ماهرعبد الرحمن's Blog, page 2

February 3, 2018

هاملت وترجماته

ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لمسرحيات وليم شكسبير تعتبر واحدة من أفضل وأمتع الترجمات لكنها ليست أفضل الترجمات. شخصيا -في حدود ثقافتي ومعرفتي المتواضعة جدا وتذوقي كمجرد قارئ- أجد أن ترجمة عبد القادر القط لمسرحية "هاملت" كانت أفضل من ترجمة جبرا. وكذا ترجمة فاطمة موسى، على بساطتها- لمسرحية لير كانت أفضل من ترجمة جبرا "المنشيّة". ومثلا من الملاحظات لما كنت بذاكر ترجمات مختلفة لمسرحيات شكسبير، ومن ضمنها مسرحية هاملت.. وده كان من حوالي 10 سنوات مثلا عشان أكتب جملتين في تأمل شخصي عابر لنفسي (زي ما تقرا مقال عن قدرات صوت أم كلثوم بجانب سماعك لها؛ فتحس وتفهم جمالها وعظمتها. وكذا لما تقرا القرآن وترتله وتشعر في لحظات بالخشوع وبالجمال وبعدين تقرا في "التصوير الفني للقرآن" فتشعر وتفهم أسرار الجمال والقوة.. إلخ). نرجع لمسرحية هاملت على سبيل المثال.. ومش هقارن كلمة كلمة ولا فقرة فقرة، لكن هقارن مثال ما من اللي أنا فاكره. في المشهد الثاني من الفصل الثاني يدخل هاملت (ولعله سمع ما دار بين عمه ووالدته ووالد أوفيليا- بولونيوس) بولونيوس كان يريد أن يكتشف هل كان هاملت مجنونا فعلا أم أنه يدعي الجنون فيسأله: هل تعرفني يا سيدي؟ ويجيبه هاملت: حق المعرفة، أنت سماك- fishmonger.
ترجمة: جبرا إبراهيم لإجابة هاملت كانت: أعرفك تمام المعرفة. أنت بياع سمك.
ترجمة: مصطفى بدوي لإجابة هاملت كانت: جيد المعرفة. أنت صياد سمك.
ترجمة: عبد القادر القط لإجابة هاملت كانت: جيدا - أنت سماك.
والحقيقة إن ترجمة عبد القادر القط مش بس جميلة وقوية وبليغة (البلاغة الإيجاز - في أحد تعريفاتها)، لكن في حين لم يضع جبرا أي هامش لكلمة (fishmonger) ولكنه اكتفى بترجمتها. وضع الدكتور القط هامشا بسيطا ومهما (هوامش ترجمته لا تقل عظمة عن ترجمة النص الأصلي نفسه) بيقول: أنت سماك- رمز بالعامية إلى القواد. فالحق إن غرض هاملت من هذه الإجابة لم يكن فقط أن يوحي لبولونيوس الكلب إنه مجنون وبيقول كلام فارغ، لكن وكما يقترح كولردج (أعظم وأهم ناقد لشكسبير) أن هاملت- وهذا يتوافق مع شخصيته وتحوله ومراوغته كما كتبه شكسبير- كان يريد أن يقول أنه يعرف حيلة بولونيوس ومحاولته "اصطياد" سره، وأيضا يلومه لأنه يستغل ابنته أوفيليا كطُعم لكشف سر هاملت؛ وكانت (fishmonger) في العامية أيام شكسبير تعني قواد النساء الذي يرمي بهن كطعم لاصطياد النقود من جيوب الرجال.. وشكسبير في كل كلماته وجمله يكون هكذا مكثفا وغنيا بالمعاني، وتحتاج ترجمة نصوصه إلى مذاكرة ودقة وثقافة وجهد ونفس ومثابرة..
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 03, 2018 11:32

December 15, 2017

من رسائل توفيق الحكيم في "زهرة العمر"

في إحدى رسائل توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي مسيو أندريه (الرسائل كلها منشورة في كتابه: "زهرة العمر") يقول:
عزيزي أندريه
لنعد إلى ما جاء في رسالتيك الأخيرتين عن غرقك في بحر الكتب والمطالعات، وخروجك مصاباً بحمى الشك القلق. ينبغي أن أبادر فأقول لك أن هذا القلق مرض دوري لكل رجل فكر. أين كنت يوم إصابتي بهذا المرض الإصابة الأولى؟ لقد حدث لي بالضبط كل ما وصفت. في ذلك الوقت كنت أنت في مصنعك بعيداً عن المنطقة الجدية العميقة من نفسي. وكنت أنا في حجرتي. لقد كان العامان الأخيران من عهد باريس رازحين تحت أثقال هذا المرض الموهن، لقد فتحت أمامي المطالعات دنيوات لا قبل لي بها. وعوالم لا حدود لها. وقد حدث ذلك فجأة وعلى الأقل في سرعة لم يتحملها ذهني. فصار مثلي مثل ذبابة أُطلقت في أجواز الفضاء الهائل وهي التي هامت في جو الحجرة الضيقة وما عرفت النور إلا من خلال النافذة الزجاجية المغلقة. على أن هنالك فرقاً بيني وبينك لا يجوز أن تنساه. فرق جعل مرضي أثقل وطأة وأشد فتكاً، ذلك أني كنت أعتبر شؤون الأدب والفكر حرفة وغاية. أما أنت فقد كنت تعمل عملاً حقيقياً ترتزق منه وتأخذه على سبيل الجد وما كانت المطالعات عندك إلا هواية.. ذلك حالك وهو كما ترى ليس خطراً إلى حد كبير، أما أنا فقد تفاقم خطبي. لقد أضعت وقتي كله في باريس منحنياً على مكتب الحجرة رقم 48 بشارع بلبور اقرأ واقرأ حتى قرأت كل شيء. لم أترك شيئاً في تاريخ النشاط الذهني لم أطلع عليه. لقد غرقت في آداب الأمم كلها وفلسفتها وفنونها. لم أكن اسمح لنفسي بأن أجهل فرعاً من فروع المعرفة لأني كنت أعتقد أن الأديب في عصرنا الحاضر يجب أن يكون موسوعياً لذلك بذلت جهدي في أن أحيط بأبرز ما أنتجت العبقرية الإنسانية. حتى العلوم، أردت أن ألم إلماماً بأهم نتائجها.. أما قراءاتي في القص التمثيلي فهي أعجب شيء فعلته. لقد قرأت كما أخبرتك ذات مرة المكتبة المسرحية La Libaraire Theatrate برمتها. فأنا كنت أُراسلها من مصر قبل نزوحي إلى فرنسا. وأعرف عنوانها في الجان بولفار. وكانت هي أول حانوت دخلته إذ دخلت باريس. فجعلت أختلف اليها أياماً طويلة أُطالع فيها صفوف كتبها صفاً صفاً. وأنطلق آخر النهار بما أستطيع شراءه مداراة لصاحب الحانوت. واعتاد المكتبي رؤيتي كل يوم على هذا الحال إلى أن نظر ذات يوم حوله فلم يجدني، فسأل في ذلك أحد عماله مستغرباً. ثم حانت منه التفاتة إلى أعلى المحل فأبصرني في قمة السلم لاصقاً بالسقف ألتهم الكتب التي في الصف العلوي الأخير .. أجل يا أندريه فعلت هذا وبعد ذلك كله انكببت أكتب وأكتب مخطوطات... كان مصيرها كلها التمزيق، إن ما جعلتك تقرؤه منها يا أندريه لا يوازي جزءاً من عشرة أجزاء مما أخفيته عنك وانتهيت إلى تمزيقه قبل أن تطلع عليه عين. ولعل ما قرأته أنت هو أنكب وأقبح ما سودت به وجه ورق. إنها سهول من الصحاري والرمال تصور لنا سحاباً بعيداً لن نبلغه أبداً..
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 15, 2017 07:41

November 4, 2017

سامي الدروبي

تحكي السيدة إحسان بيات الدروبي، أنها كانت في رفقة زوجها في زيارة إلى موسكو، وخلال جولة في شوارع المدينة، أشار سامي الدروبي إلى جسر مرّا بقربه، وقال: هذا الجسر ذكره دوستويفسكي في قصة "الليالي البيضاء"، وفي شارع آخر وقف يتأمل بيتاً ثم علّق: أظن أن رواية "الجريمة والعقاب" حدثت في هذا المنزل، وفي هذا الركن اجتمعت هيلين إلى الأمير. كثير من هذه الحكايات كانت ترويها زوجة المترجم العظيم سامي الدروبي للصحفيين والإعلاميين وتلاميذه ومحبيه والأصدقاء.. حتى قالت لها في مرة إحدى صديقات الأسرة: يا إحسان إن سامي ليس ملكا لك، إنه ملك لقراءه، وأنت لم تكوني لسامي "حرمه" بل كنت "بتاع كله"، زوجة، سكرتيرة، ممرضة، عكازته كما سمعته يصفك أكثر من مرة.. لذا يجب أن تكتبي عنه.. وبعد تردد لأنها لم يكن قد سبق لها الكتابة من قبل، وافقت أن تخوض التجربة بمساعدة صحفية، حكت لها بعض من البدايات وفي اليوم التالي أتت وقرأت ما دونت.. لكن السيدة إحسان لم تشعر بأنها هي، ولا أن ما كتب هو سامي.. سامي الذي كانت تشعر به في كل كيانها وروحها، وحين تحكي عنه كانت تحكي بكل صدق وحرارة، وبكل ذرة من عقلها وقلبها وروحها.. فاعتذرت للصحفية وقررت أن تخوض التجربة بلمحات عن سامي رغم أنها ليست كاتبة. وتكتب قبل الكتابة إلى سامي الدروبي هذا الإهداء الرقيق: إليك يا سامي أهدي هذه الذكريات، لمحات من سيرة حياتنا أو من مشوار عمري معك. وأنا أعتذر منك لأن الله لم يعطني موهبة الأدب حتى أعطيك ما تستحق.. أيها الإنسان الملحمة في تحمله للألم وفي عطاءه برغم الألم. إليك أقدم محاولتي واعتذاري.
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"
لأبدأ مشوار العمر منذ كان لقاؤنا الأول في الحرم الجامعي في السابع من نيسان (ابريل) 1954 وبالذات في غرفة الدكتور عبدالله عبد الدايم الذي كان أستاذي في دوحة الأدب حيث نلت الشهادة الثانوية وكان يرعانا ثقافيا ويحثنا على المطالعة، فيعيرنا من كتبه الخاصة مما يجعلنا نتردد على مكتبه لنعيد ونأخذ من زاده الذي لا ينضب، ومن المصادفة الغريبة أن الكتاب الذي كان عليّ أن أعيده إلى الدكتور عبد الدايم في ذلك اليوم كان كتاب الطاقة الروحية لهنري برجسون ترجمة الدكتور سامي الدروبي. فتعارفنا فلفت نظري وجه صبوح وجبهة براقة وعينان معبرتان وحديث سلس وتعليقات مرحة وذكية.. ولم أدر لماذا قضيت تلك الليلة وأنا أترنم بصدى حديثه وأنتشي برنين ضحكته، وأسرح ببريق عينيه ولم أكن أدري أن الهوى بدأ يغزو قلبي ولم أكن اؤمن بالحب من النظرة الأولى.. وكنت أتسائل وهل يمكن أن يحصل من طرف واحد؟ ووجدت الجواب بعد أربعة أيام فقط حين كنت مع مجموعة من الزملاء والزميلات نهبط سلم كلية الحقوق متجهين إلى المكتبة وإذا بنظرة ثاقبة من عينين زرقاوين تشملني فتربكني وبخطى ثابتة تتقدم نحوي وبجملة قصيرة جافة تسألني بل تأمرني أن أرافقه لأن الدكتور عبد الدائم يرغب في التحدث إلي بأمر هام.. فمشيت مسلوبة الإرادة..وفي الطريق إلى مكتب الدكتور عبد الدائم" فاتحها بطلب يدها ووافقت وقرأ الفاتحة معها في الحرم الجامعي. تذكر إحسان في كتابها "لعله كان أسرع قرار اُتُّخِذَ في قضية زواج قُدِّرَ له فيما بعد أن يكون ناجحًا كل النجاح". وقبل أن تقوم بإبلاغ العائلة، توجَّهَتْ إلى منزل صديقتها ونسيبتها ألفة الإدلبي لتخبرها، فباركت لها هذه الخطوبة وهنأتها على جرأتها، وقالت لها: "يا ابنتي الزواج شيء شخصي جدًا، ويعود قبل كل شيء إلى قناعة الزوجين ببعضهما". وأُعلنت في اليوم التالي خطوبة الأستاذ سامي الدروبي على الطالبة الإذاعية إحسان بيات. بعد الخطوبة طلب منها الاستقالة من عملها الإذاعي للتفرغ لمساعدته، وكان له ما أراد. وكان أول عمل مشترك بينهما ترجمة كتاب "مذلون مهانون" لدوستويفسكي. كان يمسك النص الفرنسي بيده ويُملي عليها بالعربية فتكتب وكانت هذه الطريقة في العمل توفر الكثير من الوقت، وكان قبل ذلك ترجم قصة "نيتوتشكا" لدوستويفسكي.
في 304 صفحة من القطع المتوسط (الكتاب قديم وصادر عن دار الكرمل الفلسطينية عام 1982) تروي السيد إحسان الدروبي، بحرارة وإجلال وحب شديد، عن زوجها وصديقها ورفيق رحلتها المترجم الإنسان العظيم المخلص، سامي الدروبي.. هذا الرجل العظيم وهذه السيدة العظيمة، ولهم ثلاثة أولاد هم، الدكتورة ليلى والمهندس مصباح وسلمى التي توفيت في حياة أبيها..
وتحكي الدكتورة ليلى الدروبي (التي أكملت الأربعين صفحة الباقية من رواية الحرب والسلام) قبل أن يتوفى والدها كان يترجم هذه الرواية وأنها سمعت حركة في المنزل، فهرعت إلى غرفته.. "ووجدته قام من سريره، متجاهلاً حدّة مرضه وخطورته، أزاح أنبوبة الأوكسجين جانباً، وكان يراجع معجماً، وحين احتجت على ما كان يفعله بنفسه، أجاب: "إن كلمة تقلقني، وأظن انني ترجمتها خطأ، سأراجعها وأعود الى النوم، اذهبي واستريحي". وما أن غادرت الغرفة حتى عاد إلى الطاولة وجلس يقلّب المعجم، ثم أحنى رأسه وتوفى، في ليلة 12 شباط (فبراير) عام 1976
وتختم إحسان كتابها وتقول "لا أجد قولا أنهي به محاولتي هذه يا سامي وأنا التي رأت بأم عينها وبكل أحاسيسها، كم عانيت من حالتك الصحية، وكم كابدت وكيف تحملت، وكم فرضت على نفسك من الجهد باندفاعك الوحشي في القيام بأعمال فيها من شدة الإجهاد وقوة الانفعال ما يضني الأصحاء فكيف بمن ركبتهم علة العلل سوى قول الشاعر
إوذا كانت النفوس كبارا*** تعبت في مرادها الأجسام
لذا تراني يا سامي أقف أمام قرائك، لأشهد أنك أديت الأمانة إلى أمتك وإلى لغتك".
يحتاج هذا الراجل العظيم وهذه السيدة العظيمة إلى الوقوف أمام تجربتهم طويلا، لنتعلم بتواضع لا حد له، أشياء عن العطاء والحب والإرادة الإنسانية وقيم العمل وتقدير الوقت والإخلاص والتفاني.. في حضرة المترجم والمفكر الكبير سامي الدروبي
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2017 11:29

November 2, 2017

في فضل القرآن الكريم

لا أكتب فيما أكتب من مقالات أو حتى اللي بكتبه هنا من وقت للتاني من مواضيع مطولة وأنا منتظر لها مردود، بل بالعكس أكتب ما يعن لي من أفكار ويعبر عني من آراء ويتفق مع ضميري وما أنا عليه. وعمري ما فكرت أكتب اللي يعجب الناس أو طائفة منهم، ولا في مخالفتهم من باب المخالفة.. لكن أكتب اجتهادي وجهدي بدون تقصير أو استسهال، حتى ولو في سطر عابر هنا أو هناك. لكن في أحيان قليلة الواحد بيسعد ببعض ردود الفعل المشجعة على الاستمرار وعلى بذل المزيد من الجهد والقراءة والدرس. المقال اللي كتبته عن الشيخ الحصري في مئويته، كنت سعيد لما كتبته ونشرته، لما جمعية الحصري أعادوا نشره، ولما جمعية للقرآن الكريم باسم الشيخ الحصري في السنغال وقارئة قرآن سنغالية اسمها خديجة نشرت الموضوع على صفحتهم.. وكلهم تواصلوا معي وسعدت بهذا أيما سعادة، طبعا بالإضافة لتعليقات وتفاعل واهتمام ناس تانية بالمقال.. وليس قصدي هو الاحتفاء برد الفعل هذا أو ذاك، بقدر ما هو الإقرار بفضل وتأثير "القرآن الكريم"، واللغة العربية والثقافة الإسلامية بشكل عام، في تكويني وعلى لساني وعقلي وسلوكي.. وقريب من هذا يكتب طه حسين -المستنير- في كتاب "مرآة الإسلام" عن إعجاز القرآن وفضله "والقول في إعجاز القرآن يكثُر ويطول وتختلف وجوهه وتختلف فنونه أيضًا" ويعدد أوجه الإعجاز في القرآن في عجالة بعد ذلك ويذكرها في حوالي 30 صفحة من الكتاب. وأظن أن ثمة ارتباط بين الذاكرة والذكاء.. والفضل فى قوة ذاكرتى هى للقرآن بالأساس. ليس فقط الذاكرة، لكن أيضا أساس حصيلتي من اللغة العربية وسلامة ما أكتبه. وأحيانا يحدث أن أشك فى إعراب بعض الكلمات فى الجمل التى أكتبها فأقوم بقراءتها مثلما أقرأ القرآن، وهو شئ أقرب لطريقة عمل الميزان الصرفى فى النحو.. ثم أراجع الصياغة لغويا فأجدها سليمة بعد قراءتها بهذه الطريقة التى تسعفني وتكشف لى الأخطاء أحيانا. أيضا يساعدنى القرآن فى الاستمتاع بأغانى أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم.. فلا استمتع فقط بالكلام واللحن والصوت، لكن أيضا بسلامة النطق ودقته (وهذا أمر لمن يعتاد عليه يصبح من أولويات الاستماع، والأذن تعشق قبل العين أحيانا)، أيضا يقدم لى القرآن ذخيرة لغوية هائلة، ويعلمنى الصياغة الرشيقة الموزونة الغنية فى المعنى، فكل حرف أكتبه هو دين لهذا الكتاب.. وإعجاز البلاغة والبيان كتب عنهم الكثير وأخص منهم عبد القاهر الجرجاني والزمخشري (المعتزلي) من بعده.. ومن شواهد الإعجاز اقرأ قوله "أو كظلمات فى بحر لجىّ يغشاه موج، من فوقه موج، من فوقه سحاب. ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوارا فما له من نور".
ويختم طه حسين كتابه بقوله للمسلمين في العصر الحاضر "وويل للعلم بشئون الدين وحقائقه إذا لم يتجاوز العقول والأفهام إلى القلوب والأمزجة، ويؤثِر في الضمائر أعمق التأثير، ويؤثِر في السيرة الظاهرة لهم أعمق التأثير أيضًا" ويطلب منهم أن "ينفوا عن أنفسهم وعقولهم وقلوبهم ما أصابها من التقليد والجمود، وما استقر فيها من السخف والأوهام.. واللهُ يعصمنا من الشر (التقليد) ويوفقنا إلى الخير (الإبداع والتجديد)".
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 02, 2017 17:31

October 18, 2017

أبو زيد الهلالي سلامة والفرسة الكُحيلة

اسمع سيرة بني هلال ومش هتندم أبدا، وأنا شخصيا أفضلها من جابر أبو حسين عن سيد الضوي. السيرة دي مش مجرد سرد تاريخي أو مش ده الموضوع، لكنها عمل فني مهيب فيها معان وقيم لشعوب العرب في المشرق والمغرب. فيها الشجاعة والشرف والبطولة والمثال والعبرة. فيها دياب بطل الزغابة وفارسهم واللي كان ندل وخبيث وخسيس وبتاع مكائد وقتل ناسه وقتل الزناتي (أسد المغارب)، مش لأن دياب فارس شاطر أو قوي (رغم إنه فارس شاطر وقوي) بقدر ما إنه استخدم ندالته في قتله. حتى إن الزناتي قال وهو بيموت إنه كان يفضل يموت بإيد فارس نبيل وشجاع وشهم وذو مروءة واللي هو أبو زيد، عن إنه يموت بإيد دياب..

يقول الزنــاتى والزناتى خليفة/ نفــس الفتــى لا بـدها مــن زوالـها
يقول وقلــبه طــار من مستقره/ الأيــام والدنيـــا ســريع زوالها
الأيــام والدنيا كفى الله شـرها/ تطــوى عزيزا ثم تطوى أرذالها
فى رملـة البيضا ودنية منيتــى/ فى يد ديــاب لـيت أبـا زيد نالـها

وفي السيرة،أيضا، "أبو زيد"، بطل الغلابة وفارسهم واللي الناس بتحبه بسبب شجاعته ومحاسن أخلاقه وجميل عاداته ومروءته وعلمه بالنجوم والفلك وغيرها من المعارف اللي حصلها وهو في بداية حياته. وكمان بسبب المآسي الكتير اللي مرت بحياته من أول طرده هو وأمه خضرا الشريفة وتغريبته الأولى، مرورا بكل الأندال اللي عدوا في حياته (في وشه بلون وفي ضهره بألوان) والصعوبات وحمولات الحياة وأهله اللي رحل بيهم في تغريبة كبيرة وممتدة بحثا عن مكان يصلح للحياة.. وكما كان أبو زيد أصيلا، كانت فرسته أصيلة وتسمى "الكُحيلة"، وهي السلالة الأصيلة من الخيل وتسمى كذلك لجمال عينيها والتي تبدو كأنها مكحلة. والعرب تضرب بها المثل فتقول "البنت الكُحيلة" بمعنى الطيبة أصيلة النسب. وفي السيرة الهلالية، أيضا، كلام كتير عن الخيل، وكل فارس وفرسته. وفي كتاب "أنساب الخيل" يرد أنه "كانت العرب ترتبط بالخيل في الجاهلية والإسلام معرفةً بفضلها، وما جعل الله تعالى فيها من العز، وتشرفاً بها، وتصبراً على المخمصة واللأواء، وتخصها وتكرمها وتؤثرها على الأهلين والأولاد، وتفتخر بذلك في أشعارها وتعتده لها" وفي الحديث الشريف "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، ومن أمثلة العرب "أكرم الخيل أجزعها من السوط" ومعناه أن الفرس الكريمة تحرص ألاّ ينالها الضرب لأن فيه مذلة، فهي لذلك لا تحوج فارسها إلى استعمال سوطه، لأنها تُنجز ما يُراد منها دون أن تُدفع إليه. ويُضرب المثل للشخص الكريم الخُلق الحريص على ألاّ يُهان أو يُقرّع. وفي إحدى مغامرات "أبو زيد" وكان متخفيا في زي شاعر جوال لمعرفة الأحوال، طلب أن يركب فرس الأمير شبيب (ملك دمشق-الشام) وقال هي لك إن كنت تقدر على ركوبها، وفعلا ركبها أبو زيد. وقال الأمير شبيب في نفسه متعجبا كل العجب: وحق ذمة العرب أن هذه الأفعال لا يقدر عليها الشعراء، بل صناديد الأبطال. ويقول رواي السيرة الهلالية يا سادة يا كرام: ولا كل من ركب الكحيلة سايسها..
5 likes ·   •  4 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 18, 2017 00:00

September 17, 2017

مئوية ميلاد الشيخ الحصري.. خير من تعلم القرآن وعلمه

ماهر عبد الرحمن
في إحدى الليالي المحمدية كانت ياسمين الخيام تنشد، ومعها فرقة موسيقى الإذاعة بقيادة أحمد فؤاد حسن، أغنية "سلام الله يا طه" وهي من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان جمال سلامة. الدخول في البداية يكون للكورال، الذي يكرر كلمة "طه" بنطق الطاء والهاء مفخمتين، ثم تقول ياسمين الكلمة "طه" سليمة وصحيحة كما ينبغي نطقها؛ أي بالطاء مفخمة وبالهاء مرققة (صفات حرف الطاء عموما أنه: مجهور، شديد، مستعلٍ، مفخم، مطبق. أما صفات حرف الهاء عموما فهي: ضعيفة، مهموسة، رخوة، مرققة، منفتحة) وبالتأكيد لا المؤلف ولا الملحن ولا قائد الفرقة هو الذي أرشدها أو علمها ذلك، "ذلك" الذي فات عليهم جميعًا، بل قام بتعليمها "الذي عنده علم من الكتاب"؛ فهي ابنة شيخ عموم المقارئ المصرية، الشيخ محمود خليل الحصري.
ولد الشيخ الحصري في غرة ذي الحجة 1335 هـ، الموافق 17 سبتمبر 1917. وفي 17 سبتمبر/أيلول 2017 تحل علينا ذكرى ميلاده ومئويته الأولى. هذا الحدث الاستثنائي الذي يجعلني أكتب اليوم بعض الكلمات البسيطة عن هذا الشيخ الجليل. ورغم أني لست هنا بأهل للثناء ولا للتقدير لعلم الشيخ الحصري، لكني أكتب من باب رد الدين لكل حرف من حروف القرآن الكريم نطقت وأنطق به، ولكل حكم من أحكام القراءة والتلاوة تعلمته من تسجيلات الشيخ العديدة، سواء لقراءة حفص عن عاصم، ترتيلًا وتجويدًا ومصحفًا مُعَلَّمًا، أو (وخصوصًا) لقراءة ورش عن نافع. ولكل كلمة قرأتها في كتبه عن أحكام التجويد والقراءة، وعن شرح وتسهيل القراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة، وعن "معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء" في القراءة، وغيرها من كتبه وعلمه الذي نفع وينفع به كل طالب لهذا العلم.
تعود أصول الشيخ الحصري إلى محافظة الفيوم لكنه ولد، بعد أن انتقل والده، بقرية شبرا النملة التابعة لمدينة طنطا بمحافظة الغربية. وأتم حفظ القرآن الكريم كاملًا في الثامنة من عمره، وكان يوميًا ولمدة أربع سنوات يذهب من قريته إلى المسجد الأحمدي. والتحق وهو في الثانية عشر من عمره بالمعهد الديني بطنطا ودرس وتعلم القراءات العشر للقرآن الكريم، وفي 1958 أصبح متخصصًا في علوم القراءات العشر الكبرى وطرقها وروايتها بجميع أسانيدها ونال عنها شهادة علوم القراءات العشر من الأزهر الشريف.
واصل الشيخ محمود الحصري هذا الطريق حتى تقلد منصب شيخ العموم للمقارئ المصرية في 1960. وفي 1961 سجل أول مصحف مرتل برواية حفص عن عاصم خدمة للقرآن، بدون أجر. وظلت الإذاعة تبث تلاوته للمصحف منفردًا لمدة عشر سنوات. كانت التسجيلات والحفلات والليالي في هذا الوقت تعرف قراءة القرآن الكريم مجودًا فقط، أما الترتيل فهو كان إما للصلوات أو لحلقات المقارئ أو للكتاتيب بالمساجد. وبعد انتشار الإذاعة وصوت الشيخ الحصري الذي كان ينطلق كل صباح في بيوت المصريين والمسلمين في كل الأنحاء التي كان يصل إليها الأثير، كان صوت الشيخ الحصري وصوت الشيخ رفعت من آيات "الصبح إذا تنفس"، سجلت الإذاعة المصرية المصحف المرتل وأصبحت إذاعة القرآن الكريم تبث المصاحف الخمسة مرتلة برواية حفص عن عاصم بأصوات المشايخ: محمود خليل الحصري، عبد الباسط محمد عبد الصمد، مصطفى إسماعيل، محمد صديق المنشاوي، محمود البنا. وفي 1963 تولى الحصري منصب رئيس لجنة تصحيح المصاحف ومراجعتها بالأزهر. وفي 1967 نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عيد العلم، وفي نفس العام أصبح رئيسًا لاتحاد قراء العالم.
ومع كل هذا العلم والمجهود والتاريخ والجد والوفاء لعلوم القراءات ولكتاب الله، لم يحظ الشيخ الحصري بشهرة مشايخ آخرين أقل منه علمًا وزهدًا في "عرض الحياة الدنيا؛ فعند الله مغانم كثيرة"، وإخلاصًا للقرآن الكريم. ولعل هذا بسبب أن الشيخ الحصري كان أقل جمالًا (واعتناءً) وموهبة من ناحية إمكانيات الصوت والفن والتطريب عن مشايخ كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى إسماعيل. وهذا على وجه التحديد هو ما أريد أن أكتب عنه هنا؛ فهذا الرأي أدى إلى قلة شهرة الشيخ الحصري بين الناس، وفي قلة المكتوب عنه، وحتى فيما يُكتب عنه تكون معظمها كتابات غير ناضجة كرأي الكاتب محمود السعدني في كتابه الشهير "ألحان السماء" عن الشيخ الحصري.
لم يكن الأستاذ محمود السعدني متخصصًا فى التلاوة وأحكامها، ولا فى الموسيقى ومقاماتها، إلا أنه، مع ذلك، كان متذوقًا لهذا الفن ولا أحد ينكر هذا. لكن من الخطأ والتجني أن يكتب ويقيم الكاتب قراء القرآن من باب التطريب وفقط. فقراءة وتلاوة وأحكام القرآن هي الأساس، بداية من وضوح الحروف ومخارجها وتوفيتها حقها. وإتقان أحكام التلاوة من المدود وفنونها وحُسن ودقة الأداء وتجنب اللحن في النطق.. إلخ ثم يأتي التطريب أو حتى لا يأتي، لكن تلك هي الأسس لتقييم قارئ القرآن. والسعدني يقول في كتابه متحاملًا على الشيخ الحصري: "الشيخ الحصري.. لم يكن من الطبقة الأولى بين القراء. وكان أقرب للشيخ محمد الصيفي، وكلاهما عالم في القراءات الصحيحة.. ولا يزيد! والفرق بين مصطفى إسماعيل ومحمود الحصري هو ذاته الفرق بين الأديب نجيب محفوظ وأستاذ الأدب في الجامعة وهو نفسه الفرق بين المدرب الجوهري ومحمود الخطيب.. فالأول مدرس والثاني فنان، ومن السهل إنتاج ألف أستاذ، ولكن من العسير خلق فنان واحد، لأن الفنان من صنع ربي، وليس من صنع المدرس والجامعات!". وتخيل لو أن شخصًا آخر، بنفس طريقة الأستاذ السعدني، كتب: أن مصطفى إسماعيل لا يملك نصف علم الشيخ الحصري، وأن محمود الخطيب لا يقدر على تدريب فرقة كورة شراب وليس فرقًا قومية كالجوهري، وأن نجيب محفوظ الروائي الكبير لا يستطيع أن يقوم بالتدريس لفصل ثانوي بنات مثلا.. وعبارة "لم يكن من الطبقة الأولى بين القراء" هذه جرأة وجريمة كبرى في حق الشيخ العالم الجليل، يدركها جيدًا ولا يقبلها أهل هذا الفن والقراء أنفسهم.

ظل الشيخ محمود خليل الحصري، حتى بعد أن ذاعت شهرته بين الناس، عضوًا في كورال إحدى الفرق الدينية لإنشادية، ورغم أنه لم يترك تواشيح تذكر، اللهم إلا "تعطيرة شريفة" في الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكننا من خلال القراءات التى سجلها، ترتيلًا وتجويدًا، يمكننا الوقوف على بعض خصائص التطريب التي تعلمها ومارسها، فكان -رحمه الله- يتميز بشكل عام بالقراءة والترتيل المتقن للقرآن الكريم. وكان صوته يتميز بالهدوء والرزانة والخشوع. وكان أكثر القراء انضباطًا ودقة، فكان يتحرى جميع أحكام التلاوة بطريقة مدرسية قح. وهو نِعْم المعلّم وتسجيلاته مفيدة وقَيِّمَة لطالب هذا العلم، ولكل من يريد القراءة والتعلم عليه أن يسمع ويتعلم منه دون أدنى تحفظ. (على سبيل المثال الشيخ مصطفى إسماعيل –أعظم وأجمل القراء المصريين بعد الشيخ محمد رفعت والشيخ أحمد ندا- كانت لديه مشكلة حين ينطق حرف القاف، فمن يدقق السمع يجده يقوله وكأنه كاف، وسط بين القاف والكاف).
والشيخ الحصري في التجويد، ورغم كونه حجة في القراءات العشر ومرجعًا للعلوم فيها، لم يكن ينتقل بين القراءات أو يتغنى في القراءة بأن يعلو أو يهبط بصوته أو يمد نص حركة زيادة وكل القراء المتقنين على ذلك. وهناك من القراء من يتصرفون في القراءة بقدر، فمثلًا من المعروف أن أكبر مد في القرآن، كما تعلمناه، هو مد 6 حركات. والحركة هي مقدار قبض الإصبع أو بسطه. وبعضهم، في التجويد وهو قراءة الليالي والحفلات والمناسبات، يمد الـ 6 إلى أن يصل إلى 12 حركة أو أكثر، أو يمد الـ 4 حركات إلى 8 حركات أو يزيد، من أجل أن يصل إلى درجة جواب الجواب في الصوت مثلًا أو ليكمل الجملة اللحنية. والتزام القارئ بالأحكام في التجويد يكون عبئًا وقيدًا على الجانب التطريبي لديه. وكان الشيخ يقدم الأحكام والقواعد على الفن وهذا مما لا يعيبه أو ينقص من قدره، ولا تثريب عليه في ذلك وهو العالم الكبير وشيخ المقارئ المصرية وممن يؤخذ عنهم العلم.
وهو يقول في أحد كتبه، وهو كتابه "مع القرآن الكريم"، عن "كيفية تلاوة القرآن": "اتفق علماء القراءة، وأئمة الأداء، على أن لتلاوة القرآن الكريم كيفية مخصوصة يجبُ على القارئ شرعًا أن يلاحظها أثناء تلاوته ليُحرز الأجر الذي وعد الله به القارئين، فإذا أهملها أو قصَّر في مراعاتها كان من الآثمين. وهذه الكيفية هي تجويد كلماته، وتقويم حروفه، وتحسين أدائه، بإعطاء كل حرف حقه، ومنحه مستحقه، من الإجادة والإتقان، والترتيل والإحسان". وهذا من اللزوميات التي ألزم نفسه بها. كان الشيخ لا يعمد إلى التطريب ولكن كان يترك نفسه أثناء القراءة لما يجود به إحساسه وقريحته في وقتها دون الإخلال بالأحكام. وكما كان الشيخ لا يقرأ بأكثر من قراءة للآية الواحدة في الجلسة الواحدة، كان أيضًا، والغالب على تسجيلاته وقراءاته، أنه متى استقر على طبقة صوت واحدة وأيضا مقام واحد، كان يبقى عليهم إلى آخر القراءة ثم ينزل إلى طبقة القرار ليقفل ويختم القراءة. ومعظم قراءاته كانت بمقام النهاوند وهو مقام يتميز بالعاطفة والحنان والرقة والخشوع، والبعد عن الزخارف الموسيقية. ولهذه الطريقة جانبها الإيجابي، فهي تعطي الفرصة للمتلقي أن يتدبر المعاني ويسمع النص بشكل عقلاني، وليدرك هذا الخيط الناظم بين الآيات بشكل مسترسل غير متقطع، وعلى البقاء في نفس الحال والوجد النفسي. كانت قراءة الشيخ الحصري قراءة بلا زخارف ولا بهرجة، بها جلال ووقار، وفي ذات الوقت بها سكينة وبساطة وصوفية. كانت قراءته أقرب للتحزين ذي الوتيرة الواحدة الذي نجده في أغاني الرثاء والعديد والجنائزيات.
كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، والشيخ الحصري هو خير من تعلم القرآن وعلمه، يبتغي بعلمه وعمله مرضاة الله، فلم يتعلم أو يُعلِّم القرآن لأجل عرض أو حاجة زائلة، بل كان زاهدًا بما في أيدي الناس، عفيف النفس، صابرًا ومحتسبًا، وأدى أمانته ورسالته في خدمة القرآن وعلومه، "وأن سعيه سوف يرى". ويذكر الزركلي في ترجمته للشيخ، في "تتمة الأعلام" 2/244، أنه قد "تبرع بثلث تركته لإنفاقها في أعمال الخير والبر وحفظ القرآن الكريم، إلى جانب بنائه لمسجد ومعهد ديني ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم بمسقط رأسه في طنطا، ومثلها بمقر إقامته بالعجوزة"، وتم بناء مسجد كبير باسمه في مدينة السادس من أكتوبر. توفى الشيخ محمود خليل الحصري في مساء يوم الإثنين 16 محرم 1401 هـ، الموافق لـ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1980. رحم الله الشيخ الجليل وطيب ثراه وجزاه كل الخير وأجزل له كل العطاء بما قدمت يداه.
https://www.almanassa.net/ar/story/5954
4 likes ·   •  4 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 17, 2017 22:55

August 25, 2017

يحيى حقي، الفنان والإنسان والمحنة

كان إبراهيم أصلان قد بدأ حياته بكتابة القصة القصيرة وكان بيبعت وينشر من وقت للتاني في الملحق الفني والأدبي لجريدة الأخبار. ولفت نظر نجيب محفوظ قصة من هذه القصص وكان عنوانها "الطواف" واللي عجبته جدا. وسأل عن كاتبها وعرف طبيعة عمله وقابله مرة وقدمه لتوفيق الحكيم قائلا: يا توفيق بك، إنت عارف إن فيه جيل جديد من الكتاب، وهذا الجيل فيه كتاب منهم في المقدمة، وآخرين في مقدمة هذه المقدمة، والأخ إبراهيم من هؤلاء". وبيحكي إبراهيم أصلان إن محفوظ كتب له تزكية للتفرغ، كما كان الحال وقتها، وحصل عليها بالفعل ونشرت الصحف إنه حصل على منحة تفرغ لكتابة الرواية. أي رواية، أنا بكتب قصة قصيرة؟ وكذب الخبر الذي نُشر وذهب ليسأل فكان الرد إن المنحة لا تعطى لكتابة القصص ولكن للروايات والمسرحيات والأبحاث. ولما كان قد حصل على التفرغ فعلا، ورغم إنه لم تكن في نيته أبدا أن يكون له صلة بكتابة الرواية. لكن أصلان قال في النهاية: خلاص نكتب رواية.. وكانت الرواية هي "مالك الحزين" واحدة من أجمل الروايات العربية، وواحدة من أجمل ما كتب جيل الستينيات. (والحكاية تفصيلا يذكرها أصلان في كتابه: شئ من هذا القبيل).
صدر كتاب عن يحيى حقي من كام يوم طازة، وهو مجموعة مقالات متفرقة للأستاذ رجاء النقاش، والكتاب عنوانه "يحيى حقي الفنان والإنسان والمحنة"..(صدر عن قصور الثقافة وسعره فقط ثلاثة جنيهات، يعني يا بلاش والله. تقرأه في جلسة واحدة) وأنا أحب يحيى حقي الإنسان الفريد والنقي وصاحب "الحياة النظيفة" بلا حقد ولا ضغينة ولا تكالب على منصب، بل-كما يصف رجاء النقاش تلك الحياة وهذه المسيرة بأنها "حياة نظيفة منتجة تتميز بالحكمة والصبر والموهبة والتنوع والعمل الهادئ البسيط". ومثل "صدفة" رواية "مالك الحزين" التي اضطر أصلان أن يكتبها وخرجت رواية مهمة وفريدة. يحكي يحيى حقي، أيضا عن عمله الفريد "قنديل أم هاشم"، إنه تعب جدا على ما لقى ناشر لهذه القصة، وأن الفضل في نشرها في سلسلة اقرأ العدد 18 في يونيو 1944 يعود للأستاذ محمود شاكر الذي قدمها للمشرفين على هذه السلسلة في دار المعارف، ثم يعود إلى الدكتور طه حسين الذي قرأها ورشحها للنشر. وكما ساعد نجيب محفوظ إبراهيم أصلان وتحمس لموهبته، يكتب رجاء النقاش إن يحيى حقي كان وقتها عمره 39 سنه وكان غير معروف في الوسط الأدبي، وكانت "قنديل أم هاشم" ممكن تمر دون أن تلفت نظر أحد وأن تبقى في الظل. لولا أن الناقد البارز والمعروف الأستاذ سيد قطب كتب عنها وأشاد بها وبكاتبها وموهبته الكبيرة في مقال له بمجلة "الرسالة" وفيه يكاد يصرخ إعجابا بموهبة يحيى حقي ومولوده الفني الجديد. ويقول سيد قطب "في قنديل أم هاشم ثمرة حلوة ناضجة عبقرية. كانت البذرة في "عودة الروح" وفي "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، وهي هنا الثمرة في "قنديل أم هاشم".. وفي خلال 52 صفحة فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصرية الكامنة العميقة العريقة، ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب، ويتم انتصار الإيمان المبصر على العلم الجاحد". ومع إعجاب سيد قطب بموهبة يحيى حقي الكبيرة لكنه يعاتبه بمحبة على طول فترة غيابه عن الكتابة فيقول " أوه! يحيى حقي! أين كانت هذه الغيبة الطويلة؟ وفيم الاختفاء العجيب؟.. حتى لقد نسيته لولا "قنديل أم هاشم". كل ما أذكره أنه من زملاء محمود تيمو الأوائل في بناء الأقصوصة. وتيمور ويحيى حقي برهان على أن النبوغ وحده لا يكفي، ولا العبقرية أيضا. لابد من الدأب والثبات والمثابرة ليكون الإنسان شيئا مذمورا، وإلا فأين فن "تيمور" من فن "حقي"! ثم أين مكانة "حقي من مكانة "تيمور". "حقي" رجل كسول.. مهمل.. يستحق اللوم على تفريطه في موهبته الفذة. و"تيمور" رجل دؤوب مجتهد. يكتب.. ويكتب.. ويكتب.. ولابد أن يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شئ ذو قيمة". ومثل هجوم سيد قطب على تيمور الذي ترك فيه باب للأمل؛ إننا ممكن نلاقي بالصدفة ومعانا محمود تيمور نفسه، وسط كل الكم ده من الكتابة بتاعته "حاجة" عليها القيمة، هاجم جلال أمين في كتابه "كتب لها تاريخ" الكاتب ثروت أباظة، وقال عنه ما معناه إنه كان دؤوب جدا لكن بدون أي أدنى موهبة، اللهم إلا موهبة "الغتاتة" في فرض الحضور، ومكانته التي حصل عليها من الطبقة التي كان ينتمي إليها، والعائلة الغنية التي كان أحد أبنائها.. "هكذا كان الأمر للأسف مع مع ثروت أباظة: عناد وإصرار ومثابرة وإلحاح للحصول على اعتراف الناس به كأديب وروائي موهوب وكاتب صحفي قدير، وهو في الحقيقة غير مؤهل بمقتضى استعداته الفطرية لأي شئ من هذا" كان ناقص إن جلال أمين يقول: ولن تجد عن ثروت أباظة هذا وسط كل ما يكتبه ويكتبه ويكتبه، ولو بالصدفة حاجة عليها القيمة.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 25, 2017 15:55

August 23, 2017

أوراق لطيفة الزيات.. شجاعة التحليق فوق الحواجز

قبل المقال:
كتاب لطيفة الزيات أو بالأحرى بحثها "حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر 1882-1925"، والصادر حديثا في سلسلة دراسات الترجمة ضمن إصدارات المركز القومي للترجمة، كانت قد تقدمت بها في يونيو 1957 وحصلت به على درجة الدكتوراة.. هو بحث مبكر ورائد في مجال لم يكن قد تشكّل في هذا الوقت، عن الترجمة الأدبية من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية. ولطيفة الزيات لا تقدم مجرد بحث ببلوغرافي تقليدي وإنما تحاول أن ترصد وتستكشف، من خلال بحثها، التحولات الاجتماعية والثقافية التي كانت تحدث في المجتمع المصري. وأيضا تضع "أسس دراسة التاريخ الأدبي والثقافي لمصر الحديثة" كما يقول الدكتور خيري دومة (صاحب الفضل الكبير في الكشف عن هذه الرسالة التي ظلت، مثل الشبح، نسمع عنها ونقرأ عنوانها في مرجع مثل المرجع الفريد للدكتور عبد المحسن طه بدر، لكن لا أحد يراها ولا أحد يعرف مكانها، ويحكي القصة والرحلة كلها الدكتور دومة في مقدمته الشيقة للكتاب). لكن ما السبب وراء اختفاء هذه الرسالة كل هذا الوقت.. إنها لطيفة نفسها التي أرادت أن تنسى ولا تتذكر هذه الفترة من حياتها. وبماسبة ظهور الرسالة ونشرها شغلني السؤال عن هذه الفترة المصاحبة لاعداد رسالتها وما بعدها، وكتبت ما عرفته وما تعلمته أيضا في هذا المقال "أوراق لطيفة الزيات.. شجاعة التحليق فوق الحواجز" تحية وتقدير لرحلة وتجربة وشجاعة الدكتورة لطيفة الزيات، التي وصفها الأستاذ محمود العالم مرة بأنها تجمع بين الجمال والشراسة، اللطف والجرأة..


المقال:
ماهر عبد الرحمن
منذ بدأت رحلة القراءة وأنا أعرج أحيانًا، لالتقاط الأنفاس في هذا الطريق الطويل، لقراءة الكتب التى تتحدث عن قصص حياة الأدباء والمفكرين، سواء كانت بقلمهم، مثل: "الأيام" لطه حسين، أو "قصة حياتى" لأحمد لطفي السيد، أو "حياتي فى الشعر" لصلاح عبد الصبور. أو كانت عن حياتهم بقلم آخرين ممن تأثروا بهم، مثل كتاب سلامة موسى: "هؤلاء علموني"، أو كتاب أحمد أمين "زعماء الإصلاح"، أوكتاب محمود العالم: "الإنسان موقف".

وبشكل عام فإن كتابات السيرة تحمل إلى جانب المتعة، أيضًا العبرة والخبرة والثراء، كيف كافحوا وتفوقوا وواجهوا الصعاب حتى صارت لهم بصمات مهمة في حياتنا. ومنذ فترة وأنا أفكر في الكتابة عن مجموعة من الشخصيات الذين كان لهم تأثير من خلال إضافاتهم الإبداعية الملهمة ومواقفهم النبيلة والشجاعة في الدفاع عن حرية الفكر والاجتهاد، ونضالهم في سبيل قيم العدل والمساواة، وكذلك إخفاقاتهم والعثرات في الطريق باعتبارهم بشر. وأنت لا تستطيع أن تفصل بين عظمة هؤلاء وبين ظروفهم، قوتهم وضعفهم؛ إنهم في التحليل الأخير نتاج سياقهم وواقعهم، ليس هناك عظمة مجردة، ولا عبقرية في المطلق، ولا دون قواعد.

ومن ضمن هذه الشخصيات تأتي الدكتورة لطيفة الزيات، فمنذ أيام قليلة مضت كانت الذكرى الرابعة والتسعون لميلادها. ووجدت نفسي قد تحاشيت أن أكتب أو أنشر في نفس يوم ذكرى ميلادها، أو بالقرب منه، تجنبًا للوقوع في فخ الكتابة الاحتفالية.

الدكتورة لطيفة عبد السلام الزيات ولدت في 8 أغسطس/آب عام 1923، وتخرجت من قسم اللغة الإنجليزية، بكلية الآداب، جامعة القاهرة وحصلت على الليسانس عام 1946. بدأ اهتمامها ومشاركتها بالعمل الوطني الديموقراطي من أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. وأصبحت عضوة في منظمة إيسكرا - الشرارة (وهي أوسع المنظمات نشاطًا في هذا المجال ولعبت كوادرها الطلابية دورًا هامًا في الحركة الطلابية - كما يشير الدكتور رفعت السعيد في كتاب "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1940 إلى 1950"). وحين وصلت للفرقة الرابعة من دراستها الجامعية انتُخبَت في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التى شاركت في تنظيم المظاهرات الطلابية في 9 فبراير/شباط (حادثة فتح كوبري عباس الشهيرة التي خلفت العديد من الجرحى والقتلى)، والمظاهرات الواسعة والإضراب الطلابي العام ضد سلطات الاحتلال البريطاني في 21 فبراير 1946.

في نفس الوقت ومع هذا الزخم الوطني كانت هناك دعوات نسائية للمطالبة بمزيد من الحقوق للمرأة، فبعد معركة السفور أصبحت هناك معركة جديدة هي حق المرأة في الانتخابات والترشح للبرلمان، مثلها في ذلك مثل الرجل. ورفض البرلمان في الأربعينيات الاعتراف بهذا الحق للمرأة في جلسة شهيرة حضرتها وتحدثت فيها هدى شعراوي ممثلة عن "الحزب النسائي الوطني". كانت هذه معركة الكثير من النساء والمؤمنين بحريتها، أطلقت بنت الشاطئ في عام 1944 دعواها للنهوض بالمرأة وتمكينها.

وفي عام 1946 أقامت رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية مؤتمرًا في قاعة مدرسة الليسيه للمطالبة بحقوق المرأة السياسية حضره حوالي 500 سيدة وكان اجتماعًا حماسيًا. وكانت لطيفة الزيات عضوة نشطة وقيادية في هذه الرابطة، وكان معها زميلاتها إنجي أفلاطون وفاطمة زكي وثريا أدهم وجنفيف سيداروس وآسيا النمر وسعدية عثمان وثريا المنيري. تحدثت لطيفة الزيات في هذا المؤتمر وقالت: "لقد قمنا بحركتنا في أكتوبر/تشرين الأول عام 1945، وانضمت إلينا الفتيات المثقفات. وفي غدنا سنضم النساء المصريات، فلاحات وعاملات. إننا نود أن نردّ على أولئك الذين يزعمون أن المرأة لا تستطيع أن تجمع بين واجب بيتها وواجبها كمواطنة. سنعمل على أن يكون للمرأة حق الانتخاب والنيابة والمساواة مع الرجل في الأجور والأعمال. سنُمَكِّن المرأة من أن تلعب دورها في الإنتاج القومي". وظل هذا الكفاح إلى أن أُقِر دستور 1956 للمرة الأولى بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل في كافة الحقوق السياسية.
سُجنت لطيفة الزيات مرتين، وتزوجت، أيضًا، مرتين. سُجنَت في المرة الأولى عام 1949، في قضية الانضمام لتنظيم شيوعي، وكان عمرها 26 عامًا. وكانت قد تزوجت من أحمد شكري سالم زواجًا لم يستمر أكثر من عامين (1948-1949)؛ كان رفيقها في التنظيم ومثقفًا ماركسيًا كبيرًا وأستاذًا بكلية العلوم فيما بعد. خرجت بعد الحكم عليها مع إيقاف التنفيذ، لكن هو صدر ضده حكم بالسجن لمدة 7 سنوات (1949- 1956)، وانفصلا بعد هذا الحُكم. وداخل السجن قلل من ارتباطه التنظيمي، ولكنه ظل متعلقًا بها لفترة وكان يقول كلما جاء ذكرها: "دي لطيفة". وتقول في مذكراتها عن هذه الفترة وهذة الزيجة: "وحين تزوجت زيجتي الأولى بدأت مرحلة جديدة من مراحل الانتقال من مكان إلى مكان، كان محركها هذه المرة المطاردة الدائبة من جانب البوليس السياسي لزوجي، أو لي، أو لكلينا. وقد تنقلت مع زوجي الأول في المدة الزمانية ثمانية وأربعين ـ تسعة وأربعين في خمسة منازل كان آخرها بيتي الذي شمعه البوليس السياسي في صحراء سيدي بشر التي لم تعد بصحراء. وفيما بين عمليات الانتقال الرئيسية في هذه المرحلة، تَعيَّن عليّ حين عنفت مطاردات البوليس السياسي أن أنتقل ليلًا من مسكن إلى مسكن إلى أن وجدت السجن مسكني في مارس ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين. ولم يكن انتقالي إليه هذه المرة اختياريًا".
المرة الأخرى التي سُجنت فيها لطيفة الزيات كانت في عام 1981، ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي جرت بحق كتّاب وصحفيين ومعارضين لحكم الرئيس السادات، وكان عمرها وقتها 58 عامًا. لكنها كانت قد خاضت تجربة الزواج (والطلاق) الثانية لها قبل هذا التاريخ بوقت كبير جدًا. فقد تزوجت من الدكتور رشاد رشدي في عام 1952 واستمرت العلاقة بينهما حتى انتهت بالطلاق في يونيو/حزيران عام 1965. لكننا سوف نحتاج هنا إلى الرجوع إلى الوراء قليلًا، أي بعد خروجها من السجن لنعرف ما حدث ولنكمل هذه المسيرة.

بعد خروج لطيفة الزيات من السجن في المرة الأولى، عادت لتُكمل حياتها ومسيرتها العلمية وحصلت على دبلوم معهد الصحافة في 1952، وعلى درجة الدكتوراه من قسم التحرير والترجمة والصحافة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عن بحث بعنوان "حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر في الفترة ما بين 1882- 1925 ومدى ارتباطها بصحافة هذه الفترة". وظهرت أخيرًا هذه الرسالة، المقدمة والمجازة منذ عام يونيو 1957، في العام الحالي وفي نفس شهر ذكرى ميلادها، أي في أغسطس 2017 عن سلسلة "دراسات الترجمة" ضمن إصدارات المشروع القومي للترجمة. وقام الدكتور خيري دومة أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة، بهذا الجهد في التنقيب والاستكشاف، ليقدم لنا هذا العمل الثقافي المهم والذي كان مفقودًا لفترة طويلة تمتد إلى الستين عامًا تقريبًا، وقام بتحريره وتقديمه على أكمل وجه ممكن.

لكن أين كانت هذه الدراسة، والتي تعتبر رائدة وتمثل إضافة أساسية، في وقتها، للمكتبة العربية في هذا الباب من أبواب البحث؟ وما هي أسباب هذا الاختفاء؟ في المقدمة التي كتبها الدكتور دومة للكتاب يتحدث عن رحلة بحثه عن هذه المخطوطة وعن سبب اختفائها، ويشير إلى أنه الأرجح أن لطيفة الزيات نفسها كانت هي السبب وراء هذا الاختفاء، من يقرأ كتاب لطيفة الزيات "حملة تفتيش - أوراق شخصية"، رغم أنه مكتوب بعد زمن طويل من إنجاز هذه الرسالة وانتهاء علاقتها برشاد رشدي، يلاحظ أنها لا تكاد تشير إلي موضوع رسالتها، فقط تتحدث عن روايتها الأولي "الباب المفتوح" التي بدا أنها كانت بمثابة العلاج من صدمة زواجها برشاد رشدي وطلاقها منه، وهي الصدمة التي تسردها بشيء من الإيجاز الموجع. ولعل القارئ يتذكر مشهدًا تسرده لطيفة الزيات في كتابها حين يواجهها زوجها عند طلب الطلاق قائلًا: "ولكني صنعتك". من الواضح أن شيئًا من فجيعة علاقتها برشاد رشدي قد ترك أثره على موقفها من رسالتها هذه؛ إذ لم تجد في نفسها الرغبة في أي مرحلة تالية لنشرها علي القراء المهتمين، كأنها تريد أن تنسى الأمر برمته وبكل ما يتعلق به من تفاصيل، بما في ذلك هذه الدراسة التي تمت وقت زواجها منه".

يمكن فهم زواج لطيفة الزيات الماركسية اليسارية من رشاد رشدي صاحب الفكر اليميني، والكاتب المسرحي والأستاذ المرموق، وقتها، وأبرز أعضاء لجنة مناقشة رسالتها للدكتوراه، باعتباره جزءًا من التناقضات المعتادة لأبناء الطبقة الوسطى. هذا الزواج استمر لمدة 13 سنة وهاجمها بسببه الكثير من الرفاق. ويشير البعض إلى أن الدكتور لويس عوض في كتابه الساخر "المحاورات الجديدة أو دليل الرجل الذكي إلى الرجعية والتقدمية وغيرهما من المذاهب الفكرية" كان يقصد بالشخصية الحوارية المتخيلة والتي أطلق عليها "الماركسية المسخسخة" لطيفة الزيات. ومن يجتهد ويقرأ هذا الكتاب سوف يجد أنه لطبيعته الساخرة تخيل "محاورات" تجري بين شخصيات حقيقية أطلق عليها أسماء لاذعة مثل: ناظر مدرسة ابن العميد، على الزيبق الجوكي الشهير بالزنبرك، أبو سيفين صفيح، وإذا كان أرسطو هو المعلم الأول فلويس عوض يسمي نفسه في الكتاب، ساخرًا، المعلم التاسع، أو روستوفتيف الذي يرد على الماركسية المسخسخة التي تتحدث عن "الحب الأفلاطوني" (حتى اعتناقها للماركسية العلمية كانت تقول عنه في مذكراتها: "كان تعلقي بالماركسية انفعاليًا عاطفيًا") قائلًا لها: "لا تعولي على حكاية الحب الأفلاطوني هذه يا سيدتي.. إنها خطأ شائع". وفي موضع آخر من الكتاب يقول عن رشاد رشدي: " وإن نساء رشاد رشدي سيعشن فقط حتى يحال إلى المعاش، فرشاد رشدي هو الوحيد الباقي بين كتاب مسرحنا الذي لا يزال يكتب عن النساء وأحوالها وعن الحب وأوضاعه".
أتاح رشاد رشدي لزوجته وضعًا ماديًا مستقرًا طوال فترة زواجهما وقدم لها أفضل ما يمكن أن تحظى به زوجة من متطلبات العيش، إلا أنها، مع الوقت، وجدت نفسها تعيش معه، رغم ذلك، في تعاسة ممتدة، تعاسة التناقض بين أفكارها اليسارية التقدمية وأفكاره اليمينية المحافظة. التناقض بين ما كانت تشعر به وتعتبره "الحب"، وبين الخيانات المتعددة والمستمرة من جانبه. التعاسة التي جعلتها لا تريد أن تنشر رسالتها للدكتوراه حتى تتخلص من كل هذه الذكريات المؤلمة. التعاسة حين يجبرها على أن تهديه روايتها "الباب المفتوح" دون إرادتها، أما هو فقد أهدى كتابه الصادر وهما معا إلى زوجته السابقة. وتسأل لطيفة نفسها في مذكراتها "حملة تفتيش أوراق شخصية": "وانطوى من عمري عمر قدره ثلاثة عشر عامًا بوهم التوحد مع المحبوب لفترة، وبإصابتي بالشلل المعنوي والعجز عن الفعل في الفترة الأخيرة. ولم أشأ أن أصعد النغمة حتى لا تفشل مهمتي (الطلاق)، وتساءلت وأنا أرقبه: أي مرحلة من مراحل عمري المنقضي صنع؟ أكل المراحل، أو لم يصنع هو شيئًا؟ انقضى الزمن الذي كنت أعلق فيه على مشجبه سعاداتي وتعاساتي، انقضى يوم برئت من الشلل، حتى لو كنت صنعتني فعلًا كما تقول، فهذا لا يعطيك الحق في قتلي".

كانت تبرر وتدافع عن هذا الزواج (المتناقض) بأن السبب كان ببساطة أنه "كان أول رجل يوقظ الأنوثة فيّ". ورغم جرأة وصدمة مثل هذا التصريح، لكننا نجدها في جانب آخر خجولة أحيانًا وأقل جرأة أحيانًا، ففي المذكرات الشخصية لا تذكر اسم زوجها الثاني، الدكتور رشاد رشدي. ويبدو راجحًا فعلًا ما ذهب إليه الدكتور دومة بأنها هي التي لم تهتم بنشر رسالتها ومجهودها هذا؛ كجزء من نسيان وتجاهل هذه السنوات التعيسة.
من يقرأ "الباب المفتوح" (1960) سوف يجد أن لطيفة الزيات تتحدث فيه عن قناعتها وحلمها بضرورة التغيير الكامل للمجتمع، لكن التغيير سوف يحدث من خلال تحرر ليلى، الشخصية المحورية هنا، يتحرر الفرد ويشارك بعد تحرره في تحرير المجتمع كله. وخط تحرر الفرد هو الذي تطور وتبلور ويظهر أكثر في مجموعتها القصصية "الشيخوخة" (1986) التي تبحث فيها بطلتها عن ذاتها ومعنى وجودها، عن فرص وإمكانيات التغيير الفردية لنفسها. كان هذا القلق والتأرجح الفكري بين الإيمان بالفرد وبالذات، والإيمان بالمجموع، هو أيضا أحد ملامح تناقضات الطبقة الوسطى. ورغم أن كتابة لطيفة الزيات وشخصيتها كانت تتميز بالجرأة والصراحة، فقد قالت مثلًا لمنتقدي زواجها من الدكتور رشاد رشدي، أن الجنس كان سببًا في سقوط الإمبراطورية الرومانية، والمقصود أن الجنس هنا أيضًا كان سببًا في سقوط أي خلاف أيديولوجي بينهما. ولشدة تعلقها به بالفعل، كتبت بعد الطلاق تسأل نفسها: "هل استطعت حقًا أن أقتلعه تماما من جلدي حيث سرى في أعمق أعماق مسام جلدي؟".
مقابل هذه الجرأة يمكن تسجيل ملاحظة عن أن ليلى في الفيلم المأخوذ عن الرواية كانت أكثر جرأة من ليلى بطلة الرواية التي كتبتها لطيفة الزيات. في الرواية - مثلًا - لا يوجد مشهد قرار ليلى بفسخ خطوبتها من رمزي، خطيبها وأستاذها بالجامعة. بينما في الفيلم تقوم ليلى بمواجهة خوفها وهي تخلع خاتم الخطبة، وتضعه في يد فؤاد (محمود مرسي أستاذها وخطيبها في الفيلم) وتُخبر والدها بأنها ستسافر إلى بورسعيد تماما كما أرادت وكتبت في طلب تعيينها.

ليلى فتاة ذكية وحيوية في مجتمع تقليدي لا يريد ولا ينتظر من المرأة أن يرتفع صوتها أو تطالب بحقوقها، وهي لا تستسلم ولا تترك نفسها للوقوع أو للتوقف أمام المزالق الصعبة ولحظات اليأس أو الفشل في طريقها، لكنها تناضل كإنسانة من أجل هذا التحرر. ليلى هذه هي بمعنى من المعاني لطيفة الزيات نفسها.

بعد سنين من التجربة والمعاناة تقف لطيفة الزيات لتستعرض وتتأمل، ونحن معها، شريط حياتها وتقول: "كانت المرأة في زيجتها الثانية تختط طريقًا غير الذي اختطته امرأة سجن الحضرة، وتسعى إلى خلاص غير خلاصها، وتتغنى بحب غير حبها، تركت خلفها القصة حول حوض أسماك في بيتها مع زوجها الأول في سيدي بشر، والشعور بالزمالة والانتماء والرفقة، والود الصافي بلا تعقيدات، والموت خوفًا والبعث تجاوزًا للخوف، ونشوة الخطر والتحدي وممارسة الشعور بالتحليق فوق الحواجز، واختارت العودة إلى الحظيرة، والأغنية التي كانت للكل أصبحت أغنيتها وحدها، وكانت غارقة في وهم التوحد مع الآخر، كانت صغيرة ولم تعرف أن هذه بداية الانحباس في بئر بلا قرار، ولو لم تأت المرأة التي كانتها ومتأخرة لنجدتها لبقيت محبوسة، تتخبط في قاع البئر، أعرف الآن أن الحب الكبير لم يكن وحده محركي إلى زيجتي الثانية، لكنه قناع الرغبة في التواؤم، في الرجوع إلى البيت القديم والى أحضان الأب خوفًا ورعبًا، في الارتداد على ما كان، أتوقف الآن لاهثة وأنا أدرك أن الإقرار بهذه الحقيقة اقتضاني عمرًا، غيبته خلاله عامدة خائفة محملة بالشعور بالذنب، وإن تغييب هذا الإقرار هو الذي جعلني ردحًا من الزمن هشة كقطعة من البورسلين، قابلة للجرح من هبات النسيم".

يقول كامل زهيري في كتابه الممتع "مائة امرأة وامرأة" في مقال بعنوان "لطيفة الجسورة": "ونجحت في الدكتوراه ولم تحصل على الابتدائية في الزواج كما كانوا يقولون". وعن طلاقها من رشاد رشدي: "الطلاق كان إعلانًا بالإفراج عنها لأنها أخرجت رواية الباب المفتوح". يعود اسم الدكتور رشاد رشدي للظهور اليوم، بعد وفاته بسنين وبعد وفاتها بسنين، لا بدور "الصانع" هذه المرة، ولكن بدور أقرب إلى حفار القبور، بصفته السبب وراء اختفاء رسالة وإبداع وجهد الدكتورة لطيفة الزيات.
https://almanassa.net/ar/story/5416
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 23, 2017 05:02

August 9, 2017

إلى هذه الذكرى العطرة

كانت أمي، رغم إنها مش متعلمة لا هي ولا أبويا الله يرحمهم، لكن كان عندها الكثير من الخير والوعي والإحساس بالأشياء من حولها. هي توفت وأنا دون العاشرة لكن بفتكر كل القيم اللي كانت بتتجسد في أفعالها قبل أقوالها. كان إيمانها مش فالدين بس، لكن في كل فعلها هو تجسيد لأن "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل". وكنت أشوفها بتتعامل مع أبويا وإخواتي وجيرانا والناس اللي أفقر مننا ازاي وأقول إنها أحن وأهدى إنسان في الدنيا كلها. أبويا اللي وداني الكُتّاب عشان أحفظ القرآن لكن أمى اللي كان نفسها أكتر إني أختم القرآن وأبقى حامل لكتاب الله (وهذه حمولة وخلق ومسئولية كبيرة لمن يدركها) وكانت بتخليني أحفظها على قد ما تقدر عشان تعرف تصلي وتتأمل، وكمان عشان تفرح بثمرة كفاحها مع أبويا في تعليمي وتربيتي على حب العلم. واتممت المصحف بعد وفاتها بسنة وألزمت نفسي كل عام من وقتها بتخصيص ختمة قرآن لروحها في ذكراها السنوية (وطبعا لروح وذكرى أبويا في نفس ختمتها دي). أمي هي اللي علمتني الاستيقاظ في الفجر يوميا وعدم اهدار الوقت قدر الإمكان. وهي اللي كانت (من غير ما تقول) بتصحى قبلنا كلنا وقبل ميعاد شغلها وتحط طبق في البلكونة فيه مية وطبق تاني فيه شوية قمح أو أي حبوب صغيرة متاحة عندنا.. ومرة قلقت قبل ما هي تصحيني وقمت مفزوع ادور عليها وشوفت اللي بتعمله وسألتها، قالتلي ده عشان احنا في الصيف وممكن الطير الأخرس ده ييجي يشرب أو ياكل أو ياخد شوية ضل عندنا. (يومها بالليل ربطت رجلها ورجلي بفتلة عشان متقومش قبلي، وقامت برضه من غير ما أحس بيها :) ) وزي أي طفل صغير كنت بفرح بلبس المدرسة وجزمة المدرسة الجداد، وساعات أشوط الطوب في الشارع أو نلعب كورة ببذرة الدوم بعد ما ناكلها. كان أبويا بيزعل مني لأن وضعنا كان بسيط جدا ومش محتمل أكتر من جزمة في السنة (وربنا عالم إنها كانت تقيلة حتى عليهم) لكن أمي بحس صوفي وفطري جواها كانت بتحاول تعلمني إني أراعي ربنا في التعامل مع كل الأشياء.. يعني الجزمة مش هتقدر تشتكي لربنا من قسوتي عليها؛ لكن لما اتعامل برفق مع كل حاجة هكون إنسان طيب وربنا يحبني أكتر واستحق فعلا أكون شخص كويس. وكانت بتقولي على حديث سمعته من أبوها وهي بتسأله عن حاجة، فقالها يعني بالرفق والسكينة يا بنتي. وكمل قبل ما تسأله (عن الحاجات اللي بتضايق ساعات) فقال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله". الرفق ده اللي كان سلوك أمي مش مجرد كلام أو توجيه، أصبح سلوكي في هذا الوقت المبكر.. بقيت أدخل البيت وأقلع جزمتي وأطبطب عليها وأنيمها تحت الكنبة :) وبقيت بعمل كده مع كل حاجة بستخدمها (مش حرص لكن رفق) وأنا ماسك الكتاب بقراه برفق، وأنا بفتح باب الشقة برفق، وأنا بنزل ساعات من البيت أيام الأجازة رفقا بالمروحة.. يمكن عدت سنين علي وكان مش ده سلوكي في بعض المواقف؛ لكن مع العمر برجع للنبع الأصيل ده وبعيد اكتشاف نفسي وبدعي بالرحمة لأمي (وأبي) طبعا.
أما أبي العزيز من يوم وفاة أمي ليوم وفاته، وبين التاريخين 19 سنة، مفيش أسبوع فات في كل المدة الطويلة دي من غير ما كنا نروح السوق ونشتري برتقان أو الفاكهة الموجودة أو حتى (ملبس وأرواح) ونفرقه على العيال الصغيرة في الشارع رحمة ونور على ذكرى أحن وأطيب إنسانة في حياتنا.
3 likes ·   •  2 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 09, 2017 06:05

July 30, 2017

في أدب الصداقة

النهاردة هو يوم اختارته الأمم المتحدة عشان يكون يوم الناس تعبر فيه عن قيمة إنسانية نبيلة بين البشر وهي قيمة الصداقة. وما أسعد الشخص اللي يلاقي صديق أمين ومخلص وودود، من غير عداوة مستخبية في القلب أو حسد أو غيرة أو كذب.. وكان ابن حزم في طوق الحمامة قد ذكر أن الصديق المخلص هو من نعم الله على الإنسان: "ومن الأسباب المتمناة في الحب أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقا مخلصا، لطيف القول، بسيط الطول، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة، شديد الاحتمال، محتوم المساعدة، كارها للمباعدة، نبيل الشمائل، طيب الأخلاق، سري الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، مضمون العون، كامل الصون، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الإنقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقا بالصبر". ولما الواحد بيلاقي صديق أو صديقة بالصفات النبيلة دي بيكون زي اللي لقى لقية في هذا الزمن الغريب.. وكان الإمام الأكبر محيي الدين بن عربي قد ذكر في الفتوحات عبارة وكان يقصد بها " ذوق المعرفة" وأنا أحفظها عن ظهر قلب لصحتها ودقتها واستعيرها هنا عن "الصداقة" الحقيقية، والعبارة هي: "وقد كان شيخنا صالح البربري بإشبيلية قد قال لي يا ولدي إياك أن تذوق الخل بعد العسل فعلمت مراده". ومفيش مرة الواحد بيلاقي فيها صديق حقيقي، ويعرف الفرق بين طعم الخل وطعم العسل، إلا ويعلم مراد هذا الشيخ ويتذكره. وزي ما يمكن تعريف الصداقة والصديق بالإيجاب، أي بأنهم من يوجد فيهم صفات معينة. فيمكن تعريفهم بالسلب.. فنذكر قول الإمام الشافعي "إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفاً.. فدعه ولا تُكثِر عليه التأسفا، ففي الناس أبدال وفي الترك راحةٌ.. وفي القلب صبرٌ للحبيب ولو جفا، فما كل من تهواه يهواكَ قلبُه.. ولا كل من صافيته لك قد صفا، إذا لم يكن صفو الوداد طبيعةً.. فلا خيرَ في ودٍ يجئُ تكلٌفا، ولا خيرَ في خِلٍ يخون خليله.. ويلقاهُ من بعدِ المودة بالجفا، ويُنكِرُ عيشاً قد تقادم عهدهُ.. ويُظهِرُ سراً كان بالأمس قد خفا، سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها.. صديقٌ صدوقٌ صادقُ الوعدِ مُنصِفا". وعلى ذكر الإمام الشافعي فقد كان تليمذه وصديقه الإمام أحمد مريضا ذات مرة، وذهب إليه الشافعي ليزوره فلما وجد علامات المرض الشديد عليه حزن حتى مرض ولزم الفراش. ولما علم أحمد بحزن ومرض شيخه وصديقه، تماسك وذهب لزيارته وعيادته.. فلما رآه الشافعي كتب:
مرض الحبيب فزرته
فمرضت من أسفي عليه
شُفي الحبيب فزارني
فشُفيت من نظري إليه..
وابن حزم ينصح، إن كان لك هذا الصديق، بقوله: "فإن ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل.. ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونا جميلا ورأيا حسنا". ومن آداب المحبة والصداقة أن تخبر أخاك هذا بمودتك له؛ وفي الحديث: فإنه أبقى في الألفة، وأثبت في المودة..
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 30, 2017 09:13