معايا فلوس لتصوير الورق. وساعات كنت بصوّر منه أجزاء على قد ما الميزانية تسمح. ورغم إني خلّصته وخلّصت غيره من كتب متون القراءات وهي على الترتيب: طيبة النشر، والشاطبية، والدرة، وشرحهم وغيرهم في المكتبات العامة - مثل دار الكتب برملة بولاق، ومكتبة القاهرة بالزمالك - لكن دائمًا كان لديّ أمل في شراء كتاب ابن مجاهد والاحتفاظ بنسخة منه في مكتبتي وهذا ما حدث في عام 2009 تقريبًا.
كنت قبل هذا العام أشتري كتبًا بالتأكيد بأكثر من سعر هذا الكتاب وقتها (70 جنيهًا)، لكني لم أكن أستطيع أن أشتري كتابًا واحدًا بهذا المبلغ. وفي عام 2009 وعندما ذهبت لشرائه وجدت سعره أصبح (50 جنيهًا فقط) مما جعلني أشتري مجموعة من سلسلة "اقرأ" بباقي المبلغ.
هذا العمل الجليل قام الدكتور شوقى ضيف بالعمل على تحقيقه، وشوقى ضيف من الجانب المشيخي في تلاميذ طه حسين. وهذا الكتاب يعد من الكتب العمدة في بابه، أما ابن مجاهد، فهو الذى قال فيه ابن خلدون في مقدمته: "ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كُتبت العلوم و دُونت، فكُتبت فيما كُتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلمًا منفردًا و تناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن مَلَك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين وكان معتنيًا بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر واجتهد في تعليمه وعرضه على مَن كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافرًا. و اختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عمومًا و بالقراءات خصوصًا". وقال فيه أحد تلاميذه، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه: "الإمام في القراءة وسائر الناس له تبع".
كان القرآن يُكتب في عهد النبي بأيدي الصحابة، بحيث لم يمت إلا وعدد من أصحابه قد حفظوه وكتبوه، ثم أَخذ عنهم الأتباع، فأتباعهم، أجيال عن أجيال، وهذا هو معنى التواتر. وابن مجاهد حاول في كتابه أن "يضع الأصول والأركان لقبول القراءات"، ويقصد بالقراءات المقبولة: "كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو تقديرًا، ووافقت اللغة العربية ولو بوجه، وصحّ إسنادها، فهذه هي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحل إنكارها، وهي سبعة متواترة اتفاقًا وثلاثة متواترة على الأصح، وتلك عشرة كاملة".
وهذا يعني أنه وضع منهجًا لقبول القراءات والأسانيد لديه، واختار على أساسه سبعة من القراء: "اختار من المدينة نافعًا ومن مكة ابن كثير ومن الكوفة عاصمًا وحمزة والكسائي ومن البصرة أبا عمرو بن العلاء ومن الشام عبد الله بن عامر". وهاجمه بعض العلماء بحجة أنه استبعد بكتابه هذا الكثير من القراء وأهدر الكثير من القراءات. وهاجمه البعض لأنه اختار سبع قراءات ليوافق الحديث القائل: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف". ويستفيض الدكتور شوقي ضيف في تفنيد هذه الآراء، فابن مجاهد حين اختار السبعة لم يُسقط رواية سواهم، بل دعاها شاذة بل وألف فيها كتابه في الشواذ، واعتمد عليه كثيرًا فيما بعد ابن جني في كتابه "المحتسب". ولو ظن ابن مجاهد-مثلا- أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة التي وردت بالحديث لأبطل غيرها من القراءات ولكنه لم يفعل ذلك. ورأى ضيف أن ابن مجاهد -بعمله هذا- أدى للأمة عملًا باهرًا باختياره هؤلاء السبعة، إذ كانت قد أدت كثرة الروايات في القراءات إلى ضرب من الاضطراب عند طائفة من القراء غير المتقنين.
الكتاب الثاني، هو كتاب "أشهر الأوبرات"، وهو كتاب بسيط وسعره كان وقتها 2 جنيه على ما أذكر. وجدته بالصدفة في مكتبة مصر بالفجالة قبل أن تتحول من مكتبة عظيمة تبيع كتب ثقافية مهمة، لأسماء كبيرة مثل نجيب محفوظ وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وعلى أحمد باكثير وأحمد شوقي وغيرهم، إلى مكتبة تبيع مساطر وبرّايات، وكتب دراسية خارجية، ومصاحف بأحجام مختلفة تجليد عادي وتجليد شمواه.
كنت عرفت منذ سنوات مكتبات الفجالة وبدأت أشتري منها كتب، مثل سلسلة "اقرأ" من دار المعارف، وسلسلة "حلمي مراد يقدم كنوز كتب التراث"، والكتب التي تضم اللوحات العالمية التي كان يقدمها جمال قطب وتنشرها مكتبة مصر.
وكتاب "أشهر الأوبرات" من تأليف: هنرى. و. سيمون وإبراهام فينوس. ويحتوى على أحداث أشهر 22 أوبرا عالمية، مثل عائدة لفردى، حلاق إشبيلية لروسيني، كارمن لبيزيه، دون جوفاني لموتسارت، فاوست لجونو، ولا ترافيتا لفردي، وغيرها من الأوبرات. وقام المترجم محمود أحمد الحفني، وهو مراقب عام الموسيقى بوزارة التربية والتعليم سابقًا، بتقديم تعريفات موجزة للموسيقيين الأعلام. المراجع هو الدكتور حسين فوزى وكيل وزارة الإرشاد القومي وقتها، والسندباد المصرى صاحب البرنامج الموسيقي الجميل على إذاعة البرنامج الثانى.
ومن ضمن الأسباب التي جعلتني أحب هذا النوع من الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، كتاب كان صدر فى عام 2000 عن مكتبة الأسرة فى سلسلة "الشباب"، بعنوان "مع الموسيقى ذكريات ودراسات"، للدكتور فؤاد زكريا. وكانت صدرت منه طبعة سابقة عن مكتبة مصر، وكتب الدكتور فؤاد في مقدمة كتابه هذا: "لا أستطيع أن أزعم أن معرفتى بالموسيقى ترقى إلى مستوى معرفة الخبراء بأصول هذا الفن. فلم أكن في أي وقت من محترفيها أو ممن يؤدونها علنًا، كما أنني لم أتلق فيها درسًا نظريًا أو عمليًا واحدًا. ومع ذلك فإن في تجربتي الموسيقية ما يستحق في نظرى أن يُروى، لأنها أولًا تجربة معتمدة على ذاتها اعتمادًا يكاد يكون تامًا، ولأنها ثانيًا تجربة نفس يغلب عليها حب العقل والمنطق، وتميل إلى الجانب الفكري في الأمور، ولأنها ثالثًا تجربة طال أمدها حتى ليمكن القول إنها عاصرت حياتي الواعية منذ بدايتها. ومن هنا فقد اعتقدت أن القاريء قد يجد طرافة في صفحات تحكي له كيف انتقل إنسان يعيش في بيئة شرقية خالصة إلى حب الموسيقى العالمية وفهمها فهمًا واعيًا بجهوده الذاتية وحدها".
وكانت هذه الكلمات بمثابة تشجيع على الخروج من البيئة الشرقية في السمع، بل وحتى تغيير مؤشر الراديو من إذاعة البرنامج العام وإذاعة أم كلثوم وإذاعة القرآن الكريم، إلى إذاعة البرنامج الثقافي وإذاعة البرنامج الموسيقي، وسماع الموسيقى والغناء الكلاسيكي والأوبرا، والتشجيع أيضا على الاعتماد على الجهد الذاتي في التعلم. وكان كتاب أشهر الأوبرات، بالإضافة إلى القصص، يحاول أن يوضح أن الفكرة السائدة عن الأوبرا بأنها عبارة عن مجموعة من الأشخاص غير الطبيعيين يقومون بالصراخ، ليست سوى خرافة وقد آن أن نواجهها.
الكتاب الثالث هو كتابيّ "أخبار الحمقى والمغفلين"، وكتاب "الأذكياء" لعبد الرحمن الجوزي. فى مقدمة كتاب "الأذكياء" يقول ابن الجوزى عن سبب تأليفه لهذا الكتاب: "لمّا كان العقلاء يتفاوتون فى موهبة العقل، ويتباينون في تحصيل ما يتقنون من التجارب والعلم أحببت أن أجمع كتابًا في (أخبار الأذكياء)، وفى ذلك ثلاثة أغراض: أحدهما معرفة أقدارهم بذكر أحوالهم. والثانى: تلقيح ألباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة. والثالث: تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من تعثر عليه لحاقه".
وعلى العكس من تلك الأسباب يأتى كتاب "الحمقى" لأغراض: "أن يشكر العاقل على خلوه من الحمق. حث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة. وأن يروح الإنسان قلبه بالنظر فى سير هؤلاء المبخوسين حظوظهم يوم القسمة، فإن النفس قد ترتاح إلى بعض المباح من اللهو، وقد قال رسول الله (ساعة وساعة). أما تعريف الحمق والتغفيل فهو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون، الذى هو خلل في الوسيلة والمقصود جميعا".
كنت أكتب مقالًا عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وفى سبيل مراجعتي عدت إلى الكتاب الطريف للأستاذ محمود السعدني "ألحان السماء" ووجدتني أعيد قراءته كله للمرة السادسة. غير أنها المرة الأولى التي أقف، وبالصدفة، عند أحد المشايخ ويدعى عنتر مسلم، الذى يصفه الأستاذ محمود بأنه صاحب صوت جميل للغاية، وله طريقة فذة فى الأداء. لكن كانت مأساة هذا الشيخ - فيما يروي الأستاذ - أنه تصور إن القراءة عملية اجتهادية لا تحتاج إلى ضوابط، وربما حاول أن يقلد الشيوخ في أن يقوم بالقراءة والتجويد بالقراءات السبعة دون أن يدرس علم القراءات نفسه. وقد سمعه الأستاذ محمود مرة يقرأ بصوت عذب من سورة إبراهيم: "إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا" ونطق "إبراهيم" مرة كما هي، ومرة "إبراهام" ثم أعادها "براهيم" ثم أعادها "برهوم" (ألحان السماء، الصفحات من:117:119). و"براهيم" و"برهوم" ليست من القراءات في شيء. أما "إبراهام"فصحيحة في مواضع مختلفة من القرآن فيما روى عن ابن عامر الشامي من طريق هشام بن عمار بن نصير، أو من طريق عبد الله بن ذكوان. وهذه الآية تحديدًا يقرأها هشام وحده "إبراهام". وشخصيًا لم أستمع لهذا التسجيل، لكنى وجدت تسجيلات أخرى له من سورة البقرة يميل فيما لا إمالة فيه، ومن المائدة سمعته يقول: "وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" لكن بسكون الباء في "السبع" وهكذا أصبحت رقمًا على لسانه.
ويذكر ابن الجوزى أمثال للشيخ عنتر مسلم في فصل بعنوان: "في ذكر المغفلين من القراء والمصحفين". منهم من قال: "ويعوق وبشرا"، بدلًا من: "ويعوق ونسرا". ومنهم من قال: "فإن لم يصبها وابل فظل"، بدلًا من: "فطل". ومنهم من قال: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هويًا"، بدلًا من: "هونًا". ومنهم من قال: "فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رجل أخيه"، بدلًا من: "رحل أخيه".
وشخصيًا قابلت الكثير من هؤلاء الحمقى، سواء كانوا حمقى من القراء والمصحفين، أو حمقى فى الإنسانية بشكل عام، وهم كثيرون. أذكر في بداية حفظي للقرآن وكنت في السادسة من عمري، وكنت أحفظه في البداية على يد أحد المشايخ واسمه الشيخ عبد العزيز، والذي لم أعرف إلا في ما بعد أنه لم يكن سوى عامل بالمسجد يرفع الآذان ويصلي بالناس مؤقتًا إلى أن تُرسل وزارة الأوقاف مقيم شعائر من طرفها. وبعد وقت تم تعيين شيخ آخر اسمه الشيخ حسين كمقيم للشعائر بالمسجد، وهو شيخ حقيقي هذه المرة، وخريج معهد قراءات. حدث ذلك بعد أن أصبحت في الثامنة من عمري وكنت حفظت من سورة الأحقاف حتى سورة الناس. كانت صدمتي وصدمة والدي عظيمة حين عرفت أن الشيخ عبد العزيز كان يعلمني القرآن على نحو خاطيء، خصوصا في تشكيل الكثير من الكلمات، فكان يجعلنا نقرأ كلمة "النعمة" في قوله تعالي "وذرني والمكذبين أولي النعمة" بالكسر وليس بالفتح على النحو الذي وردت به في هذا الموضع من سورة المزمل. وسألت الشيخ الجديد، وهو الشيخ حسين، عن الفرق بين المعنيين، فأجاب بقول القرطبي إن: النعمة (بالفتح) التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. والنعمة (بالكسر) اليد والصنيعة والمنة وما أُنعم به عليك. وقال لي إن "النعمة" بالفتح هنا هي من باب "التعريض بالتهكم لأنهم كانوا يعدُّون سعة العيش ووفرة المال كمالًا" بذاتها. ووصفهم في موضع آخر بـقوله تعالى "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا"، فكيف تكون "نعمة" بالكسر، بل هي بالفتح وباتفاق القراء.
وبعد أن أتقنت قراءة حفص عن عاصم نصحني البعض، ومنهم الشيخ حسين، بقراءة القرآن كاملًا مرة في حضرة وبين يدي الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف، وهو من أكابر الشيوخ وأحد أعضاء لجنة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية. فحضرت عنده بساحة الجامع الأزهر. وهناك غيري الكثير ممن جاءوا للقراءة بين يدي مولانا الشيخ عبد الحكيم. وقرأ أحدهم من سورة الزمر "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" وبكى فجأة بعد قراءة الاستعاذة وكلمة "سيق"، فقال له الشيخ متعجبًا "كيف تبكي بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، طب استنى أما تخش النار يا أخي".
كنت، وما زلت، أُذكّر نفسى دائما بأسباب ابن الجوزى؛ بأن العاقل إذا سمع (أو رأى) أخبار هؤلاء الحمقى عرف قدر ما وُهب؛ فحثه ذلك على الشكر. وكنت أتذكر، بجانب الشكر والحمد، أن هذه المواقف والحماقات تستدعى الضحك والتأمل لا البكاء والغضب. بل إن بعض العلماء كانت لهم عناية بجمع مثل هذه الأخبار والحكايات، وكتب عنها الجاحظ وسماها "عناية العلماء بالمُلح والفكاهات". وفى حديث مرفوع لأبى الدرداء، جاء "أجمّوا النفس بشيء من الباطل". وفي ما رُوي عن أسامة بن زيد قال: "روّحوا القلوب تعي الذكر".
https://almanassa.com/ar/story/1389
Published on March 27, 2016 06:23
March 16, 2016
السلطة وإعادة صياغة الحياة
ماهر عبد الرحمن
في رواية جورج أورويل 1984 يتخيل الكاتب أن هناك، في دولة ما، أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، أحد هذه الوزارات هي وزارة "الحقيقة"، وهي "تختص بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة"، وكان ونستون، الشخصية الرئيسية في الرواية، يعمل موظفًا في وزارة الحقيقة، ويقوم بمراجعة كل المطبوعات وإعادة صياغتها بما يتوافق مع ما يراه الحزب الحاكم: "فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب".
هكذا تعمل السلطة على ضبط المجتمع ومراقبة سلوك الأفراد فيه، فهي تتحكم وتمارس سلطتها ورقابتها على الأفراد ليس فقط بالعنف والقمع المباشر ضد أي خروج عليها وعلى قيمها وأخلاقها السائدة، ولكن أيضا من خلال إنتاج المعرفة وإعادة صياغتها دائمًا بما يتوافق مع مصلحتها واستمرار سلطتها.
من هنا تبدو أهمية النظر لأداة الرقابة كآلية من آليات السلطة الحاكمة في أي مجتمع. وإذا كان جورج أورويل كتب وتخيل مجتمعًا شموليًا بهذه الطريقة، تقوم فيه السلطة بالرقابة على أفراده وعقاب من يخرج علي قوانينه، فإنه يقدم تصوره الفني والخيالي عن نموذج لدولة "الشر المطلق" في سياق أدبي. ما أود أن أناقشه هنا ليس الخيال الفني للكاتب بقدر ما هو هذا التصور لدولة "الشر المطلق" والذي خرج من إطاره وسياقه الفني والأدبي إلى سياق آخر غير فني، وتقديمه أحيانا كوصف وتحليل حقيقي لوجود نموذج لما يسمى بـ "دولة الشر المطلق".
في كتاب "تاريخ الكذب" لجاك دريدا، ينتقد الفيلسوف الفرنسي أطروحة حنة آرندت عن "الكذب المطلق" أو "الشر المطلق" في المجال السياسي، باعتبار أن المفهوم يهدد بأن يكون بمثابة الوجه الآخر للمعرفة المطلقة أو "الحق المطلق" عند هيجل، و"الكذب المطلق" عند حنة آرندت قريب بقدر ما من دولة "الشر المطلق" التي تخيلها أورويل في روايته الطويلة.
بالعودة إلى حنة آرندت، فهي تقول في دراستها "الحقيقة والسياسة" إنه يمكن اعتبار اللجوء للكذب كأحد الوسائل الضرورية والمشروعة، ليس فقط لكل من يمتهن السياسة أو يمارس الديماجوجية، بل وكذلك لممارسة الحكم نفسه. فالحقيقة بطبيعتها "لا سياسية"، ولعلها مضادة للسياسة. باعتبار أن السياسي الماهر هو الذي يعرف أن الحقيقة عقيمة، معطلة للمبادرة؛ لذا فالسياسي يلجأ إلى الكذب والتضليل لدرجة تفتن الجمهور وتسحره وتضمن ولاءه. وهي في هذا النص لا تبرر الكذب بالتأكيد بقدر ما تحاول أن تشرح علاقته وضرورته في المجال السياسي وإدارة الحكم.
وترى آرندت أن الكذب لم يبلغ حدوده المطلقة إلا في عصرنا الحديث. وعلى عكس رؤية كاتب مثل أوسكار وايلد، الذي كان يشتكي من "انحطاط الكذب"، ومن تدني مستواه لدى السياسيين والمحامين والصحفيين في عصرنا هذا؛ فالكذب، في رأيه، فن لا يمكن له الاستمرار إلا من خلال ممارسات فنانين، ومستوى هؤلاء في إتقان فن الكذب في حالة هبوط مستمر. وعلى عكس الاحتضار الذي يراه وايلد، تعبر آرندت عن قلقها من التضخم والتنامي المفرط للكذب في عالم السياسة، وتقدم مقارنة بين الكذب القديم والتقليدي والذي لم يكن يتجاوز في طموحه مجرد حجب الحقيقة والالتفاف عليها. وبين الكذب الحديث والذي تصفه بأنه كارثي، فالكاذب الحديث يعرف أنك تعرف الحقيقة لكنه لا يكل من النيل من موضوعيتها ونقضها أمامك.
من وجهة نظر دريدا في دراسته، فمشكلة طرح آرندت، والذي نرى أن أورويل في سياق آخر أيضًا يتبناه في روايته، هو أنه يفترض إمكانية وجود معرفة مطلقة، أو دولة لا سلطوية في حالة أورويل. من البديهي أن الكاذب يعرف الحقيقة ويعرف أيضًا أنه يكذب، لكنه لا يعرف كل الحقيقة. إن آرندت تلتزم بالتعريف الكانطي للكذب، وهو التعريف المستحيل، فوفقًا لكانط ومن جانب قانوني وليس أخلاقي، على الإنسان أن يقول الحقيقة ويلتزم دائما بالصدق كواجب قطعي عليه، وبالتالي فهذا التعريف هو تعريف حقوقي عام ومجرد ولا تاريخي، حتى أن الكاتب بانجمان كونستان قال إن تعريف كانط من شأنه الحيلولة دون نشوء مجتمع. ويكمل دريدا أنه مع ذلك يمكن فهم، لا قبول، تعريف كانط للكذب في سياقه الحقوقي هذا. إلا أن ما قامت به آرندت في دراستها كان بمثابة استعارة لتعريف متعال ولا تاريخي لتطبيقه في مجال تاريخي ومختلف وهو المجال السياسي.
في مقابل التصور الروائي لأورويل عن دولة "الشر والرقابة والكذب المطلق" يقدم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في أكثر من دراسة له، وبالأساس في عمله المهم "المراقبة والعقاب"، قصة الرقابة وكيف تقوم بعملها بفاعلية في العصر الحديث. إنها قصة مشوقة ضمن قصة أكبر لعمل السلطة الحديثة بشكل عام. وفوكو لا يتحدث عن دولة شمولية وأخرى ديمقراطية ولا عن نموذج خيّر تماما في مقابل نموذج شرير تماما، وبالتأكيد لا عن الحق المطلق في مقابل الباطل المطلق. إن فوكو يقول أن حصيلة عصر التنوير الأوروبي، أنه ترك لنا، بالإضافة إلى الأنوار، القيود. وقد تحولت السلطة فيه من الملكية الاستبدادية إلى أنظمة حديثة تقوم على آليات الرقابة والسيطرة.
إن مؤسسات الدولة الحديثة أصبحت هي التي تعمل على تكوين الفرد، أو بالأصح على إنتاجه؛ فعملية تكوين الفرد هي عملية حديثة تمامًا كإحدى وظائف السلطة، وهي العملية التي يطلق عليها فوكو "الفردنة"، بمعنى تميز الفرد كشخص بالنسبة للعناصر الأخرى في العالم، وأيضًا تميز الشخص بالنسبة للأشخاص الآخرين؛ ومن ثم خلق موضوعات للسلطة أسهل في الرقابة والتحكم والسيطرة، ومن ثم يمكن تحليل طبيعة قوة السلطة وآلياتها من خلال تواجدها وتبديها. فالفرد الحديث يتم إنتاجه من خلال الرقابة عليه و تطويعه وإصلاحه.
إن الدولة والسلطة الحديثة هي بالتعريف مشروع للاستعمار اليومي؛ فكل تعامل مع الأجهزة والمؤسسات هو بمثابة إدماج وإعادة خلق وإنتاج للذات الفردية ضمن هذا الكيان الضخم، يحدث هذا في الأسرة، وفي المدارس، وفي السجون، وفي المستشفيات، وفي المصانع، وفي الخدمة العسكرية. فالذات الحديثة تولد من إجراءات العقاب والرقابة و التطويع والإكراه. وتاريخ إدماج السكان القسري لهذا الكيان الحديث، تاريخ خلق و"فردنة" ما يسمى "المواطن"، هو تاريخ طويل من العنف، الحقيقي والرمزي، ضد السكان لصالح قيام المشروع العقلاني الاستعماري اليومي المسمى "بالدولة الحديثة". إن فوكو يقدم لنا السلطة لا باعتبارها طبقة حاكمة في مواجهة طبقات يتم استغلالها، لكن باعتبارها إستراتيجية تتشكل وتتجسد في أجهزة الدولة، وفي صياغات القانون وفي الهيمنات الاجتماعية المتعددة، فالسلطة توجد في كل مكان ليس لأنها تشمل كل الأشياء لكن لأنها تأتي من كل مكان.
إن السلطة وفقا لفوكو ليست مؤسسة محددة، إنها إستراتيجية معقدة ومنتشرة في جميع الأنحاء. والفرد، على هذا النحو ووفقا لهذا التصور، لا يتم وضعه في مقابل السلطة، ولا في مقابل الحزب أو الأخ الكبير، كما يذهب أورويل، ولا في مقابل الطبقة الحاكمة كما تذهب الماركسية، بل باعتبار الفرد هو أحد آثار تلك السلطة، أو نتيجة من نتائجها. وتخلق هذه السلطة معايير السلوك والقيم والأخلاق من خلال ممارسة المراقبة وفرض الالتزامات وتطوير العادات للأفراد موضوع عملها وتبديها. وأخيرًا يقول فوكو إن كل تبّدي للسلطة لا بد وأن يظهر معه فعل مقاومة؛ لا كرد فعل مقابل، ولكن كطرف في حقل علاقات القوة. إن رواية أورويل وتصويره للسلطة والتصورات التي تُشبه ما كتبه أورويل، هي تصورات مغرية وجماهيرية لكنها تبسيطية. بالمقابل وببعض العناء والجهد يمكننا تأمل والاستفادة من تحليل فوكو للسلطة الحديثة وأشكال تبديها وآليات عملها وإمكانيات مقاومتها.
https://almanassa.com/ar/story/1332
في رواية جورج أورويل 1984 يتخيل الكاتب أن هناك، في دولة ما، أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، أحد هذه الوزارات هي وزارة "الحقيقة"، وهي "تختص بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة"، وكان ونستون، الشخصية الرئيسية في الرواية، يعمل موظفًا في وزارة الحقيقة، ويقوم بمراجعة كل المطبوعات وإعادة صياغتها بما يتوافق مع ما يراه الحزب الحاكم: "فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب".
هكذا تعمل السلطة على ضبط المجتمع ومراقبة سلوك الأفراد فيه، فهي تتحكم وتمارس سلطتها ورقابتها على الأفراد ليس فقط بالعنف والقمع المباشر ضد أي خروج عليها وعلى قيمها وأخلاقها السائدة، ولكن أيضا من خلال إنتاج المعرفة وإعادة صياغتها دائمًا بما يتوافق مع مصلحتها واستمرار سلطتها.
من هنا تبدو أهمية النظر لأداة الرقابة كآلية من آليات السلطة الحاكمة في أي مجتمع. وإذا كان جورج أورويل كتب وتخيل مجتمعًا شموليًا بهذه الطريقة، تقوم فيه السلطة بالرقابة على أفراده وعقاب من يخرج علي قوانينه، فإنه يقدم تصوره الفني والخيالي عن نموذج لدولة "الشر المطلق" في سياق أدبي. ما أود أن أناقشه هنا ليس الخيال الفني للكاتب بقدر ما هو هذا التصور لدولة "الشر المطلق" والذي خرج من إطاره وسياقه الفني والأدبي إلى سياق آخر غير فني، وتقديمه أحيانا كوصف وتحليل حقيقي لوجود نموذج لما يسمى بـ "دولة الشر المطلق".
في كتاب "تاريخ الكذب" لجاك دريدا، ينتقد الفيلسوف الفرنسي أطروحة حنة آرندت عن "الكذب المطلق" أو "الشر المطلق" في المجال السياسي، باعتبار أن المفهوم يهدد بأن يكون بمثابة الوجه الآخر للمعرفة المطلقة أو "الحق المطلق" عند هيجل، و"الكذب المطلق" عند حنة آرندت قريب بقدر ما من دولة "الشر المطلق" التي تخيلها أورويل في روايته الطويلة.
بالعودة إلى حنة آرندت، فهي تقول في دراستها "الحقيقة والسياسة" إنه يمكن اعتبار اللجوء للكذب كأحد الوسائل الضرورية والمشروعة، ليس فقط لكل من يمتهن السياسة أو يمارس الديماجوجية، بل وكذلك لممارسة الحكم نفسه. فالحقيقة بطبيعتها "لا سياسية"، ولعلها مضادة للسياسة. باعتبار أن السياسي الماهر هو الذي يعرف أن الحقيقة عقيمة، معطلة للمبادرة؛ لذا فالسياسي يلجأ إلى الكذب والتضليل لدرجة تفتن الجمهور وتسحره وتضمن ولاءه. وهي في هذا النص لا تبرر الكذب بالتأكيد بقدر ما تحاول أن تشرح علاقته وضرورته في المجال السياسي وإدارة الحكم.
وترى آرندت أن الكذب لم يبلغ حدوده المطلقة إلا في عصرنا الحديث. وعلى عكس رؤية كاتب مثل أوسكار وايلد، الذي كان يشتكي من "انحطاط الكذب"، ومن تدني مستواه لدى السياسيين والمحامين والصحفيين في عصرنا هذا؛ فالكذب، في رأيه، فن لا يمكن له الاستمرار إلا من خلال ممارسات فنانين، ومستوى هؤلاء في إتقان فن الكذب في حالة هبوط مستمر. وعلى عكس الاحتضار الذي يراه وايلد، تعبر آرندت عن قلقها من التضخم والتنامي المفرط للكذب في عالم السياسة، وتقدم مقارنة بين الكذب القديم والتقليدي والذي لم يكن يتجاوز في طموحه مجرد حجب الحقيقة والالتفاف عليها. وبين الكذب الحديث والذي تصفه بأنه كارثي، فالكاذب الحديث يعرف أنك تعرف الحقيقة لكنه لا يكل من النيل من موضوعيتها ونقضها أمامك.
من وجهة نظر دريدا في دراسته، فمشكلة طرح آرندت، والذي نرى أن أورويل في سياق آخر أيضًا يتبناه في روايته، هو أنه يفترض إمكانية وجود معرفة مطلقة، أو دولة لا سلطوية في حالة أورويل. من البديهي أن الكاذب يعرف الحقيقة ويعرف أيضًا أنه يكذب، لكنه لا يعرف كل الحقيقة. إن آرندت تلتزم بالتعريف الكانطي للكذب، وهو التعريف المستحيل، فوفقًا لكانط ومن جانب قانوني وليس أخلاقي، على الإنسان أن يقول الحقيقة ويلتزم دائما بالصدق كواجب قطعي عليه، وبالتالي فهذا التعريف هو تعريف حقوقي عام ومجرد ولا تاريخي، حتى أن الكاتب بانجمان كونستان قال إن تعريف كانط من شأنه الحيلولة دون نشوء مجتمع. ويكمل دريدا أنه مع ذلك يمكن فهم، لا قبول، تعريف كانط للكذب في سياقه الحقوقي هذا. إلا أن ما قامت به آرندت في دراستها كان بمثابة استعارة لتعريف متعال ولا تاريخي لتطبيقه في مجال تاريخي ومختلف وهو المجال السياسي.
في مقابل التصور الروائي لأورويل عن دولة "الشر والرقابة والكذب المطلق" يقدم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في أكثر من دراسة له، وبالأساس في عمله المهم "المراقبة والعقاب"، قصة الرقابة وكيف تقوم بعملها بفاعلية في العصر الحديث. إنها قصة مشوقة ضمن قصة أكبر لعمل السلطة الحديثة بشكل عام. وفوكو لا يتحدث عن دولة شمولية وأخرى ديمقراطية ولا عن نموذج خيّر تماما في مقابل نموذج شرير تماما، وبالتأكيد لا عن الحق المطلق في مقابل الباطل المطلق. إن فوكو يقول أن حصيلة عصر التنوير الأوروبي، أنه ترك لنا، بالإضافة إلى الأنوار، القيود. وقد تحولت السلطة فيه من الملكية الاستبدادية إلى أنظمة حديثة تقوم على آليات الرقابة والسيطرة.
إن مؤسسات الدولة الحديثة أصبحت هي التي تعمل على تكوين الفرد، أو بالأصح على إنتاجه؛ فعملية تكوين الفرد هي عملية حديثة تمامًا كإحدى وظائف السلطة، وهي العملية التي يطلق عليها فوكو "الفردنة"، بمعنى تميز الفرد كشخص بالنسبة للعناصر الأخرى في العالم، وأيضًا تميز الشخص بالنسبة للأشخاص الآخرين؛ ومن ثم خلق موضوعات للسلطة أسهل في الرقابة والتحكم والسيطرة، ومن ثم يمكن تحليل طبيعة قوة السلطة وآلياتها من خلال تواجدها وتبديها. فالفرد الحديث يتم إنتاجه من خلال الرقابة عليه و تطويعه وإصلاحه.
إن الدولة والسلطة الحديثة هي بالتعريف مشروع للاستعمار اليومي؛ فكل تعامل مع الأجهزة والمؤسسات هو بمثابة إدماج وإعادة خلق وإنتاج للذات الفردية ضمن هذا الكيان الضخم، يحدث هذا في الأسرة، وفي المدارس، وفي السجون، وفي المستشفيات، وفي المصانع، وفي الخدمة العسكرية. فالذات الحديثة تولد من إجراءات العقاب والرقابة و التطويع والإكراه. وتاريخ إدماج السكان القسري لهذا الكيان الحديث، تاريخ خلق و"فردنة" ما يسمى "المواطن"، هو تاريخ طويل من العنف، الحقيقي والرمزي، ضد السكان لصالح قيام المشروع العقلاني الاستعماري اليومي المسمى "بالدولة الحديثة". إن فوكو يقدم لنا السلطة لا باعتبارها طبقة حاكمة في مواجهة طبقات يتم استغلالها، لكن باعتبارها إستراتيجية تتشكل وتتجسد في أجهزة الدولة، وفي صياغات القانون وفي الهيمنات الاجتماعية المتعددة، فالسلطة توجد في كل مكان ليس لأنها تشمل كل الأشياء لكن لأنها تأتي من كل مكان.
إن السلطة وفقا لفوكو ليست مؤسسة محددة، إنها إستراتيجية معقدة ومنتشرة في جميع الأنحاء. والفرد، على هذا النحو ووفقا لهذا التصور، لا يتم وضعه في مقابل السلطة، ولا في مقابل الحزب أو الأخ الكبير، كما يذهب أورويل، ولا في مقابل الطبقة الحاكمة كما تذهب الماركسية، بل باعتبار الفرد هو أحد آثار تلك السلطة، أو نتيجة من نتائجها. وتخلق هذه السلطة معايير السلوك والقيم والأخلاق من خلال ممارسة المراقبة وفرض الالتزامات وتطوير العادات للأفراد موضوع عملها وتبديها. وأخيرًا يقول فوكو إن كل تبّدي للسلطة لا بد وأن يظهر معه فعل مقاومة؛ لا كرد فعل مقابل، ولكن كطرف في حقل علاقات القوة. إن رواية أورويل وتصويره للسلطة والتصورات التي تُشبه ما كتبه أورويل، هي تصورات مغرية وجماهيرية لكنها تبسيطية. بالمقابل وببعض العناء والجهد يمكننا تأمل والاستفادة من تحليل فوكو للسلطة الحديثة وأشكال تبديها وآليات عملها وإمكانيات مقاومتها.
https://almanassa.com/ar/story/1332
Published on March 16, 2016 06:36


