ماهرعبد الرحمن's Blog, page 3
July 27, 2017
تقدمية إلى الوراء..
في كتاب "المحاورات الجديدة أو دليل الرجل الذكي إلى الرجعية والتقدمية وغيرها من المذاهب الفكرية" للدكتور لويس عوض، وهو معارضة أو تقليد ظريف على منوال فكرة برنارد شو "دليل المرأة الذكية إلى الإشتراكية والرأسمالية والسوفيتية والفاشية"، لكن مع الفارق الكبير طبعا. في البداية بيكتب لويس عوض عن ذكاء "أدباء المنصورة" اللي قاموا بتنظيم مهرجان للأدب في يونيو 1965، وكان هو محاضر في ندوة بعنوان "لقاء الثقافات" وكان معه فيها: بنت الشاطئ ومحمد زكي عبد القادر ومحمود العالم. ودول ناس بالفعل بيمثلوا مختلف التيارات الفكرية بين اليمين واليسار، ولم يكن ينقصهم إلا اثنان ليمثلوا كل ألوان الطيف أو ثلاثة ليمثلوا كل درجات السلم الموسيقي.. والذكاء كان واضح في إن لويس عوض ومحمود العالم قابلوا قبل الندوة الشيخ محمد الغزالي وقعدوا يتكلموا لمدة ثلاث ساعات في الثقافة والأدب وأمور الدنيا والدين.. وأحد الأذكياء من أدباء المنصورة الشبان قام بتسجيل هذه الجلسة بدون علم المشاركين فيها واللي كانوا براحتهم شوية في الاختلاف فيما بينهم.. وبعد الندوة قرر الأذكياء أن يلطفوا الجو وياخدوا المفكرين والكتاب والأدباء الكبار إلى مصيف جمصة. فوجد الدكتور لويس نفسه على رمال الشاطئ مع عبد الرحمن الخميسي وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وعبد القادر القط وعز الدين إسماعيل وفاروق خورشيد ورجاء النقاش وعبده بدوي وعامر البحيري وعباس خضر.. وغيرهم من الأدباء والمتأدبين.. وكانت أكتر أسئلة الشاب عن معنى الرجعية والتقدمية، ففكر يكتب الكتاب ده باعتباره محاورات جديدة (زي محاورات أفلاطون) عن المفاهيم المختلفة جدا جدا بين كل الناس دي لمعنى الرجعية والتقدمية. فمثلا يعرفها المعلم العاشر :) بإن الرجعية هي من رجع يرجع والرجوع طبعا لا يكون إلا إلى الوراء.. والحالة الوحيدة اللي حصل فيها رجوع إلى الأمام كانت لبغلة البهاء زهير: وتخال مدبرة إذا ما اقبلت مستعجلة. أي أنها "بغلة" تتقدم إلى الوراء؛ ومن يستطيع أن يتقدم إلى الوراء يستطيع أيضا أن يرجع إلى الأمام.
لما بسمع شكوى من صديق أو صديقة من اللي مش إخوان لكن، مش بس بيحترموهم، لكن كمان بيروجوا ليهم ولمظلوميتهم وساهموا، من حيث لا يدرون أو يدرون لكن يستعبطون، لإنشاء تهمة "معاداة الإخوان" زي معاداة السامية كده.. لما بشوف شكواهم من إن الإخوان دول لما يقروا كلام مؤيد ليهم ومتعاطف معهم يبقوا كويسين وكيوت، لكن لو حد من الأصدقاء دول كتب دفاعا عن تحرر المرأة، أو عن المواطنة وقضايا اضطهاد الأقباط، أو حتى الدفاع عن قضايا اجتماعية للعمال والفقراء أو عن غيرها من القضايا.. بينقلب السحر على الساحر وتبقى شتيمة إخوانية ومكلمة واتهامات لا تنتهي في حق الأصدقاء اللي بيستغربوا من توحش رد الفعل ضدهم مع إنهم متورطين في صناعة التوحش. وبحس بتراجيدية موقفهم وهما بيقولوا بوداعة: يعني ده جزائنا إننا حضرنا العفريت!
تكرار المواقف دي بيفكرني بذكاء أدباء المنصورة وبتقدمية بغلة البهاء زهير، لكنها تقدمية إلى الوراء..
لما بسمع شكوى من صديق أو صديقة من اللي مش إخوان لكن، مش بس بيحترموهم، لكن كمان بيروجوا ليهم ولمظلوميتهم وساهموا، من حيث لا يدرون أو يدرون لكن يستعبطون، لإنشاء تهمة "معاداة الإخوان" زي معاداة السامية كده.. لما بشوف شكواهم من إن الإخوان دول لما يقروا كلام مؤيد ليهم ومتعاطف معهم يبقوا كويسين وكيوت، لكن لو حد من الأصدقاء دول كتب دفاعا عن تحرر المرأة، أو عن المواطنة وقضايا اضطهاد الأقباط، أو حتى الدفاع عن قضايا اجتماعية للعمال والفقراء أو عن غيرها من القضايا.. بينقلب السحر على الساحر وتبقى شتيمة إخوانية ومكلمة واتهامات لا تنتهي في حق الأصدقاء اللي بيستغربوا من توحش رد الفعل ضدهم مع إنهم متورطين في صناعة التوحش. وبحس بتراجيدية موقفهم وهما بيقولوا بوداعة: يعني ده جزائنا إننا حضرنا العفريت!
تكرار المواقف دي بيفكرني بذكاء أدباء المنصورة وبتقدمية بغلة البهاء زهير، لكنها تقدمية إلى الوراء..
Published on July 27, 2017 15:57
July 24, 2017
بنت الشاطئ.. تأملات في سيرة عَطِرة
ماهرعبد الرحمن
مع ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة كل عام والتي تعلن عن تميز وتفوق لأبناء الفقراء والتعليم المجاني، والبنات منهم تحديدا، أتذكر دائما العديد من النماذج الإنسانية المتميزة في تاريخنا والتي تمثل نماذج للإرادة الإنسانية القوية في مواجهة وتخطي كل الصعوبات، ومن هذه النماذج الدكتورة عائشة عبد الرحمن، التي تحكي في سيرتها الذاتية عن فترة تكوينها الأولى وكفاحها من أجل الاستمرار والنجاح في طريق تعليمها وتقول: "وهكذا مشيت على الدرب الوعر.. خفية عن التقاليد الساهرة على حراستي كيلا أنحرف عن الاتجاه المرسوم لي.. وخفية كذلك عن الأوضاع الطبقية والنظم التعليمية واللوائح المدرسية التي أقامت الحواجز والسدود في طريق مثلي ، إلى الجامعة". وكم تكون سعادتي بوجود بتكرار نماذج مشرفة مثل بنت الشاطئ، لديهن العزيمة والطموح وحب العلم والإخلاص لهذا الطريق الصعب، وتحدي كل الصعوبات صوب هدفهن؛ خاصة في هذه الأيام ومع تراجع قيم حب العلم والتفوق، لصالح قيم الوصول السهل وحب الظهور وهوس الشهرة ولفت الأنظار.
يمكن وصف الدكتورة بنت الشاطئ المولودة عام 1913 بأنها ربيبة مشايخ؛ فهي ابنة للعالم الأزهري والصوفي الكبير الشيخ محمد علي عبد الرحمن والذي علمها، ومعه زملائه من المشايخ والعلماء الأزهريين، من العلوم الإسلامية ما نفعها به. وقد أهدته، لفضله ورعايته، تحقيقها لكتاب "مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح" فكتبت تقول " إلى من أعزنى الله به أبًا تقيًّا زكيًّا ومعلمًا مرشدًا ورائدًا أمينًا ملهمًا، وإمامًا مهيبًا قدوة فضيلة والدى العارف بالله العالم العامل: الشيخ محمد على عبد الرحمن الحسينى نذرنى رضى الله عنه لعلوم الإسلام ووجَّهنى من المهد إلى المدرسة الإسلامية وقاد خُطاى الأولى على الطريق السوى يحصننى بمناعة تحمى فطرتى من ذرائع المسخ والتشويه". والدكتورة عائشة، هي أيضا، حفيدة لأجداد من علماء الأزهر ورواده، وجد أمها كان هو الشيخ أحمد الدمهوجي إمام وشيخ الجامع الأزهر. وسوف تكون، فيما بعد، هي أول سيدة تحاضر في جامعة الأزهر. تعلمت في صغرها وفقاً لتقاليد صارمة لتعليم النساء في هذا الوقت وحفظت القرآن الكريم كاملا في سن صغيرة بالكتاب على يد الشيخ مرسي. ومع الوقت كانت تفكر، مثل بنات جيرانهم، في الذهاب إلى المدرسة. كان شاردة بسبب هذا الأمر لمعرفتها وخوفها من رفض أبيها، والذي سألها مرة عن سر شرودها عن دروس العلم الإسلامي وعلى غير عادتها، فتشجعت وقالت له إنها تريد أن تذهب إلى المدرسة. فرفض منها ذلك بحسم شديد؛ فليس لبنات المشايخ والعلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة والمفسدة، وإنما يتعلمن في بيوتهن. وأمرها أن تقرأ سورة الأحزاب حتى وصلت إلى قوله تعالي: "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى". وكان والدها معتزا بنسبه الشريف إلى جده الإمام الحسين. وجدها الشيخ الدمهوجي هو الذي تدخل ليقنع والدها بالالتحاق بالمدرسة، باعتبار أنها لم تبلغ مبلغ النساء بعد، وأيضا بوعد أن تدرس من المنزل ولا تخرج إلا من أجل الإمتحانات فقط وألا تتهاون ولا تقصر في دروسها الإسلامية، وأن تنقطع نهائيا حين تصل إلى سن البلوغ.
لكنها كانت تُكمل طريقها، دائما، بمفاوضات ووساطات جديدة حتى النهاية. نالت من المنزل شهادة الكفاءة للمعلمات سنة 1929م وكانت الأولى على القطر المصري، ثم حصلت على الشهادة الثانوية سنة 1930م. بدأت الكتابة فى مجلة "النهضة النسائية" عام 1935، وبعدها بعام كتبت فى جريدة "الأهرام" وكانت بذلك ثانى امرأة تكتب بالأهرام بعد الأديبة الآنسة مى زيادة. التحقت بكلية الآداب بجامعة فؤاد (القاهرة حاليا) وتخرجت في قسم اللغة العربية سنة 1939. ونالت الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941 وكان موضوعها "الحياة الإنسانية لأبي العلاء"، وحصلت على الدكتوراة في الأدب سنة 1950م. برسالتها وتحقيقها لنص "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري وبإشراف الدكتور طه حسين؛ وبالتالي يمكن اعتبارها من تلاميذ طه حسين، المستنير والمجدد الكبير، لكنها من الجانب المشيخي والمحافظ من تلاميذه، مثلها مثل شوقي ضيف ومحمود شاكر مثلا. والدكتور طه حسين كتب رسالته للدكتوراة عن أبي العلاء وكان ذلك في عام 1914. ويمكن للمرء أن يدرك الفرق الكبير بين رؤية وتناول طه حسين لشخصية أبي العلاء والتناول المختلف الذي قدمته بنت الشاطئ في تحقيقها لنص الغفران. ولعل من ضمن أسباب دراستها لأبي العلاء أن يكون في هذا نوع من أنواع الاستدراك علي ما قدمه الدكتور طه. وكان الدكتور طه يشجعها وينصت لها ويصبر عليها أكثر مما كانت تصبر هي عليه كما ذكرت هي بنفسها عن أستاذها. وكان يرى أن هذا التنوع في الرؤى والتناول هو الذي يؤدي إلى نهضة البحث العلمي. كانت التربية الأزهرية لبنت الشاطئ قد جعلتها تتعرف على نمط من أنماط المؤلفات الشهيرة في العصور الإسلامية مثل: الفوات، والذيل، والمستدركات، والتكملة، والتهذيب، وتهذيب التهذيب.. إلخ. فكانت لشخصيتها العنيدة والمستقلة، ولثقتها بنفسها والتي كانت تزيد أحيانا في صدر شبابها؛ ما يجعلها تتحمس لأن تتصدى هنا مثلا للاستدراك على عميد الأدب العربي. وكانت أثناء اعدادها للرسالة، تعانده وتختلف معه أيضا، بالإضافة إلى موضوع أبي العلاء وفلسفته، في قضيتي: المتنبي ونسبه المجهول؛ وبالتالي فهمه المختلف لشعره المتعلق بعلويته، وكان ينكرها طه حسين ويرى أن المتنبي كان شاعرا فحلا لكنه لقيط على كل حال. وكذلك تعانده في قضية انتحال والتشكيك في صحة الشعر الجاهلي. كانت تعانده بحب وإجلال كبير وتعرف قدره وقيمته وأستاذيته حق المعرفة. كانت الدكتورة عائشة دائما صاحبة رأي وقناعة وشخصية قوية في الحياة وفي الأفكار التي تؤمن بها، فرغم التربية التقليدية التى خرجت منها بنت الشاطئ إلا أنها، ومنذ الصغر، كانت لا تترك فرصة للتحرر أو للتعبير عن نفسها إلا واقتنصتها، بداية من إصرارها على أن تكمل تعليمها حتى وصلت إلى الجامعة عبر تحديات بينها وبين أبيها، وبينها وبين الفقر، والأهم، بينها وبين نفسها. والأهم كانت قصة حبها وزواجها من أستاذها الجليل أمين الخولي.
في حياة الدكتورة عائشة عبد الرحمن يومين لميلادها، الأول هو الميلاد الحقيقي في 6 نوفمبر سنة 1913 في مدينة دمياط بشمال مصر، والآخر، على ما ذكرت، هو يوم لقاءها بأستاذها وزوجها فيما بعد، الأستاذ أمين الخولي، وهو يوم 6 أكتوبر سنة 1936، في هذا اليوم، الذي تحكي عنه وتسجله في سيرة حياتها بكتابها "على الجسر" وُلد في قبلها هذا الحب الكبير " منذ ذلك اللقاء ارتبطت به نفسيا وعقليا، كأني قطعت العمر أبحث عنه في متاهة الدنيا، وخضم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغل بالي بظروف وعوائق قد تحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط سوى أني لقيته، وما عدا ذلك ليس بذي بال، وقد انصرفت من درسه الأول في اليوم السادس من أكتوبر سنة 1936 وأنا أحس بأني ولدت من جديد". تحكي بنت الشاطئ عن بداية هذه القصة مع الشيخ أمين الخولي "كان يقسو علي وأنا طالبته في الجامعة، وأقصى قسوته منذ التقينا كانت عندما أعطاني صفرا في البحث الذي تقدمت به إليه وكان بحثا في أسباب النزول. فذهبت إليه بعدها وسألته: لما كل هذه القسوة؟ فقال: إن الشخص الجيد يجب أن يتم إعداه بشكل جيد أيضا، والجامعة أحد أهم أهدفها هو إخراج طالب تام، وأن الواحد الصحيح أفضل من النصف يا عائشة. في هذا اليوم شعرت بالحب نحوه في قلبها، وتزوجنا فيما بعد". لكن هذا الزواج كان سببا للعديد من المشاكل في وقته، لها ثم له فيما بعد. حتى أن بعض المقربين منها قاطعوها ووجهوا لها نقدا قاسيا بسبب فارق السن الكبير بينها وبينه، كما أنها ستكون الزوجة الثانية له مع وجود زوجته الأولى. وكانت قصة الحب هذه موضوعا للشائعات والغمزات الكثيرة التي أراد بها بعض المنتقدين أن يسيئوا من خلالها إلى بنت الشاطئ وزوجها العالم الجليل، لكنها صبرت وتمسكت بعواطفها العميقة الصادقة، ويتم الزواج بينهما بالفعل في سنة 1944.
خاضت عائشة عبد الرحمن، أيضا، الكثير من المعارك الفكرية دفاعًا عن الإسلام وكان أبرزها معركتها الشهيرة ضد التفسير العصرى للقرآن الكريم الذي اخترعه الدكتور مصطفى محمود والتي هاجمته بشدة لترويجه لوجود إعجاز علمي في القرآن، وفندت بعلمها ولغتها كل حججه؛ دفاعا عن إيمانها ومعتقدها بعظمة وقدسية القرآن والإسلام. وخاضت معارك في سبيل دعمها لاحترام المرأة والدفاع والكتابة عنها وعن أهمية تعليمها وعملها. وهي أول من صنفت كتبا مفردة ومتفردة لتراجم سيدات بيت النبوة؛ فكل كتب السيرة التراثية المشهورة تحدثت بالأساس عن سيرة النبي من حيث كونه نبيا مرسلا، وقائدا عظيما للمسلمين. لكن بنت الشاطئ كتبت عنه في هذه التراجم، ابنا، وزوجا، وأبا، وجدا. وخاضت، أيضا، معركة شهيرة مع عباس العقاد عن رؤيته الحادة والقاسية عن المرأة. ففي إحدى المرات شاهد العقاد الدكتورة بنت الشاطئ فسألها عن رأيها في روايته "سارة" فردت عليه قائلة: إنها لا ترى المرأة أبدا كما يصورها العقاد في روايته تلك.. ولما كان بصدد أن يكتب في تفسير القرآن وأصدر أول ما أصدر كتاب عن "المرأة في القرآن" وصب فيه كل غضبه ونقمته ضد المرأة، فقال مثلا إنه من المستحيل أن تكون المرأة نظيفة أبدا، وأن المرأة قذرة سافلة متخلفة ناقصة، لا خلق لها ولا ضمير.. فما كان من بنت الشاطئ إلا أن ردت على كلامه وتحقيره للمرأة بهذه الصورة وتفسيره المتجني لبعض آيات القرآن التي أوردها للتدليل على صحة رأيه. وذكرت أن من النساء فاطمة بنت النبي وخديجة أم المؤمنين وسيدات بيت النبوة الأطهار. كان بداية ردها عليه في مقال لها بعنوان "اللهم إني صائمة". ثم رد العقاد عليها بالتجريح والتجاهل في نفس الوقت، حيث كتب: إن السيدة بنت الشاطىء لا تحوجنا إلى جواب، لأنها هي بذاتها جوابنا المفحم، ولو أننا بحثنا عن رد عليها أقوى منها لإقناعها لأعيتنا الردود، فمن الخير أن يُصان الكلام لغير هذا المجال. مما زاد من ثورتها لتكتب مقالها الثاني والذ كان بعنوان "ما لم أقوله وأنا صائمة". فما كان من العقاد إلا أن كتب ورد، هذه المرة، بقسوته وصرامته المعهودة عنه فقال عنها "لا أضعها فى عالم النساء، ولا فى عالم الرجال وإنها المثل الواضح على تناقض المرأة حتى فى الشكل وليس المضمون فحسب". وأكمل "إننى أعجب من دفاع امرأة هى رقم اثنين فى الترتيب عند الرجل الزوج بالنسبة إلى بنات جنسها من النساء.. كيف تسمح لنفسها بأن تدافع عن المرأة وكأن جميع النساء وكلوها نيابة عنهن؟!" وردت بمقال ثالث ختمت به المعركة من جانبها وقررت ذلك احتراما لنفسها بأن تصمت ولا تكرر الكلام ولا تنزلق في الرد أكثر من هذا. وقالت في نهاية مقالها الأخير "بقيت كلمة أرجوا أن تحسم هذا الموقف الكريه وهي أن كل ما يقوله الكاتب وغيره من خير في الرجال فهو منا وإلينا، لأنهم أبناؤنا وأزواجنا وإخوتنا وأباؤنا، وكل شر يقال في المرأة فهو حتماً مردود إلى الرجل، لأن الدنيا لم تعرف رجلاً لم تلده أنثى". طوال هذه المعركة، ولا في غيرها من المعارك الفكرية، لم يتخل أو يرد الشيخ أمين الخولي زوجها، ولا تلاميذه؛ احتراما وتقديرا لها، وأنها تستطيع ولديها القدرة والحجة العلمية للرد، كما أنها لم تطلب، في أي مرة، أي تدخل.
عاشت الدكتورة بنت الشاطئ حياة ممتدة وغنية بالعلم والمعرفة والكفاح والمعارك الفكرية. وظلت حتى النهاية تكتب بأسلوبها ونثرها الجميل والفصيح، من أثر القرآن عليها وعلى لغتها، وتضيف بعلمها الغزير لتعيد قراءة القديم وتقدمه في صورة جديدة بإضافاتها ورؤيتها. وكانت تكتب حتى آخر أيامها مقالاتها الشهيرة في الأهرام بعنوان "شاهدة عصر" وآخر مقال لها كان بعنوان "علي بن أبي طالب كرم الله وجهه" يوم 26/11/1998م أي قبل وفاتها بأربعة أيام. وتوفيت يوم الثلاثاء 1 ديسمبر 1998م. وودعتها مصر بجنازة مهيبة تليق بعالمة كبيرة وإنسانة عظيمة هي الدكتور عائشة عبد الرحمن.
https://almanassa.net/ar/story/5218
مع ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة كل عام والتي تعلن عن تميز وتفوق لأبناء الفقراء والتعليم المجاني، والبنات منهم تحديدا، أتذكر دائما العديد من النماذج الإنسانية المتميزة في تاريخنا والتي تمثل نماذج للإرادة الإنسانية القوية في مواجهة وتخطي كل الصعوبات، ومن هذه النماذج الدكتورة عائشة عبد الرحمن، التي تحكي في سيرتها الذاتية عن فترة تكوينها الأولى وكفاحها من أجل الاستمرار والنجاح في طريق تعليمها وتقول: "وهكذا مشيت على الدرب الوعر.. خفية عن التقاليد الساهرة على حراستي كيلا أنحرف عن الاتجاه المرسوم لي.. وخفية كذلك عن الأوضاع الطبقية والنظم التعليمية واللوائح المدرسية التي أقامت الحواجز والسدود في طريق مثلي ، إلى الجامعة". وكم تكون سعادتي بوجود بتكرار نماذج مشرفة مثل بنت الشاطئ، لديهن العزيمة والطموح وحب العلم والإخلاص لهذا الطريق الصعب، وتحدي كل الصعوبات صوب هدفهن؛ خاصة في هذه الأيام ومع تراجع قيم حب العلم والتفوق، لصالح قيم الوصول السهل وحب الظهور وهوس الشهرة ولفت الأنظار.
يمكن وصف الدكتورة بنت الشاطئ المولودة عام 1913 بأنها ربيبة مشايخ؛ فهي ابنة للعالم الأزهري والصوفي الكبير الشيخ محمد علي عبد الرحمن والذي علمها، ومعه زملائه من المشايخ والعلماء الأزهريين، من العلوم الإسلامية ما نفعها به. وقد أهدته، لفضله ورعايته، تحقيقها لكتاب "مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح" فكتبت تقول " إلى من أعزنى الله به أبًا تقيًّا زكيًّا ومعلمًا مرشدًا ورائدًا أمينًا ملهمًا، وإمامًا مهيبًا قدوة فضيلة والدى العارف بالله العالم العامل: الشيخ محمد على عبد الرحمن الحسينى نذرنى رضى الله عنه لعلوم الإسلام ووجَّهنى من المهد إلى المدرسة الإسلامية وقاد خُطاى الأولى على الطريق السوى يحصننى بمناعة تحمى فطرتى من ذرائع المسخ والتشويه". والدكتورة عائشة، هي أيضا، حفيدة لأجداد من علماء الأزهر ورواده، وجد أمها كان هو الشيخ أحمد الدمهوجي إمام وشيخ الجامع الأزهر. وسوف تكون، فيما بعد، هي أول سيدة تحاضر في جامعة الأزهر. تعلمت في صغرها وفقاً لتقاليد صارمة لتعليم النساء في هذا الوقت وحفظت القرآن الكريم كاملا في سن صغيرة بالكتاب على يد الشيخ مرسي. ومع الوقت كانت تفكر، مثل بنات جيرانهم، في الذهاب إلى المدرسة. كان شاردة بسبب هذا الأمر لمعرفتها وخوفها من رفض أبيها، والذي سألها مرة عن سر شرودها عن دروس العلم الإسلامي وعلى غير عادتها، فتشجعت وقالت له إنها تريد أن تذهب إلى المدرسة. فرفض منها ذلك بحسم شديد؛ فليس لبنات المشايخ والعلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة والمفسدة، وإنما يتعلمن في بيوتهن. وأمرها أن تقرأ سورة الأحزاب حتى وصلت إلى قوله تعالي: "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى". وكان والدها معتزا بنسبه الشريف إلى جده الإمام الحسين. وجدها الشيخ الدمهوجي هو الذي تدخل ليقنع والدها بالالتحاق بالمدرسة، باعتبار أنها لم تبلغ مبلغ النساء بعد، وأيضا بوعد أن تدرس من المنزل ولا تخرج إلا من أجل الإمتحانات فقط وألا تتهاون ولا تقصر في دروسها الإسلامية، وأن تنقطع نهائيا حين تصل إلى سن البلوغ.
لكنها كانت تُكمل طريقها، دائما، بمفاوضات ووساطات جديدة حتى النهاية. نالت من المنزل شهادة الكفاءة للمعلمات سنة 1929م وكانت الأولى على القطر المصري، ثم حصلت على الشهادة الثانوية سنة 1930م. بدأت الكتابة فى مجلة "النهضة النسائية" عام 1935، وبعدها بعام كتبت فى جريدة "الأهرام" وكانت بذلك ثانى امرأة تكتب بالأهرام بعد الأديبة الآنسة مى زيادة. التحقت بكلية الآداب بجامعة فؤاد (القاهرة حاليا) وتخرجت في قسم اللغة العربية سنة 1939. ونالت الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941 وكان موضوعها "الحياة الإنسانية لأبي العلاء"، وحصلت على الدكتوراة في الأدب سنة 1950م. برسالتها وتحقيقها لنص "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري وبإشراف الدكتور طه حسين؛ وبالتالي يمكن اعتبارها من تلاميذ طه حسين، المستنير والمجدد الكبير، لكنها من الجانب المشيخي والمحافظ من تلاميذه، مثلها مثل شوقي ضيف ومحمود شاكر مثلا. والدكتور طه حسين كتب رسالته للدكتوراة عن أبي العلاء وكان ذلك في عام 1914. ويمكن للمرء أن يدرك الفرق الكبير بين رؤية وتناول طه حسين لشخصية أبي العلاء والتناول المختلف الذي قدمته بنت الشاطئ في تحقيقها لنص الغفران. ولعل من ضمن أسباب دراستها لأبي العلاء أن يكون في هذا نوع من أنواع الاستدراك علي ما قدمه الدكتور طه. وكان الدكتور طه يشجعها وينصت لها ويصبر عليها أكثر مما كانت تصبر هي عليه كما ذكرت هي بنفسها عن أستاذها. وكان يرى أن هذا التنوع في الرؤى والتناول هو الذي يؤدي إلى نهضة البحث العلمي. كانت التربية الأزهرية لبنت الشاطئ قد جعلتها تتعرف على نمط من أنماط المؤلفات الشهيرة في العصور الإسلامية مثل: الفوات، والذيل، والمستدركات، والتكملة، والتهذيب، وتهذيب التهذيب.. إلخ. فكانت لشخصيتها العنيدة والمستقلة، ولثقتها بنفسها والتي كانت تزيد أحيانا في صدر شبابها؛ ما يجعلها تتحمس لأن تتصدى هنا مثلا للاستدراك على عميد الأدب العربي. وكانت أثناء اعدادها للرسالة، تعانده وتختلف معه أيضا، بالإضافة إلى موضوع أبي العلاء وفلسفته، في قضيتي: المتنبي ونسبه المجهول؛ وبالتالي فهمه المختلف لشعره المتعلق بعلويته، وكان ينكرها طه حسين ويرى أن المتنبي كان شاعرا فحلا لكنه لقيط على كل حال. وكذلك تعانده في قضية انتحال والتشكيك في صحة الشعر الجاهلي. كانت تعانده بحب وإجلال كبير وتعرف قدره وقيمته وأستاذيته حق المعرفة. كانت الدكتورة عائشة دائما صاحبة رأي وقناعة وشخصية قوية في الحياة وفي الأفكار التي تؤمن بها، فرغم التربية التقليدية التى خرجت منها بنت الشاطئ إلا أنها، ومنذ الصغر، كانت لا تترك فرصة للتحرر أو للتعبير عن نفسها إلا واقتنصتها، بداية من إصرارها على أن تكمل تعليمها حتى وصلت إلى الجامعة عبر تحديات بينها وبين أبيها، وبينها وبين الفقر، والأهم، بينها وبين نفسها. والأهم كانت قصة حبها وزواجها من أستاذها الجليل أمين الخولي.
في حياة الدكتورة عائشة عبد الرحمن يومين لميلادها، الأول هو الميلاد الحقيقي في 6 نوفمبر سنة 1913 في مدينة دمياط بشمال مصر، والآخر، على ما ذكرت، هو يوم لقاءها بأستاذها وزوجها فيما بعد، الأستاذ أمين الخولي، وهو يوم 6 أكتوبر سنة 1936، في هذا اليوم، الذي تحكي عنه وتسجله في سيرة حياتها بكتابها "على الجسر" وُلد في قبلها هذا الحب الكبير " منذ ذلك اللقاء ارتبطت به نفسيا وعقليا، كأني قطعت العمر أبحث عنه في متاهة الدنيا، وخضم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغل بالي بظروف وعوائق قد تحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط سوى أني لقيته، وما عدا ذلك ليس بذي بال، وقد انصرفت من درسه الأول في اليوم السادس من أكتوبر سنة 1936 وأنا أحس بأني ولدت من جديد". تحكي بنت الشاطئ عن بداية هذه القصة مع الشيخ أمين الخولي "كان يقسو علي وأنا طالبته في الجامعة، وأقصى قسوته منذ التقينا كانت عندما أعطاني صفرا في البحث الذي تقدمت به إليه وكان بحثا في أسباب النزول. فذهبت إليه بعدها وسألته: لما كل هذه القسوة؟ فقال: إن الشخص الجيد يجب أن يتم إعداه بشكل جيد أيضا، والجامعة أحد أهم أهدفها هو إخراج طالب تام، وأن الواحد الصحيح أفضل من النصف يا عائشة. في هذا اليوم شعرت بالحب نحوه في قلبها، وتزوجنا فيما بعد". لكن هذا الزواج كان سببا للعديد من المشاكل في وقته، لها ثم له فيما بعد. حتى أن بعض المقربين منها قاطعوها ووجهوا لها نقدا قاسيا بسبب فارق السن الكبير بينها وبينه، كما أنها ستكون الزوجة الثانية له مع وجود زوجته الأولى. وكانت قصة الحب هذه موضوعا للشائعات والغمزات الكثيرة التي أراد بها بعض المنتقدين أن يسيئوا من خلالها إلى بنت الشاطئ وزوجها العالم الجليل، لكنها صبرت وتمسكت بعواطفها العميقة الصادقة، ويتم الزواج بينهما بالفعل في سنة 1944.
خاضت عائشة عبد الرحمن، أيضا، الكثير من المعارك الفكرية دفاعًا عن الإسلام وكان أبرزها معركتها الشهيرة ضد التفسير العصرى للقرآن الكريم الذي اخترعه الدكتور مصطفى محمود والتي هاجمته بشدة لترويجه لوجود إعجاز علمي في القرآن، وفندت بعلمها ولغتها كل حججه؛ دفاعا عن إيمانها ومعتقدها بعظمة وقدسية القرآن والإسلام. وخاضت معارك في سبيل دعمها لاحترام المرأة والدفاع والكتابة عنها وعن أهمية تعليمها وعملها. وهي أول من صنفت كتبا مفردة ومتفردة لتراجم سيدات بيت النبوة؛ فكل كتب السيرة التراثية المشهورة تحدثت بالأساس عن سيرة النبي من حيث كونه نبيا مرسلا، وقائدا عظيما للمسلمين. لكن بنت الشاطئ كتبت عنه في هذه التراجم، ابنا، وزوجا، وأبا، وجدا. وخاضت، أيضا، معركة شهيرة مع عباس العقاد عن رؤيته الحادة والقاسية عن المرأة. ففي إحدى المرات شاهد العقاد الدكتورة بنت الشاطئ فسألها عن رأيها في روايته "سارة" فردت عليه قائلة: إنها لا ترى المرأة أبدا كما يصورها العقاد في روايته تلك.. ولما كان بصدد أن يكتب في تفسير القرآن وأصدر أول ما أصدر كتاب عن "المرأة في القرآن" وصب فيه كل غضبه ونقمته ضد المرأة، فقال مثلا إنه من المستحيل أن تكون المرأة نظيفة أبدا، وأن المرأة قذرة سافلة متخلفة ناقصة، لا خلق لها ولا ضمير.. فما كان من بنت الشاطئ إلا أن ردت على كلامه وتحقيره للمرأة بهذه الصورة وتفسيره المتجني لبعض آيات القرآن التي أوردها للتدليل على صحة رأيه. وذكرت أن من النساء فاطمة بنت النبي وخديجة أم المؤمنين وسيدات بيت النبوة الأطهار. كان بداية ردها عليه في مقال لها بعنوان "اللهم إني صائمة". ثم رد العقاد عليها بالتجريح والتجاهل في نفس الوقت، حيث كتب: إن السيدة بنت الشاطىء لا تحوجنا إلى جواب، لأنها هي بذاتها جوابنا المفحم، ولو أننا بحثنا عن رد عليها أقوى منها لإقناعها لأعيتنا الردود، فمن الخير أن يُصان الكلام لغير هذا المجال. مما زاد من ثورتها لتكتب مقالها الثاني والذ كان بعنوان "ما لم أقوله وأنا صائمة". فما كان من العقاد إلا أن كتب ورد، هذه المرة، بقسوته وصرامته المعهودة عنه فقال عنها "لا أضعها فى عالم النساء، ولا فى عالم الرجال وإنها المثل الواضح على تناقض المرأة حتى فى الشكل وليس المضمون فحسب". وأكمل "إننى أعجب من دفاع امرأة هى رقم اثنين فى الترتيب عند الرجل الزوج بالنسبة إلى بنات جنسها من النساء.. كيف تسمح لنفسها بأن تدافع عن المرأة وكأن جميع النساء وكلوها نيابة عنهن؟!" وردت بمقال ثالث ختمت به المعركة من جانبها وقررت ذلك احتراما لنفسها بأن تصمت ولا تكرر الكلام ولا تنزلق في الرد أكثر من هذا. وقالت في نهاية مقالها الأخير "بقيت كلمة أرجوا أن تحسم هذا الموقف الكريه وهي أن كل ما يقوله الكاتب وغيره من خير في الرجال فهو منا وإلينا، لأنهم أبناؤنا وأزواجنا وإخوتنا وأباؤنا، وكل شر يقال في المرأة فهو حتماً مردود إلى الرجل، لأن الدنيا لم تعرف رجلاً لم تلده أنثى". طوال هذه المعركة، ولا في غيرها من المعارك الفكرية، لم يتخل أو يرد الشيخ أمين الخولي زوجها، ولا تلاميذه؛ احتراما وتقديرا لها، وأنها تستطيع ولديها القدرة والحجة العلمية للرد، كما أنها لم تطلب، في أي مرة، أي تدخل.
عاشت الدكتورة بنت الشاطئ حياة ممتدة وغنية بالعلم والمعرفة والكفاح والمعارك الفكرية. وظلت حتى النهاية تكتب بأسلوبها ونثرها الجميل والفصيح، من أثر القرآن عليها وعلى لغتها، وتضيف بعلمها الغزير لتعيد قراءة القديم وتقدمه في صورة جديدة بإضافاتها ورؤيتها. وكانت تكتب حتى آخر أيامها مقالاتها الشهيرة في الأهرام بعنوان "شاهدة عصر" وآخر مقال لها كان بعنوان "علي بن أبي طالب كرم الله وجهه" يوم 26/11/1998م أي قبل وفاتها بأربعة أيام. وتوفيت يوم الثلاثاء 1 ديسمبر 1998م. وودعتها مصر بجنازة مهيبة تليق بعالمة كبيرة وإنسانة عظيمة هي الدكتور عائشة عبد الرحمن.
https://almanassa.net/ar/story/5218
Published on July 24, 2017 02:21
July 11, 2017
بنت الشاطئ.. على الجسر
إحدى الصديقات دايما بتشير وكأنها بتحرضني للكتابة عن قصة بنت الشاطئ وزوجها وأستاذها أمين الخولي. وهي بالفعل من القصص الكبرى في الحب والألفة والإنسانية والإجلال.. وعشان كده بكتب أهوه وللإشارة لهذه الرابطة الوثيقة من الحب والسكينة بين أستاذ وإنسان عظيم، وتلميذة نجيبة وأستاذة متفوقة فيما بعد. بنت الشاطئ خرجت من أسرة وتربية ريفية محافظة ورغم ذلك فهي ومنذ الصغر كانت لا تترك فرصة للتحرر من تلك القيم إلا واقتنصتها. فبداية من إصرارها على أن تكمل تعليمها حتى وصلت إلى الجامعة عبر تحديات بينها وبين أبيها، وبينها وبين الفقر، والأهم، بينها وبين نفسها، ومثابرتها في باب تحصيل العلم.. وكان نجاحها فى كل مرة يزيدها قوة وصلابة فى الدفاع عن حقها فى الاستمرار. وعلى حد ما تروى فى حكايتها، فقد كان محصولها فى العلم أكبر بكثير مما تجده فى مراحل التعليم التى مرت بها. حتى وصلت للجامعة وتخيلت فى البداية أن زادها من العلم سوف يجعلها تتفوق هنا وتبهر الأساتذة، ولعلها-بطيش الشباب المعتاد- تخيلت أنها تستطيع التفوق على أساتذة الجامعة! تقول فى قصة حياتها في كتاب "على الجسر": "هناك.. حيث أخذت مكانى فى قاعة الدرس بالجامعة، متحفزة للجولة الباقية لى على الطريق، ومستجمعة كل رصيدى المتضخم من زهو الطموح وإرادة التفوق، ومتأهبة لعرض بضاعتى التى تزودت بها من مدرستى الأولى، فى تحد واثق من النصر". ثم دخل الأستاذ أمين الخولى (وهذه كانت أول مرة يلتقيان) وكان أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغة والنقد بكلية الآداب جامعة فؤاد (ويتسحق هذا الرجل المتنور المجدد العظيم كتابة مستقلة لدوره الإصلاحي الكبير وإيمانه ودفاعه عن حرية الاجتهاد وانفتاحه وثقافته، وفضله على انفتاح تلاميذه ومنهم الدكتور عائشة، وأيضا فضل طه حسين مشرفها وأستاذها في رسالتها عن أبي العلاء، بل وفضل أبي العلا نفسه!). وعرض الأستاذ أمين ،بوقاره المعتاد، على الطلبة مباحث المادة المقررة من باب التعارف، ولكل طالب أن يختار مبحثا منها لكى يكتب فيه فصلا ويعرضه للمناقشة. تقول:"وبادرت فأعلنت اختيارى للمبحث الأول فى نزول القرآن". فلم يلتفت الشيخ المجرب، رغم ما اشتهر عنه من صرامته، وأكمل المباحث على الطلبة..وسألهم كم يكفى كل واحد منكم من الوقت؟ فبادرت هى: يكفينى يوم أو بعض يوم!
الأستاذ أمين: فكرى مليا
عائشة: هل يكفى أن أراجع فى موضوعى، بكتاب "البرهان"..وكتابى "الاتقان، واللباب"..، مع الاستئناس بالسيرة الهشامية، وطبقات ابن سعد، وتفسير الطبرى؟
- كتاب منها يكفى، لو أنك عرفت حقا كيف تقرئين!
-ماذكرت هذه الكتب إلا لأنى قرأتها كلها..وإنما كان سؤالى عن مصادر أجنبية..
-لو أدركت الفرق بين المصادر والمراجع، لما تورطت فى مثل هذا السؤال المنكر!
ولحظتها "كنت أتمنى لو توقف الزمن، ليظل الأستاذ يتكلم، وأنا أصغى وأتعلم" " وإنجلى ما حسبته سرابا، فإذا الجامعة تعطينى من جديدها ما لم يخطر لى قط على بال" "آمنت من اللحظة الأولى للقائنا، أنه اللقاء الذى تقرر فى ضمير الغيب منذ خلقنا الله من نفس واحدة، وخلق منها زوجها".. "منذ ذلك اللقاء الأول، ارتَبطتُ به نفسيًّا وعقليًّا، وكأني قَطعتُ العمر كله أبحث عنه في متاهة الدنيا وخِضَم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغَل بالي بظروف وعوائق، قد تَحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط سوى أني لَقيته، وما عدا ذلك، ليس بذي بال!".
كتاب على الجسر، سيرة غنية لسيدة وإنسانة جادة ومجتهدة، وقصة حب وإيمان وإخلاص كبيرة ونادرة وملهمة، وككل كتابات بنت الشاطئ، بها من جماليات اللغة والصياغة ما يشبع كل متذوق ويفيض، ومنها ضمن الكتاب تحكي في فقرة جميلة عن أستاذها المجدد العظيم: وبدت الحياة لتلاميذه أقل جمالاً ونُضْرة من بعده، وأندَر شجاعة وحكمة، فكيف عساها تبدو لي؟! وقد كان هو نبْضَها الحي وسرَّها الأكبر، وكان هو الذي يُعطيها قيمة ومعنى، وعلى دَرْب وجودنا الواحد وحياتنا المشتركة سارت خطاه تشعُّ الدفء والنور، وتفجِّر ينابيع الحب والخير والجمال، وما تَصوَّرتُ قط أني أعيش بعده، بل كان اليقين أن نُتابِع رحلتنا معًا إلى الدار الآخرة، وأن هذا ليس على الله بمُستبعَد، ونحن من عباده الذين إذا أراد أن تتجلَّى فينا وبنا آيته الكبرى، فنمضي معًا كما تَجلَّت فينا ولنا في حياتنا الأولى، فكنا الواحد الذي لا يتعدَّد، والفرد الذي لا يتجزأ" وتختم تلك الرحلة وهي تقول: "ومضى العمر كله وما كففت عن التساؤل: أكان يمكن أن أضل طريقى إليه، فأعبر رحلة الحياة دون أن ألقاه؟ وحتى آخر العمر، لم يتخل عنى إيمانى بأنى ما سرت على دربى خطوة إلا لكى ألقاه..ثم مضى وبقيت..غير أنَّا يا حبيبي، ما نسينا وإلى لقياك تَحدونا خُطانا ورؤانا.
"إلى أن يحين الأجل سأبقى محكوما على بهذه الوقفة الحائرة على المعبر ضائعة بين حياة وموت، انتظر دورى فى اجتياز الشوط الباقى وأردد فى أثر الراحل المقيم عليك سلام الله إن تكن عبرت إلى الأخرى فنحن على الجسر".
الأستاذ أمين: فكرى مليا
عائشة: هل يكفى أن أراجع فى موضوعى، بكتاب "البرهان"..وكتابى "الاتقان، واللباب"..، مع الاستئناس بالسيرة الهشامية، وطبقات ابن سعد، وتفسير الطبرى؟
- كتاب منها يكفى، لو أنك عرفت حقا كيف تقرئين!
-ماذكرت هذه الكتب إلا لأنى قرأتها كلها..وإنما كان سؤالى عن مصادر أجنبية..
-لو أدركت الفرق بين المصادر والمراجع، لما تورطت فى مثل هذا السؤال المنكر!
ولحظتها "كنت أتمنى لو توقف الزمن، ليظل الأستاذ يتكلم، وأنا أصغى وأتعلم" " وإنجلى ما حسبته سرابا، فإذا الجامعة تعطينى من جديدها ما لم يخطر لى قط على بال" "آمنت من اللحظة الأولى للقائنا، أنه اللقاء الذى تقرر فى ضمير الغيب منذ خلقنا الله من نفس واحدة، وخلق منها زوجها".. "منذ ذلك اللقاء الأول، ارتَبطتُ به نفسيًّا وعقليًّا، وكأني قَطعتُ العمر كله أبحث عنه في متاهة الدنيا وخِضَم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغَل بالي بظروف وعوائق، قد تَحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط سوى أني لَقيته، وما عدا ذلك، ليس بذي بال!".
كتاب على الجسر، سيرة غنية لسيدة وإنسانة جادة ومجتهدة، وقصة حب وإيمان وإخلاص كبيرة ونادرة وملهمة، وككل كتابات بنت الشاطئ، بها من جماليات اللغة والصياغة ما يشبع كل متذوق ويفيض، ومنها ضمن الكتاب تحكي في فقرة جميلة عن أستاذها المجدد العظيم: وبدت الحياة لتلاميذه أقل جمالاً ونُضْرة من بعده، وأندَر شجاعة وحكمة، فكيف عساها تبدو لي؟! وقد كان هو نبْضَها الحي وسرَّها الأكبر، وكان هو الذي يُعطيها قيمة ومعنى، وعلى دَرْب وجودنا الواحد وحياتنا المشتركة سارت خطاه تشعُّ الدفء والنور، وتفجِّر ينابيع الحب والخير والجمال، وما تَصوَّرتُ قط أني أعيش بعده، بل كان اليقين أن نُتابِع رحلتنا معًا إلى الدار الآخرة، وأن هذا ليس على الله بمُستبعَد، ونحن من عباده الذين إذا أراد أن تتجلَّى فينا وبنا آيته الكبرى، فنمضي معًا كما تَجلَّت فينا ولنا في حياتنا الأولى، فكنا الواحد الذي لا يتعدَّد، والفرد الذي لا يتجزأ" وتختم تلك الرحلة وهي تقول: "ومضى العمر كله وما كففت عن التساؤل: أكان يمكن أن أضل طريقى إليه، فأعبر رحلة الحياة دون أن ألقاه؟ وحتى آخر العمر، لم يتخل عنى إيمانى بأنى ما سرت على دربى خطوة إلا لكى ألقاه..ثم مضى وبقيت..غير أنَّا يا حبيبي، ما نسينا وإلى لقياك تَحدونا خُطانا ورؤانا.
"إلى أن يحين الأجل سأبقى محكوما على بهذه الوقفة الحائرة على المعبر ضائعة بين حياة وموت، انتظر دورى فى اجتياز الشوط الباقى وأردد فى أثر الراحل المقيم عليك سلام الله إن تكن عبرت إلى الأخرى فنحن على الجسر".
Published on July 11, 2017 17:41
July 7, 2017
الثابت والمتحول والسابق واللاحق :)
ده مش بوست حاجة يعني بقدر ما هو مجرد ملاحظة عامة عشان أخونا أدونيس. الكتاب الضخم صادر من السبعينيات وبالتالي كمية النقد والسجال والمناقشات عليه أكتر وأفيد وأهم من إني أضيف ليها أي حاجة جديدة بأي معنى من المعاني، اللهم بس في وقوفي في جانب رفض الطرح اللي استخدمه أدونيس، ناهيك عن المنهج وناهيك حتى عن طريقة استخدامه للمنهج ده حتى.. فهو سريعا يعني كده بيقول إنه هيستخدم المنهج الظاهراتي في تحليل الثقافة العربية، وسريعا يمكن وضع ملاحظتين، إن دراسة الثقافة بمعزل عن واقعها المادي والتاريخي والموضوعي هو تجريد غير منتج في الحقيقة. النقطة التانية إن حتى المنهج الظاهراتي، بقدر معرفتي البسيطة جدا، هو تحليل للمعرفة في وعينا وخبرتنا وأيضا للوجود، يعني الفكرة والواقع. بس نرجع للموضوع نفسه تاني، إيه هي فكرة أدونيس في مشروعه الثقافي الضخم "الثابت والمتحول" إن الثقافة العربية بكل عناصرها (حتى على مستوى اللغة اللي بيدعي للتحرر منها والقطيعة معها بصياغتها القديمة البالية) هي ثقافة ثبوت وجمود وتخلف وغياب تام للعقل.. طيب إيه الحل يا سيد أدونيس؟ الحل هو القطيعة المعرفية التامة مع هذا التراث وهذه الثقافة، احنا بنمارس وبنعيش في جنة الحداثة يوميا، أكل وشرب ومواصلات وركوب عجل.. لكن بنخاف ناخد المبادئ العقلانية اللي أنتجت هذه المنجزات.. المشكلة في الطرح ده على بعضه، أو اللي زيه، أو اللي عكسه بمعنى القبول التام بالتخلف ورفض كل ما يأتي من الغرب، هي إنها أطروحات تتغافل عن الواقع والتاريخ وتجرد الثقافة بشكل مثالي متعالي؛ وبالتالي بتبقى مغتربة وعاجزة عن أي فعل يمكن أن يؤدي إلى التغيير فعلا، التغيير في حدود الواقع ومنطلقا منه ومن معطياته، الثقافة والمعرفة هي "سابق ولاحق" :). وبمناسبة إن أدونيس استخدم منهج هوسرل اللي أشرت إليه في البداية، فممكن التطرق-من عندي المرة دي- لكانط اللي بيضرب مثال في كتاب "نقد العقل المجرد" بين الحتمية والغائية، بين نظرة الميتافيزيقي والعلمي لكن مش دي نقطتنا. بيضرب مثال لعصفور وأن العصفور، أي عصفور، وجد على هيئته التي نعرفها لكي يطير، من أول البنية العظمية لجناحيه، والشكل البيضوي لجذعه، والخفة القصوى لرأسه ورقبته وتحكمه في ريش جناحيه.. يقوم هذا العصفور بالطيران حتما من خلال بنيته تلك ومن خلال ضربه للهواء بجناحيه.. يتخيل أدونيس "المسكين" في طرحه إنه بدون هذا الهواء يمكن للعصفور أن يطير بشكل أسرع..
Published on July 07, 2017 18:09
June 27, 2017
من رسائل الأبنودي
بعض من رسائل عبد الرحمن الأبنودي لزوجته الأولى المخرجة عطيات الأبنودي..
الرسالة الأولى
عطيات
لم أكن أريد أن أكتب لك هذه الأيام.. ولكن خطابك حرك بي كل دوافع الكتابة، أنت في تجربة صعبة وقاسية وقلبي معك، ولكن ما حيلتنا إذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لكي يشق الإنسان البسيط طريقه نحو نفسه ونحو أن يكون، تحملي.. الجميع هنا يتوقع منك النجاح، والعالم لن يعطيك شيئاً.. لأنه إذا كان بيت الإنسان فاقد القدرة على العطاء فما بالك بالأغراب، ولكننا جميعاً نعلم أنك قادرة على شق أصعب أنواع الصخور، نحن جميعاً خلفك.
طبعاً حالتي المالية سيئة إن رصيدك في البنك 4 جنيهات فقط.. المهم التليفون في البيت.. والبيت بذلك دبت فيه الحياة.. والقاهرة كلها سمعت حديثك في راديو لندن وإذاعة القارة (قسم الاستماع الخارجي سجلوه) حابعت لك رواية عبد الفتاح الجمل «الخوف»، التي أشرفت على طباعتها قبل سفرك أول ما يكون في جيبي خمسين قرش..
أنا مش حزين ومش سعيد، جميع الأصدقاء بيهدوكي التحية
ودي تقريباً كل حاجة، أنا باكتب لك بسرعة وبطريقة بايخة، لكن تأكدي إني حاكتب لك كويس قريب، ومضطر أسيب باقي الصفحة فاضية أحسن من العك الفاضي.
أبنودي
الرسالة الثانية
عطيات
الكتابة ليكي محتاجة قدر كبير جداً من استقرار اليقين والنفس وهدوء البال، إن في رسالتك صفاءً عجيباً، تطابق الإنسان مع النفس والعودة للطفولة،كان كل ما يهمنا أن تكوني هناك، وآدي إنتي هناك، وبتتكلمي عن كوخ خشبي وصديقات غربة، وعز الدين نجيب والرصيف، وعن داخل لندن وخارجها، وتعودين مرة أخرى تدعوني للاهتمام بصحتي ونفسي وصفاء قلبي، من أين أحصل أنا المختلف على هذا الصفاء، وكيف لي أن أعرف طريقه، لن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع المكرر، مرة أخرى (أنت اليقين وأنا التجربة).
وأخيراً انقشعت سحب الوحشة واختفت العفاريت من البيت، والإحساس بالضعف والوحدة من دونك، ورسالتك أدت هذا على خير وجه، إنه خطاب جيد، قوي، فيه قوة انزراعك في مكانك الجديد، ونافذة المستقبل الآخر، الشمس الخاصة، والطريق الخاص، ولكن كما يقول العم ناظم حكمت: إن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد، وأجمل الكلمات هي التي لم نقلها بعد.
لست مرتبكاً بعدك، ولكنني حائر، فقد قطعوا حرارة التليفون وكادوا يقطعون عني المياه، بخلاف خطابات الضرائب المتلاحقة، وكان لابد من مواجهة كل هذه الأحداث، وأخيراً رن التليفون.
القاهرة كما هي، أنا كما أنا، كسرت فازة عند «شويكار» زوجة راجي بدون قصد وبهدلتني آخر بهدلة، واليوم كله أقضيه في دكانة الخال عبد الرازق في التحرير،
البنك أبلغني منذ خمسة أيام أنه أرسل لك مرتب نوفمبر، حسين مهران تايه، طبعاً الشقة موغلة في الوحشة وأحاول أحل المشكلة بأي شكل، هيه، أيام وتفوت يا عطا.
في الحقيقة مش عارف أكتب لك، طبعاً والدتك بتجيني كل يوم جمعة، وده كتير عليا، وغير كده كتير عليها، واديني بأحاول أغسل الطبق اللي باكل فيه، والبيت زفت بعد أحمد البواب ما طردوه وجابوا بواب لا يخدم إلا شقة صاحب البيت فقط، ولم أعطه راتباً حتى الآن، ملابسي نظيفة في حدود الممكن، المهم أن الأيام تسير، ولا أفكر كثيراً في السفر إلى تونس الآن، مصطفى درويش بخير وأبلغته رأيك في فيلم البرتقالة الآلية ومنتظر حديثك وبيستعجب، سهرت ليلة أمس عند الصديق الصحفي محمود عوض، وأخته زينب تسلم عليكي جداً، الغدا اليوم عند مصطفى درويش، الندوات والسفر للناس وإلقاء الشعر مستمر.
الصعيد كويس وأهلك كويسين، عموماً أرسل لك هذه الرسالة السريعة فقط للاطمئنان على أن كل شيء يسير ولأني لو قررت الكتابة لك فعلاً فلن أرسل، وإذاً فلتأت الكتابة لك تلقائية، حافظي على صحتك، ولتتفائلي حيث إن الغد في أسوأ حالاته سوف يكون أجمل من النهارده.
عمران الفلاح
القاهرة:15/10/1972
الرسالة الثانية
زوجتي
من بيتنا الهادئ الرقيق، بيتنا المفتوح الممتلئ ضوءاً أكتب.
أستمع إلى «كونشيرتو» البيانو نمرة 2 لرحمانينوف لقد اكتشفته بين الأسطوانات في البيت، ومنذ ثلاث ليال وهو دائر، شيء مبهج حقاً، القلم بيدي، وسيجارة كليوباترا مصرية، يا إنجليزية، التليفون يحترم اللحظة بصمته.
عدت من ندوة شعرية في أسيوط أول أمس، كان شيئاً عامراً، جميل رمضان في هذه الناحية، وجئت لأكتب لك، غداً في مسطرد، وبعد غد في الإسماعيلية، أتحرك، فيجري الدم، ولكن يحاصرني إحساس باللا جدوى، الموت يشب فيّ مع كل نبات، يظل مع نجوم الليل، تغفو النجوم ولا يغفو، والحزن عار يملأ الفضاء بلحمه البض الفظيع.
الرسالة الثالثة
آه يا عطيات، أكل الأسد في السيرك محمد الحلو مدربه، حادث فظيع، ورمزي، آسف، ولكنها مصر، لا أكتب شيئاً، ليس إحساساً عبثياً، وإنما أريد أن أحرك قلمي في اتجاه آخر، قلمي مأزوم، لست بطيئاً، ولم أصل بعد لمشارف كهولة، ولكنني كالذي ينتظر معجزة، الفارق، أني أبحث عنها لأحققها، وهل هي في السفر، هل هي في أبنود؟ هي موجودة، لكن متى نبدأ البحث الجدي؟
من أنا؟ أنا إنسان يتمنى لك الغنى، وأن تغني باحتضان عالم ثري حر متسع مليء ينطح صخر الشواطئ القاسية الكاذبة، نحن نحتاج إلى جهاز استقبال آخر، نحتاج إلى أرشيف آخر، عمر مضى، آخر، هل فات الأوان، أعتقد لا، نحن نستطيع أن نصنع تجربة من نوع آخر، إنسانية وغنية وبسيطة وصادقة، نحن لم نعبر عن تواضعنا وإحساسنا ببساطة الغلب الشديد، وشرف العجز، كل ما أراه بدونك، يمر صوراً، كيف حدث هذا وبسبب إنسانيتي أم عظمتك، لا أدري، فقط اكتشفت أني أنا كويس، لا أريد أن أحكي لك عن الأصدقاء، فهم بخير ويدبون على الأرض.
الرسالة الرابعة
عطيات
أراك أحياناً تحت المطر والبرد، على فكرة نسيتي الشمسية، أتخيلك، فتقتربي من قلبي بسرعة شديدة، ليست المسألة قضية بعد أو ابتعاد، وإنما هذا الفراغ الشامل، لم أتعلم حتى الآن سوى التعامل مع المكوجي وتغيير أنبوبة البوتاجاز قبل انتهائها بأسبوع، وغسل الأطباق والأكواب، الغبار بدأ يغطي الأشياء، أمك أصبحت كبيرة في السن بخلاف ان الدنيا رمضان، إن مصر تعيش الآن رمضان حقيقياً، بكل ما يعنيه الشهر الكريم من قدومه، الإذاعة، التلفزيون، المجلات، كرنفال مدهش.
المخلص
عبد الرحمن
القاهرة لندن
الرسالة الأولى
عطيات
لم أكن أريد أن أكتب لك هذه الأيام.. ولكن خطابك حرك بي كل دوافع الكتابة، أنت في تجربة صعبة وقاسية وقلبي معك، ولكن ما حيلتنا إذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لكي يشق الإنسان البسيط طريقه نحو نفسه ونحو أن يكون، تحملي.. الجميع هنا يتوقع منك النجاح، والعالم لن يعطيك شيئاً.. لأنه إذا كان بيت الإنسان فاقد القدرة على العطاء فما بالك بالأغراب، ولكننا جميعاً نعلم أنك قادرة على شق أصعب أنواع الصخور، نحن جميعاً خلفك.
طبعاً حالتي المالية سيئة إن رصيدك في البنك 4 جنيهات فقط.. المهم التليفون في البيت.. والبيت بذلك دبت فيه الحياة.. والقاهرة كلها سمعت حديثك في راديو لندن وإذاعة القارة (قسم الاستماع الخارجي سجلوه) حابعت لك رواية عبد الفتاح الجمل «الخوف»، التي أشرفت على طباعتها قبل سفرك أول ما يكون في جيبي خمسين قرش..
أنا مش حزين ومش سعيد، جميع الأصدقاء بيهدوكي التحية
ودي تقريباً كل حاجة، أنا باكتب لك بسرعة وبطريقة بايخة، لكن تأكدي إني حاكتب لك كويس قريب، ومضطر أسيب باقي الصفحة فاضية أحسن من العك الفاضي.
أبنودي
الرسالة الثانية
عطيات
الكتابة ليكي محتاجة قدر كبير جداً من استقرار اليقين والنفس وهدوء البال، إن في رسالتك صفاءً عجيباً، تطابق الإنسان مع النفس والعودة للطفولة،كان كل ما يهمنا أن تكوني هناك، وآدي إنتي هناك، وبتتكلمي عن كوخ خشبي وصديقات غربة، وعز الدين نجيب والرصيف، وعن داخل لندن وخارجها، وتعودين مرة أخرى تدعوني للاهتمام بصحتي ونفسي وصفاء قلبي، من أين أحصل أنا المختلف على هذا الصفاء، وكيف لي أن أعرف طريقه، لن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع المكرر، مرة أخرى (أنت اليقين وأنا التجربة).
وأخيراً انقشعت سحب الوحشة واختفت العفاريت من البيت، والإحساس بالضعف والوحدة من دونك، ورسالتك أدت هذا على خير وجه، إنه خطاب جيد، قوي، فيه قوة انزراعك في مكانك الجديد، ونافذة المستقبل الآخر، الشمس الخاصة، والطريق الخاص، ولكن كما يقول العم ناظم حكمت: إن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد، وأجمل الكلمات هي التي لم نقلها بعد.
لست مرتبكاً بعدك، ولكنني حائر، فقد قطعوا حرارة التليفون وكادوا يقطعون عني المياه، بخلاف خطابات الضرائب المتلاحقة، وكان لابد من مواجهة كل هذه الأحداث، وأخيراً رن التليفون.
القاهرة كما هي، أنا كما أنا، كسرت فازة عند «شويكار» زوجة راجي بدون قصد وبهدلتني آخر بهدلة، واليوم كله أقضيه في دكانة الخال عبد الرازق في التحرير،
البنك أبلغني منذ خمسة أيام أنه أرسل لك مرتب نوفمبر، حسين مهران تايه، طبعاً الشقة موغلة في الوحشة وأحاول أحل المشكلة بأي شكل، هيه، أيام وتفوت يا عطا.
في الحقيقة مش عارف أكتب لك، طبعاً والدتك بتجيني كل يوم جمعة، وده كتير عليا، وغير كده كتير عليها، واديني بأحاول أغسل الطبق اللي باكل فيه، والبيت زفت بعد أحمد البواب ما طردوه وجابوا بواب لا يخدم إلا شقة صاحب البيت فقط، ولم أعطه راتباً حتى الآن، ملابسي نظيفة في حدود الممكن، المهم أن الأيام تسير، ولا أفكر كثيراً في السفر إلى تونس الآن، مصطفى درويش بخير وأبلغته رأيك في فيلم البرتقالة الآلية ومنتظر حديثك وبيستعجب، سهرت ليلة أمس عند الصديق الصحفي محمود عوض، وأخته زينب تسلم عليكي جداً، الغدا اليوم عند مصطفى درويش، الندوات والسفر للناس وإلقاء الشعر مستمر.
الصعيد كويس وأهلك كويسين، عموماً أرسل لك هذه الرسالة السريعة فقط للاطمئنان على أن كل شيء يسير ولأني لو قررت الكتابة لك فعلاً فلن أرسل، وإذاً فلتأت الكتابة لك تلقائية، حافظي على صحتك، ولتتفائلي حيث إن الغد في أسوأ حالاته سوف يكون أجمل من النهارده.
عمران الفلاح
القاهرة:15/10/1972
الرسالة الثانية
زوجتي
من بيتنا الهادئ الرقيق، بيتنا المفتوح الممتلئ ضوءاً أكتب.
أستمع إلى «كونشيرتو» البيانو نمرة 2 لرحمانينوف لقد اكتشفته بين الأسطوانات في البيت، ومنذ ثلاث ليال وهو دائر، شيء مبهج حقاً، القلم بيدي، وسيجارة كليوباترا مصرية، يا إنجليزية، التليفون يحترم اللحظة بصمته.
عدت من ندوة شعرية في أسيوط أول أمس، كان شيئاً عامراً، جميل رمضان في هذه الناحية، وجئت لأكتب لك، غداً في مسطرد، وبعد غد في الإسماعيلية، أتحرك، فيجري الدم، ولكن يحاصرني إحساس باللا جدوى، الموت يشب فيّ مع كل نبات، يظل مع نجوم الليل، تغفو النجوم ولا يغفو، والحزن عار يملأ الفضاء بلحمه البض الفظيع.
الرسالة الثالثة
آه يا عطيات، أكل الأسد في السيرك محمد الحلو مدربه، حادث فظيع، ورمزي، آسف، ولكنها مصر، لا أكتب شيئاً، ليس إحساساً عبثياً، وإنما أريد أن أحرك قلمي في اتجاه آخر، قلمي مأزوم، لست بطيئاً، ولم أصل بعد لمشارف كهولة، ولكنني كالذي ينتظر معجزة، الفارق، أني أبحث عنها لأحققها، وهل هي في السفر، هل هي في أبنود؟ هي موجودة، لكن متى نبدأ البحث الجدي؟
من أنا؟ أنا إنسان يتمنى لك الغنى، وأن تغني باحتضان عالم ثري حر متسع مليء ينطح صخر الشواطئ القاسية الكاذبة، نحن نحتاج إلى جهاز استقبال آخر، نحتاج إلى أرشيف آخر، عمر مضى، آخر، هل فات الأوان، أعتقد لا، نحن نستطيع أن نصنع تجربة من نوع آخر، إنسانية وغنية وبسيطة وصادقة، نحن لم نعبر عن تواضعنا وإحساسنا ببساطة الغلب الشديد، وشرف العجز، كل ما أراه بدونك، يمر صوراً، كيف حدث هذا وبسبب إنسانيتي أم عظمتك، لا أدري، فقط اكتشفت أني أنا كويس، لا أريد أن أحكي لك عن الأصدقاء، فهم بخير ويدبون على الأرض.
الرسالة الرابعة
عطيات
أراك أحياناً تحت المطر والبرد، على فكرة نسيتي الشمسية، أتخيلك، فتقتربي من قلبي بسرعة شديدة، ليست المسألة قضية بعد أو ابتعاد، وإنما هذا الفراغ الشامل، لم أتعلم حتى الآن سوى التعامل مع المكوجي وتغيير أنبوبة البوتاجاز قبل انتهائها بأسبوع، وغسل الأطباق والأكواب، الغبار بدأ يغطي الأشياء، أمك أصبحت كبيرة في السن بخلاف ان الدنيا رمضان، إن مصر تعيش الآن رمضان حقيقياً، بكل ما يعنيه الشهر الكريم من قدومه، الإذاعة، التلفزيون، المجلات، كرنفال مدهش.
المخلص
عبد الرحمن
القاهرة لندن
Published on June 27, 2017 14:08
إياك والنفاق يا نهى
في مقدمات كتاب رسائل يحيى حقي إلى ابنته نهى، كتب أحد السفراء عن وصف أخلاق زميله يحيى حقي بقوله: إذا أردت أن تعرف في بلدنا مثلا على ما يفهمه الإنجليز من وصف رجل منهم بأنه "جنتلمان" فلن تجد خيرا من يحيى حقي. نظيف الملبس والسريرة، بشوش، خفيف الوقع على الناس جميعا، همه الأول أن يريح محدثه، أن يرفعه منذ أول لحظة من دنيا المصالح والشكوك والمخاوف ومقارنة الأسلحلة المخبأة وراء الظهور والضحك على الذقون إلى عالم الأخوة والود والصفاء والجمال..
ويحيي حقي في جزء من رسائله إلى ابنته يوصيها ويودع لديها جزء من شخصيته وإيمانه وحبه للوضوح في التعامل مع الناس، وكرهه وغيظه من سلوك النفاق، هي نفسها تصفه بإنه كان إنسان يتكلم بلسان واحد:
إنني أكره وأمقت الإنسان الذي يتكلم من لسانه وليس من قلبه، يقول بلسانه شيئا ويضمر في قلبه شيئا آخر، يتحدث ولا يحس بما يقوله، إن هذا هو الرياء الاجتماعي. أنا لا أطلب منك أن تكوني فظة أو غليظة أو قليلة الذوق، ولكن على الأقل تعبرين عما تشعرين به، لا أريدك مثل هؤلاء السيدات اللاتي تجلس إحداهن على التليفون تكلم صديقتها وكل اهتمامها بتنظيف وتقليم أظافرها، وتقول لها: وحشتيني يا حبيبتي.. نفسي أشوفك.
إنه كلام فارغ ليس نابعا من شعور أو إحساس حقيقي وهذا أكرهه لأنه يغيظني وينرفزني، إنها صورة أكرهها وأرفضها، فلا بديل عن الصدق يا ابنتي فهو أفضل رأسمال للإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين.
وكان قد كتب في رواية " صح النوم" على لسان أحد الشخصيات: "إني أمقت الكذب و الرياء والنفاق والخداع، لا لأنها تصيبني بأذي، بل لما آراه من أذاها بأصحابها. إنها تمسخ البشر، و أنا أحب الناس وأريد أن أعاشرهم وهم علي الفطرة التي أرادها الله لهم سبحانه. إنني لا أستطيع الحياة إلا في هذا الجو وبهذا الشرط".
ويحيي حقي في جزء من رسائله إلى ابنته يوصيها ويودع لديها جزء من شخصيته وإيمانه وحبه للوضوح في التعامل مع الناس، وكرهه وغيظه من سلوك النفاق، هي نفسها تصفه بإنه كان إنسان يتكلم بلسان واحد:
إنني أكره وأمقت الإنسان الذي يتكلم من لسانه وليس من قلبه، يقول بلسانه شيئا ويضمر في قلبه شيئا آخر، يتحدث ولا يحس بما يقوله، إن هذا هو الرياء الاجتماعي. أنا لا أطلب منك أن تكوني فظة أو غليظة أو قليلة الذوق، ولكن على الأقل تعبرين عما تشعرين به، لا أريدك مثل هؤلاء السيدات اللاتي تجلس إحداهن على التليفون تكلم صديقتها وكل اهتمامها بتنظيف وتقليم أظافرها، وتقول لها: وحشتيني يا حبيبتي.. نفسي أشوفك.
إنه كلام فارغ ليس نابعا من شعور أو إحساس حقيقي وهذا أكرهه لأنه يغيظني وينرفزني، إنها صورة أكرهها وأرفضها، فلا بديل عن الصدق يا ابنتي فهو أفضل رأسمال للإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين.
وكان قد كتب في رواية " صح النوم" على لسان أحد الشخصيات: "إني أمقت الكذب و الرياء والنفاق والخداع، لا لأنها تصيبني بأذي، بل لما آراه من أذاها بأصحابها. إنها تمسخ البشر، و أنا أحب الناس وأريد أن أعاشرهم وهم علي الفطرة التي أرادها الله لهم سبحانه. إنني لا أستطيع الحياة إلا في هذا الجو وبهذا الشرط".
Published on June 27, 2017 09:36
June 9, 2017
مقال للأستاذ محمود أمين العالم عن الشاعر فؤاد حداد
ده المقال اللي كنت بدور عليه من سنة 2004 تقريبا لما قريت إشارة ليه في مقالات كان بيكتبها هشام السلاموني في جريدة القاهرة، (وغير هذا لهشام كتاب جميل اسمه: حكايات والد الشعراء فؤاد حداد). شدتني الفكرة اللي لقطها أستاذنا العالم في تكوين فؤاد حداد. كان السؤال المؤرق دائما هو كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص ما؟ ازاي ممكن تشرح للناس تناقضاتك دي أو اللي زيها؛ خصوصا التناقض المقلق بين الروحانية والمادية، بين الله والشيوعية؟ وكنت دائما أجد في الطريق جملة من المقال هنا أو هناك تجعلني متحمسا أكثر للبحث عنه والسؤال أيضا. وكانت كل الجمل تقول أن السؤال الحقيقي ينبغي أن يكون هو: كيف يكتشف الناس أن جوهر الحياة هو أساسا التناقض، وكيف ينسجم هذا التناقض في تكوين شخص ليصبح هو كل هذه الأشياء الغنية والثرية جدا. فؤاد حداد كان شاعر عامية فصيح، وكان مسيحيا واختار الإسلام، لم يكن مصريا واختار أن يكون "المصري" بالتعريف. كان يكتب شعر باللغة العامية ويراجع ترجمة "واقعية بلا ضفاف" عن الفرنسية. كان شيوعيا تقدميا ويلتزم "بالقافية" ويقول إن الشعر قافية. كان روحاني عقلاني، أو للدقة عقلاني روحاني، ماديا صوفيا، يطعم شعره بكلمات من القرآن أحيانا ويكتب عن العامل والمصنع والوطن. ثم وجدت المقال كاملا أخيرا وكنت أتمنى ألا ينتهي، أو أن يكمله ويعمقه الأستاذ محمود العالم كما وعد، لكنه رحل قبل أن يستطيع ذلك.. لكن الفكرة الرئيسية في رؤية الأستاذ محمود لعالم فؤاد حداد الشعري بقيت: إن الحياة نفسها ليس الأصل فيها هو الانسجام بالمعنى السطحي أبدا، لكن أصلها وجوهرها هو التناقض ( التناقض ليس بمعنى عدم الاتساق ولكن بمعناه الجدلي) الذي يؤدي إلى الحركة والتطور والفعل والغنى. هذه القراءة من الأستاذ محمود، رغم بساطتها الظاهرة، لكنها من العلامات الفارقة والمضيئة لي عن حياتي وفي أفكاري ورؤيتي للأمور.
المقال بعنوان "الله والقافية والشيوعية، قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد"
نُشر المقال في العدد العدد 7 من مجلة اليسار، سبتمبر 1990
الله والقافية والشيوعية
قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد
ما زلت أذكر وجه فؤاد حداد الغاضب وكلمته الغاضبة عندما زارني في أواخر الخمسينيات، وكنت حينذاك أُكثر من الكتابة مدافعًا عن الشعر الجديد، مُحبذًا تخليه عن الأنساق الخليلية في الوزن، بل عن القافية كذلك. وما تزال ترن في أذني كلمته الغاضبة: "يا صديقي الشعر قافية، بدون قافية لا شعر". وعندما جمعتنا بعد ذلك زنزانة في سجن المحاريق في الواحات الخارجة، كان يرقد على أرض الزنزانة على يساري. وكان من عادته عندما ينام أن يغطي جسده كله "ببطانية" السجن فلا يبين منه شيء. كانت هذه "البطانية" المحكمة الإغلاق هي غرفته الصغيرة التي يختفي فيها كي يمارس عملية بناء أشعاره. وكانت قدماه تفضحانه دائمًا. كنا نعرف استغراقه في هذه العملية عندما نبصر بقدميه تحت "البطانية" المحكمة الإغلاق تتحركان حركة متسقة كأنها جهاز إيقاع.
كنت أحس وأتبين دائمًا في كل ما أسمعه منه أو أقرأه له من أشعار بقوة الإيقاع، بسيطرة الوزن الموسيقي، بجبروت القافية. بل كنت أشعر أحيانًا أن القافية تكاد أن تكون القوة المحركة الفاعلة الدالة في بنائه الشعري كله. وكنت أُدهش لهذا، لأنني كنت أتبين في الوقت نفسه، أن موضوعاته الشعرية ومضامينه المُعبرة عن موقفه الإنساني كمناضل وطني شيوعي، هي القوة المُحركة الفاعلة الدالة كذلك في بنائه الشعري! وكانت تزداد دهشتي دائمًا عندما كنت أتبين كذلك في العديد مما يكتبه من أشعار رؤية دينية مؤمنة عميقة الإيمان، ولم يكن الأمر تظاهرًا، ولم يكن ادعاء، ولم يكن رد فعل لملابسات السجن وعذاباته وقسوته، وما كان يحوم فيه وحوله من شبح دائم لموت، تجسد في سقوط أكثر من جثة لرفيق عزيز لنا جميعًا. وكان من بين هؤلاء قريب لفؤاد حداد هو الشهيد الدكتور فريد حداد الذي قُتِل في سجن أوردي ليمان أبي زعبل، وكان أول شهدائنا قبل أن يستشهد بعد ذلك بقليل شهدي عطية في هذا السجن نفسه الذي كان يضم أغلب الشيوعيين آنذاك منذ أواخر عام 1959 قبل أن ينتقلوا إلى سجن الواحات. لا ... لم يكن شبح الموت المخيم وراء هذا الإحساس الديني العميق عند فؤاد حداد، بل ما كان هذا الإحساس الديني العميق عنده نقيضًا لانتمائه الشيوعي.
وما أندر الفرص التي كانت تسنح لنا، فنقف قليلاً لنتحدث في بطن جبل أبي زعبل، حيث كنا نلتقي معًا لنكسر أحجار البازلت وإن كانت تتوزعنا عنابر الأوردي المختلفة بعد ذلك. وفي بعض هذه الفرص النادرة كنا نتعرف من فؤاد حداد على آخر أشعاره، وكان من أروعها – في تلك المرحلة – ملحمته المطولة في رثاء الشهيد شهدي عطية، التي لا أدري أين ذهبت واختفت. أردت أن أقول إنه في هذا المناخ الذي كان يقطر عذابًا وقسوة ويحوم فيه وحوله وفوقه شبح الموت، لم يكن إيمان فؤاد حداد الديني نقيضًا لشيوعيته، فما زلت أذكر من تلك الملحمة بيتًا يشير فيه فؤاد حداد إلى واحد من المسجونين من مناضلي الحركة الشيوعية المصرية هو العامل الزراعي أحمد سليم، ويقول في هذا البيت على لسان هذا المناضل الشيوعي" "شيوعي والله شيوعي وحافظ القرآن". وما كان فؤاد حداد يشير بهذا البيت إلى أحمد سليم وحده، وإنما كان في الحقيقة يُعبر عن نفسه كذلك.
وكنت أتساءل دائمًا عن هذه العلاقة الحميمة عند فؤاد حداد بين هذه القوى الثلاث المسيطرة على أشعاره: الله والقافية والشيوعية، أو بتعبير آخر: عمق إيمانه الديني، وجبروت القافية وسيطرتها، وحرارة وصدق رؤيته الوطنية الاجتماعية الإنسانية التقدمية.
في البداية كنت أتصور الأمر لحظات مختلفة متوازنة، متجاورة في حياته الفكرية وفي بنائه الوجداني وفي تعابيره الشعرية. وكان مصدر هذا هو اطلاعي المتقطع على أشعار فؤاد حداد. ولكن عندما أخذت تصدر دواوينه الجامعة لاشعاره المختلفة ورحت أقرأ فؤاد حداد قراءة شاملة موحدة، أخذت تتكامل عندي رؤية كلية لهذه القوى الثلاث المسيطرة في شعره، وأحسست أن الله والقافية والشيوعية عند فؤاد حداد تكاد أن تكون شيئًا واحدًا تتمثل في الانتظام الكوني الذي يمسكه إيقاع عميق وتوجهه حقيقة كبرى هي العدالة وهي المحبة وهي الخير. إن الله يتمثل عند فؤاد حداد في هذه القافية التي تنتظم الوجود كله، كما تنتظم الحياة الإنسانية كلها، كما تنتظم وتتجسد في الشعر الذي هو جوهر الوجود وجوهر إنسانية الإنسان، وأن الله يتمثل كذلك عنده في الخير المطلق وفي إرادة التطلع الإنساني والنضال الإنساني والمسعى الإنساني من أجل الكرامة والشموخ والحرية والخير والجمال والسعادة.
والتقيت بفؤاد حداد قبل وفاته بأسابيع. قال لي: أتعرف بأنني أشعَر أهل الإنس والجن؟ فقلت له: أعترف لك بهذا يا فؤاد، أنت أشعَر أهل الإنس والجن. وما كان يهزل، وما كنت أهزل. كان يعرف، وكنت أعرف، أنه بالإيقاع الدقيق الفريد المُعجِز لقافيته، وبالعمق الوطني والاجتماعي والإنساني لرؤيته الشعرية، إنما يرتفع إلى ما وراء واقعه المباشر دون أن ينعزل عنه ليلامس إحساسًا كونيًّا شاملاً نادرًا.
كان شاعر القضايا البسيطة المباشرة. شاعر العمال والفلاحين، شاعر الصنايعية والأطفال. شاعر التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والمعاناة الإنسانية، لكنه كان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يرتفع بنسيجه اللغوي وإيقاع قافيته الخارقة، ورؤيته الواقعية المباشرة الحية، إلى مستوى رفيع من الوجد الإنساني الكوني الشامل، وكان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يضفر اللغة العامية، اللغة الشعبية، تضفيرًا يجعلها في مستوى أرقى التعابير الشعرية الفصيحة، بل يكاد يجعل من الشعر الشعبي امتدادًا أصيلاً لمدرسة لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري في الشعر العربي الفصيح. وكان يعلن دائمًا انتسابه إلى مدرسة أبي العلاء الشعرية. يقول:
بص لي يا أبو نواس
أنا المعري ...
إن كنت أشعَر الناس، أوصف لي عصري
إن كان سرك في الكاس، أنا الكاس في سري
ويقول:
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
واخترت زيه طريقة اسمها الموال
......................
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
والوزن والقافية بالثاني وبالثالث
وبالدموع اللي في قلب الحجر سالت
واخترت زيه أشمر واشتغل بالدبش
واشتغل بكلبش
وأنا اللي عاوج الموال على ناحية
ومستقي من سماوات العرب وحيه
أدفع إلى أبو العلاء نسبي وإسنادي
يقول:
وأبو العلاء باختلف عنه وأطيره
أنا باحب الوهم
خمسين سنة اتغرزنا في بعض دم ولحم
بقيت أنا وهوه مولوده ومولودي
يا أهل المواهب غدًا لا تلزموا حدودي
لم يدخل فؤاد حداد "جنة قوافي" ابي العلاء، و"قطف قافية" فحسب كما يقول كذلك، إنما تجاوزه، كما ينصح بذلك من سيجيئون بعده هو، ولكنه جعل من القافية الملتزمة وحدة عالمه الإيقاعي المنتظم، ووسيلته لاقتناص الحقيقة وامتلاكها. كانت القافية عكازه إلى الله، وعكازه إلى إنسانية الإنسان، وعكازه إلى الحقيقة. كان يسمي نفسه باسمها "أما الأديب، أنا القافي".
ويقول: "دليلي في الدنيا لسان عربي"، جعل القوافي عاصمة للشعر. ويقول: وأي قافية ما دامت حلوة تتأمر بالوزن قايم وبالقافية عمود الشعر.
ولكنها لم تكن مجرد القافية الإيقاع، القافية الجمال الشعري، بل كانت القافية الحقيقة الحية.
يقول: "أنا مجنون عشان أسيب القافية في الطريق، القافية في الكلمة الطيبة، القافية في العمل الصالح بالفصحى والعامية". ويقول:
كل قوافي فؤاد حداد
صدق حقيقة
ومجريها بالاستشهاد
مافيهاش غير قافية واحدة:
عليكم السلام
وكانت القافية فعلاً متجسدًا من أجل الحقيقة؛ يقول: القافية تفعل مفعولها. ويقول:
خليها تعبّر وتصارع
تخلي الفعل الماضي مضارع
ويقول:
إن ضل قوم أو تاهوا
ما ضل شعري مأتاه
تنفست قافيتاه
حريتي والآفاقا
بل لعل القافية أن تكون حقيقته وقوته. يقول: القافية مأوى لي. ويقول:
سرقوا قافيتي
سرقوا عافيتي
ولهذا ما أكثر ما كان يتحدث في شعره عن شعره، وفي قوافيه عن قوافيه. ولعل أجمل ما كتب عن قوافيه قصيدة "موال الشيخ سعيد" الذي صور فيه الشاعر بالمنقار والقافية بالفستق الذي يلتقطه المنقار-الشاعر: بأعلمك صنعة المنقار مع الفستق.
وكان للقافية عنده أكثر من وصف. فهي "قافية لطيفة"، وجاءت "على منوالي"، و"كل القوافي لها موازين"، و"كلها من عيار بندقي" أي من الذهب، و"وقافية بتفرق شربات"، و"قافية مفيدة"، و"القافية الألاجة"، و"قافية مبطرحة زي الزمان ومفضوحة"، و"القافية الزاهية"، و"كل قافية بقت تجيني معلقة فانوس"، و"أجمل قافية في الدنيا". بل كادت القوافي عنده تبلغ حد العشق والتقديس: "وقفت القوافيحافية وأنا خائف أبوس رجليها".
وبهذه القافية على تنوعها راح فؤاد حداد ينسج ويبني أشعاره التي تبرز فيها القافية كعاصمة كما يقول لهذه الأشعار، ينتظم بها القول الشعري جماليًّا، كما ينتظم بها القول الشعري دلاليًّا ومعنويًّا، كما تنتظم بها رؤية متسقة متزنة عادلة للأفق الإنساني والأفق الكوني، وتتداخل فيها رؤيته الجمالية ورؤيته الاجتماعية التقدمية من ناحية وتدينه العميق من ناحية أخرى.
ويتجلى التدين عنده في أكثر من مظهر ودلالة. فقد يكون تدينًا باطنيًّا أقرب إلى الرفيف الشعري الرومانسي، وقد يكون تدينًا إسلاميًّا طقوسيًّا جهيرًا وهو العربي المسيحي الأصل. نقرأ هنا ديوان من أواخر دواوينه كرسه تكريسًا كاملاً لمديح النبي محمد هو "الحضرة الذكية"، "نبتت في قلبي أصول شجرة مديح النبي"، كما نقرأه في أوائل دواوينه الذي كرسه تكريسًا كاملاً كذلك للعمال والفلاحين "قريت في الفجر قرآني". كما نقرأه كذلك في مختلف دواوينه وخاصة في أغلني المسحراتي وفي أشعاره المتناثرة عامة التي يختلط فيها الحس الديني بالحس الوطني بالحس الاجتماعي بالحس الجمالي. كما يبرز في هذه الأمثلة من بعض شعره
- كان بوسطجي مسحراتي في الندى الأبدي
- غنوتي زي الفجر خجولة
وزيه مهولة
وزيه أدان
- أنا اللي عندكم قبل الندى صليت
وكل سجادة خضرة تقول لكم صليت
النفير زي الأدان
- وأنا متجه للقبلة، في كل وقت
أنا بالمصاحف عيني مفتونة
بحروف معايا بيذاكروا ويشكروا
- الأرض بتتكلم عربي وقول الله
إن الفجر لمن صلاه
- لما تقول يا رب يعرفوك عربي
- ولسه جبينك حيعلى كل ما تصلي
- أنا اللي صليت في بعض السجون
وفي إيدي سبحة من نوى الزيتون
- حسي اللي غاوي السجع والترتيل
يصلي على الهادي في كل أوان
- إن الإسلام هو العدل
والرحمة إنسان يتلو
من وحي الله
- انضم قلبي لقلب
الحدادين في الأرض
الزارعين البناة
قاموا عمود الصلاة
وهكذا يتعانق عنده الترتيل الديني، بالترتيل الشعري، بالإحساس بالجمال، بمحبة الوطن، وبإرادة العدل، وعمارة الأرض. ولمنه لا يقف عند المعنى العام للعدل وعمارة الأرض، وإنما يغوص بهما إلى تحديد موضوعي أدق هو ثمرة وعيه الاجتماعي الثوري. يقول معبرًا عن ذلك في مقطوعات من بعض شعره:
- يا بيوت فقيرة ليه هدمت القصر؟
قالت عشان نبني لكل الناس
- طالب بعدل ونور وحرية
وبهدمة للعريانة والعريان
وبراحة للعرقانة والعرقان
وبرحمة للعطشانة والعطشان
وبساعة للغلبانة والغلبان
من إنسانية يعيشها كالإنسان
- اتأكدت وحدة الحرية واللقمة
بنزف عنتر على عبلة
والدنيا للطبقة العاملة
- وليحيى جنس العمال
وليسقط جنس الظالمين
- كل اشتراكي مبدأه إنسان
- المثل الشعبي والكفاح الثوري
والعدل رضيوا بي
ويكاد يقدم لنا صورة لحلم مجتمع الوفرة والحرية المطلقة والبهجة الإنسانية في هذه القصيدة الرمزية المرحة:
.......... أنا كنت ملك
كنت ملك في بلاد شوارعها
ماخدتش ريعها وسبت الناس
رايحة وجاية وماشية بلاش
تاكل بامية يا سامية بلاش
تملا القلة يا لولا بلاش
والزغروطة في بير السلم
ومعاها الشموسة بلاش
ونزيط أيضًا ببلاش
ونعيط أيضًا ببلاش
نتجوز ونخلف أيضًا
ونخالف أيضًا مش أيضًا
كله بلاش ببلاش ....
وعندما يقول فؤاد حداد في مقطوعة من مقطوعاته الشعرية:
شعري صورة المستقبل العربي
باغني غنوة اسمها السلسبيل
وعندما يقول كذلك في مقطوعة أخرى:
إن "اقترب" ومنتهى "اقرأ"
هي السلسبيل
مشيرًا برمزية رقيقة شفافة إلى آية من آيات القرآن الكريم.
وعندما يقول في مقطوعة ثالثة:
أقيم ميزان الشعر بالقسطاس
وعندما يقول في مقطوعة رابعة:
فيض الحنان يا ابني
زعزع جبال الظلم
وعندما يقول في مقطوعة خامسة:
لازم نقيم العدل
لازم نحب اللي يقيمه
لازم نلاقي اللي يحبه
وعندما تجد معاني هذه المقطوعات وغيرها في العديد من أشعاره، كما سبق أن ذكرنا، يتفجر في وجداننا القارئ إحساس عميق بهذه العلاقة الحميمة المتداخلة عند فؤاد حداد بين ميزان العدل الإلهي وميزان القافية الشعرية وميزان العدل الاجتماعي.
على أن هذه هي مجرد قراءة خارجية سريعة قد تصلح مدخلاً تمهيديًّا لقراءة باطنية أكثر غوصًا وتعمقًا وتفصيلاً في شعر هذا الشاعر العظيم فؤاد حداد.
المقال بعنوان "الله والقافية والشيوعية، قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد"
نُشر المقال في العدد العدد 7 من مجلة اليسار، سبتمبر 1990
الله والقافية والشيوعية
قراءة تمهيدية لشعر فؤاد حداد
ما زلت أذكر وجه فؤاد حداد الغاضب وكلمته الغاضبة عندما زارني في أواخر الخمسينيات، وكنت حينذاك أُكثر من الكتابة مدافعًا عن الشعر الجديد، مُحبذًا تخليه عن الأنساق الخليلية في الوزن، بل عن القافية كذلك. وما تزال ترن في أذني كلمته الغاضبة: "يا صديقي الشعر قافية، بدون قافية لا شعر". وعندما جمعتنا بعد ذلك زنزانة في سجن المحاريق في الواحات الخارجة، كان يرقد على أرض الزنزانة على يساري. وكان من عادته عندما ينام أن يغطي جسده كله "ببطانية" السجن فلا يبين منه شيء. كانت هذه "البطانية" المحكمة الإغلاق هي غرفته الصغيرة التي يختفي فيها كي يمارس عملية بناء أشعاره. وكانت قدماه تفضحانه دائمًا. كنا نعرف استغراقه في هذه العملية عندما نبصر بقدميه تحت "البطانية" المحكمة الإغلاق تتحركان حركة متسقة كأنها جهاز إيقاع.
كنت أحس وأتبين دائمًا في كل ما أسمعه منه أو أقرأه له من أشعار بقوة الإيقاع، بسيطرة الوزن الموسيقي، بجبروت القافية. بل كنت أشعر أحيانًا أن القافية تكاد أن تكون القوة المحركة الفاعلة الدالة في بنائه الشعري كله. وكنت أُدهش لهذا، لأنني كنت أتبين في الوقت نفسه، أن موضوعاته الشعرية ومضامينه المُعبرة عن موقفه الإنساني كمناضل وطني شيوعي، هي القوة المُحركة الفاعلة الدالة كذلك في بنائه الشعري! وكانت تزداد دهشتي دائمًا عندما كنت أتبين كذلك في العديد مما يكتبه من أشعار رؤية دينية مؤمنة عميقة الإيمان، ولم يكن الأمر تظاهرًا، ولم يكن ادعاء، ولم يكن رد فعل لملابسات السجن وعذاباته وقسوته، وما كان يحوم فيه وحوله من شبح دائم لموت، تجسد في سقوط أكثر من جثة لرفيق عزيز لنا جميعًا. وكان من بين هؤلاء قريب لفؤاد حداد هو الشهيد الدكتور فريد حداد الذي قُتِل في سجن أوردي ليمان أبي زعبل، وكان أول شهدائنا قبل أن يستشهد بعد ذلك بقليل شهدي عطية في هذا السجن نفسه الذي كان يضم أغلب الشيوعيين آنذاك منذ أواخر عام 1959 قبل أن ينتقلوا إلى سجن الواحات. لا ... لم يكن شبح الموت المخيم وراء هذا الإحساس الديني العميق عند فؤاد حداد، بل ما كان هذا الإحساس الديني العميق عنده نقيضًا لانتمائه الشيوعي.
وما أندر الفرص التي كانت تسنح لنا، فنقف قليلاً لنتحدث في بطن جبل أبي زعبل، حيث كنا نلتقي معًا لنكسر أحجار البازلت وإن كانت تتوزعنا عنابر الأوردي المختلفة بعد ذلك. وفي بعض هذه الفرص النادرة كنا نتعرف من فؤاد حداد على آخر أشعاره، وكان من أروعها – في تلك المرحلة – ملحمته المطولة في رثاء الشهيد شهدي عطية، التي لا أدري أين ذهبت واختفت. أردت أن أقول إنه في هذا المناخ الذي كان يقطر عذابًا وقسوة ويحوم فيه وحوله وفوقه شبح الموت، لم يكن إيمان فؤاد حداد الديني نقيضًا لشيوعيته، فما زلت أذكر من تلك الملحمة بيتًا يشير فيه فؤاد حداد إلى واحد من المسجونين من مناضلي الحركة الشيوعية المصرية هو العامل الزراعي أحمد سليم، ويقول في هذا البيت على لسان هذا المناضل الشيوعي" "شيوعي والله شيوعي وحافظ القرآن". وما كان فؤاد حداد يشير بهذا البيت إلى أحمد سليم وحده، وإنما كان في الحقيقة يُعبر عن نفسه كذلك.
وكنت أتساءل دائمًا عن هذه العلاقة الحميمة عند فؤاد حداد بين هذه القوى الثلاث المسيطرة على أشعاره: الله والقافية والشيوعية، أو بتعبير آخر: عمق إيمانه الديني، وجبروت القافية وسيطرتها، وحرارة وصدق رؤيته الوطنية الاجتماعية الإنسانية التقدمية.
في البداية كنت أتصور الأمر لحظات مختلفة متوازنة، متجاورة في حياته الفكرية وفي بنائه الوجداني وفي تعابيره الشعرية. وكان مصدر هذا هو اطلاعي المتقطع على أشعار فؤاد حداد. ولكن عندما أخذت تصدر دواوينه الجامعة لاشعاره المختلفة ورحت أقرأ فؤاد حداد قراءة شاملة موحدة، أخذت تتكامل عندي رؤية كلية لهذه القوى الثلاث المسيطرة في شعره، وأحسست أن الله والقافية والشيوعية عند فؤاد حداد تكاد أن تكون شيئًا واحدًا تتمثل في الانتظام الكوني الذي يمسكه إيقاع عميق وتوجهه حقيقة كبرى هي العدالة وهي المحبة وهي الخير. إن الله يتمثل عند فؤاد حداد في هذه القافية التي تنتظم الوجود كله، كما تنتظم الحياة الإنسانية كلها، كما تنتظم وتتجسد في الشعر الذي هو جوهر الوجود وجوهر إنسانية الإنسان، وأن الله يتمثل كذلك عنده في الخير المطلق وفي إرادة التطلع الإنساني والنضال الإنساني والمسعى الإنساني من أجل الكرامة والشموخ والحرية والخير والجمال والسعادة.
والتقيت بفؤاد حداد قبل وفاته بأسابيع. قال لي: أتعرف بأنني أشعَر أهل الإنس والجن؟ فقلت له: أعترف لك بهذا يا فؤاد، أنت أشعَر أهل الإنس والجن. وما كان يهزل، وما كنت أهزل. كان يعرف، وكنت أعرف، أنه بالإيقاع الدقيق الفريد المُعجِز لقافيته، وبالعمق الوطني والاجتماعي والإنساني لرؤيته الشعرية، إنما يرتفع إلى ما وراء واقعه المباشر دون أن ينعزل عنه ليلامس إحساسًا كونيًّا شاملاً نادرًا.
كان شاعر القضايا البسيطة المباشرة. شاعر العمال والفلاحين، شاعر الصنايعية والأطفال. شاعر التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والمعاناة الإنسانية، لكنه كان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يرتفع بنسيجه اللغوي وإيقاع قافيته الخارقة، ورؤيته الواقعية المباشرة الحية، إلى مستوى رفيع من الوجد الإنساني الكوني الشامل، وكان هو نفسه كذلك الشاعر الذي يضفر اللغة العامية، اللغة الشعبية، تضفيرًا يجعلها في مستوى أرقى التعابير الشعرية الفصيحة، بل يكاد يجعل من الشعر الشعبي امتدادًا أصيلاً لمدرسة لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري في الشعر العربي الفصيح. وكان يعلن دائمًا انتسابه إلى مدرسة أبي العلاء الشعرية. يقول:
بص لي يا أبو نواس
أنا المعري ...
إن كنت أشعَر الناس، أوصف لي عصري
إن كان سرك في الكاس، أنا الكاس في سري
ويقول:
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
واخترت زيه طريقة اسمها الموال
......................
اختاروا حريتين وأبو العلاء سجنين
والوزن والقافية بالثاني وبالثالث
وبالدموع اللي في قلب الحجر سالت
واخترت زيه أشمر واشتغل بالدبش
واشتغل بكلبش
وأنا اللي عاوج الموال على ناحية
ومستقي من سماوات العرب وحيه
أدفع إلى أبو العلاء نسبي وإسنادي
يقول:
وأبو العلاء باختلف عنه وأطيره
أنا باحب الوهم
خمسين سنة اتغرزنا في بعض دم ولحم
بقيت أنا وهوه مولوده ومولودي
يا أهل المواهب غدًا لا تلزموا حدودي
لم يدخل فؤاد حداد "جنة قوافي" ابي العلاء، و"قطف قافية" فحسب كما يقول كذلك، إنما تجاوزه، كما ينصح بذلك من سيجيئون بعده هو، ولكنه جعل من القافية الملتزمة وحدة عالمه الإيقاعي المنتظم، ووسيلته لاقتناص الحقيقة وامتلاكها. كانت القافية عكازه إلى الله، وعكازه إلى إنسانية الإنسان، وعكازه إلى الحقيقة. كان يسمي نفسه باسمها "أما الأديب، أنا القافي".
ويقول: "دليلي في الدنيا لسان عربي"، جعل القوافي عاصمة للشعر. ويقول: وأي قافية ما دامت حلوة تتأمر بالوزن قايم وبالقافية عمود الشعر.
ولكنها لم تكن مجرد القافية الإيقاع، القافية الجمال الشعري، بل كانت القافية الحقيقة الحية.
يقول: "أنا مجنون عشان أسيب القافية في الطريق، القافية في الكلمة الطيبة، القافية في العمل الصالح بالفصحى والعامية". ويقول:
كل قوافي فؤاد حداد
صدق حقيقة
ومجريها بالاستشهاد
مافيهاش غير قافية واحدة:
عليكم السلام
وكانت القافية فعلاً متجسدًا من أجل الحقيقة؛ يقول: القافية تفعل مفعولها. ويقول:
خليها تعبّر وتصارع
تخلي الفعل الماضي مضارع
ويقول:
إن ضل قوم أو تاهوا
ما ضل شعري مأتاه
تنفست قافيتاه
حريتي والآفاقا
بل لعل القافية أن تكون حقيقته وقوته. يقول: القافية مأوى لي. ويقول:
سرقوا قافيتي
سرقوا عافيتي
ولهذا ما أكثر ما كان يتحدث في شعره عن شعره، وفي قوافيه عن قوافيه. ولعل أجمل ما كتب عن قوافيه قصيدة "موال الشيخ سعيد" الذي صور فيه الشاعر بالمنقار والقافية بالفستق الذي يلتقطه المنقار-الشاعر: بأعلمك صنعة المنقار مع الفستق.
وكان للقافية عنده أكثر من وصف. فهي "قافية لطيفة"، وجاءت "على منوالي"، و"كل القوافي لها موازين"، و"كلها من عيار بندقي" أي من الذهب، و"وقافية بتفرق شربات"، و"قافية مفيدة"، و"القافية الألاجة"، و"قافية مبطرحة زي الزمان ومفضوحة"، و"القافية الزاهية"، و"كل قافية بقت تجيني معلقة فانوس"، و"أجمل قافية في الدنيا". بل كادت القوافي عنده تبلغ حد العشق والتقديس: "وقفت القوافيحافية وأنا خائف أبوس رجليها".
وبهذه القافية على تنوعها راح فؤاد حداد ينسج ويبني أشعاره التي تبرز فيها القافية كعاصمة كما يقول لهذه الأشعار، ينتظم بها القول الشعري جماليًّا، كما ينتظم بها القول الشعري دلاليًّا ومعنويًّا، كما تنتظم بها رؤية متسقة متزنة عادلة للأفق الإنساني والأفق الكوني، وتتداخل فيها رؤيته الجمالية ورؤيته الاجتماعية التقدمية من ناحية وتدينه العميق من ناحية أخرى.
ويتجلى التدين عنده في أكثر من مظهر ودلالة. فقد يكون تدينًا باطنيًّا أقرب إلى الرفيف الشعري الرومانسي، وقد يكون تدينًا إسلاميًّا طقوسيًّا جهيرًا وهو العربي المسيحي الأصل. نقرأ هنا ديوان من أواخر دواوينه كرسه تكريسًا كاملاً لمديح النبي محمد هو "الحضرة الذكية"، "نبتت في قلبي أصول شجرة مديح النبي"، كما نقرأه في أوائل دواوينه الذي كرسه تكريسًا كاملاً كذلك للعمال والفلاحين "قريت في الفجر قرآني". كما نقرأه كذلك في مختلف دواوينه وخاصة في أغلني المسحراتي وفي أشعاره المتناثرة عامة التي يختلط فيها الحس الديني بالحس الوطني بالحس الاجتماعي بالحس الجمالي. كما يبرز في هذه الأمثلة من بعض شعره
- كان بوسطجي مسحراتي في الندى الأبدي
- غنوتي زي الفجر خجولة
وزيه مهولة
وزيه أدان
- أنا اللي عندكم قبل الندى صليت
وكل سجادة خضرة تقول لكم صليت
النفير زي الأدان
- وأنا متجه للقبلة، في كل وقت
أنا بالمصاحف عيني مفتونة
بحروف معايا بيذاكروا ويشكروا
- الأرض بتتكلم عربي وقول الله
إن الفجر لمن صلاه
- لما تقول يا رب يعرفوك عربي
- ولسه جبينك حيعلى كل ما تصلي
- أنا اللي صليت في بعض السجون
وفي إيدي سبحة من نوى الزيتون
- حسي اللي غاوي السجع والترتيل
يصلي على الهادي في كل أوان
- إن الإسلام هو العدل
والرحمة إنسان يتلو
من وحي الله
- انضم قلبي لقلب
الحدادين في الأرض
الزارعين البناة
قاموا عمود الصلاة
وهكذا يتعانق عنده الترتيل الديني، بالترتيل الشعري، بالإحساس بالجمال، بمحبة الوطن، وبإرادة العدل، وعمارة الأرض. ولمنه لا يقف عند المعنى العام للعدل وعمارة الأرض، وإنما يغوص بهما إلى تحديد موضوعي أدق هو ثمرة وعيه الاجتماعي الثوري. يقول معبرًا عن ذلك في مقطوعات من بعض شعره:
- يا بيوت فقيرة ليه هدمت القصر؟
قالت عشان نبني لكل الناس
- طالب بعدل ونور وحرية
وبهدمة للعريانة والعريان
وبراحة للعرقانة والعرقان
وبرحمة للعطشانة والعطشان
وبساعة للغلبانة والغلبان
من إنسانية يعيشها كالإنسان
- اتأكدت وحدة الحرية واللقمة
بنزف عنتر على عبلة
والدنيا للطبقة العاملة
- وليحيى جنس العمال
وليسقط جنس الظالمين
- كل اشتراكي مبدأه إنسان
- المثل الشعبي والكفاح الثوري
والعدل رضيوا بي
ويكاد يقدم لنا صورة لحلم مجتمع الوفرة والحرية المطلقة والبهجة الإنسانية في هذه القصيدة الرمزية المرحة:
.......... أنا كنت ملك
كنت ملك في بلاد شوارعها
ماخدتش ريعها وسبت الناس
رايحة وجاية وماشية بلاش
تاكل بامية يا سامية بلاش
تملا القلة يا لولا بلاش
والزغروطة في بير السلم
ومعاها الشموسة بلاش
ونزيط أيضًا ببلاش
ونعيط أيضًا ببلاش
نتجوز ونخلف أيضًا
ونخالف أيضًا مش أيضًا
كله بلاش ببلاش ....
وعندما يقول فؤاد حداد في مقطوعة من مقطوعاته الشعرية:
شعري صورة المستقبل العربي
باغني غنوة اسمها السلسبيل
وعندما يقول كذلك في مقطوعة أخرى:
إن "اقترب" ومنتهى "اقرأ"
هي السلسبيل
مشيرًا برمزية رقيقة شفافة إلى آية من آيات القرآن الكريم.
وعندما يقول في مقطوعة ثالثة:
أقيم ميزان الشعر بالقسطاس
وعندما يقول في مقطوعة رابعة:
فيض الحنان يا ابني
زعزع جبال الظلم
وعندما يقول في مقطوعة خامسة:
لازم نقيم العدل
لازم نحب اللي يقيمه
لازم نلاقي اللي يحبه
وعندما تجد معاني هذه المقطوعات وغيرها في العديد من أشعاره، كما سبق أن ذكرنا، يتفجر في وجداننا القارئ إحساس عميق بهذه العلاقة الحميمة المتداخلة عند فؤاد حداد بين ميزان العدل الإلهي وميزان القافية الشعرية وميزان العدل الاجتماعي.
على أن هذه هي مجرد قراءة خارجية سريعة قد تصلح مدخلاً تمهيديًّا لقراءة باطنية أكثر غوصًا وتعمقًا وتفصيلاً في شعر هذا الشاعر العظيم فؤاد حداد.
Published on June 09, 2017 02:47
May 25, 2017
ترشيحات للمشاهدة..
بعض الأفلام الأجنبية، اللي مفيش بينها أي رابط غير إنها -في الفترة الأخيرة- كانت من ضمن الأفلام اللي حبيتها. وزي ما ساعات برشح كتب للقراءة فممكن أرشح النهاردة أفلام للمشاهدة والتأمل، وأكتب كلمتين -لنفسي ولكل مهتم- عن كل فيلم منهم زي ما فكرت فيه أو زي ما أثر في. فالسينما والموسيقى والقراية..المفروض إنها بتترك أثر كبير في تشكييل وعينا ووجدانا، حياتنا: نفسيا وماديا كمان. في مستوى أول بنحاول من خلال التعلم والاكتشاف، إننا نفرق بين الصادق والزائف في الصور والكلمات والأشخاص والتجارب المحيطة بينا. ثم بنعلم نفسنا من خلال هذا "الصادق" الذي وجدناه الإضافة الجديدة لوعينا وعقلنا وروحنا، ونتغير بشكل ما. يقول دافيد أ. كوك في كتابه "تاريخ السينما الروائية" "وإنني إذ قضيت حياتي طالبا ومعلما للأشكال اللغوية المختلفة، سواء المنطوقة أم السمعية البصرية، أعتقد أن أكثر الناس ذكاء وإنسانية في حضارتنا هم الذين سوف يختارون [هذا]الموقف.. ولهؤلاء كتبت هذا الكتاب". القائمة طويلة جدا، لكن دي مجرد نماذج -عشان رمضان اللي داخل علينا ده :)- عن التسامح والمحبة، وقبول الاختلاف والتنوع، والإنسان الحديث الذي يملك قدره في يده، وعن النضج والجدية والمثابرة.
الفيلم الأول اللي برشحه هو Philomena (2013)، وكتبت عنه:
قالت جودي دنش الممثلة العظيمة والتي قامت بدور الأم الأيرلندية فيلومينا، تلك الأم التي نزعوا منها ابنها بمنتهى القسوة في تلك كنيسة روسكريه؛ لأنها انجبته من الخطيئة، وكان عمرها لم يتجاوز الخمسة عشر عاما. لكنها، هذه "الخاطئة"، غفرت وسامحت الراهبات القساة في ذلك الدير (دايما بيظهر في الفيلم في فصل الشتاء البارد والثلج في كل مكان) مع ذلك.. أما جودي دنش فقالت: "كل ما يمكنني قوله هو أنني لا أتخيل نفسي في هذا الموقف ويكون بمقدوري أن أغفر ما حصل. أنا لا أملك فعلا كل هذه الإنسانية التي تملكها".. ولهذا أطلق الناس على فيلومينا "الخاطئة"، فيلومينا القديسة..في أحد المشاهد وهي تحكي للصحفي عن المرة اللي مارست فيها الجنس، قالت إنها استمتعت جدا بتلك الممارسة، وقالت لمارتن الصحفي: تعرف إني مكنتش أعرف إني عندي "Clitoris"؟! (وده خلى الصحفي غير المؤمن يلعن أبو الكاثوليكية اللي بتنكر رغبة ربنا خلقها جوانا إن كان موج يعني :) ).. وفي أحد المشاهد الأخرى قالت إنها عارفة إن الشاب الوسيم جدا اللي مارس معاها الجنس ده كذب عليها لما قالها إنه شخص طيب، وكملت بس يمكن لنفسها: مش مهم، أنا كمان كذبت عليه وقولته إني كبيرة.
الفيلم الثاني اللي برشحه هو Theeb (2014)، وكتبت عنه:
في الأنشودة الخامسة عشر من كتاب الجحيم في الكوميديا الإلهية، يلتقي دانتي في رحلته الطويلة ببرونيتو لاتيني، وكان في الواقع صديقا لدانتي وفتح له أبواب المعرفة وغرس في نفسه حب الوطن وتخليد الذكرى ومات ولم يكن دانتي قد بلغ الثلاثين من عمره. وفي اللقاء دار هذ الحوار:
برونيتو: أي قدر يسوقك هنا في الأسفل، قبل اليوم الأخير؟ ومن ذا يدلك على الطريق؟
دانتي: هناك في الحياة الهادئة فوقنا في العالم الأعلى، ضللت في واد قبل أن تكتمل مني السن.
القطعة دي هي اللي جت في بالي وأنا بشوف الفيلم العظيم "ذيب" من كام يوم لما اتعرض في سينما Zawya Cairo قصة نضج طفل في 24 ساعة وقبل أن تكتمل منه السن.. 100 دقيقة من المتعة والدهشة والجمال الخالص.
الفيلم الثالث اللي برشحه هو (2014) Whiplash ، وأكتب عنه:
إليك تلك الفكرة- بمناسبة هذا الفيلم، لكلانا:
مقابل القسوة هناك خيار المقاومة، المقاومة بمعنى العمل وبذل الجهد والعرق بإخلاص وبإصرار وبجدية؛ لمقاومة قسوة الحياة وقسوة الآخرين، بل وقسوة القدر وعبثيته، قسوة الوجود بذاته.. على مدار العمر السابق كان "آندرو نيمان"، الطالب بمعهد شايفر الموسيقي المرموق في نيويورك، الطموح الجاد، هو نموذجي/حالي/اختياري في مواجهة كل قسوة أو صعب في الطريق الذي لم أختر فيه أبدا أن أتراجع، حتى أمام كل البطحات والصعوبات والخوازيق، بل واجتياز الحياة دون مرشد ولا دليل، ومع الوقوع في الأخطاء كلها في تلك الساحة المفتوحة، والتعلم منها بالتراكم، وجبر الكسر لاستكمال المشوار الطويل، بلا كلل ولا يأس.. فمقاومة قسوة الحياة وعدم الوقوع في شرك الانتقام لا من الغير ولا من أنفسنا؛ بل تحويل كل غضب لطاقة بناء ومحبة، المواجهة لا الهروب، كلها علامات لسلامة روحنا وعقلنا وإنسانيتنا.
الفيلم الأول اللي برشحه هو Philomena (2013)، وكتبت عنه:
قالت جودي دنش الممثلة العظيمة والتي قامت بدور الأم الأيرلندية فيلومينا، تلك الأم التي نزعوا منها ابنها بمنتهى القسوة في تلك كنيسة روسكريه؛ لأنها انجبته من الخطيئة، وكان عمرها لم يتجاوز الخمسة عشر عاما. لكنها، هذه "الخاطئة"، غفرت وسامحت الراهبات القساة في ذلك الدير (دايما بيظهر في الفيلم في فصل الشتاء البارد والثلج في كل مكان) مع ذلك.. أما جودي دنش فقالت: "كل ما يمكنني قوله هو أنني لا أتخيل نفسي في هذا الموقف ويكون بمقدوري أن أغفر ما حصل. أنا لا أملك فعلا كل هذه الإنسانية التي تملكها".. ولهذا أطلق الناس على فيلومينا "الخاطئة"، فيلومينا القديسة..في أحد المشاهد وهي تحكي للصحفي عن المرة اللي مارست فيها الجنس، قالت إنها استمتعت جدا بتلك الممارسة، وقالت لمارتن الصحفي: تعرف إني مكنتش أعرف إني عندي "Clitoris"؟! (وده خلى الصحفي غير المؤمن يلعن أبو الكاثوليكية اللي بتنكر رغبة ربنا خلقها جوانا إن كان موج يعني :) ).. وفي أحد المشاهد الأخرى قالت إنها عارفة إن الشاب الوسيم جدا اللي مارس معاها الجنس ده كذب عليها لما قالها إنه شخص طيب، وكملت بس يمكن لنفسها: مش مهم، أنا كمان كذبت عليه وقولته إني كبيرة.
الفيلم الثاني اللي برشحه هو Theeb (2014)، وكتبت عنه:
في الأنشودة الخامسة عشر من كتاب الجحيم في الكوميديا الإلهية، يلتقي دانتي في رحلته الطويلة ببرونيتو لاتيني، وكان في الواقع صديقا لدانتي وفتح له أبواب المعرفة وغرس في نفسه حب الوطن وتخليد الذكرى ومات ولم يكن دانتي قد بلغ الثلاثين من عمره. وفي اللقاء دار هذ الحوار:
برونيتو: أي قدر يسوقك هنا في الأسفل، قبل اليوم الأخير؟ ومن ذا يدلك على الطريق؟
دانتي: هناك في الحياة الهادئة فوقنا في العالم الأعلى، ضللت في واد قبل أن تكتمل مني السن.
القطعة دي هي اللي جت في بالي وأنا بشوف الفيلم العظيم "ذيب" من كام يوم لما اتعرض في سينما Zawya Cairo قصة نضج طفل في 24 ساعة وقبل أن تكتمل منه السن.. 100 دقيقة من المتعة والدهشة والجمال الخالص.
الفيلم الثالث اللي برشحه هو (2014) Whiplash ، وأكتب عنه:
إليك تلك الفكرة- بمناسبة هذا الفيلم، لكلانا:
مقابل القسوة هناك خيار المقاومة، المقاومة بمعنى العمل وبذل الجهد والعرق بإخلاص وبإصرار وبجدية؛ لمقاومة قسوة الحياة وقسوة الآخرين، بل وقسوة القدر وعبثيته، قسوة الوجود بذاته.. على مدار العمر السابق كان "آندرو نيمان"، الطالب بمعهد شايفر الموسيقي المرموق في نيويورك، الطموح الجاد، هو نموذجي/حالي/اختياري في مواجهة كل قسوة أو صعب في الطريق الذي لم أختر فيه أبدا أن أتراجع، حتى أمام كل البطحات والصعوبات والخوازيق، بل واجتياز الحياة دون مرشد ولا دليل، ومع الوقوع في الأخطاء كلها في تلك الساحة المفتوحة، والتعلم منها بالتراكم، وجبر الكسر لاستكمال المشوار الطويل، بلا كلل ولا يأس.. فمقاومة قسوة الحياة وعدم الوقوع في شرك الانتقام لا من الغير ولا من أنفسنا؛ بل تحويل كل غضب لطاقة بناء ومحبة، المواجهة لا الهروب، كلها علامات لسلامة روحنا وعقلنا وإنسانيتنا.
Published on May 25, 2017 21:42
May 22, 2017
معلومة بنت الميداح.. في محبة "المليحة"
ماهر عبد الرحمن
منذ عدة سنوات عملت كباحث مشارك لإنشاء قاعدة بيانات عن البرلمانيات العرب. كان البحث عبارة عن جمع مادة تاريخية وأرشيفية عن تاريخ المجالس النيابية والتشريعية في الدول العربية، وتاريخ دخول المرأة كعضوة في هذه المجالس. وأسماء العضوات منذ السماح لهن بدخول البرلمان حتى وقت البحث. وأخيرًا، جمع مادة تفصيلية وسيرة ذاتية لكل نائبة. ومن ضمن الدول التي جمعت مادتها كانت دولة موريتانيا، ومن ضمن النائبات كانت النائبة والمغنية معلومة بنت الميداح. ومعلومة من أسرة عريقة فنيًا هي عائلة أهل الميداح.
ولدت معلومة عام 1960 في الشارات بمدينة المذرذرة في جنوب غرب موريتانيا، والتي تبعد 150 كليو متر عن العاصمة نواكشوط. وهي مدينة مهمة داخل ولاية الترارزة، الولاية التي خرج منها العديد من الفقهاء والموسيقيين والشعراء والعائلات الفنية، وأيضًا لعبت هذه المدينة دورًا كبيرًا في تطوير الفن الموريتاني التقليدي وإغناء أهم الآلات الموسيقية الحسانية الموريتانية، وهي آلة "التيدنيت"، بالألحان والتأليف الموسيقي. ومن أهم الفنانين الذين أنجبتهم المذرذرة كان هو الفنان المختار بن الميداح وهو والد معلومة. لم يكن هذا الرجل فقط موسيقيًا ومغنيًا جميلًا، لكنه كان أيضًا يكتب الشعر الشعبي وكان مثقفًا في الفقه الإسلامي والسيرة النبوية؛ ولذلك نجد معلومة في حديثها وغناءها تنطق باللغة العربية بشكل سليم وجميل. وأمها كانت هي الفنانة عائشة محمد يحيى البُـبّان، وهي من عائلة من العائلات العريقة في الموسيقى التقليدية.
هكذا خرجت معلومة من مدينة كان الفن فيها، وما زال، رافدًا مهما. وكذلك من بيت وعائلة فنية أصيلة. هذا كان الرافد الأول والأساسي الذي أثر في حياة معلومة. أما الرافد الثاني فتكّون بسبب أخيها اليساري والذي تأثرت بأفكاره ودفاعه عن الفقراء واتجاهه السياسي المعارض لأنظمة الحكم. أصبحت معلومة، بعد مشوار كفاح ومعاناة واضطهاد ممتد، من أهم فناني موريتانيا وكذلك من أهم المعارضين للانقلابات المتتابعة وللأحزاب الحاكمة على مدار سنين في موريتانيا، فمنذ استقلالها في 1960 شهدت موريتانيا 15 انقلابًا.
وحكاية كفاح ونضال وتجربة معلومة بنت الميداح في المعارضة، حكاية جديرة بأن تروى. على مدار سنوات طويلة كانت معلومة معارضة لنظام معاوية ولد الطايع. معارضة يسارية عنيدة ومن قلب حزب تكتل القوى الديموقراطية. كانت تعارض بالسياسة، وبالغناء والموسيقى، ضد الديكتاتورية ومن أجل تحقيق الديموقراطية والعدل في بلادها. ومع انتخاب أول رئيس مدني لموريتانيا، وهو الرئيس محمد ولد الشيخ عبد الله، والذى تولى الحكم في أبريل/نيسان 2007 بأصوات الشعب. قرر حزب تكتل القوى الديموقراطية خوض الانتخابات التشريعية، ودفع بمعلومة على قوائمه في انتخابات مجلس الشيوخ عام 2007، وفازت معلومة. إلا أن انقلابًا قام به محمد ولد عبد العزيز (وهو الرئيس الحالي) أغسطس/آب عام 2008 وقام بعزل الرئيس محمد ولد عبدالله وتولى هو رئاسة الدولة. وكتبت معلومة وغنت ضد هذا الانقلاب مما جعل النظام الجديد يصادر نسخ ألبوماتها وتم القبض عليها.
على مدار معارضتها للنظم المختلفة واجهت معلومة الكثير من التضييق والتهميش لها ولعائلتها، وحتى بسبب عدم غنائها بأغاني الفخر بأسماء شيوخ القبائل في مقابل غنائها عن قضايا الفقراء؛ كان هذا يجعل القبائل والمحافظين يغضبون منها. ومع سماح الرئيس ولد عبد العزيز بإقامة انتخابات حرة وجعل المعارضة نفسها تقوم بالإشراف عليها، وجاء رئيسًا للبلاد بأغلبية الأصوات في يوليو/تموز 2009. ثم سمح بإجراء انتخابات لمجلس الشيوخ، وفازت معلومة عن حزب الشورى المعارض هذه المرة. وفي عام 2014 أعلنت معلومة اعتزالها للعمل السياسي بصراعاته وأنها تريد أن تتفرغ للفن ودعم قضايا الثقافة والحفاظ على البيئة وحرية ومكانة المرأة، وأن استمرارها بمجلس الشيوخ سوف يكون من أجل الدفاع بالأساس عن هذه القضايا. وفي نهاية عام 2014 قدمت معلومة استقالتها من حزب الشورى وأصبحت عضوًا بحزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" الحاكم.
في السيرة التي كتبتها في بحثي عن النائبة الشيخة معلومة بنت الميداح، عضو مجلس الشيوخ الموريتاني عن حزب تكتل القوى الديمقراطية، ثم عن حزب الشورى، وقتها، لم أذكر بها السلم الخماسي للموسيقى الموريتانية وهي موسيقى أفريقية الطابع. ولا القصائد والأغاني التي غنتها وتغنيها معلومة، ولا عن ثقافتها الموسيقية وربطها لموسيقاها المحلية بموسيقى الجاز والبلوز في اطار رغبتها في التجديد والتحديث. ولم أذكر الأغاني التي أصبحت أُحبها شخصيًا لها ومنها: "مغرور زميلك يا ولد ما هو مقدرني"، و"نحن للحب"، و"يا حبيبي يا ملاكي كيف أصبحت بعيدًا"، و"يا مليح"، وغيرها من الأغاني عن الثورة والقضايا الاجتماعية والمرأة والفلاحين والتصوف والمديح والإنسان بشكل عام. فكرت أنني سوف أكتب ذات يوم عن معلومة المغنية والفنانة الرصينة، والملحنة المتمردة والمبدعة، وصاحبة الشخصية المتفردة. وغنائها الملتزم بقضايا الناس، وضد الفقر والمرض والفوارق الطبقية، حتى لقبَّها جمهورها بـ"مطربة الفقراء".
تحكي معلومة أنها نشأت بين والديها اللذين قاما بتربيتها تربية صارمة متأصلة في الفن الموسيقي الموريتاني التقليدي، فتعلمت منهما بعد أن حصلت على الشهادة الإبتدائية وتركت بعدها المدرسة حتى تتعلم الموسيقى، كما كانت تقضي بذلك التقاليد لبنت من عائلة موسيقية. تعلمت العزف على آلة الأردين وهي آلة موسيقية وترية وتعزفها النساء فقط. وتعلمت الغناء التقليدي بمقامات الهول الخمسة، وبالموسيقى الحسانية وهي موسيقى تمزج بين الموسيقى العربية والأفريقية.
لكن معلومة كانت تريد أن يكون لها طريقها الشخصي وأسلوبها في التعبير عن نفسها. كانت تريد أن تغني، لا عن البطولات والفخر القبلي بل عن معاناة الناس الاجتماعية وحرمانهم وفقرهم، وضد العنصرية بحق الأقليات الزنجية والأرقاء السابقين، وعن مشاعر الإنسان الشخصية. وأيضا على مستوى الموسيقى بإدخال مقامات وأنواع جديدة من الموسيقى وتطعيم الموسيقى التقليدية بها. وواجه هذا الفكر الموسيقي التحديثي انتقادات كبيرة على طول الطريق من المحافظين والشيوخ والصحافة. لكن بعض أساتذة الجامعة ومعهم بعض الطلاب كانوا يشجعون تجربتها تلك وقاموا بإنشاء "نادي أصدقاء معلومة" لتشجيع هذا التجديد. إن المجهود الذي قامت به المعلومة على مدى مشوارها الفني وكفاحها من أجل التطوير والتحديث نَقَل الوسيقى الموريتانية من المحلية الضيقة إلى نطاق عالمي أوسع.
بعد مشوار طويل من المعارضة السياسية إلى جانب الفن، تركت معلومة السياسة وتفرغت للفن، ولما عادت إلى السياسة في 2014 انتقلت من صفوف المعارضة، وهي التي كانت في القلب منها، إلى التأييد للسلطة السياسية وعضوية الحزب الحاكم "حزب الاتحاد من أجل الجمهورية" وقالت وقتها إنها بعد تفكير كبير وجدت أن حال بلادها يستدعي وقوفها خلف الرئيس ولد عبد العزيز. والبعض يأخذ هذا على معلومة. لكن رغم هذا الانتقال من صفوف المعارضة إلى صفوف الحزب الحاكم، ما زالت المعلومة هي نفس السيدة الصلبة والإنسانة النبيلة المؤمنة والتي تدافع في كل مكان عن قضايا المحرومين والفقراء، وتنادي بالمساواة والإخاء بين الناس، بل وإنها عارضت تعديل الدستور الذي نادى به الرئيس الموريتاني، هي وزملائها في مجلس الشيوخ، ليس فقط كعضوة داخل المجلس وإنما قدمت أغنية تعبر فيها عن معارضتها تلك لتعديل الدستور.
فنيًا تقول معلومة عن مشوارها "لقد مزجت بين المقامات العربية والأفريقية في ألحاني، واخترت من الكلمات المنظومة باللهجة (الحسانية) المحلية الأقرب إلى الفهم، وعمدت لاستعمال الآلات والمزج فيما بينها، وهو مجهود يتطلب دربة وتمكنًا ربما أتميز بهما عن غيري. حاولت جهد استطاعتي تقريب الأغنية الموريتانية من الجمهور العربي، الذي عبر لي في أكثر من مناسبة عن امتنان واعجاب أكاد ألمسه في حلي وترحالي وفي زياراتي للبلدان العربية والأجنبية. صابرة وصادقة مع نفسي ومع جمهوري، هي ذي أنا وسأظل كذلك ما حييت" وهي كذلك بالفعل، ويمكن أن نستعير وصف من قصيدة للأبنودي ينطبق على الشيخة معلومة وهو "مليحة القول والفعال".
* "المليحة" في العنوان هي بالأصل من عنوان أغنية"يا مليح" لمعلومة بنت الميدح، من ألبوم "صحراء عدن"
https://almanassa.com/ar/story/4519
منذ عدة سنوات عملت كباحث مشارك لإنشاء قاعدة بيانات عن البرلمانيات العرب. كان البحث عبارة عن جمع مادة تاريخية وأرشيفية عن تاريخ المجالس النيابية والتشريعية في الدول العربية، وتاريخ دخول المرأة كعضوة في هذه المجالس. وأسماء العضوات منذ السماح لهن بدخول البرلمان حتى وقت البحث. وأخيرًا، جمع مادة تفصيلية وسيرة ذاتية لكل نائبة. ومن ضمن الدول التي جمعت مادتها كانت دولة موريتانيا، ومن ضمن النائبات كانت النائبة والمغنية معلومة بنت الميداح. ومعلومة من أسرة عريقة فنيًا هي عائلة أهل الميداح.
ولدت معلومة عام 1960 في الشارات بمدينة المذرذرة في جنوب غرب موريتانيا، والتي تبعد 150 كليو متر عن العاصمة نواكشوط. وهي مدينة مهمة داخل ولاية الترارزة، الولاية التي خرج منها العديد من الفقهاء والموسيقيين والشعراء والعائلات الفنية، وأيضًا لعبت هذه المدينة دورًا كبيرًا في تطوير الفن الموريتاني التقليدي وإغناء أهم الآلات الموسيقية الحسانية الموريتانية، وهي آلة "التيدنيت"، بالألحان والتأليف الموسيقي. ومن أهم الفنانين الذين أنجبتهم المذرذرة كان هو الفنان المختار بن الميداح وهو والد معلومة. لم يكن هذا الرجل فقط موسيقيًا ومغنيًا جميلًا، لكنه كان أيضًا يكتب الشعر الشعبي وكان مثقفًا في الفقه الإسلامي والسيرة النبوية؛ ولذلك نجد معلومة في حديثها وغناءها تنطق باللغة العربية بشكل سليم وجميل. وأمها كانت هي الفنانة عائشة محمد يحيى البُـبّان، وهي من عائلة من العائلات العريقة في الموسيقى التقليدية.
هكذا خرجت معلومة من مدينة كان الفن فيها، وما زال، رافدًا مهما. وكذلك من بيت وعائلة فنية أصيلة. هذا كان الرافد الأول والأساسي الذي أثر في حياة معلومة. أما الرافد الثاني فتكّون بسبب أخيها اليساري والذي تأثرت بأفكاره ودفاعه عن الفقراء واتجاهه السياسي المعارض لأنظمة الحكم. أصبحت معلومة، بعد مشوار كفاح ومعاناة واضطهاد ممتد، من أهم فناني موريتانيا وكذلك من أهم المعارضين للانقلابات المتتابعة وللأحزاب الحاكمة على مدار سنين في موريتانيا، فمنذ استقلالها في 1960 شهدت موريتانيا 15 انقلابًا.
وحكاية كفاح ونضال وتجربة معلومة بنت الميداح في المعارضة، حكاية جديرة بأن تروى. على مدار سنوات طويلة كانت معلومة معارضة لنظام معاوية ولد الطايع. معارضة يسارية عنيدة ومن قلب حزب تكتل القوى الديموقراطية. كانت تعارض بالسياسة، وبالغناء والموسيقى، ضد الديكتاتورية ومن أجل تحقيق الديموقراطية والعدل في بلادها. ومع انتخاب أول رئيس مدني لموريتانيا، وهو الرئيس محمد ولد الشيخ عبد الله، والذى تولى الحكم في أبريل/نيسان 2007 بأصوات الشعب. قرر حزب تكتل القوى الديموقراطية خوض الانتخابات التشريعية، ودفع بمعلومة على قوائمه في انتخابات مجلس الشيوخ عام 2007، وفازت معلومة. إلا أن انقلابًا قام به محمد ولد عبد العزيز (وهو الرئيس الحالي) أغسطس/آب عام 2008 وقام بعزل الرئيس محمد ولد عبدالله وتولى هو رئاسة الدولة. وكتبت معلومة وغنت ضد هذا الانقلاب مما جعل النظام الجديد يصادر نسخ ألبوماتها وتم القبض عليها.
على مدار معارضتها للنظم المختلفة واجهت معلومة الكثير من التضييق والتهميش لها ولعائلتها، وحتى بسبب عدم غنائها بأغاني الفخر بأسماء شيوخ القبائل في مقابل غنائها عن قضايا الفقراء؛ كان هذا يجعل القبائل والمحافظين يغضبون منها. ومع سماح الرئيس ولد عبد العزيز بإقامة انتخابات حرة وجعل المعارضة نفسها تقوم بالإشراف عليها، وجاء رئيسًا للبلاد بأغلبية الأصوات في يوليو/تموز 2009. ثم سمح بإجراء انتخابات لمجلس الشيوخ، وفازت معلومة عن حزب الشورى المعارض هذه المرة. وفي عام 2014 أعلنت معلومة اعتزالها للعمل السياسي بصراعاته وأنها تريد أن تتفرغ للفن ودعم قضايا الثقافة والحفاظ على البيئة وحرية ومكانة المرأة، وأن استمرارها بمجلس الشيوخ سوف يكون من أجل الدفاع بالأساس عن هذه القضايا. وفي نهاية عام 2014 قدمت معلومة استقالتها من حزب الشورى وأصبحت عضوًا بحزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" الحاكم.
في السيرة التي كتبتها في بحثي عن النائبة الشيخة معلومة بنت الميداح، عضو مجلس الشيوخ الموريتاني عن حزب تكتل القوى الديمقراطية، ثم عن حزب الشورى، وقتها، لم أذكر بها السلم الخماسي للموسيقى الموريتانية وهي موسيقى أفريقية الطابع. ولا القصائد والأغاني التي غنتها وتغنيها معلومة، ولا عن ثقافتها الموسيقية وربطها لموسيقاها المحلية بموسيقى الجاز والبلوز في اطار رغبتها في التجديد والتحديث. ولم أذكر الأغاني التي أصبحت أُحبها شخصيًا لها ومنها: "مغرور زميلك يا ولد ما هو مقدرني"، و"نحن للحب"، و"يا حبيبي يا ملاكي كيف أصبحت بعيدًا"، و"يا مليح"، وغيرها من الأغاني عن الثورة والقضايا الاجتماعية والمرأة والفلاحين والتصوف والمديح والإنسان بشكل عام. فكرت أنني سوف أكتب ذات يوم عن معلومة المغنية والفنانة الرصينة، والملحنة المتمردة والمبدعة، وصاحبة الشخصية المتفردة. وغنائها الملتزم بقضايا الناس، وضد الفقر والمرض والفوارق الطبقية، حتى لقبَّها جمهورها بـ"مطربة الفقراء".
تحكي معلومة أنها نشأت بين والديها اللذين قاما بتربيتها تربية صارمة متأصلة في الفن الموسيقي الموريتاني التقليدي، فتعلمت منهما بعد أن حصلت على الشهادة الإبتدائية وتركت بعدها المدرسة حتى تتعلم الموسيقى، كما كانت تقضي بذلك التقاليد لبنت من عائلة موسيقية. تعلمت العزف على آلة الأردين وهي آلة موسيقية وترية وتعزفها النساء فقط. وتعلمت الغناء التقليدي بمقامات الهول الخمسة، وبالموسيقى الحسانية وهي موسيقى تمزج بين الموسيقى العربية والأفريقية.
لكن معلومة كانت تريد أن يكون لها طريقها الشخصي وأسلوبها في التعبير عن نفسها. كانت تريد أن تغني، لا عن البطولات والفخر القبلي بل عن معاناة الناس الاجتماعية وحرمانهم وفقرهم، وضد العنصرية بحق الأقليات الزنجية والأرقاء السابقين، وعن مشاعر الإنسان الشخصية. وأيضا على مستوى الموسيقى بإدخال مقامات وأنواع جديدة من الموسيقى وتطعيم الموسيقى التقليدية بها. وواجه هذا الفكر الموسيقي التحديثي انتقادات كبيرة على طول الطريق من المحافظين والشيوخ والصحافة. لكن بعض أساتذة الجامعة ومعهم بعض الطلاب كانوا يشجعون تجربتها تلك وقاموا بإنشاء "نادي أصدقاء معلومة" لتشجيع هذا التجديد. إن المجهود الذي قامت به المعلومة على مدى مشوارها الفني وكفاحها من أجل التطوير والتحديث نَقَل الوسيقى الموريتانية من المحلية الضيقة إلى نطاق عالمي أوسع.
بعد مشوار طويل من المعارضة السياسية إلى جانب الفن، تركت معلومة السياسة وتفرغت للفن، ولما عادت إلى السياسة في 2014 انتقلت من صفوف المعارضة، وهي التي كانت في القلب منها، إلى التأييد للسلطة السياسية وعضوية الحزب الحاكم "حزب الاتحاد من أجل الجمهورية" وقالت وقتها إنها بعد تفكير كبير وجدت أن حال بلادها يستدعي وقوفها خلف الرئيس ولد عبد العزيز. والبعض يأخذ هذا على معلومة. لكن رغم هذا الانتقال من صفوف المعارضة إلى صفوف الحزب الحاكم، ما زالت المعلومة هي نفس السيدة الصلبة والإنسانة النبيلة المؤمنة والتي تدافع في كل مكان عن قضايا المحرومين والفقراء، وتنادي بالمساواة والإخاء بين الناس، بل وإنها عارضت تعديل الدستور الذي نادى به الرئيس الموريتاني، هي وزملائها في مجلس الشيوخ، ليس فقط كعضوة داخل المجلس وإنما قدمت أغنية تعبر فيها عن معارضتها تلك لتعديل الدستور.
فنيًا تقول معلومة عن مشوارها "لقد مزجت بين المقامات العربية والأفريقية في ألحاني، واخترت من الكلمات المنظومة باللهجة (الحسانية) المحلية الأقرب إلى الفهم، وعمدت لاستعمال الآلات والمزج فيما بينها، وهو مجهود يتطلب دربة وتمكنًا ربما أتميز بهما عن غيري. حاولت جهد استطاعتي تقريب الأغنية الموريتانية من الجمهور العربي، الذي عبر لي في أكثر من مناسبة عن امتنان واعجاب أكاد ألمسه في حلي وترحالي وفي زياراتي للبلدان العربية والأجنبية. صابرة وصادقة مع نفسي ومع جمهوري، هي ذي أنا وسأظل كذلك ما حييت" وهي كذلك بالفعل، ويمكن أن نستعير وصف من قصيدة للأبنودي ينطبق على الشيخة معلومة وهو "مليحة القول والفعال".
* "المليحة" في العنوان هي بالأصل من عنوان أغنية"يا مليح" لمعلومة بنت الميدح، من ألبوم "صحراء عدن"
https://almanassa.com/ar/story/4519
Published on May 22, 2017 10:22
May 7, 2017
رحلة المتنبي
يذكر محمود شاكر في كتابه عن "المتنبي" أنه كان هناك في البداية سر كبير في حياة المتنبي لا يعرفه إلا جدته (جدته لأمه)، هذه السيد الطيبة الصالحة. وجدته هي التي تولت تربيته وهي من أخبرته بالسر وأوصته بالكتمان وأخذت منه العهود. لكن المتنبي، وكان صغيرا، لم يفي بما وعد به. ولد المنبي بالكوفة ولا أحد يعرفه نسبه على وجه الدقة، والسائد أنه ابن أحد السقائين. لكن هذه السيدة أخبرته أنه ابنا لسيد من السادة العلويين، فلما أفصح بهذا السر تم إخراجه من بلده. ولّد هذا لديه تمردا دفينا، إنه يعرف نبل محتده. ويخرج من الكوفة إلى بغداد ويسجن فيها ثم يعود إلى الكوفة فينكره السادة، فيذهب إلى حلب وهناك كانت رحلته مع سيف الدولة، شاعرا عظيما وكبيرا جدا. قال فيه عدوه اللدود ابن العميد: قاتله الله، لقد ملأ الدنيا وشغل الناس. ولما فكر وتطلع المتنبي إلى خولة أخت سيف الدولة، لم ينلها. فشعر هذا المعتد بشعره ورجولته وعبقريته ونسبه العالي، شعر بالحزن الشديد.. وبعد وفاة سيف الدولة، أصبح من وقتها وهو يرتحل بلا استقرار، من مكان إلى آخر بلا توقف. وفي مقال للدكتور فؤاد مرسي عن رحلة و "جدلية المتنبي" يقول "لم تكن حكمة المتنبي مجرد إدراك لحكمة الحياة، بل إدراك لجوهر التناقض في الحياة".
وفي أثناء رحلته الممتدة ورد إليه كتاب من جدته تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها، فتوجه الرجل نحو العراق، ولم يمكنه وصول الكوفة على حالته تلك (الغالب أنه مُنع من دخولها) فانحدر إلى بغداد. وكانت جدته قد يئست منه، وظنت أنها لن تراه قبل موتها. فكتب أبو الطيّب المتنبي حفيدها إليها كتاباً يسألها المسير إليه. فقبلت كتابه، وحمّت لوقتها سروراً به، وغلب الفرح على قلبها فماتت..
فكتب يرثيها وفي نفس الوقت يصف تناقض الحياة فيقول:
ألا لا أُري الأحداثَ مَدحاً ولا ذَمّا فَما بَطشُها جَهلاً ولا كفُّها حِلمَا
وفي أثناء رحلته الممتدة ورد إليه كتاب من جدته تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها، فتوجه الرجل نحو العراق، ولم يمكنه وصول الكوفة على حالته تلك (الغالب أنه مُنع من دخولها) فانحدر إلى بغداد. وكانت جدته قد يئست منه، وظنت أنها لن تراه قبل موتها. فكتب أبو الطيّب المتنبي حفيدها إليها كتاباً يسألها المسير إليه. فقبلت كتابه، وحمّت لوقتها سروراً به، وغلب الفرح على قلبها فماتت..
فكتب يرثيها وفي نفس الوقت يصف تناقض الحياة فيقول:
ألا لا أُري الأحداثَ مَدحاً ولا ذَمّا فَما بَطشُها جَهلاً ولا كفُّها حِلمَا
Published on May 07, 2017 07:56


